قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

خطت قدماها الى ذلك المقهى المتفق عليه، و بداخلها تناقض مشاعر غريب
البرود و الجليد، غلاف يحيط بمشاعرها بنسبة أكبر...
لكن بداخل هذا البرود الجليدي...
كان هناك ألم، اشتياق غبي، و بعض السعادة!
وجدته جالسا بأحد الزوايا الى طاولة صغيرة، يشرب قدحا من القهوة على ما يبدو...
اقتربت منه ببطىء و هي تميل برأسها للتأمله جيدا. لا يزال محافظا على بعض من وسامته الشرقية...
لكن خطوط العمر بدأت في الظهور على ملامحه...

قلبها الغبي لا يزال يحمل تجاهه بعض مشاعر صلة الدم، و الأبوة المفقودة...
رفع وجهه اليها أخيرا، ثم ابتسم بخيلاء...
ابتسامة صغيرة وقورة...
تقريبا كانت الأولى و الأخيرة، ليرفع يده ملوحا لها كي تأتيه!
أيظن أنها لن تتعرف عليه؟
تقدمت تيماء ذات الثامنة عشر منه بتردد و هي تحاول تعبير حيادي على ملامحها الى أن وصلت اليه أخيرا...
فقال سالم الرافعي بهدوء
(مرحبا يا تيماء، أنت دقيقة في مواعيدك).

حاولت الإبتسام الا أنها فشلت، فقالت بخفوت
(أرجو أن أكون قد ورثت تلك الصفة منك، فأمي لا تملكها بالتأكيد. )
توترت ملامحه قليلا، قبل أن يقول بهدوء
(اجلسي يا تيماء)
جلست بالفعل على الكرسي المقابل له، و اضعة حقيبتها بتوتر على ذراع الكرسي...
ثم شبكت أصابعها فوق سطح الطاولة...
منذ أن هاتفها أمس و أخبرها أنه يرغب في تحديد موعدا للقائها، و هي تشعر بالصدمة و المفاجأة...
لم تذق طعم النوم أو الطعام...

لم يقدم من قبل على ابداء الرغبة في رؤيتها...
كان جنونها في اللحظات الأولى. هو أن يكون قد علم بعلاقتها بقاصي...
لكن بعد أن هدأت قليلا، أدركت أنه لو علم بهذا لم يكن ليدعوها في مقهى كي يتناقش معها كأب متحضر...
لذا قضت الليلة بأكملها تحاول استنتاج السبب...
قال سالم الرافعي أخيرا
(كيف حال والدتك بالمناسبة؟)
بالمناسبة!
كم اشعرتها تلك الكلمة بالغضب و الثورة!
لكنها تمكنت من القول بهدوء.

(بخير، في أحسن حال، فأنا معها)
أومأ سالم برأسه صامتا، قبل أن ينظر اليها مليا، يدقق النظر بملامحها جيدا دون تعبير معين...
ثم قال اخيرا
(كبرت يا تيماء)
زفرت نفسا مكبوتا، بعد أدراكها أنها لم تكن تتنفس...
ثم قالت أخيرا بنفس هدوءه
(لا أعلم، لكن أظن ذلك، فآخر مرة رأيتك بها كانت منذ سنوات، للحظات خاطفة)
أطرق سالم بوجهه لينفض رماد سيجارته، قبل أن يقول بخفوت
(ستصبحين طبيبة يا تيماء).

لم تعلم ان كان هذا سؤالا، أم اعجابا...
لذا قالت بحذر
(يبدو هذا)
أومأ سالم برأسه شاردا، ثم قال أخيرا بهدوء
(سأعمل على ضمان اكمال دراستك)
عقدت حاجبيها للحظة، لم تفهم العرض من تلك العبارة الغير مفهومة!
مالذي يمنع متابعة دراستها؟
هل ينتظر أن تشكره على مصاريف تعليمها التي يغدق بها عليها؟
فقالت بتردد و خفوت
(أنا لا أريد أن آخذ الكثير من وقتك، فهل رغبت أن تراني لسبب معين؟، أم اشتقت الي؟).

لم تقصد أن يظهر السؤال الاخير محملا بتلك النبرة الساخرة...
لم تقصد و لم ترغب أن تظهر ساخرة، لم ترغب أن تهتم باظهار وجعها منه...
لكن صوتها خانها، و أظهر تلك النبرة الساخرة المريرة...
عقد سالم حاجبيه قليلا، و عرفت بأنه لمح السخرية في نبرتها فانقبض قلبها...
لكنه تظاهر بالعكس و رفع وجهه اليها ليقول باتزان
(نعم هناك سبب مهم، لكن أخبريني قبلا، هل تودين شرب أو تناول شيء؟).

أرادت الضحك عاليا، الضحك حتى الصراخ...
الا أنها قالت بمعجزة في التحدي و الارادة
(لا أرجوك، أنا لا أتناول شيئا خارج البيت مطلقا، لكن أشكرك على كل حال)
أومأ سالم الرافعي برأسه، قبل أن ينظر اليها مليا...
ثم قال أخيرا بهدوء
(تعرفين يا تيماء أنك قد قاربت العشرين من عمرك، و أنت بعيدة عني طوال حياتك، لذا آن الأوان لتصحيح الأوضاع التصحيح السليم)
عقدت حاجبيها بصدمة...
هل ينوي ضمها اليه الآن؟، بعد كل هذه السنوات؟

لن تترك أمها أبدا!، فمن لها سواها؟
لذا قالت تيماء بتردد
(لم أفهم تماما!)
حينها نظر سالم الى عينيها و قال بحسم و ثقة
(آن الأوان كي تتزوجي، و قد تقدم لك خاطبا مناسبا و أنا وافقت).

لم تكن يوما أشد سفالة ووضاعة مما كانتها مع والدها ذاك اليوم!
اتسعت عيناها بذهول، و تجمد جسدها تماما...
لكنها قالت بصوت غريب
(ماذا قلت؟)
رفع سالم وجهه و قال هادئا
(هناك من تقدم لطلب يدك، و أنا وافقت، رجل مناسب جدا من أحد فروع عائلتنا البعيدة، يعمل لدي في الشركة و قد رآك منذ شهرين حين أتيت كي تطلبين مصاريفك)
نعم تذكر هذا اليوم جيدا...

كانت تحتاج الى مبلغ اكبر من المعتاد، و قد صرفت أمها كل ما لديهما من مال في موجة تبذير مفاجئة، من تجديد لأثاث البيت كاملا...
أما هي فقد احتاجت الى أجهزة طبية و كتب، لذا حين أخبرت قاصي بذلك على أن يطلب من والدها بما انه المكلف رسميا بقضاء مصالحها...
صدمها قاصي أنه سيبيع الدراجة من أجلها...
ابتسمت تيماء رغم عنها بمرارة و هي تتذكر انها صرخت به بجنون و أقسمت بأنه لو فعل ذلك فلن تراه مجددا...

و استمرت الحرب بينهما طويلا، الى أن قررت انهائها بطريقتها...
فأرسلت رسالة من على هاتف قاصي الى والدها، تخبره بأنها ستذهب الى فرع شركته كي تأخذ البلغ الذي تحتاجه...
و بالفعل ذهبت الى هناك في عدم وجوده طبعا...
و كان هو قد ترك لها المبلغ مع سكرتيرته الخاصة...
لقد قابلت أناس كثر، و لن تتذكر اي منهم القريب البعيد، و المتواضع ماديا كي يتجرأ على طلب الزواج من ابنة سالم الرافعي المنبوذة...

استمر والدها في الكلام مطولا، لم تسمع منه سوى بضع عبارات و هي تتنفس بهمجية، و اصابعها تنقر على الطاولة...
بينما سالم يقول
(تكاليف زواجكما كلها سأتكفل بها، و ستكون لكما شقة مناسبة تماما، هو شاب طموح في بداية حياته، و أنا سأساعده، و سأعمل على ضمان أن يمنحك حرية متابعة دراستك)
فغرت تيماء شفتيها لتتكلم اخيرا بصوت غريب جدا، ثم قالت و قد بدأت تستوعب أخيرا.

(من فروع العائلة البعيدة، كي أظل بعيدة، لكنه في نفس الوقت يحمل لقب الرافعية خلف اسمه، كم هو مناسب فعلا؟)
عقد سالم حاجبيه، ثم قال ببرود
(نبرتك لا تعجبني يا تيماء)
ظلت تنظر اليه طويلا و هي تمنع نفسها من التهور، و اصابعها تزيد من سرعة نقرها على سطح الطاولة، بينما أسنانها تحفر في باطن شفتها، لتقول أخيرا بصوت عنيف رغم خفوته
(آخر همي أن تعجبك نبرتي، أبي!)
اتسعت عينا سالم بغضب وهو يهتف قائلا
(تأدبي).

الا أنها نهضت من مكانها فجأة و قالت بصوت عال دون أن تهتم بالمتواجدين
(لن أتزوج من تختاره و لو كان الرجل الوحيد في هذا العالم، لا أصدق أنك أتيت كي تزوجني!)
نهض سالم من مكانه و قد احمر وجهه من شدة الغضب و همس من بين أسنانه قائلا
(أقسم باللع يا فتاة لو كنا بمفردنا لكنت صفعتك تأديبا لك، تربية أمك فعلا!)
برقت عيناها بوحشية و هي تميل لتستند الى الطاولة بينهما بكفيها قائلة.

(أصفعني يا سالم الرافعي، ها أنا أمامك، على الأقل سأشعر بأنك والدي للمرة الأولى بحياتي)
ازدادت شراسة عينيه و همس بصوت مخيف
(اسمعيني جيدا يا بنت ثريا، ستتزوجين من اختاره لك، أم تظنين أنك قد تتزوجين أحدا من خارج العائلة؟، ستكونين واهمة اذن، ستتزوجين بمن اخترته لك شاكرة، و الا أقسم بالله الا يصلك مني قرشا واحدا للأبد)
كانت تتنفس بصوت عال، و نظرة عينيها همجية...

بينما الكره داخلها اندفع ليمحو كل ذرة سعادة كانت برؤيته، و كل حنين له كأب بدافع صلة الدم ليس الا...
فهمست من بين أسنانها
(أكرهك يا سالم الرافعي، أكرهك من كل قلبي)
رأت كفيه ينقبضان، و عيناه تنظران الى الناس من حولهما، و تمنت لو يصفعها كي يزيد من كرهها له...
الا انه تماسك و قال ببرود.

(و كأني أهتم!، تمالكي نفسك يا بنت ثريا و تعقلي، لن تبقين بدون زواج لعمر أكبر، لقد أصبحت شابة و تسكنين مع امرأة، وأنا لن أسمح بشيء يشوب اسمي بعد هذا العمر، اذهبي الى بيتك و فكري مليا بهدوء، فكري في أبواب الجحيم التي ستفتحينها امامك لو قررت تحدي أوامري)
و قد كان سالم محقا...
فتحدي اوامره، فتح أمامها أبوابا من الجحيم!
استفاقت تيماء من ذكرياتها المريرة و هي تضرب الحائط خلفها بقبضتها بعنف...

ثم انطلقت تبتعد عن القاعة و عن مسك و سالم...
لا تريد رؤيتهما أبدا، فرؤيتهما تجلب لها المزيد من الذكريات السوداء...
برقت عيناها بلون فيروزي محتقن قاتم، و همست بألم
(سأرحل للأبد، و كفاني من تلك العائلة كلها).

نزلت سوار من جناحها مبتسمة بنعومة و أناقة...
كانت تبدو شديدة الجمال و هي تتهادى فوق السلم الخشبي الأنيق...
فرأتها أم سعيد من باب المطبخ المفتوح، حينها خرجت سريعا و هي تقول
(انتظري يا سيدة سوار لأبخرك من العين)
وقفت سوار و هي تنظر الى أم سعيد التي كانت سبق و أعدت مبخرتها و أخذت تدور بها حول سوار...
فضحكت و قالت بنعومة
(من ليحسدني هنا يا أم سعيد و أنا لا أخرج أبدا)
قالت ام سعيد بجدية.

(العين فلقت الحجر يا سيدة سوار، و أنت تبارك الله، جمالك يزيد صباه كلما كبرت عاما)
ابتسمت سوار بزهو جديد عليها، و لم تمانع ابدا في الحصول على بعض المديح...
زهو مرتبط بأنها منحت زوجها حقه أخيرا...
و كم يشعرها ذلك بالرضا...
كانت تعيش معذبة الضمير مؤخرا، على الرغم من ان العلاقة بينهما لم تكن علاقة زوج و زوجة...
الا أن العمر حين بدأ يسحب السنوات، و سليم يرفض الزواج بأخرى...

حينها وجدت نفسها تميل الى ان تجبره على اخذ حقوقه، حتى لو رفض هو...
سليم كان اول من شهد على الصراع القديم بين ليث و راجح...
كان هو أول من لجأت اليه مصدومة، تخبره برغبة ليث في الزواج منها!
حينها اخبرها بقلق، بأنه علم من جده أن ليث طلبها منه للزواج رسميا و أن هذا سيشعل نارا كانت مخمدة...
سعلت سوار من رائحة البخور القوي، فلوحت بيدها و هي تقول محتجة
(كفى يا أم سعيد، كفى، لقد أزكم البخور عيني و أنفي).

الا أن أم سعيد قالت بلهجة جدية هامسة و قلقة
(في الدار عين زرقاء غريبة سيدة سوار، و الأعين الزرقاء هي التي تحسد أكثر)
ارتفع حاجبي سوار و هي تقول
(أتقصدين تيماء؟، اتقي الله يا أم سعيد، إنها تبدو فتاة طيبة، حسنا قد تكون مستفزة و مشاغبة، لكنها ليست بحاسدة، و على ماذا ستحسدني و هي العروس الجديدة لهذا البيت؟)
قالت أم سعيد بحدة.

(فليقيمو لها الزفاف سبعين ليلة و ليست سبع، لكنها لن تكون سيدة هذا الدار أبدا، هذا الدار لن يعرف سوى سيدة واحدة فقط، هي سوار غانم الرافعي فقط)
ردت سوار تقول بلهجة متآمرة
(أتعرفين يا أم سعيد، أتمنى أن تختار أخي فريد، أعتقد أنها الفتاة المنشودة التي ستعيد اليه تفكيره السليم و تربطه بالأرض و بجذوره أكثر)
قالت أم سعيد و هي تمط شفتيها.

(و هل تعرف تلك الفتاة أرضا كي تربط بها أي جذور يا سيدة سوار، عيناها ليست من اعيننا)
ردت سوار و قالت بجدية
(لا اريدك أن تجرحيها بكلمة من كلامك يا أم سعيد، فقد تكون زوجة أخي المستقبلية)
قالت أم سعيد من بين أسنانها
(لا قدر الله، هل ينقصنا دخول أعين زرقاء للدار؟)
سمعا صوتا رجوليا من خلفهما يقول بعبث
(سمعت أن هناك أعين زرقاء في البيت)
سرى تشنج فوري في جسد سوار ما أن سمعت الصوت المألوف لها...

فسارعت لتخفي وجهها بطرف وشاحهها و ثبتته جانبا جيدا، ثم أشارت لأم سعيد أن تذهب...
استدارت سوار ببطىء، و طالت بها النظرة الصخرية قبل أن تقول ببرود
(صباح الخير يا راجح)
لم يرد راجح على الفور، بل برقت عيناه، و اختفت الابتسامة عن شفتيه وهو ينظر بنظرات مشتعلة شديدة الصراحة الى عينيها العسليتين...
شعرت سوار بنفسها مكشوفة أمامه، من نظرته الى عينيها بمثل هذا الوضوح الوقح...

لكنها لم تسمح لنفسها بأن تسبل جفنيها أمامه، بل بادلته النظرة باقوى و أقسى منها...
و انتظرت...
انتظرت أن ينهي نظرته الوقحة...
قد تسمح للجميع بالنظر الى عينيها، الا راجح...
فهي تعرف معنى نظراته جيدا، وهو معنى لا تقبل به، احتراما لسليم و لنفسها...
فغر راجح شفتيه ببطىء، ليقول بصوت غريب، و كأنه لها وحدها
(صباح الخير يا سوار، تبدين)
رفعت ذقنها اليه و لمعت عيناها بتحد أن يتجرأ و يحاول التجاوز معها في الكلام...

لقد تعمدت أن ترتدي اسدالها الأسود الأكثر وسعا، و هي لا تظهر أمامه الا مغطاة الوجه...
لكن هذه هي مشكلة دور العوائل، تظل تجمع من لا يجب أن يجتمعون في مكان واحد...
صمت عن قصد...
وفهمت هي مقصده الخبيث، فهو لن يتجرأ على التجاوز معها...
الا أن صمته كان ابلغ من الكلام، و عيناه تخترقان عمق عينيها و تعريانهما...
سرت قشعريرة باردة في جسدها...
لكنها قالت بقوة دون أن يرتجف صوتها.

(يمكنك الذهاب الى جدي يا راجح، فهو يريدك منذ الصباح الباكر)
لم يرد عليها على الفور، بل أخذ وقته في تأملها من أعلى رأسها و حتى قدميها و كأنه يراها بأشعة خفية...
ثم قال ببرود مماثل
(و لما العجلة في ارسالي بعيدا يا سوار؟، مرت فترة طويلة منذ رأينا بعضنا لآخر مرة)
قالت سوار بلهجة أقوى
(لا أرى سببا لرؤيتنا لبعضنا يا راجح، و لا أرى أن وقوفك هنا بهذا الشكل مناسبا).

ضحك راجح دون مرح، و عيناه شديدتي الشر، الشر المغوي...
و الذي يعبر عن امتلاك سافر غير مشروع...
ثم تكلم بجدية، جدية خطرة، أبعد ما تكون عن العبث و المزاح...
(أنا من يقرر ما هو مناسب و ما هو غير مناسب يا جميلة)
هدرت سوار فجأة بقوة
(لا تقل هذه الكلمة مجددا يا راجح و التزم حدودك)
برقت عيناه اكثر وهو يقترب منها خطوة، ليقول بلهجة أشد خطورة.

(لماذا؟، هل تثير بداخلك ضعفا غير مرغوب به؟، هل تحي بك تلك الانثى التي كان يدغدغها كلامي. قبل أن تدفنيها مع الميت شبيه الرجال ابن عمك سليم؟)
دون حتى أن تفكر في الامر ارتفع كفها لتصفعه بكل قوتها...
عم صمت مهيب بينهما، بينما اتسعت عينا راجح كعيني شيطان من الشر، وهو ينظر اليها فاغرا فمه...
أصابعها القوية رغم أنوثتها، تركت علامات حمراء على وجنته...

لكن عيناها لم ترجفا و زادتا قوة و صلابة أمامه و هي تقول بشراسة
(اياك و نطق كلمة سوء في حق سليم، إنه يعرف الرجولة كما لم تعرفها أنت)
سحب نفسا هادرا قبل أن يهجم عليها يرفع يده، و للحظات ظنت أنه سيرد لها الصفعة
الا أن يده امتدت الى طارف وشاحها المثبت فجذبه بعنف ليكشف وجهها...
لمعت عينا سوار بعنف أكبر، و شعرت بانتهاك جسدي أثار بها نوبة من الجنون...

بينما خمد غضب راجح للحظة، وهو يتلقف ما يستطيع من ملامح وجهها الشهية...
لكن تلك اللحظة كانت كفيلة بأن ترفع سوار يدها لتصفعه مجددا بكل قوتها، و هي تهتف
(أيها الحقير)
هذه المرة لم يستطع راجح السيطرة على نفسه، فهدر بصوت عال
(سوااااار، لقد فجرت غضبي حقا، و هذا خطأ كبير منك بعد كبت السنوات)
صرخت سوار فجأة بصوت أعلى و أعلى
(جدي، جدي، حاج سليمان).

خرجت أم سعيد مهرولة على صوت سوار، و بعض الخادمات، بينما تسمر راجح مكانه و هو يراها تصرخ بلا رادع أو حرج...
الى أن خرج سليمان الرافعي الى أعلى السلم وهو يقول بصوت مهيب
(لماذا تصرخين يا سوار؟)
نظرت سوار الى وجه راجح المحمر غضبا حتى اشتد سواد عينيه، فابتسمت بتشفي و هي تقول ناظرة الى جدها
(راجح كان ينوي المغادرة يا جدي، لكني أخبرته برغبتك في رؤيته أولا).

سمعت صوت هسيس أنفاس راجح تهدر بقوة، الا أن صوت سليمان الرافعي نادى بحزم
(تعال يا راجح يا ولدي، أريدك في أمر خاص، اصعد الى هنا)
رمق راجح سوار بنظرة أخبرتها بوضوح
أن ما حدث لم ينتهي بعد، و أنه سيعود لها، قريبا جدا، لكن سوار جابهت نظرته بتحد و هي ترفع ذقنها بخيلاء، فاستدار عنها ليصعد السلالم حيث اختفى جده...
بينما أسقطت سوار دروعها و زفرت بقوة ذلك النفس الذي كانت تمسكه بتوتر...
راجح عمران الرافعي...

لن يتركها لحياتها المسالمة أبدا...
تراجعت سوار لتجلس على أقرب كرسي و هي تنظر أمامها بقنوط...
تتذكر حالها منذ ثمان سنوات، و أكثر...
حين كانت مفتونة براجح حد الجنون...
كانت ترفضه ظاهريا و تظهر له تحديها أمام كل غروره...
الى أن وقف أمامها يوما و هتف بقوة
(لما تعاندين نفسك يا سوار؟، انت تحبينني و تعلمين أنك تذوبين عشقا لهذا الحب، فلماذا تعاندين؟)
لم يكن من عادتها الإنكار، لم يكن الهرب أو الجبن هو طريقها.

لذا رفعت وجهها اليه، تنظر الى عينيه بتحدي، قبل أن تقول ببرود
(و إن يكن!)
لن تنسى بريق عينيه، بريق متوهج زاده وسامة و جاذبية...
بريق امتلاك نجمة من السماء...
علي الرغم من فساد أخلاقه و غرور خصاله، الا أن اعترافها الفاتر البسيط و الصادق
جعله يطال نجمة في السماء...
تعرف أنها نقطة ضعفه التي لم تخبو على مدى السنوات الماضية كلها...
هتف يومها بكل جنون الرغبة بها و الحب المتملك.

(و أنا أحبك، أعشقك، أعشق النسيم الذي يلامس وجنتيك)
نظرت اليه و هي تداعب أحدى الخيول ثم قالت ببرود
(و ماذا بعد؟)
تسمر مكانه و ازداد بريق عينيه لكن بغضب حقيقي هذه المرة...
فهتف وهو يقترب منها
(ماذا تعنين بماذا بعد؟، ما هذا السؤال البارد؟، نتزوج طبعا، لقد تأخرنا جدا، لقد قاربت العشرين من عمرك يا سوار)
رفعت عينيها المتوهجتين القويتين اليه و ابتعدت عنه بسرعة، لتقف في مواجهته بكل عنفوان قائلة.

(و أنت في الخامسة و العشرين، فهل ترى بأنك قد نضجت و أصبحت أهلا للفوز بي؟)
هدر بنفس خشن وهو يعاود الإندفاع تجاهها بينما هي تراوغه كمهرة جامحة...
(سوار، توقفي عن التلاعب بي، أنا لست صبورا أبدا)
وقفت سوار مكانها و رفعت وجهها اليه لتقول بجمود قوي
(و أنا التلاعب ليس من طبعي، و أنت لست جديرا بي)
نظرته حين نطقت بذلك بكل عزم و قوة، كانت شيطانية مدمرة...
فتوقف مكانه ليقول بصوت مهدد خطير.

(أتظنين نفسك قادرة على تحدي رغبتي بك، الوقوف أمام حقي فيك؟)
جابهته بكل قوة
(أنا لست ملكا لك، و أنت حتى الآن لا تملك أي حق من الحقوق، الا بعد كلمة مني)
رقت عيناه قليلا و همس بخفوت
(و متى تمنحيني تلك الكلمة يا سوار؟، يا جميلة الرافعية)
قالت سوار بهدوء رغم الألم المضني في قلبها
(أنت لست رجلا لإمرأة واحدة يا راجح، و أنا لا أقبل بالمشاركة)
عقد حاجبيه و هدر بقسوة...

(بالله عليك يا سوار، كانت مجرد نزوات، لقد مر بها جميع الشباب)
استدارت سوار عنه، تخفي ذلك الألم بعينيها. و كأنه ينطق بشيء بسيط، و كأنه مجرد خطأ مطبعي...
بينما كل نزوة من نزواته كانت تنحر قلبها، خاصة وهو يعود اليها بعينين محملتين بالشوق...
و ينتظر منها أن تستجيب!
لم يكن يعرف سوار ابنة وهدة الهلالية اذن...
لكنه أقسم لها أن يكون لها وحدها، و لا امرأة غيرها عرفت أو ستعرف الطريق الى قلبه...

و بعد أشهر طويلة رضخت سوار، و منحته وعدا بأن توافق على الخطبة ما أن يتقدم الى جدها رسميا...
و هنا كانت صدمتها صدمتين...
صدمتان متوليتان...
بعد أن عاهدت الله أن تغير منه، و تكون له الزوجة التي تقيه شر باقي النساء...
جاء عرض ليث للزواج بها!
كانت الصدمة التي لم تتخيلها في عمرها كله...
ليث بالنسبة لها هو الهالة التي تحتمي بها و بوهجها المهيب...

هو همزة الوصل التي تفخر بها بينها و بين عائلة أمها، عائلة الهلالي...
كم كانت تفرحها كلمة ثناء منه، كم تنعشها نظرة اعجاب منه...
لكنها لم تتصور بكل غباء أن يكون عاشقا لها!
ليث الذي كانت تدعوه بسيد الشباب، كان مدلها في عشقها كما لم تسمع منه من قبل...
كلامه لها أوقعها أرضا، و أوقع قلبها بين قدميها...
تلك الليلة قضت معظمها و هي تنتفض في فراشها، عيناها شاخصتان الى سقف غرفتها...
لن تنكر انها تأثرت...

فهي بشر، و ليث كان مثال الرجل الذي تتمناه هي قبل اي فتاة...
و للحظات مجنونة، ضربت وسادتها و هي تهمس
لماذا لم يمنح القدر طباع و أخلاق ليث لراجح؟، و على هذا السؤال راحت في سبات عميق...
و لن تنسى ابدا انها في تلك الليلة تحديدا قد حلمت اكثر احلامها جنونا...
حلمت بنفسها ترتدي فستان زفاف أبيض و مستلقية في فراش وثير مزينا بالورود...
و حول شعرها الطويل تاج من الورود ايضا...
كانت عروسا كأبهى ما تكون...

و كان قلبها يخفق بعنف و هي ترى عريسها يقترب منها، ملامحه غير واضحة من شدة الضوء المنبعث خلفه...
و ما أن وصل اليها، انحنى بالقرب منها لتشم رائحة عطره القوية
قلبه يخف فوق قلبها محاكيا له، و ذراعاه تضمانها إلى صدر رحب قوي...
أخذت ترمش بعينيها محاولة أن تراه على الرغم من أنها متأكدة بأنه راجح...
لكن شيئا ما كان يأمرها بأن تفتح عينيها و تتأكد من هويته...

الى أن مست شفتاه شفتيها، برقة كأجنحة الفراشات، جعلتها تشهق ألما بينما هو يزيد من الضغط عليها برفق يخطف القلب...
و ما أن ابتعد عنها حتى فغرت شفتيها لتهمس بسؤال حالم
(ليث؟)
حينها رأت ملامحه الوسيمة تظهر لها بوضوح، في ابتسامة عريضة زادت من وجهه حسنا ووقارا وهو يهمس لها
(ليث زوجك).

ابتسمت و هي تشعر بسعادة غريبة غير مفسرة، و ما أن استقامت لتجلس على الفراش وجدت أن ثوبها الأبيض قد تغرق صدره كله بالدم الأحمر القاني!
صرخب برعب و هي ترفع عينيها مستنجدة بليث، الا أنه لم يكن ليث، بل كان سليم ابن عمها!
يبتسم لها ابتسامة وضاءه، بينما هي تصرخ و تبكي...
انتفضت تلك الليلة من نومها فزعة تصرخ، فأتت اليها أمها مرتعبة من صراخها...

و جلست بجوارها تضمها الى صدرها بحنان و هي تقرأ لها آيات قرآنية لتبعد عنها ما أصابها فأفزعها الى هذا الحد...
و من شدة رعب سوار في تلك الليلة، قصت على أمها ما رأته في الحلم...
انعقد حاجبي وهدة الهلالي بشدة و هي تزيد من ضم سوار الى صدرها و تستعيذ من الشيطان...
بينما كانت ترتجف قليلا. ثم همست في أذن سوار
(لا تقصي هذا الحلم على مخلوق يا سوار، عديني حبيبتي، لا تقصي حلما أفزعك مجددا).

نظرت سوار الى عينيها القلقتين. فهمست بوعد
(أعدك أمي الا أعيدها، لا تخافي الى هذا الحد، كان مجرد كابوس)
و ترددت، أراحت وجنتها على صدر أمها الناعم و ترددت في أن تخبرها، لكنها فعلت على كل حال فهمست بخفوت
(على الأرجح هذا الكابوس كان بسبب صدمة اليوم، حين قابلت ليث)
عقدت وهدة حاجبيها و مدت يدها تحت ذقن سوار لترفع وجهها لتراه، ثم قالت بقلق
(ماذا حدث حين قابلت ليث؟).

ارتبكت سوار قليلا، ثم قالت و هي تدير عينيها بعيدا
(ليث يريد الزواج مني يا أمي)
اتسعت عينا وهدة و قالت بحزن
(هل حادثك في الأمر فعلا؟)
قالت سوار بعدم استيعاب
(هل كنت تعرفين بأمر ح، أقصد برغبته في الزواج مني؟)
تنهدت وهدة و هي تتأمل جمال سوار على ضوء المصباح الجانبي الذهبي الخافت...
ثم همست بحزن أكبر
(أعرف بأمر حبه لك منذ سنوات، لكن عرفت اليوم بأنه تقدم لجدك يطلب الزواج بك)
اتسعت عينا سوار و قالت بصدمة.

(و بماذا أجابه جدي؟، و هل آنا آخر من يعلم بكل ما يخصني؟)
نظرت وهدة الى عيني سوار الحائرتين، ثم أمسكت بكتفيها و قالت بحزم خافت
(أمر الزواج من ليث انسيه تماما يا سوار، يعلم الله كم أتألم لقول هذا، و كم كنت أتمنى أن تكوني من نصيب ليث، فهو الرجل الوحيد الذي يستحقك، لكن هناك واجب أهم من القلب و الحب و حتى المصلحة الشخصية، زواجك به قد يجدد العداوة بين العائلتين، خاصة و أن أبناء أعمامك أولى بك).

عقدت سوار حاجبيها و استقامت جالسة، ثم قالت بقوة
(أمي أنا أرفض الخضوع الأعمى لقوانين ليس لها تفسير محدد، ماذا يحدث لو كنت أنا أيضا أحب ليث؟، هل كنتم لتقفون بطريق حبي؟)
اتسعت عينا وهدة و هي تقول مندهشة
(تأدبي يا سوار، ما تلك الجرأة؟)
احمرت وجنتا سوار رغما عنها، الا أنها قالت بصوت أقل حدة.

(أنا فقط أضع افتراض يا أمي، جدي قابل ليث و اعطاه القرار دون أن يرجع إلى أو أن يسألني، و هذا ضد الطريقة التي أنشأني عليها والدي)
قالت وهدة بقوة و هي تنظر الى عيني ابنتها
(هذا الأمر تحديدا يا سوار، عليك أن تتحملي مسؤوليتك وواجبك فيه، حين يتعلق الأمر بأرواح أناس آخرين)
ارتفع حاجبي سوار و هي تقول
(أرواح آخرين؟، الى تلك الدرجة يا أمي؟، إنه مجرد زواج)
قالت وهدة بهدوء واضح النبرة.

(هنا يا سوار كل شيء مرتبط بالآخر، الثأر بالأرض. بالزواج، لذا لا نستطيع أن نحكم قلوبنا فقط حين يكون العقل مطلوبا، حين قرر والدي الموافقة على زواجي من والدك، كنت رافضة في داخلي، شخص غريب عني تماما. و من عائلة بيننا و بينهم ثأر قديم لم ينتهي منذ سنوات، تخيلي أن أذهب الى دار الأعداء و أنام على وسادة أحد منهم؟، كنت مرتعبة، لكني أدركت أن هذا الزواج سيوقف سيل الدم، فلم أتردد في الموافقة و كتمت مشاعري بداخلي، لكن الله كافأني، و أنظري الى الحب الذي جمعني بوالدك، لم يكن حبا من الليلة الأولى أو الثانية، بل ظل يلهث ورائي ليال و أنا زوجته، فقط كي يطمئنني أنه ليس عدوي، و أنني آمنة معه، الى أن استسلمت، و سلمت بحبه).

صوت وهدة الهلالي القوي، كان مزينا بنبرة جميلة. عاشقة...
جعلت قلب سوار يختلج بين أضلعها و هي تبتسم برقة متأملة جمال أمها و هي تحكي قصتها للمرة الألف ربما مع والدها...
و مالت ابتسامة سوار بحزن و هي تتسائل...
لماذا لا يحمل حبها لراجح مثل هذا الإخلاص و التفاني؟
أطرقت سوار بوجهها و هي تشعر بنوع من الفقد لم تستطع تحديده، لكن يد وهدة عادت لترفع وجهها و هي تقول بحنان.

(لما التردد يا سوار و أنا أعرف أن قلبك يميل الى ابن عمك راجح؟، لم أعهدك عنيدة لغرض العناد ليس أكثر!)
نظرت سوار الى عيني أمها طويلا...
ترى هل ستفهمها وهدة لو شرحت لها؟
لكنها لا تريد ان تملأ قلب أمها بالقلق عليها، يكفي أن تطمئن وهدة أن ابنتها ستتزوج بمن تحب...

و عاهدت نفسها أن تنسى أمر ليث تماما، و تحاول جاهدة أن تسيطر على توترها بسبب تلك القبلة التي رأتها في الحلم، و التي تجعلها تحمر ذهولا كلما تذكرتها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة