قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والأربعون

بقت ميسرة جالسة مكانها و هي تنظر الى الباب المفتوح حيث خرج، بنظرات شبيهة بنظرات الأفاعي...
و هي تهمس
(لا شيء يفلح أمامك يا بنت وهدة، لكن حتى لو وصلت الى أسفل سافلين الأرض و ما تحتها سأحرق قلبك بجني يقترن بك و لا يتركك لرجل أبدا)
خرج ليث في تلك اللحظات الى سطح الدار، وهو يمسك بالسور الرخامي، ناظرا الى الأراضي المترامية حتى الجبل...

تلك الليلة بكل ما حملته كانت أكبر من السيطرة الواهية التي يفرضها فرضا على قلبه...
مرآى سوار الليلة، و عتابها له...
جعل قلبه يسقط صريع هواها من جديد...
لقد أحبها مجددا، من نظرة واحدة...
أغمض عينيه وهو يهمس بصوت أجش
(لماذا يا سوار العسل؟، لماذا نبشت قبورا أغلقتها على حب دفنته منذ سنوات بتلك البساطة؟)
أخذ نفسا عميقا وهو يهمس بعذاب
(استغفر الله، استغفر الله).

فتح عينيه فجأة على صوت اطلاق أعيرة نارية، آتية من الجهة الشرقية للبلد...
كان صوتا عاليا زاد من عواء الكلاب و صهيل الخيل...
فعقد ليث حاجبيه وهو يشعر بشيء غير مريح!
فهمس بتعب
(يالله، فلتنتهي تلك الليلة على خير).

أدرك أن الامر غير مريح ما أن وجد الجمع و الهتاف...
لقد سقط أحدهم مصابا، أو قتيلا...
لم يكن صوت اطلاق الأعيرة النارية طبيعيا كما توقع تماما...
فما أن أوصل تيماء الى دار الرافعية حتى شعر بشيء ما يجذبه الى مكان اطلاق النار، لذا عاد الى سيارته التي كان قد تعمد اتلافها على نحو بسيط، فاستطاع عبد الكريم احضار من ساعده على اصلاح هذا العطل...

و انطلق بها عائدا الى جهة اطلاق النار بذلك الدافع الغريب المقبض...
و كما توقع كان هناك هتافا من بعيد و رجالا يركضون هلعا...
لم يكن الأمر هينا أبدا...
و ما أن أوقف السيارة حتى خرج منها و سار ببطىء و كأنه يحاول تجنب معرفة ما حدث...
اخترق الجموع التي كانت تضرب كفا على كف، يطلقون الشهادتين و على وجوهم علامات الفزع...
الى أن سمع الأسم بذهول.

سليم الرافعي، حينها لم يتمالك قاصي نفسه من دفع الجميع بهمجية وهو يقترب من الجسد المسجى أرضا، مغطا بغطاء أبيض تخضب بدماء حمراء...
ما أن نظر اليه حتى امتقع وجهه و شعر بصدره يتوقف عن التنفس...
فجثا على ركبتيه بعينين متسعتين ذهولا دون أن ترمشا، و سحب الغطاء عن الجسد الملقى ارضا ببطىء...
الى أن رآى وجهه...
نعم لقد كان سليم، نفس الوجه الابيض المنير بنور هادىء يدخل الى القلب و يريح الروح...

كانت ملامحه مرتاحة، و كأنه نائم فقط لا غير، بينما الدم يغرق صدره...
رفع قاصي يديه الى خصلات شعره بعنف وهو يستقيم واقفا، متراجعا للخلف وهو غير قادرا عن ابعاد نظره عن جسد سليم ووجهه...
الى أن ارتطم بأحدهم و الذي صرخ بقوة
(ماذا حدث يا قاصي؟، من هو؟)
استدار قاصي لينظر الى ليث الذي أقبل بكل ما أوتي من سرعة ما أن سمع بخبر وجود قتيل و شجار مع أحد أبناء عائلة الهلالي...

هز قاصي رأسه غير واعيا، فشحب وجه ليث وهو يهدر بقوة
(تكلم بالله عليك)
فتح قاصي فمه و همس و كأنه يكلم نفسه
(سليم!)
شحب وجه ليث، و تسمر مكانه قبل ان يندفع بين جموع الرجال وهو يهتف بقوة
(لا اله الا الله، لا اله الا الله)
و ما أن انحنى الى جسد سليم حتى همس باخنتاق و ذهول
(سليم، ياللهي)
مد يده يلامس الوجه البارد، قبل ان يهمس بصوت مرتاع مختنق
(كنت تعلم، كنت تعلم يا صديقي، لا اله الا الله).

و دون أن يدري كانت عيناه تغرقان بدموع على رجل من أنقى من عرفهم...
أما قاصي فكان ينظر الى ما يحدث بجسد من فصل عن العالم المحيط به...
قبل ان يعود الى سيارته و ينطلق بها بأقصى سرعته...
كان يقود كالمجنون و عيناه ثابتتان على الطريق...
لا يعلم الى اين هو ذاهب، لا يدرك أنه يقود السيارة اصلا...
لم يكن في اذنه سوى صوت سليم المتسامح وهو يقول له.

اعتني بنفسك يا قاصي و تصالح معها، هون عليها و ترفق بها، دع عنك الألم و الكره فلن تجني منهما سوى المزيد من الشقاء، خذ من الحياة ما يمنحك الله بحلاله، و تمتع به و انسى الماضي، لا يملك القلوب الا رب العالمين فترفق بقلبك و لا تسرف في اثقاله بمرارة الإنتقام، داس قاصي بقدمه أكثر وهو يزيد من سرعة السيارة بكل جنون...

وصورة سليم أمامه، وهو يضحك ضحكته الوضاءة ليعانقه كلما رآه، و كأنه الأخ الوحيد الذي عرفه في هذه الحياة...
لم يدرك قاصي الى أين يتجه، الى ان وجد نفسه عائدا الى نفس المكان الذي كان واقفا فيه مع تيماء...
أوقف السيارة و خرج منها دون أن يطفىء المحرك...
خرج متعثرا حتى كاد أن يقع أرضا الا أنه استقام بترنح وهو يدور حول نفسه لينظر الى الفضاء الأسود من حوله بذهول...

و خلال لحظة كان يصرخ صرخة متوحشة باعلى صوته...
فاردا ذراعيه، يصرخ و يصرخ...
حتى سقط على كبتيه، منهزما، مسقطا رأسه و دموعه، فقد راح الجانب الأبيض منه، و لم يتبقى سوى القاتم فقط...

أنتهى من اعطاء أمه الدواء...
و قال سريعا محاولا الهرب
(أتحتاجين شيئا آخر حبيبتي؟)
تركت أمه كوب الماء فسارع ليضعه منها على الطاولة بجانبها، الا أنها امسكت بيده قبل أن يهرب و هتفت بلهفة
(الى أين أنت ذاهب، لقد بقيت صامتا في السيارة ترفض الكلام و الآن تريد الهرب مني بهذه السرعة؟)
تنهد أمجد قبل أن يقول مستسلما وهو يجلس على حافة سرير أمه دون أن يترك كفها...

(و لماذا أهرب منك حبيبتي؟، تفضلي احكي ما تشائين)
عقدت حاجبيها و قالت باستياء
(لا تتلاعب بي يا ولد، هل أنا من تحكي أم أنت؟، هيا أطفىء نار لهفتي، تكلم)
ضحك أمجد وهو يهز رأسه يأسا، قبل أن يقول بهدوء
(ما الذي يثير لهفتك، أسألي و انا أجيب)
قالت أمه بلهفة و هي تتشبث بكفه كي لا يهرب منها
(ما رأيك في العروس؟، هل واقفت عليها؟)
ضحك أمجد بخفوت، ثم قال بجدية و اتزان.

(أتعلمين أنكما أنت و ابنة أختك المصون قد وضعتماني في موقف لا أحسد عليه، بالله عليك يا أمي كيف وافقت على هذا الامر و اخفيته عني؟، كنت تعلمين أن مسك تعمل معي في نفس الشركة، اليس كذلك؟)
ظهرت معالم الشعور بالذنب على وجه والدته الطفولي السمين، و قالت بتردد.

(نعم، أعرف، لكن ظننا أنه لو تم الأمر بالصدفة، فسيجعلك هذا تراها بعين مختلفة، وفاء تكاد تطير بهذه الشابة تحديدا، تحكي عنها اشعارا، في جمالها و أخلاقها)
زفر أمجد بضيق و هو يسمع كلام أمه البريء، لكنه فضل تأجيل رأيه الى أن يستدرجها في الكلام، فقال بصرامة
(أما ابنة أختك تلك فلها معي حساب آخر، كيف سأحافظ على هيبتي أمام موظفة معي في العمل بعد ما حدث؟)
شدت أمه على كفه و هي تهتف مترجية.

(بالله عليك يا امجد يا ولدي لا تعنف المسكينة وفاء، فلديها ما يكفيها من عناء مع مرض طفلتها و ذلك هو السبب الرئيسي في تمسكها بالعروس، لأنها ساعدتها و قدمت لها توصية في علاج طفلتها)
عقد أمجد حاجبيه قليلا ثم قال
(و هل من تقدم خدمة لوفاء ترشحها كعروس لي؟، الهذه الدرجة أصبحت يائسا في الاختيار؟، انا لا زال وسيما، رياضيا، خلاب الإبتسامة، و لدي سيارة تفرح القلب)
ضحكت أمه و هي تقول.

(أنت زين الشباب يا حبيبي و اكثر، و هل هناك من يماثلك؟، الآن توقف عن مدح نفسك فأنت تعيش معي أكثر من ستة و ثلاثين عاما و قد سئمت منك بصراحة، كلمنى عن العروس، ما رأيك بها، و هل تعرف عائلتها؟)
تنهد أمجد وهو يقول
(عائلتها معروفة و والدها من المؤسسين المشاركين في الشركة)
ابتسمت والدته و هي تقول
(ممتاز، و هل هم أناس محترمين؟)
قال أمجد مستسلما.

(لا يوجد تعامل شخصي بيني و بين والدها، الا أنني لم أسمع عنه ما يشين)
قالت أمه مستبشرة
(عظيم، عظيم، الآن كلمني عنها هي، اوصفها لي)
ضحك أمجد بخفوت ثم قال يعاملها كما يعامل طفلته...
(حسنا أبتعدي قليلا كي أستلقي بجوارك)
ابتعدت امه بلهفة، فتراجع الى ان استلقى نصف جالسا بجوارها، واضعا ذراعه تحت رأسه وهو يحدق في السقف قائلا بلهجة لطيفة زائفة وهو يمثل الدور.

(من أين نبدأ؟، أولا هي شديدة الغرور، وفظة اللسان الى حد لا يطاق)
عبست أمه بشدة و خيبة الأمل ترتسم على وجهها، لكنها ضربته على ظاهر يده و هي تقول
(حسنا، حسنا، لنتغاضى عن الجانب المعنوي حاليا، صف لي شكلها، كيف تبدو؟، هل هي جميلة؟)
شرد أمجد قليلا و قال متنازلا
(لا بأس بها، مقبولة)
عقدت أمه حاجبيها و قالت
(فقط مقبولة؟، وفاء تقول أنها جميلة جدا)
قال أمجد مستاءا ناظرا الى أمه بطرف عينيه.

(من سيتزوجها؟، انا أم وفاء؟)
قالت أمه موافقة، بأسف
(نعم معك حق، أنت من يجب أن تكون راضيا عن شكلها، إنها المرأة التي ستعيش معك العمر كله)
قال أمجد موافقا
(نعم، يجب أن تكون ذات جودة عالية و شديدة التحمل، و غير قابلة للكسر)
عبست أمه و قالت فجأة
(أنت تسخر مني يا ولد)
ضحك أمجد وهو يضغط بين عينيه باصبعيه، ثم قال بعفوية
(لا أعلم ماذا أقول بصراحة)
قالت أمه بصرامة.

(لا تدعي البراءة أمامي و كأنك لا تنظر الى فتيات مطلقا، هل تتذكر المرة التي قبضت فيها عليك و أنت تغازل ابنة الجيران قبل أن أفقد بصري؟)
نظر امجد اليها و قال مدافعا
(حدث ذلك منذ خمسة عشر عاما يا أمي!)
قالت أمه ببراءة
(المهم أنك تمتلك الخبرة في تقييم جمال الفتيات، الآن صف لي العروس، ما هو شكل شعرها؟)
قال أمجد غاضبا
(لقد أمسكته و تحسسته يا أمي و قلت أنه مثل الحرير)
قالت أمه لهفة
(ما لونه؟).

شرد أمجد بعينيه قليلا وهو يقول كأنه يكلم نفسه
(أسود براق كجناح الغراب)
قالت أمه متفهمة و هي تومىء برأسها...
(نعم كان هناك غرابا يهاجم الأطفال و يأكل من أواني الزبادي الفخارية التي نضعها في الشمس في بيتنا القديم، قامت ام محمد باصطياده ذات يوم، ريشه شديد السواد و لامع فعلا)
نظر اليها أمجد و قال
(صورة بديعة يا أمي و مناسبة تماما، نشكر لك المداخلة)
قالت أمه تسأله باهتمام...
(و ماذا عن عينيها؟).

نظر أمجد الى السقف و كأنه في حاجة الى تذكر لون عينيها، فقال بلامبالاة...
(اممممم، عينيها بلون العنبر)
ابتسمت أمه و قالت تتخيل منظر العروس بسعادة
(عينيها عنبر و عطرها مسك، الفتاة قصيدة في حد ذاتها و تخبرني أنها مقبولة؟)
نظر اليها أمجد بطرفي عينيه ثم زفر بضيق وهو يقول
(اصبحت ماكرة يا ام أمجد و المكر لا يليق بك)
ضحكت أمه و قالت ببرائتها المعهودة
(والله الكلام كلامك و ليس كلامي).

شرد أمجد بتفكيره قليلا قبل أن يقول
(هناك ما لا تعرفينه يا أمي، العروس كانت مخطوبة من قبل الى ابن عمها، لكن لم يكتمل النصيب بينهما)
قال هذا على امل ان تكون حجة كي تتراجع أمه عن لهفتها على مسك، الا أنه فوجىء بأمه تقول بخفوت بعد توترها للوهلة الأولى...

(والله يا ابني، صحيح أنني لا أبصر، الا أن الوقت القصير الذي قضيته مع الفتاة و رغم فظاظتها الا أن طباعها أخبرتني كم هي حازمة، و تبدو غير متساهلة، و لو أنها من أسرة محترمة فلا أظن أن موضوع الخطبة السابقة يؤثر عليها بشيء، لا أظنها من النوع المتساهل مع خطيبها ابدا)
عقد أمجد حاجبيه وهو يشعر بالحوار قد اتخذ منحنى خطر، فقال بشرود
(ربما، لا أعلم الكثير عن خطبتها على أي حال)
قالت أمه متلهفة.

(حسنا، لنكمل كلامنا، ماذا عن قوامها؟، كيف يبدو؟)
انتفض أمجد واقفا وهو يقول بحزم
(تصبحين على خير يا أمي)
ارتفع حاجباها و هي تقول بتحسر
(لكن يا أمجد، لم نكمل كلامنا!، انتظر قليلا)
الا انه كان قد وصل الى الباب وهو يقول بحزم اكبر
(تصبحين على خير يا امي، أراك صباحا)
أغلق الباب خلفه، ليتنهد بضيق، ممسكا بمقبض الباب وهو يطرق برأسه قليلا، مفكرا
لقد تعشمت أمه أكثر من اللازم، و هذا غير سليم أبدا،.

كان قد قرر أن ينهي الأمر بأكبر قدر يستطيعه من الأدب...
الا أنه لم يقرر أبدا أن يجلس خلف مكتبه يتأملها بهذه الدقة!
حسنا هو رجل و هي تبدو جاذبة للنظر بشكل يفقده التركيز، أما طباعها المغرورة فتفقده أعصابه...
اليوم حين نظر اليها صباحا ما أن وصلت الى العمل. وجدها قد عادت مجددا الى الشخصية المتعجرفة التي تعامل الجميع من فوق أنفها الكلاسيكي...
حتى أنها حيته بمجرد ايماءة باردة و ابتعدت...

قليلة الذوق، و عديمة الأدب...
لكن قليلة الذوق كانت ملفتة للنظر اكثر من اللازم...
علي الرغم من احتشام ملابسها التي لا تظهر منها شيئا، الا ان شعرها ملفت، و اصابعها الرفيعة ملفتة للنظر جدا!
هل تدرك ذلك لهذا تتعمد التلاعب بالقلم كثيرا؟
تأفف أمجد بصوت عال وهو يكتشف مسار أفكاره منذ أن دخلت الى مكتبه في اجتماع مصغر يشمل كليهما فقط.
سمعت مسك تأففه فرفعت وجهها تنظر اليه متسائلة...

الا أنها ارتبكت قليلا و هي تراه متراجعا في مقعده ينظر اليها بتركيز دون أن يظهر شيئا على ملامحه...
اخفضت وجهها قليلا. قبل أن تقول مرجعة خصلة من شعرها الحريري الأسود الى خلف اذنها...
(أعتقد أننا قد انتهينا من اجتماعنا اليوم، و على ما يبدو أنك أكثر من متلهف لإنهاءه)
رد أمجد بهدوء متباطىء دون عجل
(لو كنت متلهفا لإنهاءه لطلبت منك المغادرة)
اتسعت عيناها و هي تنظر اليه بذهول الا أنه تابع ملطفا طريقة حواره...

(بكل تهذيب)
ابتسمت مسك بامتعاض و هي تقول ببرود
(نعم، هذا يشكل فارقا بالفعل)
نهضت من مكانها و هي تلملم أوراقها، قائلة بهدوء دون أن تنظر اليه
(سأنصرف الآن، شكرا لوقتك)
تحركت خطوتين، الا أنه قال بهدوء
(مسك)
استدارت تنظر اليه بتساؤل، متغاضية عن نطقه اسمها مجردا، فقد ملت من محاربة ذلك الجلف عديم الذوق...
أشار أمجد الى الكرسي الذي غادرته مجددا وهو يقول بهدوء
(اجلسي رجاءا، هناك ما أريد أن أحدثك بشأنه).

ارتفع حاجبها الرفيع المستفز، فزفر أمجد وهو يحاول السيطرة على كل ما يستفزه فيها...
حتى حاجبها مستفزا...
الا أنها جلست بهدوء واضعة ساقا فوق أخرى بوقاحة منتظرة أن يتكلم...
طرق أمجد على سطح المكتب قليلا بشرود قبل أن يرفع وجهه اليها قائلا بتهذيب
(بداية أريد الإعتذار لك عن مقابلة الأمس، أدرك أن الوضع كان و لا يزال شديد الإحراج بالنسبة لكلينا، لكن)
رفعت مسك يدها توقفه عن المتابعة و قالت بترفع.

(لا داعي للإعتذار، صحيح أنني لم أمر بتلك المواقف من قبل الا أنني أعرف جيدا الجملة التي تقال في مثلها، كل شيء قسمة و نصيب، و من المؤكد أنك لو تعرف بأنني أنا العروس المقصودة لما أتيت)
ارتبك أمجد قليلا و قال بخفوت
(لم أقصد أن أوصل هذا الإنطباع اليك)
قالت مسك بكبرياء و أنفة
(الا أنه وصلني، لذا أقدر لك اعتذارك عن عدم اعجاب سيادتك بي و رفضك لي كعروس محتملة، هلا أبقينا علاقتنا عملية من فضلك).

نظر اليها أمجد ليجد نفسه يقول فجأة
(لم أقل أنني رفضتك!)
ساد صمت غريب بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر مجفلا، قبل أن تقول مسك عاقدة حاجبيها
(عفوا!، لم أفهم!)
وهو أيضا لم يفهم ما نطق به للتو!، ما هذا الغباء الذي يحدث هنا!
لكنه تكلم و انتهى الأمر، لذا عليه إنهاءه بأكبر قدر من الصراحة، فقال بهدوء
(ما قصدته أن تلك الأمور من المستحيل أن يتم تقريرها في مقابلة واحدة).

كانت مسك تراقبه بعينيه ضيقتين و شفتين مفتوحتين قليلا، و حاجبين منعقدين، ووجه مائل...
و هي الملامح المثالية لشخص يحاول أن يستوعب، ولو كان في وضع آخر لكان ضحك على منظرها الجديد...
قالت مسك أخيرا...
(عفوا لم أفهم، هل تطلب مني مقابلة أخرى كي تتخذ قرارا؟)
حسنا انه ينزلق دون ارادته، و لا يعرف كيف يتصرف، الا أن شيئا لم يظهر على وجهه البارد وهو يقول بهدوء
(أفضل عبارة للتعارف أكثر، في حضور والدك طبعا).

حسنا لقد ازدادت زاوية فتحة فمها الآن و هي تهمس مكررة
(والدي!)
ارتفع حاجبي أمجد قليلا وهو يقول
(أكيد)
ظلت مسك على نفس الملامح حتى ابتسم رغم عنه...
قالت مسك أخيرا بهدوء بعد أن استجمعت ادراكها...
(حسنا الأمر معقدا جدا، والدي لا يمكن أن)
قاطعها طرق على باب غرفة أمجد، قبل أن يدخل فرد أمن مستئذنا وهو يقول
(عذرا سيد أمجد، السيد أشرف زوج السيدة غدير، سأل عن مكان الآنسة مسك و يريدها في أمر هام لا يحتمل التأجيل).

ساد صمت غريب في الغرفة و أمجد ينظر الى مسك التي بدا و كأنها أجفلت، عاقدة حاجبيها...
قال أمجد أخيرا بصوت لا يحمل أي تعبير
(دعه يدخل بالطبع)
ابتعد فرد الأمن عن الباب و دخل أشرف و عينيه على مسك التي نهضت واقفة لتقول بصلابة
(ما الأمر يا أشرف؟، لماذا أتيت الى هنا؟)
أومأ أشرف الى أمجد معتذرا قبل أن يتجه الى مسك حتى وقف أمامها و كان شكله غريبا جدا، عيناه غائرتين ووجهه شاحب ثم قال بخفوت.

(لماذا لا تردين على هاتفك؟، اتصلت بك عشرات المرات)
عقدت حاجبيها وشعرت بالخطر تلقائيا، لكنها أجابت همسا
(أنا أطفىء الصوت حين أكون في اجتماع، ماذا حدث؟)
دون مقدمات مد أشرف يديه ليمسك بيدي مسك أمام عيني أمجد اللتين ضاقتا بعنف مفاجىء...
لكن أشرف لم يلاحظه وهو يقول بخفوت
(يجب أن أصطحبك الى البلد على الفور، لقد حجزت لنا في أقرب طائرة)
شعرت مسك بالخوف و همست بتداعي
(لماذا؟)
تنهد أشرف وهو يضغط كفيها قائلا بخفوت.

(البقاء لله، ابن عمك سليم توفي. )
فغرت مسك شفتيها و شحب وجهها بشدة، قبل أن تتراجع للخلف و توشك على السقوط...
نهض أمجد من مقعده مسرعا، الا أنه تسمر مكانه حين سبقه أشرف وهو يمسك بمسك و يسندها اليه قبل أن يجلسها على الكرسي و يجثو أمامها، قائلا بقلق
(مسك، هل أنت بخير؟، ردي علي)
نظرت اليه مسك بعدم استيعاب و همست مذهولة
(سليم مات؟، كيف؟، لقد، رأيته منذ اسبوع، شابا وافر الصحة، كيف مات؟).

هز أشرف رأسه وهو يقول بخفوت متألم
(لا أملك أي تفاصيل، لقد هاتفني والدك و طلب مني اصطحابك للبلد كان منشغلا باجراءات الدفن و غيرها، ما فهمته أن الامر تعقد، و طال، لكن لا أعلم لماذا)
همست مسك بارتياع و هي ترفع يدها الى صدرها و كأنها تحادث نفسها
(دفن، دفن، )
ضغط أشرف كفيها معا وهو يقول بقلق
(مسك، هل أنت بخير؟، خذي نفسا عميقا)
أخذت نفسا عميقا مرتجفا، قبل أن تنظر حولها قائلة بخفوت.

(سوار، يجب أن أكون معها الآن)
نهض أشرف و انهضها معه، وهو يقول
(هيا بنا)
تحركت و هي تترنح محاولة أن تصلب نفسها بمعجزة، لكن قبل أن تخرج ناداها أمجد قائلا
(مسك)
التفتت مسك تنظر اليه بعينين زائغتين، فعقد حاجبيه وهو يقول بخفوت
(البقاء لله)
فتحت فمها لترد، الا انها بدت كمن تهز رأسها نفيا غير مستوعبة بعد، فأومأ برأسه هامسا
(لا بأس، لا تتكلمي الآن)
أطرقت مسك بوجهها بينما سمحت لأشرف أن يسحبها برفق خارج المكتب...

أما امجد فقد، جلس مكانه و بداخله شعور، مستاء، غير متعاطف عكس المطلوب...
في الممر خارجا، تسمرت مكانها و هي ترى المنظر أمامها...
كان زوجها أشرف يسير مع مسك ممسكا بكفها!، و مسك تبدو متقبلة لما يحدث تماما...
لم تدري بنفسها الا و هي تجري اليه هاتفة بقوة و غضب
(أشرف، أشرف)
توقف مكانه و التفت اليها دون أن يترك مسك، فقال بهدوء
(ليس الآن يا غدير رجاءا، نحن مسافران الى البلد و قد تأخرنا على موعد الطائرة).

نقلت غدير عينيها بينهما بذهول لم يلبث أن تحول الى غضب عارم و هي تهمس من بين أسنانها بشراسة
(أشرف، هل تمازحني؟)
زفر أشرف بقوة وهو يقول باستياء
(ابن عمنا توفي يا غدير، و يجب أن نلحق بالعزاء في أسرع وقت، اذهبي الى البيت اليوم بمفردك و سأهاتفك ما أن أستطيع)
لكن ما أن تحرك يجذب مسك معه برفق...
حتى استعادت غدير وعيها بسرعة و هتفت تدافع عن حقها
(سآتي معكما، أنا زوجتك و يجب أن أكون بجوارك).

نظر اليها أشرف نظرة محذرة وهو يقول دون أي تردد
(مستحيل، تعرفين جيدا أن وجودك هناك غير مقبول، انتظريني هنا رجاءا لقد تأخرنا بالفعل)
و أمام عينيها المذهولتين العاصفتين، انصرفا...
تراجعت غدير مترنحة و هي تستند بظهرها الى الجدار من خلفها، عيناها جامدتين و صدرها يتنفس نفسا، هادرا، و لسانها يهمس
عدت بكل قوتك يا مسك، حسنا لنرى،
جالسة مكانها تنظر الى النساء المتشحات بالسواد يجلسن في دائرة ضخمة...

ينحن بلحن رتيب، ما بين العويل و النواح...
و ما بينها صراخ منغم...
كانت تلك عاداتهم...
النوح الملحن، بصوت كئيب، دون تعبير، دون ألم كالذي يمزق صدرها...
جلست سوار مكانها رافعة وجهها...
عيناها حمراوان بلون الدم، مبللتين قليلا، لكنها لم تكن تبكي!
بل كانت ملامحها قوية، و قبضتيها منقبضتين على ذراعي المقعد بقوة...
ترتدي السواد الا ان وشاح رأسها كان أبيض...

تراقب الجميع بنفس النظرات الهادرة القوية، دون بكاء، لا تقبل بالإنهيار...
نظراتها غريبة و شديدة البأس...
الوحيدة التي كانت خائفة عليها هي تيماء...
كانت تجلس بجوارها تراقبها بقلق، بعينين دامعتين...
تمسك بذراعها كي تمدها بالقوة، على الرغم من ان منظر سوار يا يظهرها تحتاج الى قوة...
هي نفسها تبدو ككتلة من القوة، و هذا ما كان يخيفها عليها...
ترى هل تعاني من صدمة متأخرة؟
لماذا لا تبكي؟، لا تصرخ؟

أما ذلك النواح الملحن فكاد أن يدمر أعصابها، لذا لم تشعر بنفسها الا و هي تترك ذراع سوار و تنهض صارخة فجأة
(كفى، كفى)
ساد صمت مريع للحظة، قبل أن تتعالى الشهقات المستنكرة من حولها...
الا أن تيماء لم تهتم، بل دارت حول نفسها و هي تصرخ بعنف
(ما يحدث هنا يعد حراما، كفى نواحا بهذا الرتم العقيم، اقرأن في المصاحف و أدعين له لكن توقفن عن هذا العويل، الا ترين أن زوجته على وشك الإنهيار؟).

تعالت الشهقات المستنكرة أكثر و أكثر...
بينما بقت سوار مكانها تنظر الى تيماء بصمت، دون أن تصدر صوتا أو تنطق بكلمة...
حين سكتت تيماء بيأس، بدأت النساء في النواح مجددا...
فأغمضت عينيها و هي تهز رأسها بتعب و أعصاب على وشك الإنهيار...
الى أن قصف صوت سوار فجأة
(كفى)
كان صوتها أمرا، و كلمتها سيفا...
فلزم الجميع الصمت دون أن تتجرأ احداهن على اصدار شهقة استنكار واحدة...

سارعت تيماء تجلس بجوارها و هي تمسك بذراعها مجددا لتهمس بلهفة
(هل أنت بخير يا سوار؟)
التفتت سوار تنظر اليها بصمت قبل أن تقول بصوت صلب قاتم
(أنا بخير)
قالت تيماء بخفوت و ترجي
(ابكي أرجوك كي أطمئن عليك)
نظرت سوار اليها بصمت، قبل أن تقول بخفوت جامد، قوي
(لم يحن أوان البكاء بعد يا تيماء)
عقدت تيماء حاجبيها و همست
(لست أفهم)
لم ترد سوار على الفور، بل نهضت من مكانها و هي تقول.

(ابقي هنا قليلا يا تيماء، أحتاج الى الخروج قليلا)
راقبتها تيماء و هي تخرج رافعة رأسها، بينما نفسها يرتجف و هي تنظر حولها بألم...

(سوار)
توقفت مكانها دون حراك و هي تسمع ذلك الصوت من خلفها...
فقال وهو يقترب منها
(انظري إلى رجاءا)
بقت سوار مكانها متسمرة لا تتحرك، قبل أن تستدير ببطىء كي تنظر اليه، تواجه عينيه...
لم تغطي وجهها هذه المرة، بل وقفت مكانها بملامحها مكشوفة لعينيه المتشربتين لملامحها دون تحفظ...
تكلم راجح قائلا أخيرا بصوت غريب
(لماذا تنظرين إلى بتلك الطريقة؟، ماذا تقصدين من نظرتك هذه؟، اياك أن تظني بأنني).

تحركت عيناها على ملامح وجهه، تلك الملامح الوسيمة بشدة، لكنها وسامة فجة، و عيناه أكثر فجاجة...
كتفت سوار ذراعيها متلحفة بالشال حول كتفيها و هي تصعد بعينيها ببطىء الى عينيه، و استقرتا عليهما...
ثم قالت أخيرا بصوت غريب، قوي
(أتمنى، أتمنى أن تخيب ظنوني، لأن ثأري لن يخيب).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة