قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون

كم قتل من رجال في سبيل الأرض، على الرجل أن يدافع عن أرضه، و أنت أرضي يا تيمائي المهلكة،
كانت تلك هي العبارة التي ظلت تتردد في ذهنه المعذب طوال الطريق الطويل منذ خمس سنوات...
كان جالسا في القطار المرتج كارتجاجة كيانه كله...
يعد الدقائق واحدة تلو الأخرى في سلسلة الساعات الطويلة...
من يراه، يظن أن هذا الشاب قاسي الهيئة و الممسك بذراعي مقعده في القطار لا يمكن لشيء أن يهزمه أو يكسره...

لكن الحقيقة كانت مغايرة تماما...
فلقد هزمه سالم الرافعي، هزمه حين اخذ تيماء، و جعله يأتيه ذليلا حتى داره، كي يستسلم الى موته...
لكن قاصي لم يهاب الموت يوما...
لم يعرف الخوف من أي شيء بحياته، الا بعد أن عرف تيماء...
و معرفة أن تيماء موجودة في البلد بين قبضتي والدها، كان كفيلا بأن يلقي الرعب في قلبه...
سالم الرافعي لا يمتلك أي ذرة أبوة تجاه تيماء تجعله يشفق عليها أو يتهاون في عقابها...

أغمض عينيه و سمح لخياله أن يرسم له صورا من عذابها...
و ما أن تلاحقت أمامه الصور المفزعة، حتى ضرب ذراع المقعد بقبضته وهو يهتف بشراسة
(لاااااااااااااااا)
فتح قاصي عينيه ليراقب امتداد الأراضي الخضراء أمامه و المتسارعة من نافذة القطار، كتسارع أنفاسه، فهمس من بين أسنانه بصوت عنيف
(انتظر، انتظر)
كان يدعو سالم الرافعي أن ينتظر الى أن يصل اليه...
و حينها إما أن يموت فداءا لها، و إما أن يقتل والدها ثأرا لها...

نزل قاصي من القطار في بلدة مجاورة و ما أن اختفى تماما في حال كان هناك من يراقبه، حتى أخرج هاتفه و اتصل بسالم الرافعي...
حين سمع صوته، شك للوهلة الأولى أنه ليس سالم...
كان صوت يفيض بالغل، خفيض و شرس...
لكن قاصي لم يضيع الوقت في محاولة تحليل الصوت، لذا قال باختصار
(أنا هنا و سأكون بين يديك، لكن أحتاج الى التأكد من أن تيماء بخير)
ساد صمت مرعب قبل أن يقول سالم بصوت يغلي من الكره.

(هل تملي شروطك يا لقيط؟، تعال عندي حالا و سأكون رحيما في قتلك)
أغمض قاصي عينيه و ابتلع الكلمة بمقدرة فذة، ثم قال بصوت أكثر صلابة لا يقبل المساومة
(سأكون عندك في عقر دارك، أعزل و لا يعرف عني أحد و لا ينتظرني اي بشر، لكن أولا أريد التأكد أن تيماء بخير، أنا السبب في كل ما حدث، أما هي فابنتك في النهاية، مجرد فتاة طائشة و ارتكبت حركة متهورة، أنا المجرم الحقيقي، سأطمئن عليها و بعدها سأكون عندك).

كان متأكدا من أنه سينتظر طويلا، و سيساوم سالم لفترة كفيلة بأن تحرق صدره حيا...
لكن بعد فترة تمكن من سماع صوت همهمات خفيضة...
ضيق قاصي عينيه و عقد حاجبيه محاولا فك شفرة تلك الهمهمات...
ثم همس بقلق
(تيماء!، هل هذه أنت؟)
سمع صوت مختنق، تأوه مكتوم و أنفاس مختنقة متألمة و غير ثابتة، ثم همست باسمه أخيرا...
لم يكن اسمه واضحا من بين شفتيها المتحرجتين و قد حفر الألم كل حرف من أحرفه...

و كأنها احتاجت لمجهود جبار كي تنطق به...
فدار قاصي حول نفسه بجنون وهو يصرخ قائلا
(تيماااااء، ماذا فعل بك؟، هل أنت بخير؟، أجيبيني بسرعة صغيرتي قبل أن يأخذ الهاتف منك، أرجوك قولي أي شيء)
الا أن الجواب الذي وصل اليه لم يرحمه...
كانت شهقة طفلة تجش ببكاء مختنق...
بكاء غير ثابت، و كأنها تبتعد و تقترب...
و مع كل نفس تلتقطه كانت تتأوه، الى أن همست بنحيب يائس
(قاصي أنا أتألم جدا).

اتسعت عيناه و التوى حلقه بصعوبة، و أخذ صدره يتسارع في حركته حتى بدا كقطار مجنون بلا سائق...
فصرخ بصوت أعلى
(أين أنت؟، أين أنت)
الا ان صوت سالم كان هو الذي وصله في تلك اللحظة وهو يقول بنبرة تفيض غلا
(تعال الآن، كن رجلا و تحمل نتيجة انتهاكك لحرمة بيتي طالما اعترفت أنها مجرد طفلة طائشة)
قال قاصي وهو يرتجف بكل معنى الكلمة بعكس عينيه المتوحشتين
(ماذا تنوي على فعله معها؟)
صرخ سالم بقسوة و عنف.

(من أنت لتحقق معي يا لقيط يا ابن الفاجرة، كان يجب أن أعلم أنك فاجر كأمك تماما، مهما أطعمتك و آويتك فستظل مدنسا لنهاية عمرك و الذي سيكون بيدي)
انقبضت كف قاصي بقوة، و تردد صدى صوت أنفاسه بقوة و عنف...
تحمل، تحمل...
ثم نطق أخيرا بصوت صلب عنيف
(سآتي اليك).

لم تكن عملية العثور على تيماء سهلة...
لكنها كانت متوقعة...
سالم الرافعي كان متوقع التصرفات بالنسبة اليه...
سنوات طويلة كان بها خادمه المطيع، و يعرف سير تحركاته بالخطوة...
يعرف كل مخزن و مكان مهجور يمتلكه سالم في هذه البلد...
و لقد أمره أن يأتيه في أحدها، لكن قاصي كان متأكدا بأن تيماء لن تكون في نفس المكان...
كما تأكد بنفسه أنها ليست في دار سليمان الرافعي و لا يعلم أحد بوصولها مع والدها...

لذا دار قاصي متلحفا بملابس أهل البلد و المزارعين من مكان الى آخر يخص سالم الرافعي...
و شيء واحد كان قاصي متأكدا منه، وهو أن سالم لن يستعين بأي من رجاله في هذا الأمر خوفا من الفضيحة...
و هذا كان شيء جيد...
و عثر على البيت المقصود أخيرا، بيت قديم مهمل يملكه سالم منذ سنوات طويلة...
حين طرق قاصي الباب، فتحت له سيدة عجوز، ترتدي جلباب أسود متغضن كتغضنات تجاعيد وجهها تماما...

وجهها كان يشبه الأرض من تشققه و خلوه من الحياة...
قال قاصي دون مقدمات بصوت صلب صخري لا يحمل أي تردد
(السيد سالم أرسلني كي آخذ ابنته)
دققت به النظر قبل أن تقول بصوت خشن يناسب وجهها
(ليست تلك هي تعليماته)
لم يحتاج قاصي الى أكثر من ذلك، فدفعها بقوة و اقتحم المكان هاجما كالمسعور على كل الغرف، بينما المرأة لمتأوهة تهتف من خلفه بغضب
(تعال هنا، تعال يا ولد).

لكن قاصي كان أعمى العينين الا عن البحث عنها، أصمت الأذن الا عن سماع صوتها يطمئنه بكلمة...
الى أن ضرب أحد الأبواب الخشبية القديمة بقدمه و بكل قوته، الا أنه تسمر مكانه و كأن الأرض قد تزلزلت من تحت قدميه...
للحظات فقد القدرة على التحرك أو حتى النطق...
كان المنظر الذي رآه أمامه ذا وقع صادم على قلبه، لم يعرفه منذ رؤيته لمقتل أمه بعينيه...
فقد كانت تيماء، هي تيماء رغم تغير ملامحها...

في نهاية الغرفة العطنة القديمة، معلقة من ذراعيها بعامود خرساني...
حبل سميك يقيد رسغيها و يعلقها في العامود، بينما قدميها المتساقطتين لا تلامسان الأرض...
وجهها ساقط على عنقها، ربما نائمة و ربما مغمى عليها...
لكن الأكيد أن ذلك الوجه الذي كاد ورديا يفيض بالشقاوة لم يعد كذلك الآن...
فقد كان مليئا بالكدمات، متورما حد الشناعة...

و الدم ينزف من أنفمها و فمها، بخلاف جرح شديد البشاعة اعلى وجنتها متقرح و عليه دم متجمد...
تمكن قاصي من جر قدميه ببطىء، وهو ينظر اليها كجثة هامدة بذهول...
لكن صوت المرأة الكبيرة من خلفه جعله يفيق لنفسه فانتفض و استدار اليعا بعنف ليلف وشاحهها الأسود حول عنقها حتى اتسعت عينيها بحملقة فارغة...
لكن قاصي همس بشراسة أمام وجهها.

(أنت الآن تخاطبين مجرما، لن يهمه سنك أو كونك امرأة، أنا سأخرج و معي تلك الفتاة، و لن يمنعني أحد الا و قتلته و لن أبالي، هل تفهمين؟)
لم تجبه المرأة بل ظلت تنظر اليه بنفس النظرة المحملقة الواسعة ذات التعبير الفارغ، فتركها قاصي بعنف ليندفع الى تيماء و هو يحاول جاهدا تجنب النظر الى وجهها كي لا يضعف أو يتسمر مكانه...
كانت تبدو هشة، نحيفة و هي معلقة كالذبيحة في ثوب أسود يسترها و يبتلعها بالكامل...

ابتلع قاصي ريقه بصعوبة و اقترب منها ليقفز على صندوق مجاور لها و موضوعا أرضا...
مخرجا من جيب سكين صغير لا يرافقه...
ضم قاصي خصرها الى جسده بذراعه بقوة، و باليد الأخرى قطع القيد الذي يقيد كفيها، و ما أن نجح في فكه تماما حتى تهاوي جسدها و شعر بثقله الواهن فوق ذراعه و هي ترتمي عليه دون وعي...
نزل قاصي أرضا على ركبتيه وهو يضمها الى أحضانه هامسا بهلع
(تيماء، تيماء، أجيبيني).

لم يعلم إن كانت قد أفاقت أم لا تزال غائبة عن الوعي، الا أن أصابعها تشبثت به بوهن غريب و هي تهمس بإعياء
(قاصي، هل أنت هنا أم أنها، مزيد من الأحلام؟)
ضمها إلى صدره بكل قوته حتى أنت ألما و تأوهت وهو يرجع رأسه للخلف مغمضا عينيه ملتقطا أنفاسه...
ثم أخفض وجهه ليدفنه في كثافة شعرها المموج الزغبي ليهمس بخشونة متحشرجة
(تمسكي بي يا صغيرة، تمسكي بي تيمائي المهلكة، و ستعرفين إن كنت حلم أم حقيقة).

رفعت ذراعيها بوهن و لفتهما حول عنقه و دفنت وجهها في عنقه لتشهق فجأة و كأنها سمكة أعيدت الى ماء البحر و كتبت لها الحياة من جديد
الا ان شهقتها كانت ما بين النحيب و الألم و الصراخ
(قاصي، قاصي، لقد عذبني كثيرا، اخرجني من هنا، اخرجني أرجوك، لا تتركني)
مرغ قاصي وجهه الصخري ذو الملامح العنيفة من توالي الأحداث الدموية أمامه، في شعرها و همس بخشونة صارمة، متحشرجة وهو يضم جسدها المتهاوي اليه بقوة.

(لن اتركك ابدا، أبدا)
أخذت تنتحب في عنقه بقوة، بينما نهض من مكانه وهو يحملها بين ذراعيه الحديدتين المتحديتين لأي مخلوق على أن ينتزعها منه...
تحرك قاصي بها الا أن المرأة وقفت في وجهه و قالت بصوتها الخشن الأجش
(أعد الفتاة يا ولد، ما تفعله سيضرك و يضرها، )
حفرت أصابع قاصي مشددة على ظهر تيماء و ساقيها وهو يحملها و يضمها الى صدره...
ثم قال بصوت صلب خطير و عينين تشتعلان نار.

(أنصحك بالإبتعاد عن طريقي كي لا يضيع المتبقي من عمرك هباءا)
الا أن المرآة وقفت مكانها بثبات و قالت بخشونة لا تعرف التعاطف
(لن أدعك تخرج بها، والدها يريدها هنا معي)
تحرك قاصي ليتجاوز تلك المرآة بالقوة وهو يدفعها بكتفه دون أن يتخلى عن تيماء، بينما جسدها الذي جرى عليه العمر لم يستطع مقاومته كشجرة يابسة متقطعة الجذور...
و خرج قاصي من هذا البيت وهو يحمل تيماء معه...

تلك الجلسة تحت جنح الظلام لا يزال يتذكرها حتى الآن و كأنها كانت بالأمس...
حين وضع تيماء أرضا برفق بجوار أحد الأشجار، يسند ظهرها اليها و يبعد شعرها المتناثر عن وجهها المتهالك، فتأوهت بخفوت مغمضة عينيها...
استطاع أن يلمح تلك الكدمات الشديدة القتامة و التي تعلو عظمة الترقوة، و تتناقض مع بياض بشرتها الشاحب، ظاهرة من فتحة عنق الثوب المتهدل الواسع عليها...

فرفع يده، يتلمس تلك الكدمات برفق فشهقت تيماء و هي تطبق جفنيها بقوة و تعض على شفتها السفلى بألم...
فسحب قاصي نفسا أجشا غاضبا، مرتجفا و همس بخفوت بين صوت حفيف أوراق الشجر في الليل...
(كم آذاك!، و لم أكن حتى متواجدا كي أدافع عنك)
ظلت تيماء على حالها مغمضة عينيها لعدة لحظات، ثم فتحت عينيها تنظر اليه بتعب، عينين عميقتين بعمق البحر في أشد ساعات الليل ظلاما...

تنظر اليها عينيه السوداوين بنار من الغضب التملكي العنيف...
ثم رفعت اصابعها ببطىء و اجهاد حتى لامست فكه بأصابع مرتجفة و همست باعياء
(المهم أنك هنا أخيرا، كنت أعلم أنك لن تتركني أبدا)
قبض قاصي على كفها بقوة و حولها الى فمه وهو يقبل راحة يدها كالمسعور هامسا بشراسة
(ابدا، أبدا يا صغيرة، أنت تخصيني و أنا لا أترك ما يخصني مطلقا)
انسابت دمعتين ثقيلتين على وجنتيها و همست بصوت مختنق.

(دعنا نغادر هذه البلد للأبد، لنتابع خطتنا و نفر الآن، أرجوك، لم أعد أطيق رائحة الحطب بها، تلك الرائحة تخنقني و تذكرني بالأنفاس المتهدجة التي سحبتها و أنا أحاول تحمل ضربات حزامه على جسدي و أنا معلقة أتأرجح كالبهائم)
التوى فكه بعنف و التوى حلقه وهو يحاول جاهدا السيطرة على نفسه كي لا يرعبها بردة فعله...

الا أن كل ما استطاعه هو التقاط نفسا أكثر خشونة وهو ينظر بعيدا الى الليل الداكن الصامت لدرجة الاختناق...
فهمست تيماء بخوف
(قاصي، لماذا تصمت؟، لماذا لا نفرالآن و نبتعد للأبد، لا تصمت هكذا أرجوك، أنت تخيفني)
التفت قاصي ينظر اليها بملامح زادها الظلام غموضا و ألما...

ثم رفع أصابع يده الحرة و تلمس وجنتها بحنان وهو يتأملها و كأنه يتأملها للمرة الأخيرة و يخزن ملامحها بذاكرته للأبد، مما جعل الدموع تتلاحق على وجهها بغزارة فهمست بنحيب مختنق خائف
(قاصي!)
قال قاصي أخيرا بصوت خافت، شبيه بصرير الريح الباردة التي تلفحهما، بينما عيناه لا تبارحان عينيها الباكيتين
(لن أستطيع الخروج بك من هذه البلد أبدا، سيكون هذا مستحيلا، نحن هنا محاصرين تماما).

ازدادت حدة بكائها الصامت و همست باختناق
(و ماذا سنفعل؟)
استمر في النظر اليها بعينين فقدتا كل أقنعتهما، ووجه متغضن من الألم، و أصابعه لا تزال تتجول على ملامحها محاولة رسم تلك الصورة للأبد...
ثم همس أخيرا بصوت أجوف، بعيد...
(سأحميك بحياتي، و لن يمسك سوء طالما لا يزال بصدري نفس يتردد)
همست تيماء ترتجف من هول القادم، و صدرها يخفق بعنف و الم
(ماذا ستفعل؟)
قال قاصي ببطىء و بصوت ثابت، فاقد الحياة...

(سأسلمك لجدك)
اتسعت عينا تيماء برعب و فغرت شفتيها المرتجفتين و هي تحاول الهتاف، الا أن الرعب كان يمنع الكلمات من مغادرة حلقها المتشنج...
فرفع قاصي اصابعه يغطي بهما فمها الفاغر وهو يهمس بألم
(اهدئي، اهدئي و لا تتكلمي، أرجوك لا تتكلمي)
تساقطت دموعها على أصابعه الخشنة المستقرة على شفتيها و هي تهز رأسها نفيا بعجز، تطالعه بعينين واسعتين ذاهلتين، باكيتين...
فقال قاصي متابعا بصوت قاس عبثا، مزيفا...

(لقد بلغته قبل وصولي اليك بدقائق، و أخبرته بأنني سأسلمك له)
كانت عيناها كطبقين مستديرين يحملان فاكهة الألم الزرقاء، بدموع فيروزية...
و كأنها تسمعه يتكم بصوت غير صوته...
حينها رفع أصابعه عن شفتيها و أحاط وجهها بكلتا كفيه، وهو يرفعه اليه، يخاطبها بعينيه القاسيتين كي تستوعب
(اسمعيني جيدا، لن يحميك من والدك سوى سليمان الرافعي وهو لن يؤذيك، أقسم لك أنك ستكونين بخير معه)
همست تيماء بنحيب مختنق.

(لا، لا، لن أذهب اليه مطلقا، أريد مغادرة هذه البلد معك، ماذا، ماذا عن زواجنا؟، ماذا، ماذا عن كوني أخصك و أنك لن تتركني أبدا؟)
شدد قاصي قبضتيه على وجهها و هزه قليلا وهو يقول بصرامة و حدة
(اسمعيني جيدا، لا مجال للدلال هنا، إنها مسألة حياة أو موت، و فرصتنا معدومة في الهرب، ستنفذين ما آمرك به)
كانت تلهث وهي تنظر اليه بذهول و رعب، تنتحب بصمت و تشعر بألم يفوق قدرتها على التحمل...

و حين استطاعت الكلام أخيرا قالت أخيرا بذهول و صدمة، صدمة عذاب
(و ماذا، عنك؟)
ساد صمت طويل، و الظلام يحيط بهما و كل منهما ينظر الى الآخر دون أي بادرة من الأمل تلوح لهما...
الى أن قال قاصي أخيرا بصوت ميت، لا يحمل الحياة
(هذا ما سيقرره جدك، لكن اعلمي أنه طالما كنت أحيا معك على هذه الأرض فلن أتخلى عنك أبدا، مهما فرقتنا الأعوام، مهما طالت، أو قصرت).

تحولت أنفاسها الى شهقات مرتعبة و الدموع تتجمد على وجنتيها، ثم همست بعدم استيعاب
(قد يقتلك، سيقتلك، هؤلاء البشر لا يتعاطفون و لا يعرفون معنى الرحمة)
ساد الصمت الكئيب حولهما مجددا، قبل ان يقول قاصي بصوت خافت
(سأعمل على التأكد حينها أن لن يؤذيك شيء من بعدي)
صمت قليلا وهو ينظر إلى عينيها الذاهلتين المرتعبتين، ثم قال بصوت أجش وهو يلامس الجرح المتقرح أعلى وجنتها
(أنا آسف يا تيماء، آسف).

أنا آسف يا تيماء، آسف، شعرت بأصابعه على وجنتها، تلاحق تلك القطبات القليلة، القديمة...
قطبات عمرها خمس سنوات...
فشهقت و هي تفتح عينيها هاتفة بقوة
(قاصي!)
الا أنها لم ترى سوى ظلام غرفة المشفى، أدارت تيماء وجهها و هي تنظر حولها لتستوعب مكان وجودها...
حتى سمعت صوت سوار تقول بخفوت
(هل تحتاجين لشيء يا تيماء؟)
نظرت اليها تيماء طويلا، ثم قالت بشك
(هل كان قاصي هنا للتو؟)
قالت سوار بحيرة.

(قاصي لا يزال خارج الغرفة، رفض المغادرة)
فتحت تيماء شفتيها تريد سؤال سوار
هل كان هنا؟، منحنيا ينظر الى وجهي و يلاحق اصبعه تلك القطبات أعلى وجنتي؟، الا أنها عدت و أغلقت شفتيها و هي ترجع رأسها للخلف، ناظرة الى السقف القاتم، بضياع...

بعد اسبوع،
سمعت صوت طرقات على باب غرفتها، بينما هي تنظر الى نفسها في المرآة...
فالتفتت تنظر الى الباب بصمت قبل أن تقول بخفوت
(تفضل)
فتح الباب و دخلت سوار الى الغرفة مبتسمة، ثم توقفت قليلا و هي تنظر الى تيماء قائلة بحبور
(صباح الخير، كم تبدين جميلة يا تيماء!)
ابتسمت تيماء دون مرح، لكنها قالت بهدوء
(حقا؟، ربما كانت عبائتك هي السبب)
قالت سوار ضاحكة.

(هراء، العباءة ازدادت بريقا و تناقضا مع ملامحك فزادت جمالا).

كانت تيماء ترتدي احدى عباءات سوار...
عباءة من الحرير الأسود واسعة و هفهافة، الا أنها تضيق عند الصدر بتطريز رائع، ما بين الاحمر و الذهبي...
أما الوشاح الحريري الأسود الذي أحاط بوجه تيماء، فقد تناقض بشدة مع بياض وجهها و لون عينيها الفيروزيتين...
فبدت كأميرة فارة من احدى كتب الروايات الشرقية القديمة...

إنها المرة الأولى التي تنزل فيها لتناول طعام الإفطار مع جدها و باقي أفراد عائلتها المصونة، بعد أن فكت قطبات الجراحة أخيرا و أصبحت حرة الحركة...
أسبوع كامل لم ترى به قاصي، و لم تتجرأ على السؤال عنه...
بدا و كأنه قد اختفى تماما، تاركا اياها تسقط في حالة من الفراغ!
كانت تتخيل أنه سيلاحقها كظلها، يملي عليها حضوره غصبا...
لكنه اختفى بمنتهى البساطة...

تماما كما اختفى منذ خمس سنوات بعد أن سلمها الى جدها كطرد مغلف و مدموغ...
نظرت تيماء الى عينيها الفيروزيتين في المرآة...
كانتا بلون رائق، صاف...
تلك الدرجة التي تراها حين تشعر بنفسها تسقط في تلك الهوة من الفراغ، منعدمة الوزن فاقدة الجاذبية...
قالت سوار أخيرا تشدها من شرودها المتباعد...
(لقد سأل عنك جدي، وهو مسرور للنزولك أخيرا).

لقد زارها سليمان الرافعي في غرفتها عدة مرات قليلة منذ ان انتقلت الى دار الرافعية من أسبوع بعد اجرائها للجراحة...
كانت زيارات مختصرة، موجزة، و جافة العبارات...
كانا لا يزالان على خصام منذ أن احتدم حوارهما في المشفى آخر مرة...
لكن بعد أن انتفى سبب الشجار و بعد رحيل أيمن دون أن يتجرأ على التقدم الى جدها و طلب يدها...
امتنع سليمان الرافعي عن فتح الموضوع مجددا...
و كم أراحها ذلك...

كانت تشعر بالخزي بما يكفيها، دون القدرة على تحمل المزيد من الهوان و الذل...
لكن يبدو أن سليمان الرافعي قد راعى ذلك و أحجم عن ذكر الموضوع للأبد...
قالت تيماء بحذر و هي تدعي العفوية في السؤال
(من سيكون متواجدا؟)
ابتسمت سوار و قالت بمداعبة
(أبناء أعمامك كلهم، أمين و عرابي و فريد أخي، و زاهر و أخته بدور، تلك التي هي مخطوبة لراجح)
كيانها يحترق على نار هادئة و هي ترغب في القاء السؤال...
هل سيتواجد قاصي؟

لكنها لم تجرؤ، اطرقت تيماء بوجهها و قالت بفتور و عدم حماس
(حسنا، جيد)
عقدت سوار حاجبيها و قالت دون ان تفقد ابتسامتها
(ما سر هذه الطاعة و اللامبالاة الحكيمة؟ أين ذهب لسانك الشبيه بالأفعى الجرسية، العالم في خطر على ما يبدو)
مطت تيماء شفتيها و قالت بامتعاض.

(اكتشفت أن الجدال هنا ما هو الا كالنفخ في قربة ماء مثقوبة خاصة للنساء، لذا قررت الحفاظ على صوتي، علني أستخدمه في شيء أكثر نفعا، كالغناء مثلا عوضا عن ضرب رأسي في الحائط)
ضحكت سوار و قالت
(ها هو لسانك، قد بدأت في الشك أنك تعلمت التعقل هنا و بدأت في الخوف عليك، عامة أعرف ما قد يسري عنك و يبعد عنك تلك الحالة من الفتور)
قالت تيماء بدون حماس
(ماذا؟، نحلب العنزة اليتيمة المربوطة بجوار باب المطبخ؟).

مطت سوار شفتيها و تأففت و هي تقول
(أوووووف من استفزازك، كان الله في عون من يتزوجك، المبتلى المسكين لا بد أنه قد فعل شيئا بالغ السوء في حياته كي يعاقب بك)
قالت تيماء ببرود و هي تنظر الى عينيها الشاردتين في المرآة
(المبتلى المسكين على ما يبدو قد فر قبل أن يبتلى بي)
قالت سوار بعينين تبرقان
(و هل يجرؤ على الفرار؟، إنه تحت ينتظرك، و يرحب بابتلاءه بك حامدا شاكرا).

استدارت تيماء على نفسها و قد انتفض قلبها وهو يختلج متناثرا بين أضلعا كرذاذ من الذهب السحري...
قائلة بتهور و غباء، بينما عيناها تبرقان كنجمتين من الفيروز الخالص
(هل هو موجود؟)
ابتسمت سوار متعجبة من لهفة تيماء الجديدة، لكنها قالت بفرح
(بالتأكيد، كما أخبرتك ان كلهم متواجدين، على أنني لست متأكدة بعد من منهم هو المبتلى تحديدا، هذا يعتمد على اختيارك)
و كأن الرذاذ الذهبي قد تحول فجأة الى رماد كئيب...

بعد أن سقطت عليها كلمات سوار كدلو من الماء البارد على شعلة توهجها و أطفئتها و حولتها الى حفنة من الرماد...
عادت تيماء لتستدير مجددا الى المرآة...
فصدمتها عيناها الفاضحتين...
لقد عرت نفسها أمام نفسها، و كأن الصورة في المرآة تسألها ساخرة
ما هذا الذي فكرت به للتو؟، لقد كان أول من يخطر ببالك!، أخذت تيماء نفسا عميقا و التفتت الى سوار قائلة ببهجة زائفة كي تداري سؤالها الغبي منذ لحظة.

(اذن أخبريني عن الشييء الذي قد يسري عني، أنتظر بشوق)
ضحكت سوار و هي تهز رأسها بيأس منها قائلة
(يا مجنونة، حسنا اسمعي آنستي، ما رأيك في حضور حفل زفاف تقليدي تماما معي الليلة بما أنك استطعت الحركة بحرية أخيرا، ستستمتعين جدا)
عقدت تيماء حاجبيها و قالت بخفوت
(زفاف من؟)
ردت عليها سوار قائلة بابتسامة عريضة
(زفاف ابن خالي من عائلة الهلالي، سترين بيت مختلف و عائلة مختلفة، ما رأيك؟).

اطرقت تيماء بوجهها و هي تقول بتردد
(لا أعلم، لا أظن بصراحة)
الا أن سوار لم تتركها بسهولة فقالت بلهجة قوية
(تعالي معي يا تيماء، سليم مسافر اليوم و لن يحضر و أنا لا أريد الذهاب وحدي)
نظرت اليها تيماء و قالت باعتراض محبط
(لما لا تصطحبين أي فتاة أخرى من بنات أعمامك)
قالت سوار متنهدة.

(لا أحد يريد الذهاب، أعرف هذا دون الحاجة للسؤال، لا تزال المحبة مفقودة بين العائلتين رغم أن الظاهر يؤكد عكس ذلك، لكن تبقى النفوس غير راضية و لن ترضى أبدا، كما أن معظم أفراد العائلة قد غادروا بالفعل، لقد خلا الدار بعد أن كان مكتظا خلال الأسبوع الماضي، و لم يتبقى سوى أبناء أعمامك منتظرين البشرة منك)
رمشت تيماء بعينيها و هي تنفث نفسا لاهبا غاضبا كلما وصل الحوار الى تلك النقطة...

لذا رفعت وجهها و قالت مغيرة الموضوع
(حسنا لا بأس مبدئيا، لكن لا أستطيع أن أعدك بذلك)
قالت سوار بنفاذ صبر
(أشكر لك تضحيتك العظيمة آنسة تيماء، هلا نزلنا الآن لأننا تأخرنا جدا و قد ينزل جدي قبلنا)
عادت تيماء تنظر الى نفسها في المرآة، و قالت بتوتر
(بلى، انزلي أنت رجاءا، و أنا سأهاتف أمي ثم ألحق بك)
خرجت سوار و أغلقت الباب خلفها، بينما رفعت تيماء يدها الى صدرها و اخرجت النفس الذي كتمته طويلا...

ثم لم تبلث أن اطرقت برأسها و هزته غضبا و هي تهمس
(كف عن تسلطك على عقلي في كل لحظة، ابتعد، ابتعد، ابتعد بروحك كما ابتعدت بجسدك)
كانت يدها لا تزال على صدرها فشعرت كما تشعر مؤخرا بأن صدرها خال، بارد، بعد أن أخذ منها السلسال الفضي الثقيل الوزن و الذي ظلت لسنوات تشعر بثقله على صدرها...
و كلما توترت كانت ترفع يدها لتمسك به دون أن تدري...

الآن و خلال الأسبوع الماضي، لا تزال حتى اليوم، كلما حل قاصي على تفكيرها رفعت يدها تلتمس الإمساك بسلساله الا أنها لا تجده...
و تتذكر أنها قد فقدته، فتشعر بالمزيد من الفراغ و الغربة...
زفرت تيماء بقوة، ثم تناولت الهاتف بغيظ و ضربت رقم هاتف ثريا...
و كما تعودت خلال الأيام الماضية...
كلما فتحت أمها الخط، تبادرها بالعويل و التذمر، و اليوم لم يكن استثناء ابدا...
هتفت ثريا بأنين يثير الإستياء.

(تيماء سأموت، سأموت، كيف لك أن تكوني ناكرة الجميل و متحجرة القلب الى هذه الدرجة؟)
أغمضت تيماء عينيها و قالت بخفوت
(ثريااااااا، غبت عنك أسبوع، الا يمكنك ولو لمرة اظهار بعض الحنان في كلامك معي؟، كل يوم نفس الصراخ و العويل، لقد تعبت بالله عليك يا أمي)
لكن ثريا لم تتراجع و لم تشعر للحظة بالحرج، بل تابعت بنفس الصوت المتصابي المدلل و المزعج.

(أنت تعبت؟، أنت تعبت؟، و ماذا عني أنا؟، تلك الخادمة الغبية التي احضرتها قبل سفرك رحلت، رحلت و أنا من تقوم بكافة أعمال البيت، الا تملكين أي حس بالعطف على أمك؟، الا يكفي أنني قد تحملت سفرك في الخارج لمدة ثلاث سنوات كاملة، اطهو و انظف و اغسل، و كل هذا في سبيل أن تنالي شهادتك و تتقدمين بحياتك، لكن انظري كيف تكافئيني الآن؟)
زفرت تيماء بصمت...
بينما تحولت ملامحها الى غلاف جليدي...

في الواقع لقد أصبحت أمها مؤخرا عبئا ثقيلا عليها، عبئا أنانيا للغاية...
لم تشعر تيماء بالذنب و هي تفكر في هذا...
رغم حبها لأمها و امتنانها الشديد لها لأنها الوحيدة التي بقت معها و لم تتخلى عنها...
الا أن الحقيقة تفرض نفسها...
أمها ما هي الا طفلة غاية في الأنانية، كثيرة المتطلبات دون التفكير في غيرها...
حتى أنها الآن تخالف الواقع تماما فيما نطقت به للتو...

تلك السفرة للخارج، الثلاث سنوات كي تنهي رسالتها...
لم تكن كرما فائضا من أمها كما أوحت...
بل كانت بعد معاناة فظيعة مع العويل و النحيب و الرفض القاطع...
ثريا لم تستطع أبدا خدمة نفسها على الرغم من أنها نشأت في بيئة متهالكة و مطحونة...
الا انها بطبعها كانت و لا تزال شديدة الإتكالية...
و عند نقطة معينة، كان لتيماء وقفة صارمة أمام أمها...
حين قررت أن مستقبلها أهم من الجميع، دون اهدار لحقوق أمها...

لذا كانت شديدة الحزم و هي تعلن لأمها أنها قد اتخذت قرارها و انتهى الأمر و عليها أن تعتمد على نفسها لمدة ثلاث أو أربع سنوات...
فأحضرت لها خادمة و سائق، و كل هذه الرفاهية بمال سليمان الرافعي، الذي يأتي ظاهريا من والدها...
لكن ثريا كانت غير متعاونة اطلاقا خلال الثلاث سنوات...
اتصالات من النحيب و العويل و الدعاء على نفسها و على تيماء أحيانا...

خادمة وراء خادمة، و تيماء تلتزم معها أقصى درجات ضبط النفس، فيكفيها تماما أنها قد نفذت قرارها و سافرت، لذا حاولت أن تكون متعاطفة مع أمها قدر امكانها...
حتى هذه السفرة الآن...
لم تخبر ثريا عن وجهتها الحقيقية، بل كذبت و ادعت أنها مسافرة الى مؤتمر لمدة ثلاث أيام...
حماية لنفسها من المزيد من العويل لو علمت أنها متجهة الى عائلة أبيها بعد ما كان منهم...

لكن للأسف، بغير ارادتها تحولت الثلاث أيام الى اسبوع كامل، و أمها لا تنفك عن التذمر كل يوم...
رفعت تيماء وجهها لتقابل عينيها الفيروزيتين في المرآة...
و فاجأها سؤال صادم
هل بقائك هنا بغير ارادتك فعلا؟
رمشت تيماء بعينيها و أبعدت السؤال المجنون عن ذهنها المجهد...
و قالت بهدوء يائس.

(ثريا، لقد أخبرتك أنني أجريت جراحة الزائدة، الا يشعرك ذلك بنوع من القلق على ولو للمرة واحدة؟، كل ما تفكرين به هو الخادمة التي هربت بسبب طريقة تعاملك معها!)
هتفت ثريا بغضب
(هذا لأنك سافرت ضد ارادتي للمرة الثانية، لو كنت بقيت لكنت أجريت الجراحة هنا و مكثت معك)
رفعت تيماء عينيها الى السماء و قالت بفتور
(آه، صحيح)
كانت أكثر غضبا من ان تجادل امها في تلك اللحظة كي لا تتهور و تجرحها بكلمة، لذا قالت بخفوت.

(سأهاتف معارفي مجددا و أبحث لك عن خادمة أخرى، لكن رجاءا يا أمي حاولي أن تبقين عليها هذه المرة، باتت كل الخادمات يعرفن بيتنا بالإسم و يتحاشين المرور من شارعنا)
هتفت ثريا قالت بصرامة
(و لماذا تبحثين عن خادمة أخرى؟، متى ستعودين؟، ألم ينتهي الاسبوع؟، لقد نزعت خيط القطبات، ماذا تنتظرين بعد؟)
أجفلت تيماء و هي تقابل صورتها في المرآة مجددا...
و بدت صورتها في تلك اللحظة شديدة الشر و هي تضحك منها ساخرة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة