قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

منذ أن طار بها على دراجته، و الصمت يغلفهما، و شعورا قاتما بالأسى يملأ روحيهما...
لكن الإنتماء لم يكن ليهتز و لو لشعرة...
ينتميان الى بعضهما و هي تتشبث بخصره و تريح وجهها على ظهره، مغمضة عينيها، غير مصدقة أنه هنا أخيرا...
لم يأخذها الى بيتها كما توقعت، بل اخذها الى الشاطىء...
و لم تكن المرة الأولى، كثيرا ما اصطحبها من مدرستها الى شاطىء البحر...

حتى اقترن عطره في ذهنها برائحة اليود، و التي لن تقبل التغيير ابدا...
ارتمى قاصي مستلقيا على الرمال البيضاء، مكتفا ذراعيه تحت رأسه و مغمضا عينيه...
بينما بدت ملامحه معقدة، متعبة، قاتمة...
فوقفت تيماء مكانها تنظر اليه و يدها على قلبها الخافق
انفاسها غير ثابتة و الدموع تحرق مقلتيها، تتمنى لو تتمكن من محو الألم و التعب عن ملامحه...

لكنها حاليا فضلت أن تتركه لنفسه قليلا، فجلست بجواره تتأمله و تشبع عينيها منه...
الى أن تأكدت من أنه قد راح في سبات عميق و انتظمت أنفاسه تماما...
مرت ساعتين و هي تستمع الى صوت أنفاسه المختلط بصوت أمواج البحر...
الى أن بدأت تسمع صوته أنفاسه تتحشرج، بدا و كأنه يعاني صعوبة من التنفس...
فانحنت اليه تيماء لتلمس ذراعه و هي تهمس بخفوت
(قاصي، هل أنت بخير؟).

الا أنه لم يرد عليها، بل ظل نفسه يتحشرج بصوت مختنق، فانتابها القلق و هي تنظر اليه...
ضخم الجثة، ممددا على الرمال دون سيطرة على نفسه، في اضعف حالاته و قد وضع كل أسلحته جانبا...
كان صوته يتحشرج هامسا ببضع الكلمات الغير مفهومة، فاقتربت منه تيماء أكثر و هي تضع يدها على صدره برفق، مقربة أذنها من شفتيه، و همست
(ماذا تقول يا قاصي؟).

لكنه كان في نوم عميق جدا، لم يسمعها و لم يشعر بوجودها و جسده ينتفض قليلا وهو يتمتم بكلمات مجهولة...
فضغت تيماء على صدره بقوة اكبر و هي تقول بصوت واضح
(قاصي استيقظ، انه مجرد كابوس)
لكن ملامحه كانت تتعقد اكثر و صدره يختلج بعنف، و لسانه يهتف بلغة غير مفهومة سوى في عالم احلامه وحده...
فهتفت تيماء و هي تضغط بكلتا كفيها على صدره
(قاصي استيقظ، انه كابوس، استيقظ ارجوك)
لم يستجب لها لعدة لحظات، فهتفت بقوة.

(قاصي، اسيقظ)
حينها فتح عينيه مرة واحدة على اقصى اتساعهما!
كانتا حمراوين بلون الدم و حبات العرق تغرق جبهته، و نفسه لا يزال متحشرجا، بينما قبضت كفه على ذراعها بقوة جعلتها تصرخ متألمة...
فقد كانت أصابعه تنشب كالمخالب في لحمها، فهتفت بخوف
(قاصي، هذه أنا، تيماء)
نظر اليها و كأنه لم يسمعها، و أصابعه لا تزال تحفر في جسدها بعنف لكنها قاومت الألم الصارخ.

و رفعت يدها لتمسك بكفه المفترسة ذراعها، و قالت برجاء و توسل
(أنا هنا، كان مجرد كابوس يا قاصي، تشبث بي كما تريد و تحتاج)
ظل يلهث بعنف وهو مستلقيا على الرمال بجوارها، قبل أن يقول بصوت متحشرج أجش
(لا تتركيني تيماء، لا تبتعدي عني أبدا)
فغرت شفتيها بذهول، و سرعان ما امتلأت عيناها بدموع حارقة موجعة...
لم تعلم ان كان قد استيقظ تماما، أم لا يزال في عالمه الأسود السري...

لكنها قالت بحرارة و هي تزيد من قوة تمسكها بكفه الناشبة في لحم ذراعها...
(لن أتركك أبدا، أبدا، تأكد من هذا، أنا لك يا قاصي و سأكون دائما)
ظل ينظر اليها لاهثا، فهمست مجددا بصدق العالم
(أنا لك يا قاصي)
مرت عدة لحظات قبل أن يبعد عينيه عنها، ليستلقي ناظرا الى السماء الواسعة من فوقه وهو ينظم أنفاسه بصعوبة...
و يده لا تزال على ذراعها كأنه يستمد منها الطاقة كي ينهض...

و بالفعل، استقام قاصي ليجلس بجوارها بصعوبة، ثم التفت ناظرا اليها...
كم اشتاقت اليه!، و كم كان ظالما في فراقه عنها!
همس قاصي أخيرا بصوت خافت و عيناه تطوفان على ملامحها المتألمة و عينيها الدامعتين بغزارة...
(أريد أن أضمك الى صدري، مرة أخيرة، مرة واحدة أخيرة يا تيماء).

رمشت بعينيها و نظرت اليه طويلا بقلب ينتفض، بعد ما حدث بينهما في لقائهما الأخير حاسبت نفسها كثيرا، و بكت أكثر، لم تكن تلك طباعها و لم يسبق لها أن فعلت ذلك...
لكنها الآن، تتمزق داخلها و هي ترى الصراع البادي على ملامح وجهه الذي فقد قناعه المسيطر الساخر، و في داخلها نفس الصراع...
أغمضت تيماء عينيها و بما أملته عليها سنوات عمرها الثمانية عشر، أغمضت عينيها و مالت اليه لتحيط عنقه بذراعيها...

حينها حاوطتها ذراعاه بقوة جعلتها تشعر بأنها عادت الى بيتها، بيتها الحقيقي...
قلبه بعصف فوق قلبها المنتفض، بينما كفاه يتحسسان صدى ضربات قلبها على ظهرها النحيل الهش...
أغمضت عينيها بقوة، فهمس قاصي بصوت مختنق
(أنا آسف يا تيماء، آسف، لم أتخيل أن أستغلك يوما، أنت من بين البشر جميعا، لم اتخيل أن أتصرف معك بتلك الدناءة)
تنهدت تيماء بقوة و أخفت وجهها في كتفه، لتهمس بصوت متحشرج.

(و أنا آسفة، آسفة لأنني لم املك القوة كي أمنعك)
رفعت وجهها حتى اصبح مواجها لوجهه، و نظرت اليه طويلا بينما كان هو يحفظ ملامحها بنهم و لهفة، فقالت بثقة و بطىء تشدد على كل كلمة
(أنا أثق بك يا قاصي، أنا أثق بك أكثر من ثقتي بنفسي أتفهم ذلك؟، أكثر مما أثق بنفسي)
ظل ينظر اليها طويلا و أنفاسه اللاهبة تلامس صفحة وجهها المحموم، ثم قال أخيرا بصوت قاسي متحشرج
(على أن أتركك الآن).

قال هذه العبارة و على الرغم من ذلك لم تتحرك من جسده عضلة واحدة ليتركها، و كأنها اصبحت جهاز التنفس الطبيعي له...
فابتسمت تيماء و الدموع تنساب على وجنتيها بصمت، لتلطف من سخونة وجنتيها المشتعلتين...
ثم أومأت و قالت ضاحكة و هي تبكي في آن واحد
(نعم، عليك هذا)
رد قاصي بخشونة جدية، و صوت يتصارع
(لا أستطيع)
عضت تيماء على شفتيها بخجل و هي تخفض وجهها، لا تزال ذكرى ما حدث بينهما قائمة حتى الآن...

تفرض نفسها عليهما...
حينها اخذت نفسا مرتجفا و هي تبعد ذراعيها عن عنقه لتخفض يديها خلف ظهرها و تبعد ذراعيه المتشبثتين بها، في البداية قاومتها عضلات ساعديه القويتين و كان عضلات جسده في تلك اللحظة قد انفصلت عن أوامر عقله...

لكنها ظلت تحاول الى أن أبعد ذراعيه عنها أخيرا متنهدا بقوة لفحت وجهها، و عرفت حينها أنها بالفعل ستكون المرة الأخيرة التي يضمها بها الى صدره، و شعرت وقتها و كأنه انتزع قطعة من قلبها أثناء انفصاله عنها...

لكنها لم تكن المرة الأخيرة!، المرة الأخيرة كان قاصي يضمها الى صدره وهو يصرخ بجنون بينما هي مغطاة بكدمات الضرب المبرح...
جسدها يعاني من آلام لم تعرفها سابقا...
روحها كسرت بالتعرض لأكثر ما قد يهزم الأثى، الانتهاك الصريح و بنتهى القسوة...
آلام لم تظن أنها متواجدة سوى في الأفلام العربية فقط، و ها هي تتعرض لها...
منظر الدم و الألم الصارخ جعلها تصرخ و تصرخ و تصرخ، قبل أن تسقط في هوة سوداء...

شبيهة بهوة قاصي، لتطفو بداخلها دون وزن أو احساس...
تحاول الصراخ علها تخرج من تلك الهوة السوداء، لكن هناك ما يخنقها و يمنع عنها القدرة على الصراخ أو حتى النطق...
حاولت جاهدة و هي تتلوى بعنف و هناك ما يكبل ذراعيها و ساقيها...
تريد الصراخ، سترتاح بالصراخ...
بينما كانت مسك واقفة مكانها و يداها في خصرها تنظر الى تيماء التي تتلوى بين الأغطية و هي تلهث و تبكي...

فتنهدت بكبت، لم تكن في حاجة لتحمل غيرها الليلة، فلديها ما يكفيها من أوجاعها الخاصة...
لكنها رغم عنها لم تستطع أن تشيح بوجهها عن تيماء التي تصارع النوم المضني الذي استهلكها كليا طوال الساعات الماضية...
استدارت مسك حين سمعت صوت رنين هاتفها، فأمسكته لتقول.

(حسنا في ظروف اخرى كنت لأخبرك بفظاظة أن تحاول النوم لساعة، و تكف عن ازعاجي بسؤالك عن تيمائك الصغيرة و انت تعاني ما تعانيه، لكن بما أنك اتصلت و انتهى الأمر، أريد اخبارك أنها تعاني و تصارع منذ ساعات، فهي تبدو كالمحمومة، تتعرق و تصرخ كل فترة، حاولت ايقاظها لكن دون جدوى)
سمعت صوت زفرته القوية قبل أن يقول بصوت أجش عميق
(كنت أتوقع ذلك، لهذا اتصلت بك).

جلست مسك على حافة سريرها و هي تراقب تيماء التي تئن بألم، ثم قالت بخفوت
(قاصي، ما ذلك الحب الذي تكنه لها؟، كيف تستطيع الخوف عليها من مجرد الأحلام بينما أنت تنازع ذكرى الموت؟)
وصلها صوت قاصي يقول بعمق شبيه بعمق البحر في الليل الأسود، دون ضوء فنار أو قمر شاحب...

(تلك حياتي، اعتدتها و اعتدت الألم حتى بات مجرد روتين عادي ليومي، الذكرى لم تفارق ذهني لأي يوم كي أتفاجأ اليوم، الذكرى اندمجت مع ذهني حتى باتت كالوشم، زال حريقه و بقى أثره الأسود، أما هي، فقد كانت لها ذكرى مريرة مرتبطة بهذا المكان، ستظل تعاني منها كلما اتت اليه...
كانت أصغر من أن تستوعب، و أكبر من أن تنسى...
و أنا لن أسامح نفسي أبدا أنني كنت السبب فيما تعرضت له).

صمت صوت قاصي المتحشرج، فمنحته مسك الوقت كي يهدأ و هي تعلم جيدا كيف يكون آلم قاصي...
أخيرا سمعته يقول بصوت خافت
(هلا ضممتها الى أن تهدأ يا مسك، رجاءا)
كان من الصعب أن يرجو قاصي مخلوقا، الا أنه كان مستعدا لذلك من أجل تيماء...
ضحكت مسك بعصبية و هي تقول
(قاصي، هذا، غريب، لا أعلم، لو استيقظت و رأتني لقالت عني مجنونة، ثم أنني لست في مزاج عاطفي يسمح لي بمعانقة أحد)
قال قاصي بصوت أكثر عمقا.

(رجاءا، مسك أنا هنا بعيدا عنها و أعرف أنني كنت السبب في كل ما تعانيه و لا أملك حتى ضمها الى صدري، كما فعلت معي يوما)
تنهدت مسك بقوة، قبل ان تقول اخيرا مستسلمة
(حسنا، لكن لو استيقظت و ظنتني غريبة الأطوار فسوف احاسبك انت شخصيا)
اغلقت مسك الهاتف، ثم تقدمت من سرير تيماء التي كانت تهدأ قليلا، ثم تعود و تشهق و كأنها ستسقط من فوق السرير...

ازاحت مسك الغطاء، ثم اندست بجوارها، ولفت ذراعها حول خصر تيماء، بينما اخذت تهمس في أذنها
(حسنا اهدئي، لا بأس)
كانت تيماء لا تزال تهذي بخفوت مجهد، فقالت مسك و هي تتلاعب بشعرها
(أتظنين أنك الوحيدة التي مررت باختبار صعب؟، اذن ستكونين حمقاء، )
اخذت تيماء تتحرك الى ان التفت حول نفسها كالجنين في وضعية مريحة، و مسك تشدد من ضمها اليها لتقول مكررة بهدوء
(نامي الآن)
استيقظت تيماء و هي ترمش بعينيها عدة مرات...

غير مستوعبة السقف المزخرف المنقوش بنقوش مذهبة فوق رأسها، و السرير ذو الظهر الخشبي من الأرابيسك...
فغرت شفتيها ناسية تماما أين هي؟
الى أن استغرق الأمر منها عدة لحظات لتعود اليها دفعة من الذكريات الكارثية لما حدث ليلة أمس...
أغمضت تيماء عينيها و هي ترفع يدها الى جبهتها المتألمة و هي تتأوه بصمت
هل فعلا مرت بما تتذكره عن ليلة أمس؟، تحركت عيناها تلقائيا الى حيث سرير مسك و عيناها تبرقان بالقهر المكتوم...

لكنها فوجئت بالفراش خالي، رغم انه وقت الفجر...
لقد اعتادت ساعة جسدها على ايقاظها الفجر يوميا كي تصلي...
و تعجبت من اختفاء مسك في مثل هذا الوقت...
لكن تعجبها لم يطول أكثر و هي تراها راكعة تصلي بأحد أركان الغرفة...
استقامت تيماء لتجلس ببطىء و هي تراقب مسك بحيرة...
و اسدال الصلاة يحيط بوجهها الرائع فبدت أكثر جمالا...
انهت مسك صلاتها، و التقت عيناها بعيني تيماء المحدقة بها فاغرة شفتيها قليلا...

فقالت مسك بهدوء
(ماذا؟، لماذا تراقبيني بهذا الشكل؟)
أجفلت تيماء من سؤال مسك المباشر، فهوت رأسها قليلا، و أبعدت موجات الشعر المجعد الكثيف عن وجهها و هي تقول بنفس صراحة مسك لكن بصوت خافت متردد...
دون الحاجة للبدء بمجاملات صباحية لا طائل منها...
(هل تصلين؟)
نظرت مسك الى اسدال الصلاة، و وضعية ركوعها نظرة ذات مغزى، ثم قالت بهدوء
(بل أمثل دورا في فيلم ديني!).

هزت تيماء رأسها بحنق، لكنها كانت أكثر ارهاقا من أن تدخل معها في حرب كلامية...
فقالت بخفوت و هي تنهض من فراشها
(اتقي الله، انت لا تزالين راكعة، الا يمكنك الرد بلطف قليلا؟)
نهضت مسك من مكانها و هي تنحنى لتسحب سجادة الصلاة من تحتها، و قالت بوضوح
(الأسئلة ذات المستوى المتدني من الذكاء، تتبعها إجوبة من نفس النوع، هذا شيء منطقي، و ليست اهانة خاصة)
قالت تيماء و هي تتنهد.

(دعي السجادة مكانها، سأذهب لأتوضأ للصلاة)
تركت مسك السجادة، قبل أن تخلع اسدالها و تقوم بترتيبه بهدوء و بحركات عملية...
بعد ان انتهت تيماء من صلاتها، عادت لتنظر الى مسك التي كانت ترتدي ملابسها، فسألتها بدهشة
(هل ستخرجين؟)
قالت مسك دون أن تنظر اليها...
(مجددا أسئلة متدنية الذكاء، لذا سيكون جوابي هو: لا، أنا أرتدي ملابسي للتجول بها هنا في الغرفة. خاصة و أنها من الممكن أن تمطر).

لقد شاهدت قريبا اعلانا تليفيزونيا بهذا الشكل تماما، أسئلة غبية و أجوبة أغبى...
هي متأكدة أن مسك لم تراه، إنها فقط تتصرف على هذا النحو الفظ من تلقاء حالها...
أنهت مسك ارتداء بنطالها و تمشيط شعرها الحريري حتى بدت براقة، جميلة، جميلة الى حد موجع...
التفتت اليها مسك فجأة و هي تقول دون مقدمات
(لماذا كنت متعجبة من صلاتي؟).

ارتبكت تيماء، و أحرجها السؤال، الا أن من أطلق على نار الغيرة سوداء لا ترحم، فقد كان محقا تماما...
لذا رفعت ذقنها و قالت بخفوت
(مجرد أن بعض تصرفاتك متناقضة قليلا)
توقفت مسك أمامها تراقبها بمنتهى الجدية قبل أن تسألها بوضوح
(هلا وضحت قصدك؟، فأنا لا أطيق اسلوب التلميح و القاء الكلام ذو المعاني الخفية)
رفضت تيماء أن تكون أقل شجاعة منها، لطالما كانت الأشجع و الأكثر تهورا...
فقالت ترد عليها دون أن ترتجف.

(ليلة أمس مثلا، و جدت قاصي يمسك بيديك دون أن تبدين أي اعتراض، و هو حتى و إن كان ابن عمك لكنه ليس زوجك أو أخيك)
ضاقت عينا مسك و هي تراقب تيماء ثم لم تلبث أن كتفت ذراعيها و قالت ببرود
(لذا سرعان ما أصدرت حكمك علي، و قررت أنني لست جديرة بالحفاظ على الصلاة)
أخفضت تيماء وجهها الجامد و هي تقول بفتور خافت
(أنا لم أصدر أي أحكام)
قالت مسك بصوت أكثر برودا...

(بلى فعلت، هل تعتقدين أنك مثال النقاء الكامل و أنك منزهة عن الخطأ؟)
رفعت تيماء وجهها الشاحب لتصطدم عيناها بعيني مسك قبل أن تقول مرتجفة
(أنا لست منزهة عن الخطأ، انا لم أقل ذلك، أنا فقط)
لكن مسك لم تسمح لها بالمتابعة، بل فكت ذراعيها و قالت بصرامة و حزم
(لا أريد المزيد، تصرفاتي مع قاصي أو غيره أمر يخصني وحدي، إن كان لديك مشكلة معه. اذن قومي بحلها معه هو و ليس معي).

تركتها لتخرج من الغرفة بعنفوان، و اغلقت الباب خلفها، بينما جلست تيماء على حافة السرير و هي تنظر الى أنحاء الغرفة بعينين فارغتين...
ما الذي فعلته للتو؟، كيف جعلت من نفسها حمقاء بتلك الصورة و تركت غيرتها تتحكم بها، فاستحقت الكلام الذي سمعته للتو!
فغرت شفتيها تتنفس بصعوبة و هي تنظر حولها دون ان تبصر...
ليلة امس انتابتها الكثير من الكوابيس المفزعة، لكن الأفظع أنها لم تكن مجرد كوابيس...

بل كانت ذكريات مرة، شديدة المرارة، لواقع حدث بالفعل...
أسقطت تيماء وجهها بين كفيها و هي تتأوه بتعب و أسى...
و دون أن تدري وجدت نفسها تهمس للمرة الأولى في حياتها كلها
(أريد أمي).

وقفت مسك في اسطبل الأحصنة، و أمام فرس محددة مبهرة الجمال...

وقفت تتأملها مبتسمة لتملي عينيها من سحر جمالها الناعم الأسود المخملي...
كم هي بديعة الخلقة، لطالما كانت الخيول هي عشقها الأول...
مدت يدها تحاول ملامسة أعلى أنفها برفق و هي تهمس لها بنعومة كي تتعرف على صوتها...
الا أن الفرس الضخمة نفرت بقوة للخلف و صهلت رافضة...
فقال صوت رجولي عميق من خلفها
(احترسي، فهي مروضة بالأمس فقط، و لا تزال تحمل بقايا كبرياء جريح، و ما أخطر الكبرياء الجريح).

ابتسمت مسك و هي تستدير اليه...
حيث كان قاصي واقفا عند باب الاسطبل، مكتفا ذراعيه و مستندا بكتفه لاطار البوابة الخشبي...
قالت مسك مازحة
(و كأنك تتكلم عن حبيبتك، و ليست الفرس)
قال قاصي بإيجاز وهو ينظر الى الفرس السوداء المتوترة...
(متشابهتين)
ثم استقام و اقترب منها بهدوء الى أن وقف أمامها يتأملها مبتسما قبل أن يقول بصدق و رضا
(تبدين جميلة يا مسك، تبدين جميلة جدا).

علي الرغم من عنفوانها و صلفها المستحدث الا أنها ارتبكت رغما عنها و هي تخفض رأسها و تلامس خصلات شعرها الناعم بشرود و تردد...
فقال قاصي بصرامة و هو يبعد أصابعها عن شعرها
(توقفي عن تلك الحركة)
ابتسمت مسك و هي تقول بخفوت
(لم أعتده فقد بقيت لأشهر طويلة دون أن تتلاعب به أصابعي)
ظل قاصي ينظر اليها قبل أن يقول دون تردد
(كانت فترة مؤقتة، و الآن تبدين غاية في الجمال، حتى أكثر من قبل).

ضحكت مسك رغما عنها و قالت تتأمل وجهه القريب الحبيب
(لم أعتدك منافقا، ربما لأنك تريد سؤالي عن تيمائك الصغيرة لكنك تخشى أن أصرخ بك جنونا)
ابتسم قاصي بسخرية و قال
(لا حاجة لي بنفاقك، لقد رأيتها)
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بحيرة
(رأيتها؟، أين؟، لقد تركتها للتو في الغرفة)
اقترب قاصي من الفرس السوداء ليداعب أعلى أنفها فتعرفت اليه و أجفلت قليلا، ثم عادت و استكانت صاغرة، تتقبل مداعباته...
قال أخيرا بصوت قاتم.

(كانت واقفة للتو بشرفة الغرفة، و رأيتها، بل و تقابلت أعيننا)
ابتسمت مسك و هي تقترب منه لتقول بسخرية
(آها، روميو و جوليت، اذن على الأرجح سنجدها هنا في أي لحظة، فلقد انتابها جنون مفاجىء من امساكك ليدي ليلة أمس)
ابتسم قاصي رغم عنه وهو يداعب الفرس ليقول
(هل صبت غضبها عليك أيضا بسبب هذا؟)
عقدت مسك حاجبيها و قالت ضاحكة
(هل أمسكت يدي حقا؟، والله لا أتذكر، كنت في حالة غضب ميؤوس منها)
ابتسم مرة اخرى وهو يقول.

(و لا أنا أتذكر كذلك، كنت خائفا عليك فحسب)
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول بخبث
(تبدو سعيدا بغيرتها)
ظل قاصي يداعب الفرس للحظة قبل أن يقول
(تيماء تخصني، و أنا أخصها، كلمة الغيرة ليست منصفة تماما في وصف العلاقة بيننا)
قالت مسك بجدية
(لكن ما فهمته، انها رافضة للعودة للماضي، و ماذا لو أصر جدي على خطبتها لأحد أبناء)
استدار قاصي اليها ليقول مقاطعا بلهجة صادمة
(لا تتابعي)
عقدت مسك حاجبيها و قالت بقوة.

(لا ترهبني، أنا أخبرك بالواقع، أمامك مشكلتين، تيماء و جدك، و المشكلة الجديدة هي أنا لكن لا تخشى ما يخصني تماما، فلن يملي على أحد ما لا أريده)
ظل قاصي يداعب الفرس بصمت. دون ان يظهر شيء مما يفكر به على ملامحه المتحجرة بفعل السنوات...
زفرت مسك و هي تنظر اليه قبل أن تقول بهدوء
(قاصي، ماذا لو لم تخلقا لبعضكما؟).

اندفع رأسه لينظر اليها نظرة قوية، مهددة بالخطر، الا أنها لم تكن لتخاف. بل تابعت بخفوت لكن أكثر اصرارا
(فكر في الأمر، أنتما مختلفان من كل المستويات، و على ما يبدو أن تيماء أدركت ذلك في وقت مبكر أكثر منك، لقد كانت مجرد)
ترك قاصي الفرس ليستدير الى مسك بكليته وهو يقول مندفعا دون أن يرفع صوته، لم يحتاج أصلا أن يرفع صوته ليسكت من أمامه.
(اياك و القول أنها كانت مجرد طفلة، إنها أكبر كذبة في التاريخ).

عقدت مسك حاجبيها قليلا و قالت ببطىء كي يستوعب
(من عمر الرابعة عشر و حتى الثامنة عشر، أخطر مرحلة و أكثرها تأرجحا بين الطفولة و المراهقة، أما النضج فلم يكن خيارا أصلا، كيف تريد منها الآن أن تلتزم باختيار اعتمدته في تلك المرحلة.؟)
رفع قاصي يده وهو يقول بصوت حار، و عيناه لا تعرفان معنى التنازل.

(ما بيني و بين تيماء أكبر من المنطق يا مسك، حاولي فهم ذلك، أنا أعرفها، إنها لا تستطيع أن تكون لرجل آخر، أنا لن أسمح بذلك مادام بصدري نفس يتردد، لقد قطعت عهدا و عليها الإلتزام به)
تنهدت مسك و هي تعرف أن لا سبيل لإقناع قاصي بما لا يريد...
نظرت اليه وهو يمسك بحبل أخذ يلف حول مرفقه بعنف، بينما كانت أنفاسه غير ثابتة. مضطربة...

و سرعان ما ركل الصناديق المتراصة بقدمه و بكل قوة فتساقطت محدثة صوتا مزعجا اثار توتر الخيول و صهيل بعضها...
قالت مسك بخفوت
(اهدأ يا قاصي من فضلك، لم يكن عليك ان تربط أكبر حدثين في حياتك ببعضهما، مواجهتك لوالدك كانت أفظع من أن تجعلك تفكر في تيماء بنفس الوقت)
استدار اليها قاصي ليقول هادرا
(اياك وهذا اللفظ مجددا يا مسك، اياك)
كان شرسا، عنيفا، و ظهر أساس هذا العنف، عمران الرافعي، و تيماء كانت الدواء...

هكذا ترى مسك الأمر من وجهة نظرها...
قالت مسك اخيرا برفق
(لا بأس يا قاصي، أعتذر)
أغمض قاصي عينيه و حاول التنفس ببطىء ليسيطر على القتامة المنتشرة حول روحه كالرماد المتخلف على الأفران القديمة المهترئة...
و بعد لحظات قال أخيرا مغيرا الموضوع
(لم يحضر ابن عمك النذل الى الاجتماع العائلي)
مطت مسك شفتيها في ابتسامة قصيرة، باردة في الظاهر، لكن تحمل بداخلها ميل حزين...
ثم قالت ببساطة و هي تداعب احد الخيول المروضة.

(تقصد أشرف؟، له عذره، منذ طلاقنا وهو يشعر بالحرج من جدي و أبي و خاصة بعد زواجه من، غدير و أنت تعرف كل شيء عنها)
نفث قاصي نفسا بدا كاللهب الأزرق وهو يتمتم من بين أسنانه
(هذا من حسن حظه، فوالله لو رأيته أمامي مجددا لكنت)
صمت وهو يعاود لف الحبل المسكين المستسلم تحت رحمته، بينما تابعت مسك مبتسمة
(لكنت ضربته كالمرة السابقة؟، انسى يا قاصي، لقد مرت فترة طويلة)
رفع قاصي وجهه اليها ليقول بصلابة.

(الخيانة لا تموت بالتقادم يا مسك، و هو لم يكن رجلا)
نظرت مسك بعيدا، قبل أن تقول بترفع
(لا ألومه كثيرا، العديد في محله كانوا سيفعلون مثله، مرضي لم يكن هينا، و ليس الجميع قادرين على التضحية)
التفت اليها قاصي ليقول بغضب
(كيف تقولين ذلك؟، لو كان أحبك حقا)
قاطعته مسك لتقول بصوت أكثر ترفعا و قوة
(لو كان يحبني، ها أنت ذا قد أجبت السؤال)
أخذت نفسا عميقا قبل أن تقول مبتسمو بأناقة و هي تبعد شعرها عن وجهها.

(الآن دعك من هذا الموضوع الباهت، فلديك مواجهة حاليا، تيمائك تقترب من بعيد و على وجهها تبدو علامات التحفز)
لم يكلف قاصي نفسه عناء الاستدارة و النظر اليى حيث تنظر مسك خارج الاسطبل...
بل تحولت ملامحه الى أحد تلك الأقنعة الساخرة اللامبالية التي يجيدها...
قالت مسك بهدوء مستفز
(سأنسحب الآن، اراك لاحقا)
قال قاصي بهدوء
(سأخرج معك، لا عمل لي هنا).

هزت مسك كتفيها مبتسمة ثم خرجت من الاسطبل، لتواجه تيماء التي وقفت امامها و هي تنقل عينيها بصمت بينهما...
قالت مسك بسخرية
(غريبة، خرجت قبل شروق الشمس؟، هل تبحثين عن أحد؟)
كانت تيماء تشعر بطعنة في صدرها تفوق حد احتمال الألم، و هي تنقل نظرها من مسك اللامبالية...
الى قاصي الذي كانت ملامحه الحجرية في تلك اللحظة قد أخفت عنها كل ما تريد البحث عنه...
بداخله، عميقا بداخله...

تجاهلت تيماء الرد على سؤال مسك، و أبعدت وجهها تنظر الى الفضاء الواسع، بينما لم تنتظر مسك الجواب من الأساس، بل ابتعدت لتغادر بكل خيلائها...
لم تستطع تيماء منع نفسها من الالتفات قليلا كي تراقب مسك و هي ترحل...
تسير بكبرياء فرس جامح، تماما، كما رأتها مقبلة عليها للمرة الاولى...
شعرها الجميل خلق ليتطاير من فرط نعومته، ملامسا كتفيها و يحاول التسلل الى ظهرها في طول محبب...

انتفضت تيماء من شرودها البائس على صوت قاصي يقول
(ماذا تفعلين هنا في هذا البرد، و بمثل هذا الوقت المبكر؟)
استدارت تيماء اليه، تنظر الى هيئته التي ازدادت ضخامة، بينما لم يزيد جسدها هي جراما وزنا، أو سانتيمترا طولا...
مما جعلها تشعر بأنه أضخم مما تتذكر جدا...
رفعت تيماء وجهها اليه لتقول ببرود
(على أنا أن أسألك نفس السؤال قبلا، ماذا تفعل هنا، في مثل هذا الوقت المبكر، خاصة و أنك لست من سكان هذا البيت).

نظرة عيناه الى عينيها كالصفعتين، تجفلانها و تجعلانها تصمت...
تنبهت الى ما قالته للتو فعضت لسانها و شتمت نفسها على الغباء الذي يتمكن منها منذ الأمس...
الغباء القديم، كلما تواجدت قربه و كلما هزمتها الغيرة...
قال قاصي بصوت جامد
(لا دخل لك، ما دمت قد قررت اقصائي، و الحنث بعهدك معي)
ارتجفت بشدة، خاصة و أن ريحا باردة هبت من بعيد في هذا المكان المفتوح فجعلتها ترتعش بقوة...

لكنها ابتلعت ريقها لتقول فجأة بصوت لا حياة به
(أنا آسفة)
التوت شفتي قاصي في ضحكة ساخرة، قاسية، قاسية جدا، جعلتها ترتجف أكثر. ثم لم يلبث أن قال بلهجة مهينة
(آسفة؟، ياللبساطة!)
أخفضت تيماء وجهها، ووجدت أنه يستحق تبريرا، على الرغم من كل ما يفعله حاليا، الا انه يستحق تبريرا
فقالت بنفس الصوت الميت
(ارتعبت، ارتعبت مما حدث لي هنا، ما حدث كان اكبر من أن).

اقترب منها خطوة مندفعا وهو يقول بصوت عنيف، يحمل مشاعرا أشد عنفا
(أكبر من صك الملكية الذي اخبرتني به يوما؟، أتعرفين ماذا، يومها لم تكوني طفلة، بل العكس، يومها كنت امرأة، أكثر نضجا من كل من عرفت من النساء، كنت تدركين ما تريدين و تحاربين لأجله، أما الآن فأنت مجرد طفلة جبانة، لا تمتلك حتى شجاعة الإعتراف).

أطرقت تيماء بوجهها، وودت لو ارتدت سترتها فوق تلك الكنزة التي جعلتها تتجمد بردا أمام عينيه عديمتي الرحمة...
الا أنها قالت أخيرا بخفوت
(نعم، معك حق، كنت أدرك ما أريد و أحارب لاجله، لم يكن هذا نضجا، بل كانت براءة، لم أعرف الكثير مما قد يترتب على علاقتنا، و قد عرفت بأصعب الطرق، أنت لا تعرف)
صرخ قاصي فجأة بصوت جهوري متوجع
(أعرف، اعرف يا تيماء، و من غيري ليعرف).

رفعت كفها الى فمها و هي تهتف همسا بهلع متلفتة حولها
(اصمت يا قاصي، اصمت أرجوك)
الا أنه اقترب منها خطوة أخرى ليقول بخشونة متحشرجة
(من غيري ليعرف؟)
رمشت تيماء بعينيها و هي تبعد وجهها عنه، تبتلع غصة مؤلمة بحلقها...
تتذكر هذا اليوم و كأنه كان الأمس، تتذكر الألم و بشاعة المنظر...
كانت أكثر خجلا من ان تعترف لقاصي بما حدث تماما...
ربما كان ما حدث، تمر به كل الفتيات هنا، الا أن الفارق أنه يتم في عمر صغير...

صغير جدا يجعل منه أكثر سهولة، و يسر
أما هي، فقد كانت في الثامنة عشر، تكاد أن تكون امرأة، و يتم ختانها في مثل هذا العمر...
كانت صدمة جسدية و نفسية لم تستطع تحملها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة