قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

كانا معا، بعد أن اصطحبها من كليتها كالعادة...
و بينما هي تجلس على دراجته البخارية، تنظر الى المنظر الساحر أمامهما...
وهو يستند الى الجهة الأخرى، شاردا، صارم الوجه كعادته، لكنه مرتاح الملامح...
و كأنها هي راحته الوحيدة التي يلجأ اليها دائما...
قالت مستديرة اليه، تتأمل ظهره العريض.

(قاصي، سفرك الى هنا كل يوم لن يكون مجديا أبدا، يوما بعد يوم تزداد ساعات محاضراتي، أي أنك لن تستطيع المجيء و رؤيتي ثم السفر عودة مجددا)
لم يرد، حتى أنها شكت في أن يكون قد سمعها من الأساس...
فقفزت من على الدراجة و دارت حولها كي تواجهه...
وقفت أمامه، منتظرة أن يرد أو على الأقل أن ينظر اليها...
لكنه كان مطرقا بوجهه، ملامحه جامدة، ساخرة، يعمل على تصليح كاشف ضوئي غريب...
فعقدت تيماء حاجبيها و هي تقول بجمود.

(قاصي، هل سمعتني؟)
لم يرد للحظة، ثم قال أخيرا ببساطة دون أن يرفع وجهه اليها...
(سمعتك)
هكذا، فقط؟
كتفت تيماء ذراعيها و قالت بقوة
(اذن لماذا لا ترد؟)
ساد الصمت مجددا و لم يتنازل للرد عليها، كان هادئا و ملامحه ساخرة متباعدة...
و قد ساهم قميصه الأسود المفتوح حتى صدره و بنطاله الجينز الضيق الذي يماثله لونا
في منحه المزيد من مظهر اللامبالاة...
أما شعره فقد كان يتطاير قليلا، يكاد أن يلامس كتفيه...

فكه القوى الساخر كان متشنجا قليلا، و يمكنها أن تقسم على ذلك...
فهتفت بقوة و غضب
(قاصي، أنا أكره تلك القوقعة التي تطردني منها، لما لا ترد على كلامي؟)
رفع وجهه اليها أخيرا دون عجلة، لينظر اليها نظرة آلمتها من برودتها، ثم قال ببرود مماثل
(ماذا كان السؤال كي أجيب عنه؟)
كانت تغلي غضبا من تلك الطريقة، يستفزها قناعه الصامت حين يغضبه شيئا...
فقالت بصلابة و هي ترفض الاستسلام
(سمعتني يا قاصي، فلا تتظاهر بالعكس).

رفع عينيه الى عينيها. و لأول مرة تشعر فيهما بجليد لكن متوهج وهو يقول ببرود
(سمعتك، أخبريني فقط بالأيام التي ستخرجين بها مبكرا من الكلية و سآتي اليك)
أظلمت عيناها و هي تقول بصوت قاتم
(سيكون يوما واحدا فقط، بخلاف يوم العطلة و الذي ترفض أن تأتي به)
وهو مستندا الى الدراجة بهذا الشكل، يبدو في مثل طولها...
فتلاقت أعينهما في حوار عاصف ناري...
قبل أن يقول أخيرا بصوت غير مقروء
(لا بأس اذن).

انعقد حاجبيها أكثر، و أجفلت قليلا، ثم قالت بخفوت
(بهذه البساطة؟)
هز كتفيه و قال بجمود
(و ماذا تتوقعين مني؟، أضرب الأرض بقدمي و أتوسلك كي تجدين لي موعدا في جدولك المشغول؟، مرة واحدة تكفيني)
ارتفع حاجبيها و شحب وجهها بصدمة لتقول
(مرة واحدة تكفيك!)
التقت أعينهما مجددا قبل أن يعود و يطرق بوجهه، مبعدا عينيه عن عينيها، فهتفت تيماء بقسوة غير قادرة على التحكم في مشاعرها.

(مرة واحدة تكفيك؟، انظر إلى و قلها مجددا، كي أحذف تلك المرة من جدولي، فهي وقت ضائع على كل حال)
لم يرد عليها، لكنها أدركت بأنها قد اصابته بقوة من توتر ملامح وجهه و تحولها الى الغضب المكبوت...
لكنها لم تهتم فهتفت مجددا
(حسنا لا حاجة بك لإعادتها، أنا متنازلة عن تلك المرة).

لكن و قبل حتى أن تتراجع خطوة كان قد استقام من مكانه أصبح و كأنه ضعف طولها، فرفعت وجهها اليه بقلق، لتجد ملامحه و قد اكفهرت و بدت مخيفة وهو يقبض على كتفيها ليهزها بقوة هادرا بصوت أفزعها
(ماذا تريدين مني؟)
اتسعت عينا تيماء برعب، و شحب وجهها تماما و هي ترى هذا البركان الذي انفجر أمامها فجأة...
فهمست بصوت متزعزع
(اهدأ يا قاصي، ماذا بك؟)
لكنه هزها مرة أخرى وهو يهدر مجددا.

(انظري الى سرعة تغير كلامك عن حوارنا السابق، كنت تغضبين لو مر يوم و لم استطع رؤيتك به، بينما الآن تمنحينني يوم واحد من وقتك الثمين، إن كنت تظنين أنني قد أتوسل رؤيتك فستكونين واهمة، لكن التخلص مني لم يعد قرارك بعد الآن و قد سبق و انذرتك، افهمت؟)
شحب وجهها أكثر و أكثر، بينما صار قلبها يضرب كالطبول العنيفة...
لكنها و على الرغم من رعبها من غضبه المفاجىء، الا أنها صرخت بقوة.

(هل هذا ما فهمته من حديثي؟، أنا أريدك هنا معي، لم اعد أطيق أن تفصل بيننا كل تلك الأميال، أريد أن أراك كل يوم، حتى لو كان هذا لبضع دقائق صباحا و أنت معي هنا في نفس المدينة)
كان يتنفس بعنف، و أنفاسه اللاهبة تلفح وجهها بقوة تكاد أن تحرق وجهها...
بينما عيناه، حمم بركانية!
و هي كانت تتنفس بعنف مثله تماما...
و كأن كلامها قد وضع حدا للكلام الزائد بينهما، فصمت يحاول التحكم في بركان غضبه المفاجىء...

رأت حلقه يتشنج، و قبضتاه لا تتزحزحان عن كتفيها...
فقالت بصوت جامد قاسي
(أفهمت؟)
زفرة خشنة صدرت عنه قبل أن يرفع كفيه عنها ليقول بجفاء
(يمكنك تعديل كلامك، لكن اجابتي واحدة، لن أتوسلك و لن أحررك في نفس الوقت، انتهى. )
ابتسمت رغما عنها، على الرغم من الغضب العنيف بداخلها، فقالت من بين اسنانها و رجفة تهز قلبها
(مغرور، خفف عنا غرورك قليلا سيدي)
رفع عينيه الناريتين اليها و قال ببرود.

(هذا أنا، و عليك التعامل مع الأمر)
ابتسمت أكثر رغم عنها و هي ترمقه باعجاب...
انه الشخص الأول، بل الوحيد الذي تمنحه مثل هذا الدلال المفسد...
فتحت فمها تنوي أن تراضيه، الا أن رنين هاتفه قاطعها، لتراه ينظر الى الهاتف عاقدا حاجبيه...
قبل أن يرد قائلا بهدوء
(نعم يا مسك)
يومها شعرت بالتوتر تلقائيا من مجرد سماع اسم مسك...
مؤخرا أصبح اسم اختها يوترها، و يضايقها، خاصة حين يكون على لسان قاصي.

نظرت اليه وهي ترى انعقاد حاجبيه بينما هو يستمع الى أختها على الجانب الآخر من الهاتف...
ثم قال بجدية و اهتمام
(أين أنت الآن اذن؟)
ظل يستمع قليلا، قبل أن يقول بلهجة آمرة
(حسنا ابقي لدى صديقتك و لا تتحركي، و خلال ساعات سأكون قد جلبت لك سيارتك و أعدتك بنفسي، لا تحاولي السفر بمفردك، حسنا الى اللقاء)
أغلق هاتفه وهو يستقيم مجددا، بينما تيماء تراقبه بملامح غير مقروءة، قبل أن تقول بجمود.

(هل فهمت تماما ما قد حدث أمامي الآن؟، هل تنوي السفر عائدا الى مسك حالا؟)
رفع قاصي عينيه اليها قبل أن يقول بهدوء
(انها واقعة في مشكلة، تم سحب سيارتها و هذه كانت الفرصة الأخيرة لها أمام والدك في القيادة، لذا على أن أذهب و اخرجها لها من الحجز)
ارتفع حاجبي تيماء و قالت باهتمام زائف ساخر مبالغ فيه
(يالها من مأساة!، بالفعل عليك تركي هنا و الإسراع لانقاذها، كي لا يحرمها بابي من السيارة).

عقد قاصي حاجبيه بشدة وهو يقول
(ما هي مشكلتك بالضبط؟)
برقت عينا تيماء بغضب جنوني في تلك اللحظة قبل ان تنفجر صارخة
(مشكلتي هي انك عديم الذوق و التمييز، كيف تتركني كي تذهب اليها؟، لمجرد ان سمو الاميرة قد فقدت سيارتها الذهبية؟، ستسافر خصيصا اليها؟، و تسألني ما هي مشكلتي؟)
نظر قاصي الى ساعة معصمه قبل ان يقول حانقا
(كنت سأتركك خلال نصف ساعة على كل حال، هذا موعد رحيلي المعتاد).

ضربت تيماء الأرض بقدمها و هي تصرخ
(و أنا لست متنازلة عن النصف ساعة خاصتي)
ارتفع حاجبي قاصي وهو يقول بحيرة و استياء
(الا ترين أنك تبالغين قليلا؟، ما الأمر؟)
كانت تتنفس بسرعة وهتهور، و تعرف بأنها في تلك الحالات من التهور تنتهي دائما بقول شيء مجنون
لذا حاولت ارغام نفسها على الصمت، لكن قاصي اختار تلك اللحظة ليقترب منها اكثر و همس بصوت خافت، مختلف عن نبرته الفظة المعتادة.

(ما الأمر تيمائي الصغيرة؟، لماذا تبدين خائفة دائما؟، هل تغارين من مسك؟)
اوهنها صوته الخافت و جعلها ترغب في رمي نفسها على صدره...
لكن السؤال الأخير قد صدمها...
هل هي حقا تغار من مسك؟
باتت مؤخرا لا تكاد أن تطيق سماع اسمها من بين شفتي قاصي...
لكنها لم تدرك أبدا أنها الغيرة!
نعم، تدرك الآن بأنها تغار من مسك، لكن هناك شعورا اكبر من ذلك، شعور بالرفض و النفور من خدمة قاصي لوالدها و اختها...

قاصي اصبح رجلها، و هي لا تقبل ذلك ابدا...
نظرت بعيدا و هي تحاول جاهدة ارغام نفسها على الصمت...
الا ان قاصي قال برقة وهو يداعبها
(تيمائي المهلكة، لا أريد السفر ووجهك العابس هو آخر ما رأيت، أخبريني ما الأمر؟)
حينها فقدت القدرة على كبت لسانها المتهور اكثر، فأفضت ما بجعبتها مرة واحدة و بقوة كي الجرح
و هتفت بصراحة
(أنا أرفض أن يكون الرجل الذي سلمته قلبي، مجرد خادما، حامل حقائب!).

للحظات عم صمت غريب بعد أن ألقت بقنبلتها الجهنمية...
و لم يظهر على ملامح قاصي أي تعبير، أو حياة...
حتى عينيه بدت و كأنها قد تجمدتا فجأة و انطفأ جمرهما...
فزفرت تيماء بارتجاف و هي تهمس يأسا
(قاصي)
الا أنه قال فجأة بصوت غريب
(اركبي الدراجة)
تنهدت و هي تغمض عينيها قبل أن تقول برجاء خافت
(قاصي أرجوك اسمعني)
الا أن قاصي هدر بقوة أجفلتها
(اركبي الى الدراجة الآن يا تيماء)
صرخت تيماء و هي ترتجف.

(لن أركب و لن ترهبني، قاصي أنا لست نادمة على ما قلت، أنت رجلي أنا، و أنا أرفض تلك المهام التي يكلفك بها سالم الرافعي، ارجوك افهمني)
نظر اليها قاصي بعينين قاسيتين و يده تنقبض الى جانبه في قبضة توشك على تحطيم اقرب شيء له...
ثم قال بهسيس مخيف
(بل انت التي لا تفهمين شيئا)
مدت ذراعيها بيأس و هي تهتف.

(ما الذي سأفهمه؟، انظر الينا، تتسلل مئات الأميال كي تراني خلسة، بينما باشارة واحدة من الأميرة مسك تعود اليها علنا كي تحمل لها الحقيبة، هل هذا منطقي؟، هل هذا عدل لي؟)
كان قاصي يتنفس بتشنج. جسده الضخم يرتجف حرفيا، يرتجف من محاولة السيطرة على نوبات عنفه...
لكنها قالت متوسلة غير آبهة...

(نعم أنا أغار يا قاصي، أغار عليك، ولا أريدك بالقرب من سالم و مسك مجددا، لقد تركت لهما كل شيء و ابتعدت تماما كما طلب أبي، لكنني أرفض أن أتركك لهما و لن يحدث ذلك أبدا)
ظل قاصي ينظر اليها بعينين غامضتين، و صدره يتسارع متوترا، و أوتار عنقه مشتدة بعنف...
قبل أن يقول بصوت صخري، مسنن و مؤلم لآذنها.

(ما أفعله لمسك، لا يعادل ربع ما أفعله لك إن كان هذا ما تخشين؟، كل اوراقك و مصالحك، كل أغراضك أجلبها لك، حتى أجهزتك الطبية اشتريتها لك حين أخبرتني أنها ليست متوفرة بمدينتك، طلباتك قبل ان تنطقي بها تكون مجابة و هذا يحدث منذ سنوات)
ارتجفت شفتيها و هي تنظر اليه، كلامه ينحر قلبها بعنف، فهمست
(أنا وضعي مختلف، أنا أخصك)
ابتسم، على الرغم من قساوة عينيه و الألم الظاهر بهما، الا أنه ابتسم و قال بقسوة.

(أنت طفلة)
هتفت بيأس
(بل أنا امرأة عاشقة، و عليك أن تراعي ذلك)
أبعد وجهه عنها و هو يزيد من انقباضة كفه حتى ابيضت مفاصل أصابعه و أنفاسه تتحشرج أكثر...
فهتفت تيماء بقوة من خلفه
(أريدك معي، و أريدك خارج نطاق دائرة تلك الأسرة، هذا حقي)
قال قاصي بصوت جامد أثار الرجفة في اطرافها
(أنا لست حقا مكتسبا لأحد يا تيماء، و كلما أسرعت في تقبل ذلك، اصبحت حياتك أهدأ)
شعرت بالخواء فجأة و هي تنظر الى ظهره القوي العريض...

و تساقطت كفاها بيأس الى جانبيها، لتشعر فجأة بأنها تعبت و استسلمت...
لقد ربح سالم الرافعي، و ربحت مسك سالم الرافعي...
فعلاقتهما بقاصي اقوى و اطول، أما هي!، ماذا تكون هي بالنسبة له؟
استدارت تيماء عنه و همست بخفوت و كأنها تكلم نفسها شاردة
(لكنني جعلت من نفسي حقا مكتسبا لك)
ساد صمت مؤلم بينهما قبل أن يقول قاصي بصوت جامد
(سبق و اخبرتك أنني لست عادلا).

أطرقت تيماء بوجهها، و هي تشعر بألم مبرح، قبل أن تهمس بانهزام
(أريد الذهاب، ارجوك أعدني)
قال قاصي بصوت جاف، ساخر لكن أجوف
(لقد انتهت النصف ساعة على كل حال و حان موعد رحيلي المعتاد، أرجو أن تكوني راضية الآن)
دون التنازل كلمة أخرى تحركت تيماء و قفزت على الدراجة، لتضع الخوذة بنفسها، بينما قاصي ينظر اليها بصمت طويل و يداه في جيبي بنطاله...
و من خلال الجزء الشفاف من خوذتها تلاقت اعنيهما في حوار صامت طويل...

و كأن تلك الأعين تعارضهما و ترفض الخصام...
أخيرا تحرك قاصي و جلس أمامها لينطلق بدراجته...
لكن الغريب و هي تضع كفيها على صدره، ارتفعت احدى كفيه لتغطيهما...
و كأنه يخبرها أنه لن يسمح لها بالذهاب مهما كان الخصام، جارحا، مؤلما...
تلك الليلة، و هي مستلقية على سريرها تتأمل السقف و الدموع تغرق عينيها بسبب خصامهما و عدم تنازله...
اتصل بها...
فسارعت للرد عليه بلهفة و دون تردد، لتسمع صوته يقول أجشا متحشرجا.

(هل تبكين؟)
ابتلعت تلك الغصة في حلقها و قالت بهدوء هامس
(هل أوصلت مسك؟، آمل أن تكون قد حللت لها مشكلتها العويصة)
رد قاصي عليها بنفس الصوت الخشن الخافت. الآمر
(هل تبكين؟)
أخذت نفسا طويلا مرتجفا، قبل أن تقول ببساطة
(نعم، بكيت و انتهيت، هل أنت راض الآن؟)
ساد صمت طويل، حتى انها ظنت بأنه قد أغلق الخط راضيا بغرور، الا أنه قال أخيرا بصوت أكثر خفوتا...
(غدا، سأتي اليك).

ارتفع حاجبيها و نبض قلبها بجنون، قبل أن تتمسك أصابعها بالهاتف أكثر و هي تقول بهدوء زائف
(لماذا؟، هل نسيت شيئا؟)
قال قاصي بصوت غريب
(نعم نسيت)
قالت تيماء بارتجاف
(ماذا نسيت؟)
قال قاصي بخفوت
(نسيت أن أخبرك بأنك الوحيدة)
فغرت تيماء شفتيها، و هي تستمع الى الكلمة البسيطة الخافتة، و ساد صمت طويل و كلا منهما يستمع الى أنفاس الآخر...
قبل أن تهمس بصوت مختنق.

(نعم، هذا سبب منطقي جدا، لقد أصبحت مهملا جدا و كثير النسيان هذه الأيام).

(هل أنت مستعدة للهرب من ولدي أعمامك؟)
انتزعها أمين من ذكرياتها البعيدة بصوته الهادىء، فرفعت وجهها اليه و استقامت من استنادها على السور الخشبي، بعينيها الفيروزيتين الجاذبتين للنظر و قد زاد الحجاب من التركيز على جمالهما دون أن تدرك ذلك...
فتنحنحت و هي تنظر الى فريد الذي كان يسير متمهلا و كأنه يمتطي حمارا لا حصان عربي أصيل، بينما بدا عرابي في ازهى جولاته، وهو يدور متفاخرا بفرسه...

ثم قالت بخفوت مبتسمة و هي تشير اليهما بذقنها
(الن يغضبا؟)
ضحك أمين و هو ينظر الى عرابي و فريد قائلا
(سيغضبان بالتأكيد، وهما يظنان أنني أحاول استمالتك بعيدا عنهما كي اسبق في نيل الفرصة)
ضحكت تيماء هي الأخرى و هي تشعر بحاجة ماسة للضحك على أي شيء، ثم قالت بهدوء متحدية...
(و هل تحاول ذلك؟)
قال أمين بمنتهى الصراحة مبتسما
(نعم)
ارتفع حاجبي تيماء بدهشة و هي تقول
(أنت حقا ذئب صريح جدا).

ضحك أمين وهو يقودها لتبتعد عن الحاجز الخشبي كي يبدآ جولتهما على الأقدام في ساعات الصباح المشرقة قبل أن تحتد أشعة الشمس
(لكني ذئب ذو غرض شريف والله)
لم تشعر تيماء بالخوف منه أو حتى الحرج، بل سارت الى جانبه و هي تشعر بالحاجة الى تلك الجولة كي تهدىء من آلامها القاسية، فقالت بخفوت و هي ترفع وجهها لتنظر الى الطريق الأخضر أمامها...
(اذن هل أنت من المنتظرين حقا لقراري؟)
ابتسم أمين وهو ينظر جانبا اليها قائلا.

(سيكون لي الشرف يا تيماء)
اتسعت عيناها بعدم استيعاب و هي تقول مذهولة
(لقد رأيتني امس لأول مرة، كيف يمكن أن تكون جديا؟)
قال امين ببساطة
(القبول الأولى له أكبر الأثر يا تيماء، أنا ارغب في الزواج و أنت ابنة عمي، محجبة و محترمة و، اعذريني في القول بحرج دون قصد سيء، جميلة)
احمرت وجنتيها الا أنها نظرت اليه بتعجب و هي تقول
(لكن ما أدراك بي و بحياتي السابقة؟)
رد أمين بهدوء.

(يكفي أنك تحملين موروثات الرافعية لأثق بك)
اتسعت عيناها أكثر. و همست بخفوت
(أنا لا أستوعب تفكيركم، على الرغم من أن معظمكم لم ينشأ هنا من الأساس، بل نشأتم في المدن الكبيرة و في الخارج ايضا، لكنكم مقتنعون جدا بالعودة و الزواج من بنات أعمامكم دون حتى التعرف عليهم اولا)
قال أمين ببساطة وهو يشبك كفيه خلف ظهره.

(لما أنت متعجبة؟، اليس هناك في مدينتك ما يدعي بزواج الصالونات؟، ترين به الخاطب للمرة الأولى و عليك أن تحددي قرارك خلال أيام، على الأقل أنت ابنة عمي، من نفس دمائي)
كانت تيماء تستمع اليه مندهشة، و ما ان انتهى حتى هزت رأسها و قالت بخفوت
(لا ازال غير مستوعبة تماما، لكن بالنسبة لي فأنا)
قاطعها امين ليقول بهدوء ناظرا للبعيد.

(أنت الآن متفاجئة فقط و لا تزالين تحت تأثير صدمة وضعك في محل الإختيار، بخلاف ابن عمنا الذي ظهر بالأمس بطريقة درامية، لذا أتفهم تماما إن كنت في حالة تشتت خاصة و أنه لا يزال اليوم الأول لك هنا)
تعثرت تيماء فجأة بشيء وهمي ما أن أتى على ذكر قاصي بطريقة غير مباشرة...
مد أمين ذراعه ليسندها بسرعة قبل أن تقع، ثم قال باهتمام
(هل أنت بخير؟)
ارتبكت تيماء و ابتعدت عن مرمى يديه و هي تقول بخفوت.

(نعم، أنا بخير، لقد تعثرت فقط)
ابتسم أمين لها و قال بهدوء
(لا بأس عليك، أنا سعيد بأنني تواجدت هنا اليوم خصيصا)
ارتبكت تيماء أكثر على الرغم من أن الإرتباك لم يكن من طبعها...
و همست بداخلها برجاء سري
متى ستنجح مسك في اخراجي من هنا؟، متى؟، الا أنها حاولت الابتسام كي لا تلفت النظر أكثر الى شرودها، فقالت كي تداري هذا الإرتباك
(اذن دعني أحفظ أسمائكم جيدا)
رفعت ثلاث أصابع و هي تقول بينما تعد عليهم مبتسمة.

(أمين، و عرابي، و فريد)
ابتسم أمين ابتسامة واسعة وهو يقول مشيرا للبعيد
(و هذا هناك هو الذئب الأكبر، زاهر توفيق الرافعي)
نظرت تيماء الى حيث أشار...
من بعيد كان هناك رجلا، أكبر منهم بقليل، يرتدي عباءة رجولية و عمامة على رأسه، يقف مع بعض الرجال العاملين و يصدر اليهم أوامره...
ارتفع حاجبي تيماء و هي ترمق الرجل الذي ضمن مجال اختيارها أيضا...
بعيدا كل البعد عن الشكل العصري المعتاد للرجل بالنسبة اليها...

فأخذت نفسا متبعثرا و هي تهمس
ياللهي!، لكن أمين سمعها، و ضحك عاليا وهو يقول
(أعرف جيدا بماذا تفكرين حاليا، الزواج من زاهر يعني الإستقرار هنا للأبد، فهو ينوي التمسك بمركز كبير الرافعية ليخلف جدي بعد عمر طويل)
فغرت تيماء شفتيها و هي تنظر الى أمين لترى إن كان يمزح، الا أنه كان جديا تماما...
فقالت بذهول.

(بدأت أتخيل نفسي بملابس شبيهة بتلك التي ترتديها أم سعيد أتعثر بها صعودا و نزولا، و لا تظهر مني سوى عيناي فقط)
ضحك أمين و قال مجاملا
(و هما أكثر من كافيتين)
رمقته بنظرة جانبية، قبل أن تقول بخفوت
(أنتم فعلا ذئاب، إنها المرة الاولى التي نتعارف بها، و حصلت على تعليقين مختلفين ثناءا على عيني)
ضحك أمين عاليا بقوة ثم قال بعد بفترة
(أنت حقا شجاعة و جريئة)
مطت تيماء شفتيها و قالت.

(يجب على الفتاة أن تكون جريئة في مواجهتكم)
ارتفع حاجب أمين بخبث وهو يقول
(اذن اخبريني يا جريئة العينين، من تجرأ على مدح جمالهما قبلي كي أضربه؟)
ضحكت تيماء ضحكة صامتة و هي تنظر بعيدا و قد بدأت تشعر بالخجل فعلا...
قال أمين كي يزيل حرجها
(لقد ابتعدنا بما يكفي، تعالي لنعود الى الدار)
أثناء عودتهما قالت تيماء بخفوت و هي تنظر حولها الى الحدائق الواسعة
(ترى أيكون فريد و عرابي قد غضبا من ابتعادنا؟).

قال أمين مبتسما ببساطة و هدوء
(هذا شيء مؤكد)
نظرت اليه تيماء قائلة
(شيء غير مبشر، لا أريد أي مشاحنات اليوم تحديدا)
قبل دخولهما الى باب الدار وجدت تيماء فتاة شابة تنزل درجات السلم بتعثر، من الواضح أنها تعاني من بعض العرج في ساقها...
و ما أن وصلت للدرجة قبل الأخيرة، حتى تعثرت في ثوبها الاسود الطويل ووقعت أرضا عند أقدامهما تماما...

شهقت تيماء بصوت عال، بينما سارع أمين لينحني جاذبا الفتاة المتأوهة حتى وقفت على قدميها...
رفعت وجهها اليه، فشعر بتعاطف كبير مع عينيها السودادوين الكبيرتين كعيني ظبي صغير، مملوئتين بالدموع...
فقال بجدية
(هل أنت بخير يا بدور؟)
أخذت بدور تعدل من وضع وشاحهها حول وجهها الشرقي الجذاب مطرقة به مجددا...
لكن تيماء استطاعت أن تلمح دمعة انحدرت على وجنتها...

فشعرت تجاهها بإشفاق عنيف، من الواضح أن الفتاة قد شعرت بحرج بالغ للسقوط بهذا الشكل عند أقدامهما
بسبب عرجها و هذا الثوب الطويل الفضفاض...
قالت بدور بصوت جاف
(أنا بخير، شكرا لك)
اقتربت منها تيماء و انحنت تنفض الأتربة عن ثوب بدور الأسود قائلة
(لما لا تدخلي معي الى الدار لأرى إن كنت قد جرحت ركبتيك؟)
الا انها لم تتوقع أن تنتفض الفتاة و تبعد يد تيماء عنها و هي تهتف بقوة
(ابتعدي عني).

تراجعت تيماء مصدومة من عدوانية تلك الفتاة...
بينما وقفت بدور تنظر اليها بصمت، تتأملها من أعلى رأسها و حتى أقدامها...
اذن هذه هي ابنة عمها سالم التي كانت مختفية منذ مولدها!
كانت تشعر باحتراق داخلي حين رأت نظرات راجح العابثة لها أمس ساعة وصولهما الى الدار...
راجح في الواقع ينظر بنفس النظرة الى أية أنثى تمر أمامه، و قد بدأت تقنع نفسها أن هذا هو طبع الرجل...

فهو رجل و لديه رغبات الرجال، لذا تقوم دائما على محاولة ملىء عينيه و اشباع رغباته كي لا يهرب منها أبدا...
لكن ابنة عمها تلك مختلفة...
تبدو ذات شخصية فريدة، تجذب النظر لعينيها الغريبتي التحدي و الجرأة...
تكلمت تيماء قائلة بهدوء
(كنت أحاول المساعدة فقط)
رفعت بدور ذقنها و قالت بصلف
(لا أحتاج لمساعدة، هل ترينني عاجزة او كسيحة؟)
قال أمين بصرامة
(ما مشكلتك يا بدور؟، تيماء كانت تحاول المساعدة بلطف ليس اكثر).

رفعت بدور وجهها اليه و قالت بغضب
(لست أحتاج لأي مساعدة منك أو منها، أنا أستطيع الحركة بمفردي)
تأفف أمين بصوت عال بينما قالت تيماء
(لا بأس يا أمين، أنا لست غاضبة، تشرفت بمعرفتك بدور، )
لم تتنازل بدور و ترد عليها، بل رمقتها مرة أخرى من أعلى الى أسفل بنظرات مدققة ضايقت تيماء بشدة...
قبل أن تقول بجمود و هي تمط شفتيها
(الشرف لي أنا)
التفتت بدور الى أمين لتقول بجمود.

(لقد جئت كي ألقي تحية الصباح على جدي، لكنه أصدر أوامره أن يجتمع الجميع على مائدة الإفطار حالا)
أومأ أمين برأسه قائلا بصرامة
(حسنا سنذهب من فورنا)
قالت بدور و هي ترمق تيماء بنظرة أخرى طويلة أشد تدقيقا
(سأذهب لأستدعي أبي من دارنا)
ابتعدت عنهما و هي تحاول جاهدة السيطرة على عرجها كي لا يلاحظاه، لكنه كان واضحا و هي تتعثر من شدة توترها...
و ما أن ابتعدت حتى قال أمين بهدوء.

(أرجو الا يكون اسلوب بدور قد ازعجك، إنها دائما مستفزة، لكن السبب أن والدها كان شديد التعامل معها منذ صغرها، ثم بعد عقد قرانها على راجح ابن عمك، ظننا أنها ستكون أكثر تجاوبا لكنه زاد من قوقعتها حول نفسها، حتى أنها قطعت من صداقتها بأختى الصغرى تماما)
راجح!
اليس هذا من يكون أخ لقاصي؟، ياللهي ما ذلك التعقيد؟
قالت تيماء بخفوت شارد و هي تصعد السلالم معه
(لم تزعجني، تبدو كمن تعاني و تحارب في اكثر من اتجاه).

توقف أمين ليقول لها آسفا...
(يجب أن اذهب الآن لأستعد، هل ستكونين آمنة إن تركتك بمفردك الآن؟)
ابتسمت تيماء و أومأت برأسها قائلة بهدوء
(لا تقلق، الذئاب جميعا في حالة تأهب الآن، و لا أرى أي منهم هنا)
ابتسم أمين وهو يقول معجبا بها
(احذريهم جميعا، اتفقنا)
ضحكت تيماء و قالت
(حاضر، و أنت أولهم)
ضحك أمين قائلا
(أنا ذئب طيب، شريف الغرض).

احمرت و جنتاها مجددا و هي تهز رأسها يائسة من تلك العائلة غريبة الاطوار، لكنها قالت بهدوء
(أراك لاحقا يا حضرة الذئب شريف الغرض)
ابتعدت تيماء لتتجول ببطىء في أنحاء الدار، بحثا عن تلك القاعة التي سيتناولون بها الإفطار...
و التي ستراها للمرة الأولى و الأخيرة...
رأت بابا ضخما من جانبين مفتوحين قليلا، فتقدمت لتنظر من خلالهما بحذر بحثا عن تلك القاعة...

الا أنها تسمرت مكانها حين رأت والدها يجلس على احد المقاعد الجانبية الضخمة، في احدى زوايا تلك القاعة...
لكن ما سمرها مكانها هي أنها رأت مسك تجلس على ركبتيه!
كانت مرتاحة على صدره وهو يربت على شعرها برفق، بينما عيناه تشعان حبا أبويا لم تره على ملامحه من قبل!
شعرت تيماء بخط من الجليد المؤلم يسري على طول عمودها الفقري...
و قبضة أشد ألما تعتصر صدرها من هذا المنظر المفجع بالنسبة لها...

لم تكن مسك مبتسمة، بل كانت مغمضة العينين و كأنها تطلب الراحة، ووالدها يمنحها الصدر الذي ترتاح اليه...
سمعت تيماء سالم الرافعي يقول بخفوت
(لن أزوجك إياه يا مسك. لا تخافي شيئا صغيرتي، و لو اقتضى الأمر وقوفي أمام الحاج سليمان، فلن تتزوجي من ذلك الحقير أبدا، أقسمت لوالدتك الغالية الا أظلمك يوما. و أنت حبك في قلبي من حبها)
القبضة الجليدية تعتصر صدر تيماء أكثر و اكثر...

و الدموع الحارقة تلسع عينيها رافضة أن تنحدر الى وجنتيها قهرا...
بداخلها طفلة يتيمة، ظنت أنها ماتت منذ سنوات...
لكنها اكتشفت أنها لا تزال حية، و هي تسمع صراخها في تلك اللحظة...
ذلك الرجل الحنون الجالس عن بعد أمامها، لم ترى منه ذرة أبوة، لم تعرف منه سوى القسوة و الظلم...
رفع سالم عينيه في تلك اللحظة ليصطدما بعيني تيماء المراقبتين له من شق الباب...

ساد صمت به خواء غريب و نظرتهما تتشابكان للحظات طويلة، دون أي تعبير على ملامح كل منهما...
الى أن ابتعدت تيماء و هي تشعر بالغثيان...
فارتمت بظهرها الى الجدار المجاور للقاعة و هي تغمض عينيها، تتنفس بسرعة و عنف...
غيرة، بداخلها غيرة و حقد أسود...
لم تنكرهما قديما، الا أنها كانت تظن بأنها قد نجحت في التغلب عليهما على مر السنوات الماضية...
أرجعت رأسها للخلف و هي تحاول جاهدة التغلب على ذلك الألم...

الألم العائد بها لسبع سنوات مضت...
لأول لقاء بينهما، بناء على طلبه هو!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة