قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والعشرون

انتفضت تيماء مجفلة من ذكرياتها البعيدة، العنيفة...
علي صوت مسك تقول من خلفها بهدوء
(ناديتك مرتين و لم تسمعي، أين أنت؟)
استدارت تيماء اليها، على ساقين من الاسفنج الرخو، تنظر اليها بعينين زائغتين...
قبل أن تقول بخفوت باهت
(أنا هنا، لم أذهب لمكان)
مدت مسك ذقنها لترى قاصي مبتعدا، فأعادت عينيها الى عيني تيماء و قالت بادراك.

(واضح أنك هنا، المهم، لقد تدبرت أمر الحجز في القطار معي، للأسف لم أستطع حجز تذكرة طائرة، ستكون رحلة طويلة و شاقة)
أومأت تيماء برأسها دون حماس، ثم قالت بشرود
(لقد أتيت في القطار، لا بأس، اعتدت الرحلات الشاقة)
استفاقت من شرودها لتنظر الى عيني مسك قائلة برجاء
(أنا معتادة على السفر وهو ليس مشكلة، المشكلة هي اخراجي من هنا، من هذا الدار دون مواجهة جدي)
هزت مسك كتفها و قالت بفتور.

(سأحاول، طالما أنت جبانة و أنانية)
عبست تيماء بشدة، الا أنها أمسكت لسانها عن اللفظ الفظ الذي كانت تنوي الهتاف به، فهي حاليا أشد ضعفا من أن تفعل...
لذا عادت و استدارت مستندة الى حاجز الشرفة، تنظر الى ظله...

لا يعلم لماذا قادته ساقاه الى هنا...
كان هذا آخر مكان ينشده لو كان يطلب الحياة...
لكن جسده في هذه اللحظة بدا منفصلا عن أوامر عقله، لذا أخذ يسير بلا هدى، بينما ساقاه تحفظان الطريق جيدا...
الى أن وصلى الى حدائق الدار، حيث زرائب المواشي...
كانت متعددة و ذات خانات خشبية، لا يميز بعضها عن بعض شيئا...

و مع ذلك وقف للحظة عن بعد و عيناه تبحثان بصمت دموي الى أن وجد رجلين ضخمي الجثة، يقفان ممسكين بالسلاح أمام إحدى الخانات...
حينها اشتعلت عيناه أكثر بلون الدم الأسود، و عاد ليسير اليها ببطىء، و عيناه لا تحديان عن وجهتهما...
الى أن وصل ووقف أمام الرجلين، يتنفس بصوت متشنج قبل أن يقول بصوت آمر سلطوي...
(أتركانا لدقائق)
نظر الرجلين الى بعضهما بتوتر و قلق و هما يتململان، الا أن قاصي هدر بقوة.

(الآن، هذه أوامر الحاج سليمان)
ابتعدا الرجلين لكن ليس الى مكان بعيد، بل وقفا على بعد يجعلهما غير قادرين على سماع ما ينتوي قاصي قوله...
أما هو فقد وقف أمام الباب الخشبي، ينظر اليه بصمت طويل، قبل أن يقترب أكثر ثم استدار و جلس أرضا مستندا بظهره الى الباب الخشبي...
رافعا ركبتيه، مستندا بمرفقيه اليهما بإهمال وهو ينظر الى السماء الممتدة من بعيد، و قد حلقت بها طيور العمل الصباحية...

ذقنه غير حليقة، عيناه حمراوين بلون الدم، اما عمقهما فأسود بلا قرار...
رفع قاصي قبضته للخلف فجأة يضرب على الباب الخشبي بعنف وملامحه مشتدة عنيفة...
و أسنانه تصطكان بوحشية و شراسة...
ضرباته القوية جعلت البهائم تتحرك و تصدر اصواتا خافتة متململة...
الا أن صوتا واحدا التقطته أذناه بدقة متناهية...
صوت مجفل، شائخا، مثير للشفقة المهينة، وهو يقول بتعب
(من، ماذا؟).

التقطت اذنا قاصي المرهفتين، السؤال المجفل الغير واعي، لرجل كبير السن، مقيدا الى أحد الأعمدة في الداخل، مرتميا أرضا كقاصي تماما، و يفضل بينهما الحاجز الخشبي...
قال قاصي بصوت عالي ساخر رغم قتامته و عيناه تنظران الى البعيد بسعير لا يهدأ
(هل فقدت قدرتك على تمييز الصوت من ليلة واحدة في الزريبة؟، لا لا، تشجع يا رجل لا تزال في بداية الطريق، أبحث داخلك عن موروثات الرافعية التي تتميز بالقدرة على التحمل).

لم يرد عليه الصوت، فابتسم قاصي وهو يتلاعب بأصابعه قائلا...
(كيف مضت ليلتك؟، أتمنى أن تكون قد نمت مرتاحا)
ساد الصمت مجددا، لكن قاصي لم يتحمله، فصرخ عاليا بعنف مما جعل الرجلين ينظران إلى من بعيد بدهشة و تحفز...
(عمرااااااان الرافعي، هل فقدت سمعك؟)
صمت، صمت، الا أنه لم يطول هذه المرة، بل صدر صوت خشن مجهد يقول
(و أنت؟، هل تنعم أنت بالراحة الآن؟)
كان الصوت واهنا. و كأنه طاعنا في السن أكثر من صوته جده...

لم يرد قاصي على الفور، بينما الكره في عينيه يزداد و يتقد، لكن السؤال ألزمه الصمت لفترة
هل تنعم بالراحة الآن؟، رد قاصي أخيرا بصوت حاد، باتر كالشفرة
(لن أنعم بالراحة و أنت لا تزال تتنفس من نسيم هذه الحياة)
ضحك عمران، كانت ضحكة مجهدة متعبة و كأن الحبال التي تقيده، تقيد حنجرته...
ثم قال بصوت متحشرج
(و ماذا سيعيد لك موتي؟، كرامتك أم رجولتك، أو ربما أمك!).

برقت عينا قاصي اكثر، و باتت قادرة على احراق الأراضي الممتدة أمامه بنظرة قاتلة واحدة...
الا أنه سأل بهدوء، بمنتدى الهدوء دون ان يتحرك من مكانه و كأنه تحول الى تمثال رخامي شارد
(بمناسبة الحديث عن الرجولة، بماذا شعرت و أنت تغتصبها؟ هل منحك صراخها الإحساس بملىء فراغ الرجولة الناقص؟، هل شعرت بالسلطة و التفوق و انت تخضعها دون حق؟)
ساد صمت غريب، قبل أن يقول صوت عمران الواهن، ساخرا قميئا.

(أنت تحسبها من النساء، اليس كذلك؟، تحسبها ممن تتأثر نفسيتهن و يحتجن الى طبيب ليعالج تشوه روحها المنتهكة، تحسبها امرأة تصرخ بحقوقها المهدرة المنتهكة، أمك لم تكن سوى شيء، كائن، جاهلة لا تفهم و لا تشعر، و ما أكثرهن، مجرد أعدادا مرقمة على سطح هذه الأرض دون هوية، و لا احد حتى سيذكرها غيرك...

إنها لم تبكي حتى، كانت فقط ملامح الغباء تعلو وجهها بعدم فهم لما يحدث، بينما أنت تظن أنها كانت منهارة نفسيا و تنعت تلك المغامرة الصغيرة باسم اغتصاب، صمت ليضحك وهو يسعل في آن واحد...
بينما تحولت عينا قاصي الى عيني وحش غير آدمي، عديمتي الرحمة...
أما أظافره فكانت تحفر في التراب جانبه، تحفران بعنف حتى نزف باطنها من الغبار و الحصوات، لكنه لم يشعر بالألم، و كأن النهايات العصبية قد ماتت و تجلطت...

أما روحه فكانت تنزف نارا، و ليس دما...
تلك النار السوداء التي لا تهدأ و لا تخمد...
قال قاصي أخيرا بصوت ميت...
(هل شعرت بشيء حين سمحت أنها ذبحت كالخراف؟، شيء، اي شيء؟، هل اشفقت عليها كما تشفق على قطة دهستها سيارة على طريق سريع؟)
ساد صمت قاتل، قبل أن يرد عمران بصوت واهن حقود شديد الغل
(لا أتذكرها أصلا)
لم يتحرك قاصي من مكانه، بل ظل جالسا أرضا، ينظر مع الفضاء البعيد و كأنه توحد معه دون روح...

ثم قال أخيرا بنفس الصوت الميت
(و كيف كنت تراني.؟، كلما كبرت عاما، هل كنت تشعر بدناءة فعلتك تسير على الأرض و تتمنى لو تخلصت منها، أم ربما كنت تشعر بالخوف من يوم أعود به لأنال منك؟)
تحشرجت أنفاس عمران وهو يقول كارها.

(ها أنت تمنح نفسك قيمة أكبر مما تستحق، كما أعطيت أمك، أنت تطري نفسك يا ولد، أنت لست سوى ابن زنا، لا قيمة لك و ما اكثركم، خوفي كان من سالم، و انا اعلم انه يربي أفعى تحت ذراعه كي يستغلني بها، إنها الأرض بينه و بيني، كان ينتوي استغلال انتقامك يوما، لكنه لم يعلم أن الأفعى تلدغ من رباها اولا، و انت عضتت اليد التي امتدت له في ابنته، أم تراك تظنني لا أعلم ما فعلته معها دون علم والدها؟، نلت من شرفها، اليس كذلك؟، هل كنت تريد اجباره على يزوجها لك بهذه الطريقة؟).

صمت وهو يضحك بنفس الوهن اللزج...
بينما نهض قاصي من مكانه ببطىء، و عيناه لا تفصحان في وحشيتهما عن شيء...
مجرد حيوان ضاري ينظر أمامه بلا ابصار...
و دون مقدمات استدار ليركل البوابة الخشبية بعنف، مرة و اثنتين و ثلاث...
وهو يصرخ عاليا بصوت أفزع الطيور المحلقة من حوله...
انطلق الرجلين يجريان اليه من خلفه يحاولان الامساك به، الا انه لكم احدهم دون تمييز و تابع ركل الباب بقوة حتى خلع القفل و انفتحت البوابة...

حينها ركلها بقدمه ليندفع هاجما وهو يبحث بعينيه المتوحشتين، الى ان وجده مرميا أرضا.
مقيدا الى احد الأعمده، يعلوه الغبار و تفوح منه رائحة المواشي...
كان يبدو أكبر في السن، و كريها لدرجة تشبه الضباع...
حينها لم يفكر قاصي مرتين قبل أن يندفع اليه و يركله في جانبه بقدمه...
صرخ عمران متألما بقوة، بينما انحنى قاصي اليه ليقبض على أعلى قميصه حتى أصبح وجهه على بعد شعرات من وجه عمران المذعور المتأوه...

بيما كانت ملامح قا صي مخيفة، تدب الرعب في قلب من ينظر اليه في تلك اللحظة و هو يهمس
(اياك و النطق بكلمة في عرض تيماء، إنها أشرف من أمثالك، و إن كنت لم أستطع الدفاع عن شرف أمي، فسوف أدافع عنها هي حتى مماتي، أما أنت، أنت، بعد ان تخرج من هنا ذليلا مفلسا، سيكون لنا لقاء عندئذ)
كان الرجل الآخر قد وصل اليه وهو يهتف بقلق و رعب
(انه في حماية الحاج سليمان يا قاصي، اتركه، اتركه).

لم يحتاج قاصي الى أمر ثان، فقد نهض بمفرده لينظر الى عمران من علو وهو يلهث بعنف...
قبل أن يقول مجددا بصوت متوعد
(لنا لقاء يا عمران، و ستتمنى لو كنت قد نسفت رأسك ليلة امس رحمة بك)
و دون انتظار رد، ركل قاصي كومة التراب بجوار عمران...
فانتشر الغبار في أنفه و عينيه، مما جعله يسعل بعنف و ألم متأوها...
أما قاصي فوقف يراقبه للحظة، قبل أن يبصق عليه بقرف، و يغادر مندفعا، كي لا يفقد المزيد من سيطرته...

قادته قدماه المندفعتان بلا هدى الى الاسطبل...
كان كالأعمى في غضبه، و روحه هائجة بلا رحمة...
اخذ ينظر الى الخيول بجنون، الى ان استقر نظره على الفرس السوداء التي روضها بالأمس...
و دون تفكير، انطلق اليها ليخرجها من خانتها الخشبية قبل ان يعتليها برشاقة...

صهلت الفرس و ووقفت على ساقيها الخلفيتين، الا ان قاصي احكم الامساك بلجامها وأنزل اماميتيها أرضا قبل أن يضرب بطنها بقدمه، فاندفعت منطلقة تجري كالريح، خارج ابواب القصر كما فعل ليلة أمس
فخيول الرافعية دائما كانت متاحة له و كأنه يملكها...
كانت أكثر منهم اخلاصا، و أشد جمالا، و أنقى روحا...
كانت تيماء...
يراها في كل فرس يروضها، و يندم بعد ترويضها...

خرج قاصي جاريا كالمجنون محلقا على فرسه بين الأراضي الخضراء الواسعة...
و عيناه تقدحان شررا صامتا...
و كانت الفرس تقفز منه و تصهل عاليا، الا أنه يعاود السيطرة عليها بعنف...
الى ان فقد الزمام في لحظة، فرمته عن ظهرها بمنتهى القوة، لدرجة ان تدحرج عدة مرات...
حتى استلقى على ظهره متأوها بقوة...
كانت السماء من فوقه شديدة الوسع، و مع ذلك لم يشعر بها يوما ضيقة الى هذا الحد...

انسانة واحدة هي التي كانت قادرة على ابعاد الخيوط العنكبوتية عن صدره، دون حتى ان تعلم ما يمر به و يتشبث في صدره كوباء اسود...
انسانة وحيدة، و هي تيماء...
تلك الأرض الواسعة التي كان ينسى بها نفسه و اسمه و هويته، او انعدامها...
من يجرؤ لينتزعها منه الآن؟
من يجرؤ على انتزاع أرضه و داره الوحيد؟، بعد كل سنوات الإنتظار...
والله ابدا...
إن كان عليه أن يكون أنانيا ليحيا، فسيكون...

نهض قاصي من مكانه متأوها، يعرج قليلا، وهو ينظر حوله لاهثا، متعبا...
يشعر بألم في صدره...
و طال به السير دون أن توقف على الرغم من تعبه، الى أن وجدها تقف هناك وحيدة، بالقرب من نخلة وحيدة...
وقف قاصي مكانه ينظر اليها و يتأمل جمالها الخلاب...
مرفوعة الرأس بكبرياء و أناقة، فابتسم بألم، ليهمس و يده على صدره المتألم
(كم أنت جميلة!، و كم تشبهينها!).

اقترب قاصي من الفرس السوداء على مهل، دون أن تجفل أو تهرب، فعقد حاجبيه وهو يراقب هدوئها الغريب
الى ان وصل اليها، و بنظرة واحدة، علم أنها جرحت ساقها...
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقترب منها غاضبا، ثم مد يده ليتلمس أعلى أنفها بين عينيها وهو يقول بصوت نادم خشن، حنون
(لقد آذيت نفسك بسببي، ما كان على اختيارك)
نفرت الفرس قليلا مبتعدة متألمة، الا أنه جذب لجامها برفق حتى وضع جبهته بين عينيها و أغمض عينيه.

حتى استكانت تماما بتلك الصلة الغريبة بينها و بين مروضها، فهمس بخفوت شارد و كأنه يحدث شخصا غير موجود...
(أنا آسف، والله أنا آسف، ما كان على اختيارك).

نهض ليث من مكانه بجوار زوجته وهو يراها قد راحت في سبات عميق...
بعد أن بقى يراقبها طويلا بصمت...
علي الرغم من كل مساوئها و آثامها، الا أنه يشعر بتأنيب ضمير كبير تجاهها، لم يستطع يوما أن يحبها، أو حتى أن يروض مشاعر الإعجاب لديه ولو قليلا...
و كان هذا يزيد من كرهه لنفسه، و يجعله على عكس المتوقع يتحملها مرة بعد مرة...
و كأنه يعاقب نفسه بعيوبها...

شعر فجأة أنه بحاجة لأن يبتعد عنها، يحتاج أن يكون وحيدا في تلك اللحظة...
فنهض مرتديا ملابسه، متجها الى حمام غرفته ليقف تحت سيلا من الماء البارد المثلج مغلقا عينيه طويلا، طويلا...
كم تمنى لو يشعر بشيء من الراحة بين أحضانها، حينها كان ليكتفي بها قلبا و روحا...
كان ليضمها اليه دائما و أبدا...
لكن شيئا ما كان يجعله أقرب للنفور منها...
هذا الشيء لم يكن وليد اللحظة، بل هو شعور متنامي على مر السنوات...

و بعد أن عرف بامر السحر الأسود الذي تقوم به بمساعدة شيوخ الدجل، أرجع الأمر اليه...
الأمر تخطى معها مجرد أعمالا من الشعوذة...
بل اكتشف أنها اتجهت الى السحر و القراءات السوداء، كانت علما من المفترض أنه مدروسا...
حينها ذهل من قدرتها على احتضان الشر تجاه البشر الى هذه الدرجة...
علي ما يبدو أنها كانت فاشلة...
فسحرها الأسود، لم يجمع بين قلبيهما، لم يجعلها ملكة الحسن في عينيه...

لم يدمر حياة شقيقته التي كانت ضحيتها دائما...
و لم يمنحها أطفالا...
دون اي سبب طبي معروف...
نعم يشفق عليها، فهي أحيانا تبدو كالمجنونة بسبب تأخر انجابها على الرغم أن من هن في مثل عمرها، قد التحق أطفالهن بالمدارس، أما هو فقد اعتبرها نعمة من الله...
أي أم تلك تستطيع تربية طفل و هي تمارس السحر الاسود!
لقد فكر في طلاقها أكثر من مرة، و كل مرة كان يبدو مرتاحا للقرار أكثر من ذي قبل...

الا أنه يعود و يتراجع، غير قادرا على فعل ذلك بابنة عمه...
فهو يعلم جيدا وضع المراة المطلقة التي نشأت و تربت هنا...
علي عكسه هو، فهو كان دائم السفر و أكثر تحضرا، لم ينشأ هنا بمعنى الكلمة الحرفي...
لكن يظل سحر تلك الأرض يجذبه اليها...
سحرا خلابا، يختلف عن سحر زوجته الأسود...
تنهد ليث وهو يخرج من تحت الماء، ليلف نفسه بمنشفة سوداء وهو شارد الذهن، متعب القلب...
لم يكن مرآها اليوم بالشيء المناسب له أبدا...

هذا و كأنه قد رأى منها شيئا!
بلى، لقد رآى منها عينيها!
تأفف ليث وهو يرمي المقص الذي كان ينوي تهذيب لحيته به، و ظل مكانه ناظرا الى نفسه في المرآة طويلا قبل أن يقول بخفوت
(تبا لذلك يا ليث، لقد شاب جانبي شعرك و أنت لا تزال تفكر في غرام المراهقة!).

اتجه الى فراشه فارتمى عليه بحجمه الضخم مما جعل الأعمدة تهتز بقوة وهو ينظر الى السقف متأملا بملامح جامدة لمحات من الماضي، خانه عقله و قلبه ليرسمانها له في بضعة لحظات من الحرية...
و استنشاق عبير جمال حرم منه منذ زمن بعيد...
ضاقت عيناه و قال بصوت عميق
(من تخدع يا ليث!، ربما كانت هي مراهقة، لكن أنت كنت رجلا تقارب الثلاثين من عمرك، أي انه عشق مع سبق الإصرار و الترصد)
مرآها و هي تكبر أمامه عاما بعد عام...

لتتألق بصورة جعلت منها فخر العائلتين معا...
سوار العسل كما يحب أن يلقبها...
فارسة السلاح، و ليست فارسة الخيل...
كان دائما يرفض ان ركوبها الخيل، كان يغار عليها من نفسه...
كانت بهية الشكل، بشكل يثير الجنون...
كان دائم الغضب عليها، كثير الأوامر، و هي ذات روح نافرة ذات كبرياء خاص لا تقبل بالكثير من الأوامر، و مع ذلك كانت تطيعه...
كانت تمنحه مكانة اقرب الى العم أو حتى الأب...

وضع ليث ذراعيه تحت رأسه و ضاقت عيناه بألم و هو يهمس بخفوت
(لو كنت أعلم أنك ستضيعين مني بهذه السرعة لما أغضبتك أبدا، يا سوار العسل)
أغمض عينيه وهو يحاول جاهدا ابعاد صورتها عن مخيلته...
الا أن جمالها كان اكبر من أن يسمح له بذلك...
منذ صارت صبية وهو لم يرى منها سوى وجهها فقط...
و كان هذا اكثر من كاف كي يسقط صريع هواها، على الرغم من أنها تصغره بعشر سنوات كاملة...

نعم كانت فارسة، و من يستطيع أن يقاوم الوقوع بغرام فارسة!
أظلمت عيناه بحزن دفين، و همس وهو يبتسم باستياء
(بالله عليك يا ليث، لو علم من حولك أنك تمتلك قلبا عاشقا لم يخسر حبه منذ عشر سنوات كاملة لفقدوا احترامهم لك)
بهتت ابتسامته حتى اختفت تماما...
لقد طالت به الليالي التي كان يدعو فيها الله أن يخلص قلبه من ذلك العشق القوي...
لكن الله لم يأذن بعد، و تظل سوار تحتل أحلامه نوما و يقظة...

فإن كان يسيطر على أحلام اليقظة بكل قوته، فأحلام المنام كانت تخونه...
و تظهر له سوار بديعة الحسن و الدلال، بشعر يطير من حولها و عباءة من الحرير تجعل منها أميرة...
و يدها دائما كانت ممتدة اليه، بكل الاحلام، بينما الإبتسامة تزين ثغرها و تزيدها بهاءا...
أغمض عينيه بألم...
عيناها اليوم كانتا تبتسمان، كانت سعيدة راضية...
و عليه أن يكون سعيدا من أجلها...

لو كان أحبها فعلا بصدق يوما ما، عليه أن يكون سعيدا من أجلها...
لكن ضعفه البشري كان يجعل من ألمه. جرحا محرقا، مزعجا خلال السنوات الطويلة...
كان يعلم علم اليقين أنها لم تحب سليم يوما...
كان بالنسبة لها مجرد أخ، وسليم كذلك لم يفكر بها كحبيبة أبدا، كان يراها كأخته الصغرى...
و هذا هو ما كان يخادع به نفسه...
لكن اي رجل يظل ينظر الى سوار كأخته بعد أن يغلق عليهما باب واحد؟

ظل هذا السؤال معلقا في ذهنه طويلا، طاعنا قلبه في مقتل...
وجد أن قبضته قد انضمت و ضربت السرير فجأة بغضب وهو يتذكر كيف سلبوها منه ببساطة!،
و هو من أجل مصلحة العائلتين لم يبادر بالإقتحام و خطفها منهم و الهرب بها...
يومها كان يقارب الثلاثين من عمره، و قد طال به الإنتظار الى أن تنتهي من دراستها...
لكن الخوف أن يسبقه راجح كان يسيطر عليه ككابوس مفزع كل ليلة...

الى أن حزم أمره و ذهب بمفرده، الى سليمان الرافعي...
لا يزال يتذكر جلسته ذات الهيبة و السلطة، ابتسامته المهيبة و نظرته المدققة و كأنه يحاول قراءة من يجلس أمامه بدقة...
لا يزال يتذكر أنه فتح الكلام مباشرة دون أي مقدمات أو مجاملة...
فقد قال بكل ثقة و قوة
(لقد جئت لطلب يد سوار ابنة عمتي للزواج يا حاج سليمان)
نظر اليه سليمان طويلا بصمت، لم تهتز به عضلة واحدة...

بل ضاقت عيناه قليلا فقط، و ساد صمت مقلق، قبل أن يقول سليمان بهدوء وهو يمسك بعصاه بقوة
(و لماذا أتيت بمفردك يا ليث؟، شاب مهذب و معروف عنه الخلق المحمود، أنتظر منه أن يتبع الأصول و يحضر معه كبار عائلته احتراما لقيمة عائلة العروس، خاصة لو كانت عائلة لها قدرها كعائلة الرافعي)
لم يهتز ليث في مقعده على الرغم انه كان في تلك اللحظة يواجه أصعب اختبارا في حياته كلها...

اختبارا قد يحكم على قلبه بالحياة، أو الموت...
لكنه رد بهدوء و ثقة متوارثة لديه من آباءه و أجداده
(فكرت أن آتي بمفردي أولا يا حاج سليمان لأسمع رأيك قبل أن أعرض كبار عائلتي و قبيلتي للحرج)
أطرق سليمان بوجهه مفكرا وهو يضرب الأرض بعصاه برفق، قبل أن يرفع عينيه الى عيني ليث ليقول بهدوء.

(ما الذي يجعل شابا من عائلة عريقة، يتوقع الحرج لكبار عائلته عند التقدم للزواج من ابنة عائلة كبيرة أخرى؟، الا لو كان هناك سببا يمنع هذا الزواج!)
تجمدت ملامح ليث، لكنه بقى على جلسته المهذبة، دون أن يفقد وقاره...
لكن قلبه كان يحارب في تلك اللحظة من أجل البقاء...
فقال بأدب
(و هل هناك ما يمنع زواجي من سوار يا حاج سليمان؟)
ابتسم سليمان برفق وهو يقول.

(لطالما عرفت عنك الدهاء يا ليث الهلالي، فلا تحاول تغيير نظرتي لك يا ولدي)
الا أن ليث لم يتراجع، على الرغم من انقباض قلبه المؤلم و الذي لا يزال يشعر بألمه حتى الآن...
فقال بهدوء و ثقة
(و مع ذلك أفضل السماع منك يا حاج سليمان، سببا مقنعا لرفضي)
رفع سليمان اصبعيه وهو يقول بهدوء مماثل
(حسنا يا ليث، طالما ترغب في السماع، سببين كلاهما اقوى من الآخر و يجلب الكوارث...

أولا هناك ثأر دم قديم بين العائلتين، فقدنا فيه زهرة الشباب عندنا و عندكم، الى أن أنهيناه و الحمد لله بعد جهد مرير بزواج عمتك وهدة من ولدي غانم، و حلت الى دارنا و زادته فرحا و اصبحت كواحدة من بناتي، لا أنكر أنها أصبحت بهجة قلبي والله العالم، لكن اعادة الزواج بين العائلتين مجددا ليس مبررا، خاصة، خاصة، و هذا يقودنا الى السبب الثاني...

وهو أن سوار لم تعدم ولدي عميها بعد، كي تتزوج من رجل من عائلة غريبة، عائلة بيننا و بينهم ثأر دم قديم!)
ضاقت عينا ليث بألم، و غضب، و تحفز، و خوف...
إنها المرة الأولى التي يشعر فيها بالخوف، لا يزال طعمه في حلقه مرا كالعلقم حتى يومه هذا...
الا انه كان متوقعا لهذا تماما، و كان يعلم ان الحرب امامه طويلة...
لذا قال بهدوء يحمل التصميم و الإصرار
(أنا لست من عائلة غريبة يا حاج سليمان، سوار تكون ابنة عمتي).

قال الحاج سليمان بهدوء مماثل و بنبرة تحدي الثقة و الإصرار...
(لكنك لست الأولى بها، أنت هلالي، و هي مكتوبة عليها أن تكون زوجة لرافعي من قبيلتها)
كانا كجبلين يتناطحان، على الرغم من فارق السن...
ليث يمنح الإحساس بالهيبة لمن يجلس أمامه، تماما كالحاج سليمان
و كلاهما لا يستسلم ابدا...
فقال ليث رافعا ذقنه بقوة
(و ماذا عن الأجدر بها يا حاج؟).

ارتفع حاجبي سليمان بدهشة و برقت عيناه غضبا، الا أنه قال بهدوء دون أن يفقد أعصابه
(أتهين أبناء أبنائي في وجودي و في داري يا ليث؟، و تدعي أنهما ليسا الأجدر ببنات أعمامهم؟)
ضاقت عينا ليث وهو يقول ببطىء، يخوض في أرض حذرة
(واحد منهما ليس الأجدر بها يا حاج، و أنت تعلم ذلك في قرارة نفسك)
نهض سليمان بقوة وهو يضرب الأرض بعصاه منهيا الحديث...
(كفى يا ليث، احترامي لشخصك لا يسمح لك بهذا التجاوز).

الا أن ليث نهض هو الآخر ليقول بهدوء و ثقة شديدين.

(لا أتجاوز معك يا حاج، قدرك على رأسي، أكلمك بصراحة لأنني أعرف مقدار حبك لسوار، الكمال لله واحده يا حاج و كل عائلة بها الأصلح كما بها العكس، فهل ترضى لها الأذى؟، انها ابنة عمتى، هي غالية لدي و ابنة غالية، و أنا لا أزكي نفسي، لكنني الأجدر بها، سأحافظ عليها كجوهرة لم تراها عين قط، سأرعاها بنفسي، لن ألمس امرأة غيرها حتى في الحلال، ستكون ام اولادي الوحيدة، و ستزين داري كما زينت وهدة الهلالي دارك).

استدار سليمان عن ليث و هو ينظر الى البعيد بوجه متباعد...
فقال ليث عله يكون قد مس قلبه...
(تعرفني منذ طفولتي يا حاج، الا تراني الأجدر بها؟، أنا سأرتضي جوابك الصريح بشخصي)
قال سليمان بهدوء.

(شخصك لا غبار عليه يا ليث، لكنك تريد فتح ابوابا من الجحيم بين العائلتين من جديد، الزواج الأول كان ليجفف أنهار الدم، أما الزواج الثاني فسيجددها، و أنا لن أسمح بذلك، بعكس ما تعتقده، فأنا لست الحاكم الوحيد هنا، كل رجال العائلة لن يقبلون بهذه الزيجة التي لا مبرر لها خاصة و أنا لها ابني عمين)
قال ليث بقوة و اصرار
(و ماذا لو كانت تلك الزيجة لها مبرر قوي، على الأقل بالنسبة لي).

كان المعنى واضحا، لا يحتاج لسؤال، فلم يسمح له سليمان بنطقها...
لذا قال بصوت غامض
(أرى أنه بات من الأصول الا تختلط بسوار أكثر من هذا يا ليث)
ارتفع وجه ليث المجفل، و حينها علم أن سليمان الرافعي قد وقع على أوراق الحكم بإعدام قلبه...
أغمض ليث عينيه وهو مستلقيا على سريره...
يتذكر يوما من أكثر أيام حياته ايلاما...
و يتذكر يوما بعدها...
ذلك اليوم الذي هاتفها به و طلب منها ان تقابله لأمر هام...

فأتت اليه في الموعد، عند المنحدر المطل على سفح الجبل الأخضر...
كانت تقترب من بعيد متهادية، تحمل طرف عبائتها السوداء الحريرية الفضفاضة...
تغطي وجهها كما يأمرها دائما، لكن عينيها العسليتين ظاهرتين له، تبتسمان بوضوح...
تنهد ليث وهو يدرك من ابتسامتها أن سليمان الرافعي لم يفاتحها في شيء و لم يمنعها من مقابلته بعد...
كانت أمامه فرصة واحدة أخيرة...
ما أن وصلت اليه حتى قالت بصوتها القوي الجميل.

(السلام عليكم يا سيد الشباب، ما سر هذا الموعد الغامض؟)
كان جمال عينيها المبتسمتين يكاد ان يوقف قلبه، لكن ملامحه كانت هادئة وقورة وهو يقول بخفوت لا يناسب ما بقلبه في تلك اللحظة
(سوار)
ردت عليه مبتسمة بعفوية
(نعم)
نظر الى عينيها الضاحكتين برقي فطري، ثم قال بمنتهى الهدوء
(أنا أحبك).

للحظات راقب تعاقب التغيير الطفيف جدا على عينيها، فهما لم تتغيران ثم اتسعتا بضحكة حائرة...
قبل أن ينعقد حاجبيها قليلا، ثم اتسعت عيناها على اقصى درجة حتى بديتا كقمرين تامين الاستدارة...
و حينها اختار الوشاح ان يطير عن وجهها بفعل النسيم البارد...
فكشف عن شفتيها الفاغرتين بذهول، لم يقلل من جمالهما...
فتابع ليث بخشونة و قوة، كمن يطالب بحقه
(أريدك أن تكوني زوجتي، اردتك زوجتي منذ سنوات طويلة).

كانت تتراجع بذهول و هي غير قادرة حتى على اغلاق فمها...
الا أنها همست بغباء، غير مستوعبة
(كيف، متى، من تريد أن تتزوج؟)
اقترب منها خطوة و عينيه بعينيها دون أن يخجل أو يضطرب
(كيف؟، كيف يحتل الشروق لحظات الظلام الأخيرة، فينتشر بها، مبددا قتامتها ليضيء الكون بشعاع ذهبي وردي، يلامس ورود الصباح و يقبلها بقطرات من الندى)
اتسعت عيناها اكثر و اكثر، فتابع يقول بصوت اكثر جدية.

(متى؟، منذ أن امتلك ساعدك الرقيق بعض القوة للإمساك بالسلاح، فامتلك زمام قلبي قبله)
شهقت دون صوت و هي تشعر بالدور، الا أنه جاوب السؤال الأخير فقال بهدوء
(و أريد أن أتزوجك انت، هل من اسئلة أخرى؟)
كان معروفا عنها الذكاء في مرحلة ما من حياتها، أما في تلك اللحظة فقد بدت تشكل الغباء في كل صوره...
ثم رفعت يدا مرتجفة الى صدرها، و همست ما أن وجدت صوتها
(تتزوجني، أنا؟، ليث هل أنت جاد؟)
انعقد حاجبيه و قال بجدية.

(و هل مزحت معك من قبل يا فتاة؟)
ابتلعت ريقها و همست بتلعثم
(لكنك تتكلم بجدية، بجدية شديدة؟)
ازداد انعقاد حاجبيه و قال بحيرة
(ظننت الأمر يتطلب الجدية)
ارتعشت شفتيها و هي تنظر أرضا بوجه أحمر، قبل أن تعاود رفع وجهها اليه لتقول بارتباك و حياء جديدين تماما
(أنت، لم تغازلني يوما، لم تظهر مشاعرك أبدا، حتى الآن تبدو كم يقر أمرا واقعا، دون حتى ابتسامة)
قال ليث بقوة.

(لم أدرك أن الغباء صفة من صفاتك يا سوار العسل، كم مرة طلبت منك عدم كشف وجهك؟، لأن جماله يفتنني قبل الجميع)
سحبت نفسا يائسا، متحشرجا قبل أن تقول بصوت مختنق
(لم تصغها بتلك الصورة من قبل)
الا أنه لم يسمع اعتراضها اليائس، بل تابع بقوة أكبر
(و نعم أنت محقة، أنا أقر أمرا واقعا، إنه الأمر الواقع الوحيد الذي أقره، حبك بالنسبة لي واقعا و ليس حلما)
رفعت يدها الى جبهتها فجأة و هي تقول
(أشعر بالدوار).

سارع ليث بالإمساك بها قبل أن تقع، و كأن تيارا غريبا قد سرى بينهما
فشهقت سوار بصدمة، أما ليث فتركها على الفور مصدوما مثلها...
فسقطت أرضا و هي لا تزال تنظر اليه بذهول!
ابتعد عنها ليث وهو يتنفس بسرعة، محاولا السيطرة على انفعاله، و على رغبته العنيفة في اسكات شهقاتها المذهولة تلك، بينما هي لا تزال جالسة خلفه على الأرض...
الا أنها تكلمت أخيرا لتقول بخفوت ضائع
(لماذا لم تقل شيئا من قبل يا ليث؟، اي شيء!).

أغمض عينيه و هو لا يجد الرد المناسب كي لا يجرحها، الى ان قال أخيرا بهدوء قاتم
(من تظنين أنك متعلقة به، لا يستحقك يا سوار)
حينها صدرت عنها صيحة استنكار و هي تقفز واقفة لتهتف بصدمة
(ماذا تقول؟)
استدار اليها بعنف وهو يهتف بها بقوة و صرامة
(لا تتزوجي راجح يا سوار، ستندمين عمرك كله)
كان يرى ذهولها بعينين متألمتين، ثم قال بهدوء متعب
(تزوجيني، و أعدك أن أنسيك أي ظل لرجل غيري).

رفعت يدها المرتجفة الى فمها و مالت عينيها بعدم تصديق و هي تهز رأسها علها تتخلص من الدوار المحيط بها...
ثم همست بخفوت
(ليث أنا، لست، لم أكن أعرف أنك)
اقترب منها و قال بقوة
(اقبلي الزواج مني و أنا سأتكفل بالباقي، سأهتم بقلبك الغبي هذا و أعقله)
ارتفع حاجباها، و احمرت وجنتيها، قبل ان تفلت منها ضحكة يائسة غبية...
لكنها سرعان ما تبخرت و هي تقول بخفوت.

(ليث، لقد قطعت وعدا ل، لراجح، وعدني أن يتغير للأفضل و أنا أعطيته وعدي، هو ابن عمي و الجميع يتوقعون زواجنا، لم أكن أعلم أنك)
كان يتنفس بقوة و عيناه تصرخان بها أن تتوقف، فهدر بها فجأة
(هل تحبينه؟)
ابتعدت عنه خطوة، و هي تنظر اليه بعينين ساكنتين من العسل...
فهدر بها مجددا
(هل تفعلين؟، هل تحبينه؟)
أطرقت بوجهها، و بهدوء خافت قالت بشجاعة.

(نعم، نعم أحببته منذ سنوات، لم يكن ذلك بيدي، و سأتزوجه هو، فهو سبقك و لا يحق لك أن تخطبني بعد خطبته لي).

نزلت تيماء من غرفتها بعد أن شعرت بالإحتجاز فيها لدرجة الاختناق...
فقررت التحرر أخيرا، علها تهدأ قليلا و تستجمع قواها كي تتمكن من احتمال مشقة السفر...
و الأهم هو التحرر من سلطان قاصي عليها...
سمعت صوتا يقول من خلفها
(صباح الخير يا قاتلة الفئران، كيف حال عروس المستقبل؟)
استدارت تيماء لتنظر الى فريد الذي كان كعادته يتناول احدى أعواد البقسماط...
فقالت بهدوء و هي تنظر اليه.

(الا تتوقف عن أكل تلك الأعواد؟، أشك أن معدتك قد تحولت الى عش عصافير)
عبس فريد وهو يقول ببساطة
(أعشاش العصافير تلك مكانها في عقلك فقط)
قالت تيماء و هي تتنهد.

(أنت حقا أكثر طبيب مستفز أراه في حياتي كلها)
ابتسم فريد و افترس قطعة أخرى قبل أن يقول بهدوء
(معقدة من الأطباء، اليس كذلك؟)
استدارت تيماء مبتعدة عنه دون أن ترد، فلحقها ليقول ببساطة
(لا تحزني لأنك لم تتمكني من دخولها، إنها كلية تحتاج الى مهارات عقلية خاصة و قدرات فائقة، هوني على نفسك)
لم ترد عليه تيماء، بل ظلت تسير مسرعة الخطى بينما هو يلحقها بصبر، ثم قال بهدوء.

(كما أنها تحتاج الى أعصاب من حديد، تخيلي دخولك المشرحة في عامك الدراسي الاول)
توقفت تيماء مكانها و هي تكتف ذراعيها، تنظر الى البعيد قبل أن تقول شاردة دون أن تستدير اليه
(على فكرة قبل أن تتفاخر أكثر. لقد حضرت معظم العام الأول بكلية الطب، و دخلت المشرحة. )
عقد فريد حاجبيه ليقول محتارا
(و كيف كان ذلك؟)
هزت تيماء كتفيها و هي تقول بفتور
(كنت طالبة بكلية الطب، لكنني خرجت منها و غيرت مجال دراستي كلها).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة