قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون

الا أنها فغرت شفتيها و بصقت في وجهه بكل قوة و هي تهتف هادرة بجنون
(ابن حرام)
لأول مرة ترى الصدمة على ملامح وجهه...
لأول مرة تنجح في انزال الصدمة به الا أنها كانت في حالة من اللاوعي و هي تهتف بهذيان
(طلقني، طلقني حالا، و ابعد يديك القذرتين عني)
الا أن قاصي كان قد ابتعد عن الحد الذي يستطيع فيه السيطرة على نفسه...
ففقد كل كوابحه فجأة وهو يقربها منه بعنف ليهمس بشراسة أمام عينيها.

(انسي، لقد أصبحت ملكي و انتهى الأمر)
كل كلمة مجنونة ينطق بها كانت تطبع عليها مزيدا من الجنون و هي تقاومه بشراسة و تصرخ
(أيها السادي المجنون ابتعد عني)
لكنها كانت تكلم كائنا أصم، لا يسمع الا صوت غضبه الهادر...
وجدت احدى يديه تقبض على مؤخرة شعرها فجأة لترجع رأسها للخلف، بينما هبط بوجهه اليها و عض شفتيها بعنف و كأنها، قبلة!

تسمرت تيماء من فرط الذهول و هي تجابه تلك الموجة من العنف التي لم تكن متحضرة لها و بدت أضعف منه بمراحل بعيدة...
فشعرت بالخوف يدب في اعماقها و هي تتلوى بضعف هاتفة من بين شفتيه
(ابتعد عني، قاصي أفق لنفسك انت، لست طبيعيا)
و بالفعل لم يكن طبيعيا أبدا فلم يسمعها و شفتيه تتنقلان بقوة مؤلمة على عنقها ووجنتيها و شفتيها، بينما يداه تمزقان من لحم جسدها حية...
الى أن سمعت صوت تمزق قميصها!

أخفضت عينيها بذهول و رأت قبضته التي قبضت على مقدمة القميص قد هوت به فانشق قماشه و تطايرت كل أزراره...
لم تعي أنها كانت تبكي بخوف بينما هو يتراجع بها الى أن وقعت على السرير من خلفها و هو لا يرى شيئا من حوله الا هي...
استلقت تيماء على السرير تنظر الى السقف بذهول و قد توقفت عن الحركة تماما...
فقاصي سيكمل ما بدأه وهو ليس في حال طبيعي أبدا، لذا أي مقاومة ستدر عليها مزيدا من الذل و الهوان...

حاولت الكلام معه برعب فهتفت في أنه همسا أجشا
(قاصي، ابتعد عني أرجوك)
لكن شفتاه كانتا تتكلمان بلغة الجسد الذي لن يهدأ الا بنيل مبتغاه، أمسكت بخصلات شعره بكلتا قبضتيها و هي تحاول أن تبعد وجهه عنها باكية، الا أنه كان يقبلها و يهمس في أذنها
(تيماء، يا صغيرة، انصهري بي أو أذيبك أنا، تبا لقد انتظرت طويلا و لن أتركك الآن)
كانت تحرك رأسها بيأس و بكاء و هي لا تعلم كيف تتصرف...

هل تستسلم له فتفقد احترامها المتبقي لنفسها، أم تقاومه و تصرخ به...
المجنونة المعتوهة الغبية و المدموغة بكل صفات الدونية، تشعر بأنها تريد تهدئة ألمه...
حتى الآن لا تزال الحياة الزوجية الحميمية عالما مغلقا بالنسبة لها، و الوقت الذي قضته معه منذ ساعات لم يكن ينم بالنسبة لها عن شيء...
فهي لا تزال باردة و متباعدة جسديا على الرغم من اشواق قلبها الهادرة تجاهه...

قلبها الخائن هو نفسه الآن الذي يشعر بالفطرة أن هذا ما قد يهدئه و يمنحه السكينة لروحه الصارخة في عالمها القاتم...
لكن جسدها متداعي كوسادة من القش، دون مشاعر...
أغمضت عينيها تبكي بصمت و هي تهمس في داخلها
ياللهي ماذا أفعل!، و حين قررت الاستسلام لغريزتها في تهدئته و تناسي ما حدث...
أدارت وجهها في لمحة خاطفة تجاه الباب، ثم لم تلبث أن شهقت عاليا و هتفت همسا برعب
(قاصي، ابنك، ابنك يقف عند الباب).

استغرق منه الأمر عدة دقائق كي تدخل الكلمات المرتعبة الى أذنيه فتخترق عقله الأسود بكل عنف
رفع قاصي وجهه المشتعل عن نقها لينظر اليها بعينين تتوهجان طويلا و كأنه يرى أبعد من وجهها المحتقن المبلل بالدموع، ثم لم يلبث أن انتفض وهو يدير وجهه الى الباب...
حينها رأى عمرو يقف خلف اطار الباب المفتوح متشبثا به وهو ينظر اليهما بعينين متسعتين...

زفر قاصي نفسا ساخنا وهو يدفن وجهه بعنق تيماء لعدة لحظات هامسا بصوت أجش
(لا تتحركي)
و مرت عدة لحظات وهو يحاول استعادة السيطرة على أنفاسه قبل أن ينهض عنها ليلقي بالغطاء عليها و يحجبها عن عيني عمرو على الفور...
أمسكت تيماء بالغطاء تشده إلى ذقنها و هي تنظر اليهما بذهول و صدمة...
بينما اندفع قاصي الى الدولاب و سحب منه قميصا بقوة كادت أن تمزقه قبل أن يخرج متجاوزا عمرو دون أن ينطق بكلمة واحدة!

بقت تيماء مكانها تنظر الى الباب بذهول و عيناها تواجهان عيني عمرو الواسعتين دون كلام...
الى أن استدار عنها و جرى بعيدا، لاحقا بوالده!
مرت عدة دقائق و هي لا تزال مستلقية مكانها تعاني من اثر الصدمة قبل أن تسمع صوت باب الشقة يصفق بكل عنف!
لقد خرجا!
خرجا و تركاها هنا بمفردها فريسة للصفعات المتوالية التي تلقتها و لم تمضي بعد سوى عدة ساعات على زواجها البائس.

حين تمالكت نفسها أخيرا، أوقت وجهها تدفنه في الوسادة لتبكي بمنتهى العنف
ظلت تبكي و تبكي، و هي تضرب الوسادة مرة بعد أخرى...
لتجعلها ضحيتها المستقبلة لكل صدماتها و أوجاعها...
و بعد وقت طويل، استلقت على ظهرها تنظر الى السقف بصمت و قد خفتت شهقاتها و كأنها قد نفذت أخيرا، فظلت ساكنة عدة دقائق قبل أن تنهض من مكانها ببطىء...
أبعدت الغطاء عنها و قامت تتعثر، قبل أن تواجه صورتها في المرآة!

فغرت شفتيها و هي ترى الهمجية مرتسمة عليها بمنتهى الخزي
كان قميصها، أو كل المتبقي منه هو كمين معلقين على ذراعيها!، و الباقي منه ممزق و متهدل على جانبيها، بينما جسدها مكشوفا بشناعة...
أما شعرها فكان متناثرا يمينا و يسارا و كانه شعر عروس من الصوف المضفر...
شفتاه تركتا بصماتهما على شفيتها المتورمتين و عنقها و فكيها، فبدت كطفلة صغيرة تتلاعب بأدوات الزينة الخاصة بأمها...

فقط عيناها الوحيدتين هما اللتين تتوهجان بألم ينبض في تلك الصورة الفوضوية الميتة...
كزينة متخلفة صباحا. مع رماد حفل فاسد...
لم تستطع التفكير، رفضت أن تتذكر كلمة واحدة مما نطق بها
كل ما كانت تحتاج اليه هو الخروج من هذا البيت الموبوء حالا...
مدت يديها و أمسكت بجانبي القميص المهترىء و همست مختنقة
(كيف سأخرج من هنا الآن يا ربي!).

أجبرت قدميها الحافيتين على التحرك بتعب الى حيث الملابس القديمة المتناثرة من حقيبتها و هي مراهقة...
فانحنت و هي تتأوه محاولة البحث بينهما عما يمكنها ارتداءه كي تخرج من هنا بأسرع ما تستطيع...
جثت على ركبتيها و هي تغربل الملابس القديمة...
لم يكن من بينها ما تستطيع ارتداءه، كلها أقمصة قصيرة الأكمام!
تنهدت تيماء بيأس و هي تبكي صامتة، رافعة يدها المرتجفة الى عينيها المتورمتين...

و ما أن استعادت بعض من هدوءها مجددا حتى التقطت قميص قصير الكمين و بنطالا من الجينز الضيق لترتديهما مؤقتا، فأي ثياب ستكون أفضل من تجولها في الشقة نصف عارية...
لحسن الحظ أنها لا تزال بنفس المقاس منذ مراهقتها على الرغم من نضج جسدها...
لذا ناسبها البنطال و القميص و إن كانا أضيق قليلا مما تتذكر...
وقفت تيماء تنظر الى وجهها بعد أن ارتدت ملابسها...

و كأنها قد عادت لمراهقتها مجددا و اختفت السنوات من أمام عينيها...
شعرها هو الوحيد المختلف، طويلا و متشابكا...
لكن هناك شيء آخر مختلف
عيناها، انطفا بهما شيء و لا تظن أنه سيعود مجددا...
مدت تيماء يديها المتعبتين و التقطت الرباط المطاط الخاص بشعرها و جمعته في ذيل حصان طويل متناثر دون أن تزعج نفسها حتى بتمشيطه...

ثم خرجت ببطىء من الغرفة التعيسة، تنوي ارتشاف بعض الماء البارد قبل أن تخرج من هذه الشقة للأبد و لن تعود اليها للمرة الثالثة أبدا...
ستخرج حتى لو اضطرت الى التستر بملاءة السرير...
خرجت تيماء تنظر حولها بحذر على الرغم من تأكدها من خروجهما...
لكنها تسمرت و شهقت بصمت و هي ترى عمرو لا يزال جالسا بنفس المكان على الأريكة!
فغرت تيماء فمها بذهول و هي تستوعب ما تراه!
لقد ترك ابنه و خرج!، هل هو مجنون؟

اندفعت تيماء تجري في جميع أنحاء الشقة و هي تبحث عنه بينما عينا عمرو تلاحقانها بصمت، الى أن تأكدت بأنه قد رحل فعلا!
نظرت تيماء الى الطفل الصغير الذي كان ينظر اليها بصمت، فهتفت بقوة و هي تلهث
(هل خرج والدك؟)
أومأ عمرو برأسه دون أن يتكلم، فهزت تيماء رأسها بعدم تصديق
لقد ترك ابته لها و خرج!
الوقح المغرور، الدنيء...

رفعت تيماء ذقنها و نظرت حولها بغضب مجنون، ثم لم تلبث أن أعادت عينيها الى الطفل الذي كان لا يزال ناظرا اليها، فقالت بهدوء
(أنا سأخرج، هل بامكانك الجلوس في مكانك مهذبا الى أن يعود والدك.؟)
لم يرد عليها الطفل، بل ظل مكانه صامتا يحدق بها، فقالت تيماء بصرامة
(ابقى مكانك و شاهد التلفاز دون حركة، و لا تقترب من مصادر الكهرباء، مفهوم؟)
لم يرد أيضا، بل ظل ينظر اليها فقالت بصلابة
(جيد، طفل مهذب).

ثم اتجهت الى الغرفة و هي تنوي التلفح بأي شيء كي تخرج، الا أنها توقفت و استدارت الى الطفل قائلة بصرامة
(لا تقترب من المطبخ، أو الموقد، و لا تفتح الباب لأحد، والدك معه مفتاح و سيفتح الباب بنفسه)
ظل عمرو صامتا فقالت تيماء محذرة
(لو فعلت شيئا خطيرا فسوف يضربك والدك، ابقى مكانك مهذبا)
زمت شفتيها و قد يأست من الحصول على رد، فاستدارت مترددة و هي تهمس لنفسها.

ان كان هو لم يهتم و ترك ابنه هنا معها بعد ما فعله بها، فلماذا تهتم هي؟، حاولت التحرك من مكانها، الا أن قدميها بدت و كأنها قد تسمرت مكانها...
حاولت التحرك دون جدوى، ثم لم تلبث أن زفرت بعنف قبل أن تهتف بقوة
(تبا، تبا، تبا)
أخذت تضرب الحائط بقبضتها بجنون الى أن تورمت مفاصل أصابعها!، و ما ان استعادت هدوءها حتى استدارت الى عمرو الذي كان ينظر اليها بعينين متسعتين و خائفتين...
عقدت تيماء حاجبيها و هتفت بقوة.

(الى ماذا تنظر؟، انظر امامك)
أعاد عمرو وجهه الى التلفاز بسرعة و قلبه ينبض بوضوح من تحت قميصه القطني الناعم...
تنهدت تيماء و اقتربت منه ببطى، الى ان جلست على حافة الأريكة بجواره و هي تتأمله بحذر أليم و كأنه سينقض عليها...
أعاد عمرو عينيه بتردد الى التلفاز فبقت تيماء على حالها تراقبه بالم...

لا يمكنها انكار الشبه الشديد بينه و بين قاصي، انحنت عيناها ألما و هي تتحرك على شعره الناعم و عينيه المتوهجتين، و اصابعه المستريحة على ركبتيه...
كله جزء من قاصي، بكل تفاصيله...
كم هو جميل!
أغمضت تيماء عينيها و هي تلامس صدرها النازف، حتى الآن لا تصدق ما حدث!
لقد اتخذها قاصي كزوجة ثانية!
تماما كما ينوي المتخلف زاهر فعله بمسك و هي التي كانت تشتمه غير مصدقة لمدى تخلفه...
لم تصدق أن تسبق مسك في الكارثة!

انها جينات وراثية واحدة بتلك العائلة!
فتحت تيماء عيناها الفارغتين و همست بذهول
(قاصي متزوج، و له ابن!، و أنا هنا أجالس أبنه!)
أوشكت على الصراخ بهيستيريا مجددا، الا أن عمرو نظر اليها و بدا مترددا قبل أن يقول بخفوت
(أريد الذهاب الى الحمام)
نظرت تيماء اليه مجفلة، ثم قالت بفتور
(الا تعرف مكانه؟)
قال عمرو بصوت خفيض
(لا أستطيع فك زر البنطال و الحزام).

تنهدت تيماء بألم، ما يحدث لها كان أكبر من احتمالها فهي بشر و ليس من العدل ان تعيش ما تعيشه حاليا...
لكنها في النهاية قالت مستسلمة
(حسنا تعال الى هنا)
نهض الطفل من مكانه بتردد و قد بدا متراجعا، الا أن تيماء و قبل أن تمد يديها اليه فوجئت ببنطاله مبللا...
نظرت اليه بصدمة و قالت
(لماذا لم تصبر؟)
كان عمرو مطرقا برأسه و قد احمرت وجنتيه، بينما تيماء تنظر اليه طويلا ثم قالت بخفوت
(هل أنت خائف؟).

لم يرفع عمرو رأسه و لم يجب، لكنها رأته يعض على شفتيه بتوتر، فشعرت بشيء حاد يطعن قلبها بتعاطف مفاجىء عنيف...
مدت يدها بحذر و أمسكت بكفه الصغيرة ثم قالت ببطىء كي يفهم
(لا داعي للخوف، أحيانا يتشاجر الكبار و يعلو صوتهم، سرعان ما سيعود والدك و يهتم بك)
ابتلعت الغصة المسننة في حلقها و حاولت التماسك و هي تقول بهدوء
(حسنا دعنا نهتم بهذا الأمر الآن و لن يعرف أحد به، هل جلبت معك ملابس؟).

أشار عمرو الى حقيبته دون ان يتكلم، فأمسكت تيماء الحقيبة و فتحتها لترى بها ملابس معدة لقضاء يوم واحد...
أخرجت الملابس بشرود
و هي تفكر أن الولد لا يسكن هنا أي أن والدته أيضا لها بيت مستقل...
لكن لو كان قاصي لديه بيت اخر فلماذا ترسل زوجته ابنه اليه و كأنهما منفصلين!
هل ينويان الطلاق!
للحظة شعرت بفرح يسري في عروقها قبل ان تفاجىء بنفسها و الى اي مدى حولها العشق الى مخلوق مثير للشفقة!

و كأن بطلاقهما ستختفي تلك الخيانة من تاريخ حياتهما للأبد...
لقد خدعها و استغفلها و عليه أن يدفع الثمن...
أخذت نفسا عميقا ثم نهضت من مكانها و هي تقول
(هي بنا لننظف تلك الفوضى)
لكن و قبل أن تتحرك شعرت بكف صغيرة تمسك بيدها!، نظرت تيماء بصدمة الى رأس عمرو الذي أمسك بيدها باستسلام...
التقطت أنفاسها ثم قادته الى الحمام...

بعد أن انتهت من تنظيفه و تبديل ملابسه و قد كان متعاونا، عادت به الى غرفة الجلوس فجلس ببطىء وهو يشبك كفيه...
انه مهذب تماما...
راقبته تيماء يجلس بجوار حقيبته بصمت، و حينها رقت عيناها و هي تتذكر جلوسها في نفس المكان منذ عشر سنوات و معها حقيبة تشبه حقيبته...
فغرت تيماء شفتيها و كأنها ترى نفسها آتية الى نفس المكان طلبا لوالدها!

يومها أبقاها قاصي لديه و أطعمها! و من يومها أصبح هو كل عالمها من وجد قطة صغيرة و رعاها فأصبح حياتها كلها...
ابتلعت تيماء دموعها ثم همست باختناق
(أنا، لم آكل شيئا منذ اربع وعشرين ساعة، هل تريد الأكل معي؟)
نظر اليها عمرو مترددا، ثم أومأ برأسه بصمت، و من حيث لا تعلم، ابتسمت بمرارة!
فقد تذكرت والده وهو يرقص معها كي يضحكها!، منذ عشر سنوات!

خرجت مسك من سيارتها صباحا ما أن أوقفتها في مكان قريب من مبنى الشركة...
عيناها حمراوين، من ليلة أمس، بكاءا و امتنانا!
لم تتحرك الا بعد أن اطمئنت بأن المرض قد زال تماما و أن النتائج مرضية...
لكنها ستحيا هذا الرعب كل فترة طوال عمرها...
و مع هذا لن تفكر في المرة القادمة الآن، يكفيها أن تحتفل بنفسها و لنفسها فقد منحها القدر فرصة جديدة للحياة، ستستغلها على أكمل وجه كل مرة...
وقفت مسك مكانها أمام الشركة...

و هي تنظر بحيرة من خلف نظارتها السوداء الى سيارة تيماء المصطفة في نفس المكان منذ أمس!
و على ما يبدو أن هيئة المرور قد ربطتها لوقوفها مخالفة!
نظرت مسك حولها بتعجب و هي تتسائل عما حدث؟
فتيماء لا تقطن هذه المدينة، فكيف تركت سيارتها هنا ليوم كامل و أين ذهبت بدونها؟
عقدت مسك حاجبيها و هي تهمس بقلق
السؤال الأصح هنا هو الى أين اصطحبها قاصي؟، زمت شفتيها بغضب و رفعت ذقنها لتدخل الى مقر الشركة...

لن تهتم بعد الآن، فيكفيها ما فعلاه أمس...
سارت مسك بأناقة و شعرها يتطاير حول وجهها بنعومة، تلفت الأنظار اليها برشاقتها و اناقة ملابسها
و أنفها المرفوع بكبرياء فطري...
مضت أشهر منذ أن استلمت العمل هنا، و أثناء تلك الفترة استطاعت بجدارة اثبات نفسها بنجاح في العمل و في نفس الوقت استطاعت أيضا اثارة حفيظة الجميع بتعاليها...
و على الرغم من ذلك، فهي تلفت الأنظار اليها...

دخلت مسك الى المصعد بأناقة و ما أن أوشك بابه على الإنغلاق، رأت يدا ذكورية تمتد بين جانبيه لتعيد فتحه من جديد...
قالت مسك بتعالي و رفض
(عفوا أنا لا)
الا انها صمتت و هي ترى أمجد يدخل المصعد و يضرب أبعد رقم بقوة...
كانت توشك على توبيخه و الخروج الا أن منظره جعلها تصمت و تنظر اليه بحذر...
كان يبدو غاضبا و بشدة...
و عيناه تنظران الى عينيها مباشرة، و تخبرانها أنها هي من سيتحمل جام غضبه اليوم...

ما أن أغلق المصعد أبوابه حتى رفعت وجهها و قالت بفظاظة
(الا يمكنك احترام رغبتي في عدم استقلال المصعد مع أحد؟)
الا أنه اندفع بصوت غريب يسألها
(هل أنت حقا مخطوبة؟)
ارتفع حاجبيها و قد أجفلها السؤال المفاجىء فنظرت الى ملامحه القاتمة بفضول قبل أن تقول بنبرة باردة
(و ما دخلك بالأمر؟)
كانت شديدة الوقاحة، مغرورة الى درجة لا تطاق.

الا أنه لن يسمح لغرورها بأن يجعله يتراجع عن افهامها حقيقتها جيدا، لذا مال اليها و قال بلهجة خافتة حادة و غاضبة، غاضبة للغاية
(دخلي!، دخلي أنني تقريبا أوشكت على خطبتك، و لم تتفضلي باخباري أنك مخطوبة)
انعقد حاجبي مسك بذهول و هتفت بغضب عارم.

(أوشكت على ماذا؟، هل سمعت نفسك أصلا و أنت تهذي بتلك التخاريف؟، لمجرد أن رأيتني بالصدفة بطريقة متخلفة للزواج منذ أشهر تظن بأنك تمتلك الحق في سؤالي عن حياتي الخاصة؟، ثم من أخبرك أنني قد أفكر، مجرد التفكير في القبول بشخص رجعي سلبي متهاون مثلك).

كانت قد تمادت كثيرا الا أنه بالفعل أثرا غضبها بشدة رفعت نظارتها السوداء الى أعلى رأسها تبعد شعرها عن عينيها و هي تواجه عينيه الغاضبتين بشدة و قد اثارت انفعاله البارد كما تمنت...
تكلم أمجد أخيرا الا أنه خيب ظنها حين تكلم بهدوء بارد
(آخر مرة تكلمنا في الأمر لم ترفضي، أو ربما أنا أتخيل!)
أسبلت مسك جفنيها و تلاعبت بياقة قميصها قبل أن تقول بهدوء
(كان هذا منذ أكثر من أربعة اشهر)
عقد أمجد حاجبيه و قال.

(كانت لديك حالة وفاة، و لم يكن من المفترض أن أفتح الموضوع خلال هذه الفترة من باب الذوق و مراعاة الشعور، خاصة و أنني قد رأيت تأثير الأمر عليك)
زفرت مسك بغضب وهي تراه يذكرها بهذا الموقف حين تهاوت خوفا و صدمة...
ارتجفت شفتيها رغما عنها و أطرقت بوجهها، ثم قالت أخيرا بفتور
(عامة كل شيء قسمة و نصيب، و انت تعلم أن الأمر مستحيلا من البداية)
ضيق أمجد عينيه وهو ينظر اليها بدقة، قبل أن يقول بقسوة.

(لماذا مستحيل؟، لأنك مخطوبة على ما أظن و هذا هو ما نسيت اخباري به)
مطت مسك شفتيها و نظرت بعيدا، تتمنى وصول المصعد و كان قد وصل بالفعل، فما أن تنفست الصعداء و حاولت الخروج حتى ضرب بيده الزر مرة أخرى فأغلق المصعد أبوابه!
تراجعت مسك الى المرآة في المصعد و هتفت بغضب
(أنت تحتجزني و تتناسى منصبك، بامكاني استدعاء الأمن لك الآن و ستكون فضيحة)
قال أمجد مباشرة و دون مزيد من الجدال
(هل أنت مخطوبة لابن عمك هذا؟).

رفعت مسك عينيها اليه و هي تتامله للمرة الأولى، لم تلحظ ملامحه تماما من قبل، ربما كانت نظرات عابرة و سرعان ما يختفي شكله من عينيها ما أن يغيب عنها...
لكنها الآن للمرة الأولى التي تدقق النظر بلحيته المهذبة، شعره الأشقر الداكن، و عيناه البنيتان الثاقبتين...
انتبهت الى أنها نظرت اليه أكثر مما ينبغي فأخفضت عينيها و قالت ببرود ساخرة كي تنهي الأمر.

(كان خطيبي، لكنه الآن خطيب أختي، تلك القصيرة المجنونة التي رأيتها بالأمس)
تراجع أمجد خطوة و قد ارتسمت الصدمة على وجهه و بدا غير مصدقا لما تقوله، ثم قال أخيرا
(أنت تمزحين!)
لكن ملامح وجهها بدت هادئة لا مبالية، فقال بذهول دون تفكير
(هو الآخر؟)
و هنا كان دورها في الصدمة، فقد نظرت اليه مجفلة لدرجة أن حقيبتها قد وقعت أرضا...
لكنها قالت بصوت جامد كالرخام القاسي.

(ماذا تقصد بهو الآخر؟، ماذا تعلم عن حياتي الخاصة؟)
بدا الارتباك على أمجد وهو يشعر بالهفوة التي افلتت من بين شفتيه، و ساد الصمت بينهما الى أن فتح باب المصعد من خلفه، فرفعت مسك ذقنها باستعلاء على الرغم من الألم النابض في صدرها ثم انحنت لتلتقط حقيبتها من على الأرض و تسرع خارجة، و لم يكن ليمنعها هذه المرة...
فلقد أخطأ خطا كبير...

خرج أمجد من المصعد و يداه في جيبي بنطاله، يشعر بضيق بالغ وهو ينظر أرضا بشرود الى أن سمع صوتها تناديه من خلفه
(أمجد)
وقف أمجد مكانه ليرفع وجهه دون أن يستدير اليها و قد بدا غاضبا منها اليوم اكثر من أي يوم مضى...
فقال باستياء لم يحاول اخفاءه
(ماذا تريدين يا غدير؟)
كانت تنظر الى ظهره الصلب الذي يأبى أن يلتفت اليها، الا أنها أسرعت الخطا حتى واجهته باصرار و قالت بقوة
(لماذا تكلمني بهذه الطريقة؟).

نظر اليها أمجد طويلا نظرات مبهمة لم تستطع تفسيرها، ثم قال بنفس النبرة الجارحة
(و كيف تريدين مني الكلام معك؟)
تراجعت غدير خطوة، الا انها قالت بخفوت
(بقليل من اللطف، أنا لا أستحق منك هذه المعاملة يا أمجد)
لم يحاول مداراة ما يشعر به في تلك اللحظة فقال بصوت خفيض قاسي
(تستحقين أكثر يا غدير، أنت بئس الزوجة و بئس الصديقة، و بئس الفتاة التي قد يختارها رجل ليمنحها قلبه).

فغرت غدير شفتيها بصدمة و هي تسمع ما نطق به للتو، كانت كلماته القاسية كصفعات تتوالي على وجهها دون رحمة...
رمشت بعينيها و همست بنبرة ضائعة
(بهذه السرعة وقعت تحت تأثير سحرها!، لم تستغرق معها وقتا كي تديرك حول اصبعها)
لم يتظاهر أمجد بجهل ما تتحدث عنه، فضحك بخشونة و قال بخفوت
(من تدير الرجال حول اصبعها!، تلك الصفة تليق بك أكثر يا غدير و ليس بها).

شحب وجهها و تراجعت أمامه، تنظر الى جانبها قليلا و كأنها تكتم غضبا أوشك على أن ينفجر بها...
كان حلقها يتحرك بتوتر و عيناها تبحثان عما تقوله، فضحك أمجد و قال بخشونة خافتة
(لا تحاولي يا غدير، لن يغير رأيي في شيء، مهما كان ما ستنطقين به)
رفعت غدير عينيها الى عينيه و قالت بصوت مرتجف
(هل حقا عرضت عليها الزواج؟)
ظل أمجد صامتا طويلا وهو ينظر اليها، ثم قال بخفوت
(الموضوع لا يزال في بدايته).

اخذت غدير نفسا مرتجفا و متحشرجا قبل أن تهمس و هي ترفع يدها الى جبهتها لتقول بصوت متداعي
(لا يمكنك فعل ذلك يا أمجد، أنت، انت لا تحبها و من المستحيل أن تحبها يوما، شخصيتها لا تتلاءم مع شخصيتك، أنت فقط واقع تحت هيمنة تلك الهالة التي تتقنها مسك جيدا، أنا أعرفها أكثر من نفسي، صدقني أرجوك قبل أن تفعل ما ستندم عليه لاحقا)
ابتسم أمجد بسخرية وهو ينظر الى عينيها الضائعتين ثم قال بحزم.

(دعيني أقلق بأمر ذلك بنفسي يا غدير و لآخر مرة أنصحك بالإبتعاد عن طريقي)
استدار عنها و غادر، بينما وقفت غدير مكانها لا تصدق أن بعد كل هذا الطريق الطويل ينتهي بها الأمر بأن تاخذ مسك منها الرجل الوحيد اللي أحبت!
استندت الى الجدار خلفها و قد شعرت بدوار حاد، لا تعلم كيف تتصرف و لا كيف السبيل لاطفاء تلك النيران المشتعلة في قلبها، قلبها الذي خرب سعادة تحقيق الأهداف التي تمنتها بحياتها، و سعت اليها.

رمت مسك حقيبتها على أحد كراسي مكتبها بغضب و اتجهت الى النافذة شاعرة بالرغبة في التقاط نفسا باردا كي يهدىء من فظاعة الشعور المرير الذي ينتابها الآن...
الفظ الوغد يعرف بقصتها مع أشرف من بدايتها!
ترى ما مقدار ما أخبرته غدير به؟
تأوهت مسك بصوت عال و هي تهمس بغضب.

تبا لك يا غدير، كم ضحكتما معا على غبائي و سذاجتي، كانت تغلي غضبا و تتنفس بسرعة، الا أن في عمق هذا الغضب كانت تشعر بألم كبير لا يزال حيا بجرح يتجدد كل فترة...
شردت عيناها و هي تتذكر كل يوم عاشته كالأميرة، و الحياة تفتح لها ذراعيها و تأمرها بأن تغترف من كل المباهج، و أولها الحب اليسير دون أي تعقيد...
لعقت شفتيها بطرف لسانها و هي تتذكر تلك الأيام التي كانت عاشقة حتى النخاع...

لا تزال تتذكر أصابعه و هي تبعد شعرها الناعم عن وجهها و صوته يهمس الى عينيها قائلا
جمالك يفتنني، كانت تبتعد عنه ضاحكة و عيناها تتلألأن لتبعد أصابعه قائلة
ابعد يدك يا أشرف، لا تزال تتذكر عبوسه وهو يقول بصوته الجذاب
أنت زوجتي، و لي الحق بلمسك كيفما أشاء، الا أنها كانت تضحك و تزيد من عنف أشواقه و هي تقول بغيظ.

و مع هذا لا أفضل وضع البنزين بجوار النار، فسرعان ما ستعجز عن ابعاد يديك عني و أنا لا أفضل التمادي، كان يهمس بجوار وجنتها
أنا أتضور جوعا اليك حبيبتي، الا تحنين على عاشقك بقبلة صغيرة؟
حينها كانت تضحك حاليا كفرس يصهل و تقول من بين ضحكاتها.

مستحييييييل، بعد الزفاف، و احمد ربك أن أبي لا يسمعك و أنني لا أنقل له كلامك الوقح، عادت مسك من ذكرايتها و هي تغمض عينيها الدامعتين، مكتفة ذراعيها، مستندة برأسها الى إطار النافذة...
سمعت صوت الباب يفتح خلفها فالتفتت بدهشة لتجد أمجد واقفا خلفها ينظر اليها بصمت فقالت ببرود
(الا ترى أنك قد تخطيت الحدود حقا؟، الباب صنع ليطرق قبل الدخول. )
ابتسم امجد و قال ببساطة وهو يدخل براحة و كأنه مكتبه.

(في الواقع لم يصنع الباب لهذا الغرض لكن عامة أعذريني لعدم طرقه، فباب مكتبي مفتوح للجميع دائما، كما أنني أخذت عنك انطباعا بأنك لست من النساء اللاتي يعدلن زينتهتن أو شعورهن أو ملابسهن في المكتب)
احمرت وجنتاها رغم عنها لكنها تراجعت عن النافذة متجهة الى مكتبها بأناقة و هي تقول بلامبالاة
(و مع ذلك أفضل بعض الخصوصية)
ابتسم أمجد مجددا و تقدم ليجلس على أحد الكرسيين أمام مكتبها بأريحية قائلا
(لك هذا).

ارتفع حاجباها و هي تنظر الى جلوسه بدون دعوة، بدا مرتاحا على غير العادة و بالتأكيد ليس كما رأته في المصعد منذ دقائق...
قالت مسك بفتور
(بما أنك جلست دون دعوة، هلا أخبرتني بما تريده؟)
نظر اليها طويلا و قد فقد القليل من التسلية التي شعر بها للتو، فقال ببساطة و جدية
(أريد دعوتك الى تناول القهوة، و هذه المرة بمفردنا دون جمهور للمراقبة)
فتحت مسك شفتيها قليلا و قد بدت متفاجئة...

الا أنها سرعان ما استردت جمودها و قالت ببرود
(آسفة، لا أخرج في مواعيد)
قال أمجد بدهشة بريئة و احساس بالظلم
(استغفر الله!، و هل أبدو لك من هذا النوع؟، لقد قصدت مقهى الشركة و لا دخل لي بظنونك السيئة)
مطت مسك شفتيها و هي ترتب أوراقها و كأنها تقوم بشيء هام ثم قالت بجمود
(لماذا؟)
تراجع أمجد بمقعده وهو ينظر اليها مليا، يتأمل ذقنها المنخفضة و هي تحاول التظاهر بترتيب مكتبها و تجاهله...

و شعرها الناعم الذي يلامس وجنتيها بنعومة...
أهدابها الطويلة و حتى أظافرها الأنيقة...
رد عليها بباسطة
(أردت الإعتذار اليك)
رفعت عينيها اليه متفاجئة، ثم ارتبكت قليلا و هي تقول بخفوت
(حسنا لقد فاجئتني، لم أعتقد أنك قادر على الإعتذار)
ابتسم أمجد و قال بهدوء
(لا أظنك تعرفينني من الأساس و سيدهشك قدرتي على الإعتذار الى أبسط الناس لو كنت مخطئا)
قالت بخفوت دون أن ترفع عينيها اليه
(و هل أنا من أبسط الناس؟).

قال أمجد بمنتهى الوضوح و دون تردد
(لا تمتين الى البساطة بأي صلة)
رفعت اليه عينين غاضبتين و هي تضرب المكتب بحافة أوراقها عن قصد، فضحك وقال
(حسنا أتراجع عن ذلك، لما لا نعقد هدنة و تقبلين دعوتي)
قالت مسك بخفوت دون أن تنظر اليه
(لا داعي لتلك الدعوة، يمكنك الإعتذار هنا، لا بأس بذلك)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول بدهشة حقيقية
(أنت بالفعل التواضع بعينه، لكن رجاءا اضغطي على نفسك قليلا، فهناك أمر أريد أن أحدثك به).

نظرت اليه بتوتر، ثم قالت بحذر
(ما هو؟)
نهض أمجد من مكانه و نظر اليها مبتسما و قال ناظرا الى ساعة معصمه
(ستعرفين، أراك في المقهى بعد ثلاث ساعات من الآن)
رفع يده ليلوح لها ثم خرج ببساطة تاركا اياها تنظر اليه بصدمة، ثم زمت شفتيها و هي تهمس لنفسها بقنوط
(ما هذا الذي يحدث الآن؟، هذا ليس جيدا أبدا).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة