قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

(كان عليك التفكير في ذلك قبل الزواج مني، فأنا لن أسمح لك بالسفر، و لن أحررك)
للحظات ظنت تيماء أنها قد توهمت ما سمعته للتو...
الا أن نظرة واحدة الى ملامح قاصي الهادئة و التي تتشابه مع نبرته الواثقة، و نظرة عينيه الجليدية!، أخبرتها بوضوح أنه نطق للتو بما سمعته...
و مع هذا قالت بعدم تصديق
(لن تسمح، لي؟، هل هذا ما قلته للتو؟).

أومأ قاصي برأسه دون أي شعور بالذنب و دون أن تحرر عيناه عينيها الواسعتين، ثم قال بنفس الهدوء البارد
(هذا ما قلته، و ما سمعته بوضوح، لم أتزوجك بعد كل هذه السنوات من الإنتظار، كي أسمح لك بالسفر في النهاية، ما هي الفترة التي ذكرتها؟، اربع سنوات؟)
و دون أن ينتظر منها اجابة على سؤاله الوقح، هز رأسه وهو يضحك ضحكة قصيرة جافة و خافتة، و كأنه يسخر منها!
هل لديه من الجرأة و الوقاحة ما يجعله يسخر منها؟

نظرت اليه وهو يبتعد عنها بهدوء، الى ان جلس على اقرب مقعد مريح، ثم وضع ساقا فوق اخرى و اراح ذراعيه على مسنديه بدا مهيمنا على الوضح بأريحية وهو ينظر اليها و قد فقدت ملامحه السخرية.
ثم قال بهدوء جليدي
(أربع سنوات!، أقضيها أنا هنا في انتظارك، أو ربما انتظار عطفك في الصفح عني!)
رمشت تيماء بعينيها و هي تحاول التخلص من صدمة عدم تصديقها، ثم لم تلبث أن هتفت بقسوة عارمة.

(هل تسمع نفسك و أنت تتكلم؟، هل لديك أي فكرة عن مدى الجنون المحيط بك حاليا!)
لم تهتز ملامح قاصي وهو ينظر اليها صامتا، جامد الوجه دون تعبير...
فقط عيناه كانتا تتلقفان كل حركة منها، و كل نفس مرتجف يخرج من بين شفتيها المتوترتين...
أخذت تيماء نفسا مرتجفا بالفعل، ثم شدت ظهرها لتقول بصوت قاطع، محتد، يوحي بقرب فقدانها للسيطرة على نفسها...

(تلك المنحة هي المستقبل المتبقي لي، لن تحرمني منها مطلقا، أنا التي لن تسمح لك بهذا)
ظل قاصي صامتا لعدة لحظات، دون أن تتغير تعابير وجهه، الا أن تيماء رأت عينيه تتغيران. تتعمقان أكثر و كأنها قد آلمته، و كأنه كان يظن أن رغبتها في البقاء معه ما هو الا أمر مسلم به!
حسنا الخطأ خطأها من البداية، هي التي جعلت من نفسها أمرا بديهي في حياة قاصي...
لكنها ستعمل على تغيير هذا و على الفور...

قال قاصي أخيرا بجفاء دون أن يتحرك من مكانه.

(كان عليك التفكير في هذا قبل القبول بالزواج مني، الآن فقط تفكرين في مستقبلك المشرق!، لماذا لم تفكرين به سابقا؟، انت ككل النساء يا تيماء، تحركها عواطفها لا عقلها، لقد اتخذت قرارا بالقبول بي، بكل علاتي و مساوئي، و هذا القرار ليس حديثا، بل قديما جدا، عمره خمس سنوات و اكثر، قبلت بي و انا مجهول الاسم و النسب، مجرد خادم اجير لدى والدك، قبلت برجل لم تكن اي فتاة محترمة لتقبل بالزواج منه و منحه كل حبها، فهل اكتشافك لزواجي الصوري الآن يعد جريمة اخطر من كل ما سبق و قبلت به؟، لا اظن يا تيماء، لقد وقعت عقدا منذ سنوات طويلة، عقدا بأن تكوني لي، و أكون لك).

عقدت تيماء حاجبيها من شدة الألم الذي عصف في قلبها في تلك اللحظة...
و للمرة الأولى تتمنى لو استطاعت أن تقتله، و تنتزع قلبه من صدره...
فغرت شفتيها قليلا، ثم لم تلبث أن قالت بصوت متشنج
(اخرج من بيتي، الآن)
لم يتحرك قاصي من مكانه، مجرد ظل ابتسامة ظهرت على شفتيه الصلبتين ثم قال بخشونة
(بيتك هو بيتي، بصفتي زوجك).

حينها فقط شعرت تيماء بأنها لن تتحمل أكثر، فهجمت عليه لتجذبه من مقدمة قميصه بكلتا قبضتيها وهي تصرخ في وجهه بعنف
(أخرج من هنا، أخرج من بيتي، أنا من أدفع أيجاره و لي الحق برميك خارجا، أيها الخائن الدنيء ال)
الا أنها لم تكمل كلامها الغاضب الوقح، فقد مد يديه ليحيط بهما وجهها يجذبه اليه حتى أسكت كل عويلها بقبلة...

للحظة تفاجئت، و تسمرت مكانها محنية القوام أمامه، وهو يغمض عينيه لينال راحته في قبلتها القوية، الا أنها لم تلبث أن أخذت تضرب صدره بكل قوته كي يحرر وجهها...
الى أن تركها أخيرا متنهدا بتنهيدة خشنة، غاضبة و، مرتاحة!
أما هي فاستقامت ما أن حررها وتراجعت بسرعة للخلف، بتعثر حتى سقطت أرضا...
ظل ينظر اليها دون أن يتحرك من مكانه، بينما بقت هي مكانها أرضا تنظر اليه بعينين تهتزان بألم...

ثم قالت أخيرا بصوت مرتجف غاضب، الا أنه كان خافتا، متداعيا...
(ماذا أردت أن تثبت بهذا؟)
لم يرد قاصي على الفور، بل ظل صامتا، و قد بدت ملامحه. رقيقة، أم أنها تتوهم!
ثم قال أخيرا بخفوت عميق
(لم أكن أثبت شيء، كنت أبتغي الراحة فقط)
و أمام عينيها الواسعتين وجدته يرجع رأسه للخلف، مغمضا عينيه و كأنه يسترجع مذاق قبلتها...

نهضت تيماء بتوتر و هي ترتجف فعليا، بداخلها رغبة عنيفة في البكاء، ثم قالت بعنف كي تمنع نفسها من الانفجار في البكاء
(حسنا، ابقى هنا، تمتع بشقتي لك و افعل بها ما شئت، أنا التي سترحل، )
استدارت عنه و هي تلتقط حجابها لتلفه حول وجهها عشوائيا، تتنفس بسرعة و جنون، و الألم النازف في صدرها يزداد تشعبا و قسوة...
قال قاصي من خلفها بصوت جامد
(الى أين؟)
استدارت لتواجهه و هي تهتف بجنون.

(الى أي مكان بعيد عنك، أنا أكرهك، اكرهك)
توترت ملامح قاصي. ، الا انه قال بهدوء جليدي
(لن تذهبي الى أي مكان يا تيماء، ليس لك مكان آخر، أم تريدين الذهاب الى والدتك و زوجها؟)
توقفت تيماء مكانها توليه ظهرها، و هي تتنفس بسرعة، ناظرة أمامها بعينين مظلمتين، داكنتي اللون...
عضت على شفتيها قليلا، الا أنها رفعت ذقنها و استدارت اليه قائلة بنبرة قاهرة. مشددة على كل حرف
(سيكون هذا أفضل من التواجد معك حاليا).

رد عليها قاصي بنفس الصلابة
(اذهبي و بدلي ملابسك يا تيماء، تعلمين أن أمك، لن تكون متعاونة معك في الوقت الحالي، و اراهن أنها لا تزال ناقمة عليك بسبب زواجنا المفاجىء، و ما سببه لها)
عضت تيماء على شفتيها بشدة و ألم...
تبا له!
هل من المفترض به أن يستنتج كل شيء، بوضوح الشمس!
ان كانت امها صعبة التحمل من قبل، فقد تحولت الى انسانة مستحيل التعامل معها، منذ ان عرفت بزواجها من قاصي بتلك السرعة و الطريقة...

لقد انتابتها حالة من الهلع، خوفا مما سيترتب على هذا الزواج...
كان الأمل لا يزال يداعبها في ان تدخل تيماء تحت عباءة جدها، و أن تنالا رخاءا دائما بعدها...
لكن الأمل مات ما ان عرفت بزواج تيماء...
باتت تهذي في الهاتف كالمجنونة...
و ما أن أغلقت تيماء الهاتف معها، حتى انفجرت في البكاء، فقد كانت حينها في حاجة لأمها أكثر من اي وقت مضى.

مهما كبرت و مهما وصلت الى مراتب عالية في دراستها، كانت في حاجة لأمها بشدة و كأنها قد عادت الى سن الخامسة...
نظر قاصي الى تعاقب انفعالاتها و صراعها الأليم على ملامح وجهها الشفافة، فعلم حينها انه قد وصل الى مقصده بأقسى الطرق...
تيماء لا تملك غيره، وهو لا يملك غيرها، تركها عدة لحظات قبل أن يقول بهدوء
(أنا مجهد، و جائع).

أجفلت تيماء من صوته الهادىء الذي اقتحم تصارعها مع نفسها، فرفعت وجهها اليه لتقول عاقدة حاجبيها
(ماذا؟)
ابتسم قاصي و رد بنعومة
(أنا مجهد للغاية، و جائع جدا، لم آكل طعاما حقيقيا منذ فترة طويلة، فقط ما يكفي لابقائي حيا، و قادرا على الوصول اليك بقدمي)
كانت تعلم أنه لا يكذب في هذا على الأقل...
فعلى الرغم من دنائته و قسوته، الا أن وجهه كان شاحبا و غائر الوجنتين، الآن فقط لاحظت العمق الداكن تحت عينيه...

و على الرغم من رغبتها في قتله، الا أنها وجدت بنفسها عطفا خائنا عليه، مشاعر خبيثة، لا سبيل للشفاء منها...
هتفت فجأة بغضب عنيف من خيانة نفسها لها، ملوحة بذراعيها
(حسنا ابقى، اللعنة عليك، فلتأكل ما تريد، لكن لا تنتظر مني أن أقوم بخدمتك، و بعدها أريد منك المغادرة على الفور يا قاصي، لقد انتهينا، هل تسمعني، انتهينا).

تحولت كلمتها الأخيرة الى صراخ هائج، الا أنها ارتعبت ما أن وجدت الدموع تلسع عينيها، تريد التساقط بغزارة طالبة للرحمة...
فأولته ظهرها و اسرعت الى غرفتها دون ان تنتظر منه ردا، تصفق بابها بعنف...
و ما ان اغلقته حتى استندت اليه بكتفها، و يدها على سطحه...
قلبها يخفق بعنف و الدموع تنهمر على وجنتيها...
همست لنفسها بعذاب.

أنا أحبه، أنا لا ازال أحبه!، يا ربي أنا احبه و لا أجد السبيل لانتزاعه من نفسي، استدارت لتستند بظهرها الى الباب، ورفعت وجهها المبلل عاليا و هي تتابع الهمس بنشيج ناعم
منذ سنوات كنت اخجل من مناجاتك عن هذا الحب يا الله، كنت أخجل ليقيني بأنني اتجاوز و اتنازل في علاقتي به، كنت مخطئة و لا أملك الإبتعاد عنه
صمتت و هي تغمض عينيها لتنساب الدموع اكثر و اكثر كأنهار متفجرة على وجنتيها الشاحبتين.

بعدها عاهدتك الا أعود للخطأ مجددا، و بكيت كثيرا على تجاوزاتي معه، و الآن عاد...
عاد و ارتضيت به زوجي حين تقينت بأنني لا أملك القدرة على الإبتعاد عنه، أصبح زوجي، فماذا أفعل؟، هل هذا هو تكفير لذنبي معه؟، أم عقاب على ما اقترفته؟، صمتت و هي تسقط وجهها لتبكي بخفوت مطبقة عينيها، . ثم همست باختناق من بين دموعها.

عذاب عدم قدرتي على انتزاعه من نفسي، يفوق الم ما اقفترفه في حق، خيانة نفسي تفوق خيانته لي، ساعدني يا اللهي على ابعاده، لا أريده، لا أريده، لا أريد نفسي معه، أكره ما آل اليه حالي به، أخفت وجهها بكفيها و بكت بخفوت...
حريصة الا يصله صوت بكائها، بينما هي تسمع تحركاته في الخارج و كأنه يتحرك في بيته...
خطوات قوية و اوان تطرق مع بعضها، أدراج تفتح و كأنه غزو على بيتها و حياتها و كيانها كله...

أما هي فمختبئة في غرفتها كفأرة صغيرة شديدة الجبن...
أقصى ما تستطيع فعله هو اخفاء صوت بكائها كي لا تمنحه لذة الإنتصار...
تحركت أخيرا و هي تنشج كطفلة صغيرة متجهة الى فراشها، فخلعت سترتها و استلقت على سريرها الضيق تبكي و تبكي و هي تعتصر غطاء السرير الناعم بقوة حتى ابيضت مفاصل أصابعها...
تتقلب على الجمر و لا تملك راحة لعذابها...

مضى وقت طويل، قبل أن تنتفض فجأة شاهقة و هي تسمع صوت باب الغرفة يفتح، ليدخل قاصي منه بهدوء...
استوت جالسة تبعد شعرها المشعث عن وجهها لتنظر اليه بعينيها الواسعتين الحمراوين، بينما وقف هو مكانه ينظر اليها بصمت قبل أن يقول بجفاء
(لقد حضرت الطعام، تعالي لتأكلي)
أخذت نفسا طويلا قبل أن تهتف بعنف
(اخرج من غرفتي، لا أريد أكل اي شيء تعده يداك).

عقد قاصي حاجبيه على الرغم من ابتسامته التي ارتسمت على شفتيه، ثم قال بهدوء
(منذ أن عرفتك و انا الذي يعد الطعام يا تيماء، الآن توقفي عن عنادك و تعالي لتأكلي معي، لا أحب الأكل وحيدا)
أخذت تتنفس بصعوبة و هي تنظر حولها بعدم تركيز، الى أن رأت كوب ماء بجوارها على الطاولة الصغيرة الجانبية، فأمسكت به لترميه بكل قوتها في اتجاه قاصي...
لم تصدق ما فعلت للتو!

فلقد رمته في اتجاهه بالفعل، و ليس مجرد تهديد، و بمعجزة ما استطاع اخراج رأسه في اللحظة الأخيرة خارج اطار الباب الذي يمسك بمقبضه، فارتطم الكوب بالباب في المكان الذي كان يحتله وجهه للتو، و سقط متهشما بقوة على الارض!
أعاد قاصي وجهه و نظر الى الأرض بذهول قبل أن يرفع وجهه الى تيماء و قد تحول ذهوله الى غضب بدأ يتقد تدريجيا...

أما تيماء فقد كانت تبادله النظر بذهول مماثل، لا تصدق أن حالتها النفسية قد أوصلتها الى هذه المرحلة من الإجرام...
كانت تنظر اليه بلهفة، تتفحص وجهه ذرة ذرة كي تتأكد من أن الزجاج لم يصبه...
و أثناء تلك اللحظات و من شدة خوفها، لم تلحظ اقترابه منها و على وجهه علامات الغضب، الا بعد أن أصبح بجوارها تماما، فرفعت وجهها لتنظر اليه بترقب، لكنها لم تجد الفرصة...

فقد انحنى اليها و لف خصرها بذراع واحدة يجرها من على السرير كي تقف بتعثر...

أخذت تيماء تصرخ و تضربه وهو يحملها بذراع واحدة، خارجا بها من الغرفة، حتى أنها تشبثت باطار الباب بأصابعها و اظافرها أثناء خروجه بها، لكن قوته كانت أكبر، فحملها حملها بذراع واحدة و هي تلوح بساقيها حتى وصلا الى المطبخ الصغير فرماها على أحد الكراسي بقوة. لدرجة أنها كادت أن تقع من الجهة الأخرى لولا امساكه بها في اللحظة الأخيرة. حتى استقرت جالسة.

استقامت تيماء و هي تصرخ بجنون، تحاول ضربه دون جدوى و شعرها يتطاير من حولها في كل الجهات فبدت كشمس حارقة متوهجة في فصل صيف حار...
(يا عديم التحضر، أيها الجلف، لا تلقني هكذا)
الا أن نظرة نارية منه جعلتها تجفل قليلا و تبتلع المتبقي من كلامها، لكنها ظلت تحدجه بكره و هي تراه يجر كرسيا آخر ليجلس بجوارها...
و ما أن حاولت النهوض باباء، حتى قبضت أصابعه على ساعدها بدرجة جعلتها تتأوه بألم وهو يهدر قائلا.

(اجلسي مكانك و لا تتحركي)
كان صوته مشحونا، غاضبا بحق!
لا تزال وقاحته تبهرها، فهو الغاضب!
لكنها جلست مكانها تتنفس بسرعة و تشنج، تنظر اليه بنظرات تفيض بالكره و الرفض، بينما هو يبادلها النظر باستياء. ووجهه شديد الآحمرار، ثم قال أخيرا
(كلي)
نظرت تيماء الى الأطباق التي أعدها و لم تلحظها سابقا، ففوجئت به أعد معكرونا و نقانق...
لا تعلم لماذا آلمها منظر الطعام!

الا انها و على الرغم من ذلك الألم العاطفي الذي شعرت به، أمسكت بحافة الطبق و دفعته بعيدا و هي تهتف بغضب
(لا أريد التسمم)
انسكبت بعض المعكرونا على الطاولة، ووقعت اثنتين من النقانق أيضا...
حينها شعرت بالقليل من الندم و هي تختلس النظر الى قاصي الذي كان ينظر الى الفوضى أمامه بنظرات...
تشبه طفل خذلته أمه!

هزت رأسها بقوة و هي تلعن غبائها و مشاعرها التافهة الساذجة، و حين رفعت عينيها تعيد النظر اليه، وجدت أنه قد استعاد قناع القسوة و السخرية ناظرا اليها، ثم قال أخيرا ببرود
(لن تفلح حركاتك الصبيانية في افقادي لشهيتي، هلا أكلت معي، أنا فقط جائع، و بشدة)
هتفت تيماء و هي تمد رأسها اليه تقذف الكلمات في وجهه
(تسمم وحدك)
رفع قاصي حاجبيه وهو يبدأ في تناول طعامه ببساطة قائلا
(أنت زوجة غير مهذبة).

صرخت تيماء بعنف و هي تضرب الطاولة بقبضتها
(و أنت خائن)
استمر في مضغ طعامه ببطىء دون ان ينظر اليها، ثم قال بلا تعبير
(أخبرتك أنني لم أخنك، إن لم تصدقي، فهذه مشكلتك)
كانت تلهث من فرط الجنون. و فقدان السيطرة على الذات و هي ترى هذا البرود و تلك القسوة المتمثلان أمامها و المتجسدان في هذا الشخص عديم التحضر، قاصي الحكيم...
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تنظر اليه بألم ممتزج بغصة صدئة...

شعره المتطاول، و ذقنه الغير حليقة، داكنة قليلا. تزيد من منظره قسوة و لا مبالاة...
حينها رفع عينيه اليها فجأة...
اجفلت و انتفض قلبها، الا انها بدت كالمنومة مغناطيسيا، غير قادرة على الاشاحة بعينيها عن عينيه الناريتين...
فابتلعت ريقها ببطىء...
تحركت عينا قاصي على عنقها وهو يراقب حركات عضلاته المتوترة...
و للحظات طويلة عم السكون التام بينهما...

عيناه البراقتان كانتا تلتهمان تفاصيلها في القميص الحريري بلون السكر الذي ترتديه...
تتحركان على فتحته، ازراره اللؤلؤية...
ثم ترتفعان الى شعرها المشعث، الذي لا يعلم منظره حاليا الا الله...
اسبلت تيماء جفنيها بارتجاف، ثم همست بخفوت
(اريدك أن ترحل يا قاصي، وجودك هنا جنون)
ساد الصمت لعدة لحظات، ثم سمعت صوته الخافت العميق يقول
(و أنا لن أرحل يا تيماء، ليس بعد أن نلت ما أردته طويلا، هيا افتحي فمك).

رفعت جفنيها تنظر اليه بحيرة، فوجدته يمسك احدى النقانق الصغيرة بشوكته و يقربها من فمها...
الا انها ظلت على صمتها و هي تنظر الى ملامح وجهه، و التي بدت حنونة قليلا، كاسرة قناع السخرية البغيض...
و دون ان تدري وجدت شفتيها تنفرجان ببطىء. لتلتقط قطعة النقانق بينهما و تمضغها ببطىء مماثل، ابتسم لها قاصي برقة، على الرغم من أنها تكاد أن تقسم بالألم الساكن في عمق عينيه...

ارتفعت أصابعها المرتجفة. لترجع بعض من خصلات شعرها المجنونة خلف أذنها و هي تعلم أن عينيه لن تحررانها بسهولة، و تراقبان كل حركة منها، و كل نفس متردد في صدرها الخافق...
سألها قاصي بصوت أجش، ليقطع الصمت بينهما
(كيف يسير عملك؟)
انتابتها الرغبة في الضحك عاليا، لطالما كان تنقله في انطباعاته متطرفا...
أطرقت بوجهها و قالت بخفوت.

(رائع، عملي هو كل ما أريده حاليا، خاصة أنني أنهي أوراق المنحة حاليا بكل ما أملك من سرعة و اصرار)
سمعت صوت تنفسه الخشن، لكنها لم تجرؤ على رفع عينيها اليه...
كانت تريد أن تؤلمه، توجعه بشدة و لن تترك لذلك سبيلا الا و ستسلكه...
تكلم قاصي بصوت خافت الا أنه كان مخيفا، أجشا
(و هل ترين هذا، الشخص الذي كان يريد الزواج منك؟)
رفعت تيماء وجهها اليه، تنظر اليه طويلا، ثم قالت ببساطة
(أيهما تقصد؟).

ارتفع حاجبي قاصي بصمت، و رأت من تصلب فكه أنها قد أصابت الهدف، الا أنه قال بجمود ظاهري
(على ما يبدو أن معجبيك كثر!)
هزت تيماء كتفيها و قالت بهدوء...
(على ما يبدو)
ضحك قاصي ضحكة خافتة قاسية، خالية من المرح أو الشعور، ثم قال ببرود
(هكذا اذن!)
لم ترد تيماء و أبقت وجهها منخفض، فقال قاصي بقسوة
(ايمن، قصدت أيمن أن كنت تدعين الغباء، هل ترينه؟).

كان قلبها يرتجف بعنف بين أضلعها، لقد عاد!، عاد الغيور!، عاد الرجل الذي تجن عيناه ما أن يشعر باحتمالية سرقة حبيبته منه!
لكن هل هي حبيبته فعلا!، متى كانت حبيبته؟
ردت تيماء ببرود مبتلعة الألم الذي تشعر به بمهارة
(طبعا، أنا معيدة المادة التي يدرسها)
توقف قاصي عن الأكل للحظة، و استمر في النظر اليها و هي تتجاهله كذبا، بينما قال بهدوء
(معنى هذا أنكما تجلسان معا طويلا، تتكلمان كثيرا).

هزت كتفها مجددا و قالت دون أن تنظر اليه
(طبيعي)
قال قاصي بنبرة عنيفة مكتومة
(فيما تتكلمان؟، هل أخبرته؟)
رفعت تيماء عينين ميتتين اليه، ثم قالت بنبرة بلا روح
(ماذا تقصد بما أخبرته؟، زواجنا أم خيانتك لي؟)
هتف قاصي بغضب مفاجىء و قد عجز عن التزام الصبر أكثر
(توقفي عن التغابي يا تيماء، ماذا أخبرته؟، فيما تتكلمان يوميا؟، لا تقنعيني أنه قد اقتنع بك كمجرد زميلة).

كان وجهها جامدا كتمثال ناعم في قسوته، و تعرف ان صمتها يزيد من المه، و ناره...
و كم تمنت ان تحرقه النار أكثر، فمهما تزايد سعيرها لن تساوي ذرة من ناره التي أحرقها بها...
هدر قاصي بقوة وهو يضرب الطاولة بقبضته
(تيماااااااء، أجيبيني)
قالت تيماء بقسوة مشددة على احرف كلماتها.

(أنا معيدة في الجامعة، أتكلم يوميا مع عشرات الطلاب و العديد من الزملاء، و أيمن واحد منهم، و الموضوع القديم، أنا نبذته من تفكيري تماما، و من المستحيل أن اتكلم عن زوجي مع أي رجل آخر، أتعلم لماذا؟، لأنني لست خائنة مثلك، أنا لدي قوانين تحكمني، أما أنت، فما أنت الا كائن عشوائي، لا تخضع لأي قانون، ترفض أي قيد حتى لو كانت المبادىء نفسها، تدعي اللطف و حماية من تحب، الا أنك في الواقع شخص أناني، لا تهتم الا بما تريد، ).

نهضت من مكانها فجأة بقوة، مما جعل الكرسي يتراجع بعنف، لكنها استندت الى الطاولة و انحنت اليه، تقرب وجهها من وجهه القاتم و عينيه المشتعلتين غضبا، ثم قالت متابعة بقسوة لا ترحم...
(إن كنت تظن أن مجرد اعدادك لطبق من الطعام، ستجعلني أرضخ و اتحول الى قطة ناعمة تتمسح بك، فأنت اذن لم تعرف تيماء أبدا، انت لم تعد نفس الرجل الذي سبق ووهبته صك الملكية لنفسي، الرجل الذي يخصني أنا وحدي).

ضاقت عيناه المستعرتان على ملامح وجهها الشرسة، ووجهها المتقد بعنفوان وهو يراها تستقيم واقفة، ثم قالت بقسوة
(عشت عمري كله و أنا أتعلم فنون تحمل ابعاد من يخذلني من حياتي، وأنت لن تكون استثناء)
التقطت نفسا مرتجفا طويلا و هي تتابع عينيه المحدقتين بها، ثم قالت اخيرا بجمود.

(يمكنك البقاء، و يمكنك قضاء الليلة هنا على احد الأرائك طالما أنني لن أستطيع رميك خارجا، وربما كان هذا جزء من ثمن ادفعه لك، لنصبح متعادلين، أنا سأسافر يا قاصي، و أنت ستتطلقني و تهتم بزوجتك و ابنك، فهما اختيارك من البداية، أما أنا فكما قلت تماما، لم أكن سوى حلم، مجرد حلم ساذج و استيقظنا منه)
و دون ان تنتظر منه كلمة اخرى غادرت المطبخ و هي تهنىء نفسها بالتماسك أمامه، قبل الانهيار التام وحدها...

جرت في الرواق القصير و أسرعت الى غرفتها، ثم أغلقت الباب خلفها بالمفتاح قبل أن تنهار باكية بعنف للمرة الثانية...
لكنها تسمرت مكانها و هي تسمع أصوات تكسير عنيفة آتية من المطبخ!
اتسعت عيناها الحمراوين و الأصوات لا تتوقف، فهمست بقلب يرجف و يدها على صدرها
المجنون، سيدمر بيتي!، لكن البيت كان آخر همها، كان همها الأول و الأخير هو قاصي فقط...

انقبضت قبضتها على صدرها و هي تشعر بألمه بينما الأبواب تفصل بينهما دون رحمة، تمنعها من الخروج اليه و التهدئة من نوبات غضبه التي تعرفها جيدا...
تلك النوبات التي لا يستطيع التحكم بها الى حد أنها قد تؤلمه جسديا و تعذبه نفسيا...
انفرجت شفتيها تهمسان بكلمة واحدة دون صوت
اهدأ، و كأنه سيسمعها، لكن أصوات الحطام أخذت تتوالى، حتى بدأت تخشى أن يطرق الجيران بابها ليتسائلون عن سبب تلك الأصوات المفزعة...

قفزت مكانها وهي تسمع صيحة قوية منه. قبل ان يركل شيء ما، على الارجح انه كرسي المطبخ، لأن سقط محدثا دويا عاليا...
ثم ساد صمت قصير، ظنت معه أنه قد استعاد رشده قليلا، الا انها قفزت صارخة برعب حين شعرت بالباب يرتج خلفها اثر ضربة قوية عليه من الجهة الأخرى، و صوت قاصي يهدر بعنف.

(تريدين الهروب الآن؟، سبق و حذرتك منذ سنوات طويلة، و اعطيتك الخيار كي تبتعدي و تهربي، لكنك صرخت بكل قوة أنك لا تخافين الظلام، لا تهابين مما ينتظرك معي، فماذا كنت تظنين اذن؟، طريقا مفروشا بالورود؟، مع أول ثغرة قابلتها في حياتي هربت)
فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين و هي تنظر جانبا منتظرة أن ينتهي من جنونه المخيف...

فلقد خشيت أن يكسر الباب و يهجم عليها في تلك النوبة من الغضب. و ماذا لو فعل؟، ستكرهه أكثر...
حينها دعت الله من كل قلبها الا يتمادى، فهي لا تريد كرهه أكثر...
ضرب قاصي على الباب مجددا بكل قوته، فقفزت بعيدا و هي تنظر الى الباب المغلق، متوقعة تداعيه في اي لحظة...
الا أن قاصي قال اخيرا بصوت جهوري.
(استمتعي بغرفتك الخالية المغلقة، و سأكون أنا خارجا، لن أبارح الى أي مكان)
ثم سمعت صوت خطواته تبتعد...

ظلت تيماء واقفة مكانها لا تعرف كيف تتصرف، و كيف سمحت له اصلا بالبقاء!
لكن هل من هو مثل قاصي يخضع للسماح؟، كان سيبقى رضت ام أبت...
تحركت ببطىء الى أن جلست على حافة السرير، تنظر الى الباب المغلق و هي تضم قبضتيها بقلب يرجف...
من تخدع!
لقد فضلت البقاء معه على الذهاب الى بيت أمها...
هل كان كرها منها، أم أنها كانت تريد الاستمتاع بليلة أخرى تقضيها معه تحت سقف واحد قبل أن يفترقا للأبد...

أطرقت بوجهها و هي تتسائل عما سيفعله الآن، و عما ستفعله هي...
لكنه سيكون مجنونا إن تخيل للحظة أن تسمح له بأن يلمسها، لن تكون كريمة معه الى هذا الحد؟
فليبقى خارجا و يغادر بعد أن يفقد الأمل أخيرا، و بعد أن يموت قلبها...
أغمضت تيماء عينيها و بمنتهى السلاسة، سمحتة لشهقة البكاء الخافتة أن تتحرر من شفتيها أخيرا...

خذ يا ولدي، كل هذه أيضا، نظر الى وجهها المليح، و عينيها الكحيلتين طبيعيا، و ابتسامتها المنكسرة، ابتسامة تبدو و كأنها اعتذار دائم...
يحب النظر الى ملامح وجهها البسيطة و تأمل ابتسامتها...
و أكثر، أنه يحب رائحتها...
رائحتها تشبه الأرض التي حكت عنها طويلا، تشبه الطمي و رائحة النهر...
لقد رسمت الأيام على وجهها خطوط رفيعة، رغم انها لم تكن سنوات طويلة تزيدها عجزا...

لكن الشقاء هو من ساعد في سرعة نحت كل تلك الخطوط...
قال أخيرا بتذمر
كليها أنت يا أمي، لقد شبعت، الا أنه كان يكذب و كانت معدته الصغيرة لا تزال تئن جوعا، لكن أمه لم تكن قد تناولت شيئا من الأساس...
كان يسمع صوت بطنها بوضوح ككل ليلة، و كلما سمعه، وجد نفسه بالغريزة يقترب منها آخر الليل ليضع رأسه على بطنها، عل تلك الأصوات تختفي، فيختفي معها جوعها...

كان حضنها هو الراحة بعينيها، رائحتها مسك يزيح عنه كل خوف لا تستطيع سنوات عمره ان تفسره...
اصابعها التي تتخلل شعره و تمشطه، تهدىء من تخيلات الوحوش التي ترتسم أمام عينيه...
حرك رأسه في حضنها مستمتعا بهذه الراحة التي غابت عنه طويلا، أنفه يلتقط رائحتها بعذوبة...
يود لو ظل هناك لفترة اطول...
لكنه كان يعرف بأن نهاية وحشية ستأتي قريبا ككل مرة...
دقات قلبه المتسارعة تخبره بهذا...

تتسارع اكثر اكثر وهو يفتح عينيه على رؤية نصل يلمع، لا يبصر من يمسكه...
لكن لمعانه يخطف النظر...
حينها فقط اخذ يتشبث بطرف جلبابها الأسود و يصرخ عاليا الا تبتعد عنه وهو سيحميها...
لكن صوت صراخها كان يغطي على صوت صرخاته، فلا تسمعه، الى ان رآى النصل يتحرك من فوقهما ككل مرة في حركة غادرة، تقطع عليه هنائه و راحته القصيرة...
وهو يحاول الصراخ، لكن دون جدوى، يحاول و يحاول...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة