قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والخمسون

هذا هو عمرو، ابن السيد قاصي، كيف يمكن لعبارة بسيطة أن تكون صفعة على الروح أشد ألما من صفعة طائشة على الوجه!
كانت تشعر بنفسها و كأنها قد انفصلت عن العالم في لحظة واحدة و عيناها الواسعتين تقابلين عيناه الجامحتين، بنظرتهما المخيفة التي لا تهتز و لا تحيد عن عينيها!
فغرت تيماء شفتيها المرتعشتين قليلا، تتحركان لتشكلان حروف اسمه...

حاولت النطق، الا أنها لم تستطع، و كأن الكلمة قد احتجزت في حلقها المتورم فصعد الاسم الى شفتيها كفحيح غير ناطق...
قاصي!، تحركت عيناه الصلبتان على حركة شفتيها المرتعشة، و هناك قرأ اسمه عليهما دون أن يسمعه...
قبل أن تعود نظرته الى عينيها مجددا و قد بدا، غاضبا!
علي الرغم من جمود ملامح وجهه و التي لم تتحرك أبدا، الا أن نظرة عينيه كانت مشتعلة بتعبير قاتم!
لا تعلم كم استمر الصمت من حولهما!

الى أن تحرك تجاهها...
كان يمشي ببطىء و كأنه نمر بطيء متكاسل، يستعد للهجوم على فريسته، و هي تراقبه بدئا من قدميه الحافيتين، صعودا الى جذعه القوي و صدره الخالي من قلادته!
تلقائيا رفعت يدها الى صدرها تتاكد من وجودها هناك...
منذ ساعات قليلة جدا، و حين كان يهمس باسمها في أذنها بهمس أجش، شعرت به ينزع السلسال من عنقه و ألبسه لها وهو يأمرها ناظرا الى عينيها بجدية.

لا تخلعي هذا مجددا، أبدا، حينها أجابته همسا و عيناها تبرقان بعشقه
أبدا، أبدا، الآن كانت متمسكة بها بكل قوتها و كأنها طوق للنجاة، من موجة عاتية مجهولة تستشعرها قادمة...
توقعت أن يقف أمامها و يمسك بكتفيها ضاحكا. مفسرا الأمر لتضحك معه...
الا أنه تجاوزها بعد أن وقف بجوارها للحظة، و كأنه يود قول شيئ ما...
لكنه تراجع و اتجه للباب المفتوح و تركها واقفة مكانها لا تجد القدرة حتى على الإستدارة اليه...

لكنها سمعته بوضوح وهو يقول بصوت جامد أجش لا ينم عن شيء
(مرحبا إقبال)
سمعت تيماء صوت المرأة من خلفها و هي تقول بارتباك
(صباح الخير سيد قاصي، أنا، أنا، لم أكن أعلم أنك، اليوم)
بدا صوتها متلعثما مذهولا، فقال قاصي بحزم يقاطعها
(لا عليك يا إقبال، زواجنا كان مقدرا منذ فترة طويلة حتى بات تحديد موعدا له أمرا غير منطقيا).

ظلت تيماء على وقفتها خلفه، توليه ظهرها و هي تستند بكفها الى الحائط، تستمع الى كلماته الصلبة الطبيعية و كأنه يتكلم عم أمر عادي كالطقس...
زواجنا كان مقدرا منذ فترة طويلة حتى بات تحديد موعدا له أمرا غير منطقيا!، هل هو جاد أم أن ما يحدث حولها ما هو الا مجرد كابوس من احدى كوابيسها التي لم تصحو منها بعد...
و لأول مرة تدعو الله بذهول أن يكون واقعها كابوسا!
سمعت قاصي من خلفها يقول بصوت قوي أجش.

(كيف حالك يا بطل؟)
عند هذا السؤال الذي بدا عفويا، أبويا جدا!، تملكتها قوة مفاجئة فاستدارت بقوة و هي تحدق به يعبث في شعر الطفل ببساطة!
تكلمت إقبال و هي لا تزال ترمق تيماء بذهول
(إن رغبت سيد قاصي فيمكنني أن، أعيد عمرو للسيدة، و، لكن هل أخبرها بأن، بأنك،!)
السيدة!
الكلمة ضربت قلب تيماء كطعنة خنجر، فازداد وجهها شحوبا و هي ترمق ثلاثتهما بعينين واسعتين غير مدركتين لما يحدث فعلا!

رفع قاصي وجهه الى اقبال و قال بهدوء
(لا داعي يا إقبال، أفضل أن تسير الحياة بطبيعية و لا نغير نظام عمرو)
هزت اقبال رأسها بمزيد من الإرتباك و التوتر و بدت مترددة و هي تنظر حولها و كأنها لا تدري كيف تتصرف، ثم قالت أخيرا بخفوت
(اذن ربما علي الإنصراف الان)
قال قاصي بصوت عادي
(يمكنك الدخول و الراحة قليلا، ربما تناول بعض القهوة)
قالت اقبال مسرعة بتلعثم
(لا، لا، شكرا لك، لقد تناولت قهوتي منذ وقت باكر).

اوشكت تيماء على الصراخ بجنون، ثم الضحك بهيستيريا و هي تستمع الى ذلك الحديث المهذب الذي يجري أمامها ببساطة
ترى أهم مجانين أم هي من أصابها الجنون؟
الشيء الوحيد الذي منعها من الصراخ هو نبضات قلبها التي كانت تتسارع و تتباطىء ما بين لحظة و أخرى...
وجهها البارد كالجليد بينما قطرات العرق تظلل جبهتها...
حلقها بدا و كأنه قد تورم و احتقن، عيناها زائغتين و هي تنقلهما بعدم ثبات بين قاصي و، الطفل!
قالت إقبال أخيرا.

(الى اللقاء يا سيد قاصي)
نظرت الى تيماء مجددا و كأنها تتأمل كل تفاصيلها و ملامح وجهها باهتمام، ثم أومأت قائلة بخفوت
(فرصة سعيدة سيدتي، و، مبارك، الزواج)
لم ترد تيماء بل يبدو انها لم تسمعها أصلا، كانت كالمغيبة عن الواقع و هي تقف مكانها مستندة الى الحائط...
تحاول استجماع المتبقي من عقلها المتدهور...

انصرفت اقبال و اغلق قاصي الباب خلفها بهدوء، بينما دخل الطفل الصغير الذي يرتدي على ظهره حقيبة أشبه بالحقيبة المدرسية...
كان مطرق الوجه، لا يتكلم، ذو وجنتين جميلتين مكتنزتين و طفوليتين على الرغم من ملامحه الجذابة التي تنبيء بوسامة مستقبلية لن يمكن اغفالها...
شعره حريري أسود متناثر على جبهته باهمال، بينما عيناه متجهمتين...

لم تدري تيماء أنها استغرقت وقتا طويلا في تأمل ملامح الطفل الصغير بكل شبر منها، و حين انتبهت لنفسها رفعت عينيها الى قاصي فصدمتها عيناه اللتين تحدقان بها بحدة الصقر منذ فترة طويلة على ما يبدو...
ازداد تمسكها بالقلادة حول عنقها بينما تشعر بقلبها تزداد سرعة نبضاته و هي تحاول الثبات امامه بمعجزة...
انتظرت أن يتكلم...

حتى الآن تمنت لو يبادر و يتكلم هو و يهدىء من جنون روعها، و يخبرها بتفسير منطقي لما يحدث هنا...
الا أنه ظل صامتا يرمقها بثبات و شموخ جبل راسخ، و كأنه ينتظر منها إما أن تتكلم و إما أن تنهار...
كل لحظة تمر بينهما وهما يقفان في مواجهة بعضهما البعض كانت تزيد من رعبها، و تجعل الحقيقة أقرب من عينيها المشوشتين...

كانت هناك رغبة جبانة بداخلها تأمرها بالهرب قبل أن يتكلم، رغبة تأمرها بأن تضع يديها على أذنيها كي لا تسمع ما تنتظر سماعه...
بداخلها حدس يخبرها بأنه لو تكلم فستفقده للأبد...
لكن على ما يبدو أن السنوات قد منحتها بعض القوة، القليل منها، القليل جدا وهو ما جعلها تبادر و تفتح شفتيها الجافتين لتقول بخفوت أجوف دون مقدمات
(هل هو ابنك فعلا؟).

تردد السؤال الواهي بينهما كموجات من الصدى في هوة عميقة، بينما كانت عيناها الصامتتين تصرخان به أن يرد على الرغم من سكون لونهما الخطير...
وقف قاصي يراقبها و قد وضع على وجهه أشد أقنعته صلابة، ذلك القناع الذي لا يظهر منه شعورا واحدت و كأنها تكلم تمثالا رخاميا...
راقبت يده المرتاحة على كتفي الطفل المطرق برأسه، أما عيناه فلا تتركان عينيها أبدا...
الى أن قال أخيرا بنفس الصوت الهادىء البارد...

(هذا ليس سؤال يا تيماء، بل جواب)
أغمضت عينيها و هزت رأسها قليلا، ها هو سيعود للإلتفاف حول الكلمات و يحاورها و هي غير قادرة على الصبر...
فتحت عينيها و نظرت الى عينيه مباشرة ثم نطقت بالسؤال الأسوأ
(هل، تزوجت؟)
التوت شفتيه في ابتسامة تجرأ بنذالة على أن يجعلها عابثة دون مرح في عينيه القاسيتين وهو يقول بنعومة
(تزوجت بالأمس، و سؤالك يجرح رجولتي).

عضت تيماء على شفتيها لتمنع الشتيمة البذيئة التي أوشكت على رميه بها، ثم التقطت أنفاسها قبل أن تقول بقساوة مفاجئة و صوت أعلى قليلا، مخيفا، مهددا...
(هل تزوجت أثناء فراقنا يا قاصي؟)
أخفض قاصي عينيه ينظر الى الطفل المطرق برأسه، فعبث بشعره ببطىء وقد بدا و كأنه شاردا قليلا، ثم لم يلبث أن رفع وجهه اليها و قال ببساطة رغم قسوة ملامحه
(هو ابني، فماذا تفضلين؟، ان يكون نتاج زواج أم بدون؟).

ترنحت تيماء مكانها و هي تسمع صوته الهادىء، الذي بدا كقصف المدافع في أذنيها
ابنه!، ابنه!، الطفل ابنه...
لكن الصدمة الثانية امتصت الصدمة الأولى و تغلبت عليها...
سؤاله الهادىء...
ان يكون نتاج زواج أم بدون؟، هل تفضل أن يكون لقاصي علاقة غير شرعية؟، و طفل غير شرعي نتج من خطىء غير محسوب العواقب...
أم تفضل أن يكون قد تزوج!
العبارة ادمت قلبها، و جعلتها تنتفض مكانها و كأن حية قد بثت سمها في دمها...

اتسعت عيناها بذهول و هي تقف أمام مرآة مفاجئة جعلتها للحظة تتمنى لو كان الطفل غير شرعي...
خفقات مسرعة، أكثر و أكثر...
و طنين في أذنيها يهدر كموج في عاصفة مخيفة...
الا أن العقل المعذب تدخل في اللحظة الاخيرة، و اخبرها أن العلاقة الغير شرعية ليست اخلاصا...
لقد خانها في الحالتين، سواء كان على علاقة محرمة بامرأة غيرها، أو كان قد تزوج منها...
لقد خانها قاصي في الحالتين...

خان حبهما، خان انتظاره لها، خان حججه الواهية التي تشدق بها عن مدى صبره و انتظاره الى أن تكون له و هي له...
رفعت تيماء يديها الى فمها المرتعش واتسعت عيناها بذعر و هي تتذكر كل لحظة استسلمت بها له منذ ساعات قليلة...
لقد سلمت و استسمت...
و كانت له زوجة كما كان يجب أن تكون منذ خمس سنوات...
ارتجفت شفتي تيماء و هي تهمس بصدمة.

ياللهي، ابتسم قاصي بسخرية بها لمحة من الازدراء وهو يقرأ أفكارها بسهولة قراءة قصة طفل صغير...
ثم قال بصوت بارد كالجليد
(هل أنت نادمة على السماح لي بأخذ حقوقي الشرعية يا زوجتي العزيزة؟، هل تعضين أصابع الندم لأنك لم تنتظري بضعة ساعات، لكنت الآن على البر الآمن، اليس كذلك؟)
احمرت وجنتاها الشاحبتين رغما عنها، و ارتبكت عيناها بخجل، الا انها هتفت بقوة جعلت الطفل يقفز من مكانه مفزوعا
(قاصي).

رمشت تيماء بعينيها و هي ترى الطفل الذي فزع من صرختها، الا انها نظرت الى قاصي بعينين قد تجمدتا بلا حياة و قالت بصوت ميت
(ابنك، هنا، هل نسيت!)
رفعت ذقنها و هي تنظر إلى عينيه قائلة بنفس النبرة الميتة
(هلا تكلمنا بمفردنا في الداخل)
ظل قاصي على ابتسامته الساخرة الا انه هز كتفه غير مباليا، موافقا، ثم نظر الى الطفل و قال بهدوء
(ابقى هنا يا عمرو، تعال لتشاهد التلفاز).

تقدم قاصي من التلفاز و فتحه على قناة كارتونية للأطفال في مثل عمره، بينما جلس عمرو تلقائيا على الأريكة المريحة وهو يخلع حقيبته عن ظهره و يضعها بجواره...
كانت تيماء تراقبه بعينين تنزفان دما و صرخة مكتومة في صدرها...
هذا الطفل بدا معتادا المكان و كأنه يعرفه جيدا، يتصرف و كأنه في بيته تماما...
رفعت يدها الى فمها تكتم صرختها بأعجوبة و هي ترى قاصي يعود للطفل قبل أن يجلس القرفصاء أمامه وهو يقول بخفوت.

(رباط حذائك مفكوك كالعادة، كم مرة علمتك طريقة ربطه!، ستتعثر و تقع يوما ما)
أغشت الدموع اللاسعة عينيها و هي تراه مخفض الوجه يعمل على ربط حذاء ابنه بينما شعره الطويل يغطي ملامح وجهه ليخفيها عنها...
ابتعدت تيماء و هي غير قادرة على النظر اليهما أكثر من ذلك، فجرت الى غرفتهما!
غرفة قاصي و التي لم تكن غرفتها يوما...
دخلت غرفتها، فصدمها منظر السرير الفوضوي بأغطيته المبعثرة!

حينها تركت العنان لشهقتها أخيرا و كأنها تلتقط نفسا ممزقا...
كانت شهقة عالية و هي ترفع وجهها لأعلى هامسة بصدمة
ياللهي!، ياللهي!، شعرت بنفسها تختنق فرفعت يداها و أبعدت وشاحهها عن رأسها و فكت شعرها بجنون حتى تناثر بهمجية متناثرا حول وجهها و على ظهرها...
دارت حول نفسها ووجهها مرتفع و عينيها مغمضتين رافعة يديها الى جانبي جبهتها، و كأنها مصابة بذبحة صدرية...
بينما لا تزال على هذيانها...

ياللهي، لقد خانها!، اقترب من امرأة غيرها و حملت بابنه...
كان مجرد رجلا يخضع لرغباته أثناء فراقهما الذي أوهمها بقدسيته!
شعرت بحركة خلفها فاستدارت على عقبيها و فتحت عينيها لتراه واقفا في اطار باب الغرفة ينظر اليها عابس الوجه، عاقدا حاجبيه و قدا بدا في عينيه تعبير غريب شديد العمق و كأنه قد فقد قناعه الحجري أخيرا...
تحركت عيناه على الدموع التي حررتها فانسابت على وجنتيها...

ثم أطالتا النظر على شفتيها المرتعشتين، كان يراقبها تنزف حتى الموت بينما هي تشهق بضعف و دموعها ترافق شهقاتها، دموع تنزف من عينين قاسيتين كالزجاج الجارح...
حينها لم تتمالك تيماء نفسها فاندفعت اليه و بكل قوتها و سرعتها رفعت يدها لتصفعه بقوةو هي تصرخ عاليا ككائن متوحش همجي!
لم يحرك قاصي اصبعا واحدا لمنعها بينما بينما ارتسمت اصابعها في علامات على وجنته القاسية وهو ينظر الى عينيها بنفس النظرة!

رفعت يدها لتصفعه مجددا الا أنه كان أسرع منها فأمسك معصمها في قبضته بسهولة و دون أن يتحرك من مكانه...
وقفت تيماء مسمرة مكانها و هي ترى معصمها مثبتا و مرتفعا في قبضته الحديدية، الى أن قال أخيرا بصوت خافت يجمد الدم في العروق
(المرة الأولى سمحت لك بها استيعابا لصدمتك، أما الثانية فسأكسر يدك).

اتسعت عينا تيماء الباكيتين أكثر و هي تسمع صوت قرقعة عظامها الهشة بين أصابعه، بينما تذكرت في لحظة ما سمعته من قبل في دار الرافعية عن كون قاصي الحكيم قد قطع لسان أحدهم حين تجرأ و تجاوز معه!
شعرت تيماء أنها أمام انسان غريب، لم تعرفه يوما...
انسان على استعداد لأن يدفنها حية إن هي تجاوزت الحدود التي وضعها لها!
استمر الصمت بينهما طويلا الى أن همست أخيرا بصوت ليس بصوتها
(اترك معصمي).

لم يستجب قاصي الى أمرها الخافت. بل ظل مثبتا معصمها وهو ينظر إلى عينيها بقسوة قبل أن يقول بصوت مهيب في سطوته
(هل تمالكت نفسك؟)
نظرت اليه طويلا دون صوت بينما الدموع الباردة لا تتوقف عن الانسياب على وجنتيها ثم أومأت برأسها أخيرا دون أن تتكلم...
ترك معصمها على مهل الى أن حررها تماما، فابتعدت عنه و هي تضغط على العلامات التي تركتها أصابعه، توليه ظهرها كي تسترد سيطرتها على نفسها...

تشعر بنظراته كسهام قاتلة تنفذ من ظهرها مخترقة قلبها، اقتربت من النافذة لتنظر كالعمياء طويلا...
ثم قالت أخيرا بصوت ميت دون أن تستدير اليه
(هل هو ابن حلال أم)
لم تستطع نطق الكلمة، الا أن قاصي قال متمما سؤالها ببساطة، بساطة قاتلة تحمل بين طياتها نبرة مخيفة لمن يعرفه جيدا
(أم ابن حرام كوالده، انطقيها، لماذا تخجلين منها؟ ألازال لديك بعض المراعاة لي؟ أم أن الكلمة تؤلمك لأنها تذكرك بمن تزوجت؟).

الحقيقة أن ما آلمها أكثر هي كلمة كوالده!، ابتلعت تيماء تلك الغصة الحادة قبل أن تقول بجمود مختنق
(هل هو كذلك؟)
ساد صمت قصير لم تجرؤ فيه على الإستدارة الى قاصي، لكنها كانت تسمع صوت أنفاسه واضحة...
الى أن قال أخيرا بخفوت
(إنه ابن حلال)
أغمضت تيماء عينيها على دمعتين ثقيلتين فانسابتا على وجنتيها بصمت و هي تخفض وجهها، بينما قبضت أصابعها على الستارة كي لا تسقط ارضا...
ثم قالت باختناق
(اذن فقد تزوجت!).

لم يرد على الفور، لكنه قال بعد فترة بصوت أجش
(نعم)
لم تكن تريد أن تبكي، كبريائها كان يأمرها بألا تبكي، لكنها لم تستطع الا أن تنشج باكية بخفوت و رأسها يسقط كزهرة يابسة...
مرت عدة لحظات و الغرفة لا صوت بها الا صوت نحيبها الخافت كالهمس الحزين ممتزجا بصوت دقات ساعة الحائط...
رفعت تيماء وجهها المبلل تنظر بجمود من النافذة ما ان صمت نحيبها، ثم استدارت اليه ببطىء
تراه و كأنها تفعل للمرة الأولى...

مرت عيناها عليه، و كأنهما تستعطفانه أن يقفز من كابوسها المرعب و يوقظها على قبلاته الحانية ليخبرها بأنها كانت تختنق و تموت، لكنها الآن آمنة بين ذراعيه...
لكن كان هذا حلما أروع من أن يكون حقيقة...
تمنيها أن يكون ما تعيشع كابوسا، هو حلم مستحيل الحدوث...
عضت على شفتيها ثم رفعت ذقنها لتقول بنبرة محترقة مقهورة
(لكم اتهمتني بالنفاق و الدناءة على تفكيري، مجرد تفكيري في الزواج من غيرك!).

برق شيء ما في عيني قاصي أشبه بمشاعل الحرب، الا أنه لم يتكلم، بل ظل مكانه ينظر اليها بصمت فقالت متابعة بنفس الصوت الغريب
(تخليت عن عائلتي مرتين لاجلك، و استبدلتهم بك، لأنك)
اختنق صوتها و اختفى بألم بينما تنشج مرة أخرى قبل ان تتابع بعذاب
(لأنك تخصني أنا)
رفعت قبضتها المضمومة و ضربت على قلبها مرتين تخبره باشارتهما القديمة و هي تضحك ساخرة بمرارة من بين نحيبها الذي لا يتوقف...

ثم لم تلبث قبضتها أن سقطت منهزمة الى جانبها مجددا و هي تسأله همسا
(كيف، و لماذا تزوجت؟، كيف استطعت؟، كلامك، وعيدك، تهديدك، أوحي لي بأنك كنت تنتظرني طويلا و أنك لن تسمح لي الا بالمثل!)
أخذ قاصي نفسا عميقا قبل أن يقول أخيرا بصوت غامض قاسي
(هل أنت على استعداد لأن تسمعي الأسباب؟، و تستوعبينها؟)
اهتزت حدقتا عينيها و هي تفكر بسؤاله البارد...

هل هي على استعداد لأن تسمع أسبابه؟، ليس هذا فحسب بل تستوعبها أيضا و ربما تمنحه العذر!
هل هي كذلك؟
كانت رأسها تهتز نفيا دون أن تدري و هي شاردة معذبة العينين...
ثم رفعت عينيها اليه أخيرا، تنظر اليه طويلا و كأنها تتأكد من أنه هو قاصي فعلا للمرة الأخيرة قبل أن تقول بصوت ثابت، قاسي و جامد
(لا، لست على استعداد لسماع اسبابك، لم أعد قادرة على التعامل مع خداعك أكثر).

و دون أن تمنح قلبها فرصة أخرى اندفعت كالمجنونة الى الدولاب و هي تنوي أخذ شي، أي شيء معها، لكنها عادت و تذكرت أنها لم تأتي سوى بالملابس التي ترتديها...
كانت ممسكة بالحقيبة القديمة و هي تتأملها من بن دموعها، تنظر بقهر حارق الى الأقمصة الناعمة الحريرية و التي ارتدت احداها بالأمس كأي جارية أو غانية، ووقفت أمامه تستعرض جسدها لتحقق له حلمه و تدهس خجلها و خوفها، و تتناسى ما حدث لها منذ سنوات!

لم تعد قادرة أكثر و هي تشعر بالوحشية تدب في أعماقها فصرخت عاليا و هي ترمي الحقيبة بكل قوتها تجاهه، فتناثرت الأقمصة الحريرية أمام وجهه كسحب ملونة جميلة...
بينما لم يحرك هو عضلة من جسده وهو ينظر اليها بصمت...

بينما أبعدت هي عينيها عنه و استدارت كي تلتقط وشاحها الملقى أرضا، و ما أن استقامت حتى وجدته أمامها مباشرة، فاصطدمت بصدره، حاولت التراجع الا أنه أمسك بذراعها بقوة مؤلمه و عيناه تقدحان شررا وهو يقول بخفوت مخيف
(ماذا تظنين نفسك فاعلة؟)
رفعت تيماء عينيها الشرستين الى عينيه و قذفت الكلمات في وجهه
(سأغادر هذه البؤرة الموبوءة للأبد، و أتركك مع ابنك، لقد اكتفيت منك و من خداعك).

شدد قاصي على ذراعها أكثر قبل أن يهزها بقوة هادرا و عينيه تنطقان بشرر لا يرحم
(أتظنين نفسك في زيارة لم تكن على هواك لتغادري ما أن تستائين؟، انضجي حبيبتي، أنت تكلمين زوجك الآن، لقد اصبحت امرأة متزوجة فتحملي المسؤولية)
صدمتها كلمة حبيبتي...
انها المرة الأولى التي ينطق بها بهذا اللفظ، و كان ساخرا مهينا!
آلمها قلبها جدا، آلمها جدا لدرجة أنها صرخت بجنون وهي تضرب صدره بقبضتها الحرة و بكل قوتها.

(و تتجرأ على قولها!، أيها الحقير، أيها المخادع)
أمسك قاصي بكلتا ذراعيها و هزها بعنف حتى ارتمى رأسها للخلف فنظر إلى عينيها هادرا
(أتجرأ و أكثر، انت زوجتي، هل كلامي واضح؟، زوجتي)
صرخت تيماء بقوة
(ليس بعد اليوم، لن أسمح لك باستغفالي مجددا بينما أنت تحيا أسير نزواتك القديمة، لكن كان على توقع ذلك، فأمثالك لا ينتظر منهم غير هذا)
تسمر قاصي مكانه قليلا وهو ينظر اليها نظرة غريبة، قبل أن يقول ببطىء.

(أمثالي؟، من هم أمثالي؟)
قبل أن تفكر للحظة صرخت بعنف في وجهه
(عديمي الأصل)
ساد صمت مجنون بينهما وهي تعلم أن الكلمة قد انزلقت من بين شفتيها دون أن تدرى...
أو ربما أرادت أن تؤلمه بكل ما تعرف أنه يؤلمه، كما آلمها، بل كما قتلها بدم بارد...
رأت شفتيه تلتويان قليلا، و حلقه يتنج و كأنه يحاول السيطرة على انفعالات وجهه بصعوبة...
اما عيناه...
عيناه حريقان استعرا فجأة ليهلكا كل ما حولهما...

انحنت عينا تيماء الما عليه، و رق قلبها الغبي من أجله بمنتهى السذاجة و الغباء
وودت لو تتمكن من أخذه بين ذراعيها كي تخفف عنه و تخبره بأنها لم تقصد ايلامه الى تلك الدرجة...
انما هي فقط تتألم و بشدة، لدرجة الرغبة في الموت طلبا للراحة...
حاولت الإبتعاد عنه كي لا تفضحها مشاعرها الخائنة تجاهه، لكنه لم يكن ليسمح لها...
بل بدا و كأنها تزيح جدارا حديديا وهو يشدد من تمسكه بها...

فغر شفتيه ببطىء وهو ينظر اليها بنظرات مخيفة، ثم قال أخيرا بصوت غريب
(و ماذا بإمكان عديمي الأصل فعله أيضا يا تيماء؟)
رفعت وجهها الشاحب المبلل لتنظر الى هيمنته على الفراغ المحيط بها، بل عالمها كله بأسى...
ثم وقفت ساكنة لتهمس باختناق
(كل ما تفعله أنت يا قاصي، كل تصرفاتك، حتى أنني توقفت عن العد، لكن هذه المرة)
اختنقت الدموع بحلقها و هي تنظر الى عينيه ثم تابعت بصوت أكثر قسوة.

(هذه المرة أنت خنتني، خنتك كل نظرياتك التافهة عن علاقتنا التي لن تنفصم أبدا)
ضاقت عينا قاصي على نظرات أشد عنفا، بينما هزت رأسها بيأس و هي تضحك ساخرة بمرارة، متابعة
(ياللهي، حين أتذكر كل كلمة قلتها منذ أن التقينا مجددا!، و أنا كالغبية صدقتها!، و نظراتك اللائمة المعاتبة و كأنني ظلمتك!، ياللهي كم أنا غبية و أستحق من هو مثلك بالفعل عقابا على غبائي).

نظرت اليه بعينين تبرقان ببريق متوحش على الرغم من الدموع بهما...
بدت كقطة شرسة، بل شديدة الشراسة و هي تنظر اليه بكره لم يستطع اغفاله...
كانت تكرهه في تلك اللحظة و ربما تتمنى موته كذلك...
ازداد التواء شفتيه، كما ازداد سعير الحريق بعينيه وهو ينظر اليها، و بدا الجرح في وجهه أشد احمرارا و أكثر تشوها...
لكن تيماء لم يكن لديها ما تخافه بعد الآن...

فحتى لو مزقها اربا الآن فلن يكون هذا أكثر ألما من صدمتها به...
فرفعت وجهها أكثر و همست همسا خفيضا شديد الشراسة
(ماذا شعرت و أنت تعقد قرانك عليها؟، هل تذكرتني في هذا اليوم أم كنت مجرد ذكرى منسية بالنسبة لك؟ كيف استطعت الإقتراب منها؟، كيف لامستها!، و كيف قبلتها؟، كم مرة نامت على صدرك الى أن قررت و طلقتها أخيرا!)
ازداد ضيق عينيه و بدا مثالا حيا للشر، مرعبا، مرعبا ككائن اسطوري مفزع...

التوت شفتاه في ابتسامة متوحشة وهو يهمس ببطىء أمام عينيها
(أؤكد لك أنها كانت راضية تمام الرضى)
سقط فك تيماء فجأة، و غامت عيناها، و سكنت تماما حتى أنها توقفت عن التلوي بين ذراعيه ووقفت تنظر اليه تتأكد من أنها سمعت ما سمعته للتو!
الهذه الدرجة هو من الوحشية و انعدام الإحساس و الضمير!
ألم تعرف عنه شيئا أبدا؟
كانت تعرف عنفه من قبل و عدم قدرته على السيطرة على نفسه في كثير من الأحيان...

الا أنه لم يؤذها أبدا!، بل كانت مهمته في الحياة هي أن يسحق كل من يتجرأ و يمسها بسوء!
لا تعلم كم بقت واقفة أمامه تستوعب كلماته المنتقمة، و رغما عنها مال وجهها و هي تنظر الى السرير الفوضوي!
نظرة لم تتحكم بها، فابتلعت ريقها بصعوبة و هي تتخيل صورا مثيرة للغثيان...
هل كانت هذه هي الشقة التي عاش فيها مع، زو، أم أبنه...
هل نام معها على هذا الفراش؟، الهذا غير أثاث الغرفة؟، هل كان جهاز العروس الجديدة؟

ارتجفت حتى أنها ترنحت فتلقاها تلقائيا على صدره، أغمضت تيماء عينيها و هي تريح وجنتها المثلجة على وسادة صدره الحجرية الرحبة، و شعرت بيده تتخلل خصلات مؤخرة رأسها بقوة و حنان...
و كم أراحها ذلك!
كانت تموت حرفيا، و تحتاج الى أي بادرة عطف منه لتخبرها أن ما يحدث هو وهم من وحي خيالها المريض...
يده الأخرى كانت تضم ظهرها برفق، و شفتاه تلامسان جبهتها الحارة...

و هي كالمهووسة لا تريد لتلك اللحظة أن تنتهي من شدة الألم الذي يمزق روحها بسكين بارد...
الا أنها رفعت وجهها المعذب لتنظر اليه برجاء و توسل، ثم قالت باختناق
(أنت لن تنطق بما ظننته الآن، اليس كذلك؟، أخبرني أن هذا لم يحدث، سأمووووت. سأموووووووت، ماذا فعلت لك كي تعذبني بهذا الشكل؟)
بقى قاصي على صمته ينظر اليها بملامح سوداء و نظرات عميقة أشد سوادا...
هزت رأسها بعد استيعاب ثم همست باعياء و كأنها تهذي.

(هل تنتقم مني لما حدث لأمك قديما؟، هل كانت خطة من البداية؟، منذ عشر سنوات أو خمس؟)
قال قاصي أخيرا بصوت خافت
(أنت لم تكوني يوما المعنية بالإنتقام، فكرت بكثر لكن أنت لم تكوني واحدة منهم أبدا)
هل تسعد؟ أم تصدم أكثر؟، أم تنهار باكية عند قدميه...
عبارة بسيطة منه تعيدها الى عمق أمواج عشقه العاتية...
خاصة وهو ينطقها بهذه النبرة الصادقة و عيناه بعينيها دون أن يرف له جفن...

ابتلعت تيماء ريقها و هي تخفض وجهها مرتجفة الى درجة الإنتفاض...
ترى هل يفترض بها أن تحاول اقناع نفسها بأنه رجل و له رغباته و من الطبيعي الا يظل وحيدا كل تلك الفترة؟
فهو في النهاية لم يخنها حرفيا لأنهما ليسا متزوجين...
هل يفترض بها ان تقتنع بتلك النظرية الباهتة و تفكر بالمنطق فتسامحه؟
لكنه سبق و قال لها أن علاقتهما لا تخضع لأي منطق
و أنا ما بينهما يا يقاس بالمقاييس الطبيعية الباردة!، فكيف تغفر له؟، كيف؟

ابتلعت تيماء ريقها ثم همست بخفوت
(أفترض بأنك لست، لست أرملا، فمتى طلقتها؟)
ساد صمت غريب، حينها رفعت عينيها الى عينيه، و توقف الزمن!
فغرت شفتيها ببطىء و هي تقرأ احرفا سوداء على صفحة حدقتيه، فبدا قلبها و كأنه قد توقف عن الحياة لفترة!
همست و كأنما تحادث نفسها
(لا، لا، أنت لست)
لكنه لم يجبها، و لم يتحرك من مكانه، فهمست بذهول
(قاصي، اجبني، أرجوك).

لم تتهاون في أن تترجاه، بل ستتوسله ان لزم الأمر كي تحصل على اجابة...
تكلم قاصي أخيرا و قال بخفوت شديد
(لم أطلقها، بعد)
اتسعت عينا تيماء بذهول و فجأة صرخت عاليا و هي تغمض عينيها لتضرب صدره بكلتا قبضتيها بكل عنف وهو يحاول أن يوقفها ممسكا بيديها و معصميها، و حتى خصلات شعرها بينما بدت و كأنها قد تحولت الى لبؤة شرسة تنوي على قتله...
كانت في حالة هيستيرية وهو يهتف بها بقوة.

(تيماء اسمعيني، تيماء اهدئي و اسمعيني)
الا أنها استمرت تصرخ و تصرخ وهو يحاول ضمها الى صدره هاتفا
(تيماء اهدئي فقط، ستسقطين منهارة، امنحيني فرصة فقط كي أخبرك)
الا أنها رفعت وجهها المحمر بشراسة اليه و صرخت
(أيها القذر، الحقير، الحيوان)
تسمر قاصي مكانه و أمسك بها بقوة، ثم صرخ بها
(تيماااااااء، كفى)
الا أنها فغرت شفتيها و بصقت في وجهه بكل قوة و هي تهتف هادرة بجنون
(ابن حرام).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة