قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والثلاثون

ارتجفت ابتسامة تيماء، و اهتزت حدقتاها، فأبعدت وجهها و هي تقول بتوتر
(نائمة، هلا ذهبنا رجاءا، تبادل الحديث هنا أمام بيتي ليست الطريقة المثلى للهرب)
تشنج حلق قاصي وهو يبتلع ريقه، يراقبها طويلا بعينين ناريتين و مظلمتين
و كأنه يريد قول شيء ما، الا أنه انحنى و التقط منها حقيبتها كي يحملها عنها، فلامست يده يدها عفويا.

حينها شعرت أن تيارا كهربيا قد سرى في جسدها و انتقل الى جسده الضخم، فرفع عينيه الى عينيها بصمت، بينما احمرت وجنتاها بشدة...
لمسته العفوية الآن كانت متفجرة التأثير بسبب ما سيقدمان عليه...
و في الظلام استطاعت أن تلمح التواء زاوية شفتيه في شبه ابتسامة زادت من ارتجافها...
الا أنه لم يتكلم، بل أشار بيده صامتا كي تتقدمه، فسارت امامه بخطى متعثرة و هي تشعر بعينيه تحرقان ظهرها...

وصلت الى السيارة القديمة التي كان يستند اليها منذ لحظات، فوقفت تراقبه و هو يضع حقيبتها في الصندوق الخلفي العتيق، و ما أن استدار اليها حتى قالت بفضول
(سيارة من هذه؟)
نظر اليها قاصي ثم قال بخفوت
(سيارة صديق، لا أظنك تفضلين السفر ثلاث ساعات فوق الدراجة!)
نظرت تيماء الى السيارة نظرة طويلة قبل أن تقول
(و لماذا لم تأت بسيارة والدي؟، هل ستصمد تلك السيارة القديمة طوال الطريق؟).

ندمت على الفور ما ن خرج السؤال الغبي من بين شفتيها...
فقد أظلمت عينا قاصي و ازداد توتر ملامحه، بينما قالت تيماء بتلعثم محاولة أن تصحح ما قالته
(أقصد، أن نسافر بها فقط، ثم نتركها قبل أنت نتزو، نتزوج)
حتى و هي تنطق الكلمة كانت ترتجف غير مصدقة...
الا أن قاصي قال بجفاء قاطع
(من اليوم ستنسين كل ممتلكات والدك يا تيماء).

رفعت عينيها الى عينيه الحادتين كعيني صقر، وهو بادلها النظر و كأنه ينتظر منها جدالا أو يتوقعه، الا أنها قالت بخفوت
(هيا لنذهب)
استدارت و فتحت الباب الأمامي، الا أن يده قبضت على ساعدها تديرها اليه بقوة حترى رفعت وجهها اليه و خصلات شعرها تتطاير أمام عينيها...
عيناه تتحركان عل عينيها بتعبير قاسي لم تستطع فهمه، و انتظرت منه أن يكلمها و يهدىء من خوفها...
الا أنه نطق بسؤال واحد فقط، بصوت غريب
(هل أنت نادمة؟).

رمشت تيماء بعينيها و ارتجفت شفتيها و هي تطالع السؤال القاسي مترجما بوضوح في عينيه...
الا أنها جاوبت تلقائيا بثقة
(لا)
ضاقت عيناه قليلا الا أنه قال بنفس الصوت القاسي...
(لا أصدقك)
نظرت اليه طويلا بعدم تصديق، هل سيتخاذل الآن؟
أخذت نفسا غاضبا ثم نظرت الى عينيه و همست بشراسة
(و ماذا إن كنت نادمة؟، هل ستتراجع؟)
ضاقت عيناه أكثر و زاد سعير النار بهما، بينما ازداد ضغط أصابعه على معصمها حتى آلمتها...

لكنها قالت من بين أسنانها
(أجبني قاصي، إن تراجعت الآن، هل ستسمح لي بالإستدارة و العودة الى بيتي مغلقة الباب خلفي، و الزواج بقريبي كما يريد والدي؟)
لم تستوعب في تلك اللحظة الدوامة التي جعلتها تدور حول نفسها بقسوة وهويديرها ليدفعها الى المقعد الأمامي، قبل أن يصفق الباب بقوة!

فجلست مكانها ترتجف و هي تنظر اليه بعينين متسعتين وهو يدور حول السيارة بملامح متوحشة ليجلس خلف المقود و ينطلق بالسيارة دون لحظة إنتظار...
جلست تيماء بقلب يرتجف و هي ترى الظلام يشتد حولهما شيئا فشيئا...
بينما كانت تبتسم بحماقة، رفعت كفيها لتلامس بهما وجنتيها المشتعلتين، فلمحها قاصي و قال بغضب
(لماذا تضحكين؟)
اتسعت عيناها من غضبه، لكنها لم تفقد ابتسامتها و هي تقول بخفوت.

(أضحك على التملك الأحمق لديك، كلمة عابرة بإمكانها أن تجعلك ترمي ترددك بعيدا)
نظر اليها بطرف عينيه غاضبا، الا أنه ما أن لمح عينيها الفيروزيتين الواسعتين في الظلام عيني قطة...
لم يستطع الا أن ترك لقناعه الصلب أن يسقط عن وجهه...
و ساد صمت قليل قبل أن يقول بجفاء
(فات أوان الندم يا تيماء، تدركين ذلك؟)
تحولت ملامحها الى ملامح امراة، ناعمة واثقة، عاشقة و مدلهة في حبه، ثم قالت أخيرا بهدوء.

(نادمة، لا، لكن خائفة قليلا)
صمتت للحظة واحدة فقط قبل أن تهمس بصوت أجمل من أن ينساه يوما، مهما طال به الزمن
(بدد خوفي يا قاصي)
تحررت عيناه من الطريق المظلم أمامه، و نظر إلى عينيها لحظتين، قبل أن يقول بصوت أجش متحشرج واعدا
(سأفعل)
كلمته المختصرة ساهمت في تبديد خوفها كله، و في نفس الوقت ضاعفت من ارتجاف جسدها لدرجة الإنتفاض...

نظرت امامها و هي تفرك أصابع كفها بتوتر، تخشى أن يسمع صوت دقات قلبها الصاخبة فيضحك منها...
لا تصدق، لا تصدق...
تخشى ان يكون مجرد حلما و تصحو منه سريعا قبل أن تنهل من سعادته...
لكن حين لم تعد تحتمل الصمت أكثر. نظرت الى قاصي تتأمل جانب وجهه الصلب الذي لا ينم عن شيء.
لكن عينيه كانتا غارقتين في تفكير عميق كالمحيط الأسود ليلا...
فهمست بصوت رقيق، و كأنها تخشى أن تبدد ذلك الجو الأثيري المحيط بهما...

(بماذا تفكر؟)
نظر اليها نفس النظرة الصامتة، قبل أن يعيد عينيه الى الطريق و ساد صمت قصير ظنت معه أنه لن يجيبها، لكنه همس أخيرا بصوت أجش خافت
(أنك ستصبحين زوجتي خلال ساعات من الآن)
انتفض قلبها مرة و مرتين، حتى بدت ضرباته مؤلمة، بل شديدة الألم، لكنها همست بصوت متأوه شديد الخفوت
(و هل هذا شيء سيء أم جيد؟)
نظر اليها نظرة طويلة هذه المرة، نظرة أسقطت كل أقنعته و شكوكها...

ابتسامته تحولت الى عبثية أذابتها، و اشتعل الجمر بعينيه وهو يقول بصوت مداعب
(ستعرفين حينها)
ارتفع حاجبيها و عضت على شفتها و سارعت بالنظر أمامها و هي ترتجف بشدة من الخجل...
نظراته تحولت الى مشاعر عاصفة أكثر وضوحا مما يحاول أخفائه دائما...
نظرات شبيهة بتلك النظرات التي رمقها بها في المرة الوحيدة حين فقد السيطرة فيها على نفسه و علمها كم يرغبها كامرأة. و ليس كطفلة...
ساد الصمت مجددا، فقال قاصي بلهجة ممازحة.

(هل ابتلعت القطة لسانك؟، ظننتك قادرة على ابتلاع ثلاث قطط وحدك)
نظرت اليه بضيق ثم هتفت بحنق ينبع من شدة خجلها
(سخافتك المعتادة ليس محلها الآن)
ضحك بصوت أجش قبل أن يقول بخفوت دون أن يحيد بعينيه عن الطريق
(لا أستطيع تمالك نفسي، فأنت تبدين شهية جدا في خجلك، و لحظات خجلك تلك نادرة جدا يا وقحة)
عقدت حاجبيها ومدت كفها لتضربه في صدره بقوة و هي تهتف مستاءة
(لماذا أنت هكذا؟، حقا لماذا؟، لماذا تفسد ليلة زفافي؟).

تسمر مكانه فجأة وهو ينظر الى الطريق دون أن يلتفت اليها، و ساد صمت قصير قبل أن يجيب مبتسما بشرود
(ليلة زفافك؟)
ابتلعت ريقها بتوتر، الا أنها قالت باستياء و هي لا تزال حانقة
(نعم هذه ليلة زفافي، هل لدى جنابك أدنى مانع؟)
لم يلتفت اليها، بل زاد انقباض أصابعه على المقود ثم قال بخفوت رافعا أحد حاجبيه
(حسنا، ليلة زفافك لم تبدأ بعد، لكنها لن تتأخر)
اشتعلت وجنتاها و هتفت.

(احترم نفسك يا قاصي و لا تكن قليل الأدب و الا)
نظر اليها و قال مبتسما ممازحا بثقة
(و الا ماذا؟، ماذا لو أحببت أن أكون عديم الأدب معك الليلة؟، ماذا لو قررت كسر تلك الحواجز اللعينة التي فرضتها على نفسي لسنوات طويلة، ماذا لو سمحت للوحش الكان بداخلي على التحرر أخيرا ليلتهمك يا صغيرة، بعد عذاااااااب، عذاااااب).

متى تحول مزاحه خلال الأحرف الى جدية من أعماق صدره؟، متى تحولت المداعبة الى تلك التنهيدة المتعبة؟
متى اشتعلت عيناه أكثر في عمق الظلام المحيط بهما؟
كل ما تعرفع أن الجدية التي يتكلم بها من عمق عمق قلبه جعلتها تفغر شفتيها بذهول!
فنظر اليها بملامح جدية ليقول بصوت غريب
(لا تراجع يا تيماء، أنت لي منذ الأزل، و قد انتظرت طويلا، فحرريني الليلة، حرريني)
تاهت عيناها الفروزيتين في عينيه المشتعلتين...
لقد همست له.

بدد خوفي، فهمس لها حرريني...
ابتسمت تيماء و لمعت عيناها، بينما زفر قاصي بنفاذ صبر وهو يمد أصابعه ليفتح المذياع بحركات خرقاء، ثم قال بعصبية ناظرا من نافذته الجانبية الى الظلام الدامس
(اشغلي نفسك بالموسيقى قليلا حتى نظل يا تيماء، أو نامي سيكون أفضل للجميع)
عضت على شفتها و رفعت يدها لتتلمس صدرها الخافق حد الألم، و فعلا تراجعت برأسها الى ظهر المقعد. وجهها ملتفتا اليه...

تتأمل كل ذرة من ملامحه التي عادت الى توترها و صراعه الداخلي، عاد لرفع قناعه مجددا...
الا أنها كانت أكثر من راضية بتلك اللحظات القليلة التي تحرر بها أمامها...
كم هو وسيم في عينيها و كم تعشق شعره الذي ربطه بعقدة خلف عنقه، يجعله أشبه بقرصان عديم الرحمة
الا أنها هي وحدها من تعلم ماذا يخفي هذا المنظر القاسي من روح كانت لها كل ما تمنته يوما...

فعلت الموسيقى الحالمة المنبعثة من المذياع مفعولها بها، فابتسمت و هي تتأمله أكثر على سحر الالحان الليلة...
زفر قاصي بقوة فجأة ثم قال بخشونة آمرة
(انظري أمامك)
لم تتفاجىء و لم تجفل حتى، لقد اعتادت ردات فعله الغريبة دائما، فابتسمت و همست بسحر
(لا أريد)
عاد ليزفر بقوة، قبل أن يقول بعصبية
(الطريق لا يزال طويلا يا تيماء، لا تزيدي من توتري).

ضحكت برقة خافتة دون أن ترد، و دون أن تبعد عينيها الحالمتين عنه، فقال بلهجة أشد امرا
(لا تضحكي، )
حينها ضحكت بصوت عال، فزفر أكثر حينها قالت بصوت واضح
(أنا احبك)
انعقد حاجباه قليلا، و توترت عضلة في فكه، و زادت سرعة حركة صدره...
بدا و كأنه يعاني من شدة توتره، على الرغم من أنه لن يقبل حتى بالتفكير في التراجع عن قراره...
لكن هذا لم يمنع أنه يعاني من التوتر، و ماذا؟
لماذا ترى علامات الشعور بالذنب على ملامحه؟

همست تيماء بخفوت تريد أن تخفف عنه
(قاصي)
لكن فجأة أصدر محرك السيارة عدة أصوات، و ماجت حركتها و ترنحت، مما جعل قاصي يهدىء من سرعته و ينحرف الى جانب الطريق و السيارة ترتج الى أن توقفت تماما...
شتم قاصي فجأة بشتيمة بذيئة جعلت تيماء تجفل، فهمست بقلق
(قاصي، ماذا حدث؟)
هدر قاصي بعصبية
(اصمتي الآن يا تيماء).

ارتبكت من مدى العنف و العصبية التي يبدو عليهما، ففضلت الصمت و هي تراقبه يخرج من السيارة و يفتح مقدمتها ليرى سبب الخلل، و كان من الواضح أن دخانا كثيفا أبيض اللون يتصاعد من المحرك...
انتفضت تيماء و هي تراه من مكانها كظل ضخم اسود، يهدر صوته وهو يشق الليل ما أن مد يده ليمسك بأحد الاجزاء الساخنة، و أخذ يلتفت حوله بحثا عن شيء...
و حين يئس، أمسك بحافة قميصه و مزقها في شريط طويل!

شهقت تيماء و هي ترى ما فعله للتو!، لقد مزق قميصه!
هكذا بكل بساطة!
اليس هذا القميص الذي سيرتديه أثناء عقد القران؟
رمشت تيماء بعينيها و هي تهدىء من نفسها، تلومها على تفكيرها في امور تافهة في حين يبدو قاصي متألما وهو يلف قطعة القماش حول كفه ليفتح الجزء الساخن في مقدمة السيارة...
في الحقيقة ليس القميص هو ما أثار ضيقها، بل عصبيته الزائدة عليها.

تعرف أنه عنيف عادة في ردات فعله، لكنها كانت تظن أنه سيوليها معاملة مميزة في يوم كهذا...

انتفضت تيماء فجأة و هي تراه يصفق مقدمة السيارة بعنف بعد ما يقرب من الساعة من محاولة التصليح و تشغيلها مئات المرات دون جدوى. فارتجت و اهتزت هي معها...
خرجت من السيارة بسرعة و دارت حولها لتضع يدها على كتفه برقة، فانتفض ناظرا اليها وهو يهتف بغضب
(ماذا؟)
انتزعت يدها و تراجعت خطوة، أمام نظرات عينيه الغاضبتين لكنها همست
(هدىء نفسك قليلا يا قاصي، لا شيء يستحق كل هذا العنف).

عصفت عيناه أضعافا و كأن عبارتها الهادئة أثارت جنونه أكثر فهدر بوحشية وهو يضرب بقبضته على مقدمة السيارة...
(لا شيء يستحق؟، هل أنت عمياء!، السيارة توقفت تماما و نحن في منتصف الطريق)
فغرت شفتيها قليلا، و رمشت بعينيها قبل أن تستدير عنه كي لا تراه بينما شعرت بثقل غريب في صدرها...
ساد صمت مشحون بينهما لا يقطعه سوى صوت الريح، و مرور السيارات المسرعة...
الى أن قال قاصي أخيرا بلهجة آمرة.

(لا تقفي هكذا أمام السيارات المارة، ادخلي السيارة)
رفعت عينيها الجامدتين اليه ثم قالت بفتور
(و انت، كيف ستتصرف؟)
رفع وجهه اليها و هتف بصرامة
(كيف سأتصرف؟، و هل لو كان لدي تصرف كنت سأقف هنا بهذا الشكل؟ ادخلي يا تيماء بالله عليك، لا أريد الكلام الآن)
الا أنها تابعت بقوة تحاول مساعدته...
(لما لا نترك السيارة هنا و نحاول ايقاف أي سيارة لتقلنا؟).

نظر قاصي الى عينيها باستهجان واضح، ثم لم يلبث أن هز رأسه وهو يقول من بين أسنانه
(لا يمكننا المجازفة بذلك، نحن وحدنا هنا و في هذا الوقت من الليل، لا نرتدي حتى خواتم زواج، و أنت، انت تبدين صغيرة جدا، اللعنة، أنت بالفعل صغيرة جدا، منظرنا سيكون مثيرا للشبهات لأي غريب قد يقف لنا، و قد يبدأ في القاء الأسئلة عن درجة قرابتنا، حاولي تشغيل عقلك قليلا. ).

كان ينطق عباراته متشنجا، و كأنه يعض على الأحرف بتوتر، فقالت تيماء بحيرة
(هل تحاسبني الآن لأنني، صغيرة من وجهة نظرك؟)
رفع رأسه لأعلى وهو يزفر بغضب، ثم نظر اليه مجددا بنظرات قاتلة ليهتف من بين أسنانه
(مجرد سؤالك الساذج لا يترك لي الفرصة كي أتظاهر العكس محاولا خداع نفسي، أنت لا تقدرين خطورة الوضع)
حينها لم تستطع السيطرة على نفسها أكثر فصرخت هي الأخرى
(لماذا تعاملني بتلك الطريقة؟، فيما أخطأت أنا؟).

فتح فمه ينوي الصراخ بعصبية أكثر، الا أنه امسك نفسه عن المزيد وهو يرفع يده ليغرز أصابعه في خصلات شعره محاولا التقاط أنفاسه الخشنة ناظرا الى السماء الداكنة البعيدة...
لكن تيماء كانت تنظر اليه بعينين مبللتين بدموع الغضب، تعلم جيدا انه يعاني احدى تلك النوبات التي تفقده السيطرة على نفسه دون ان يملك الرغبة في ذلك...

الا أنها كانت أكثر غضبا و قهرا من أن تتعاطف معه في تلك اللحظة، لذا كتفت ذراعيها تراقبه بملامح جامدة طويلا، ثم قالت أخيرا بصوت قاس كالصخر...
(أتعرف عن ماذا تخليت في سبيل اختيارك؟)
رفع وجهه اليها بملامح أكثر جمودا من ملامحها، الا أن تعبيرا غريبا ظهر بعينيه كان عنيفا مزلزلا و خاطفا، و كأن سؤالها البسيط قد ضربه في مقتل.
الا أنها تابعت بصوت أكثر صلابة و هي تجابه عمق عينيه بعينيها...

(لقد تركت أمي و بيتي و، دراستي، و تخليت عن مال أبي و جازفت بتفجير براكين غضبه...
كل هذا في سبيل اللحاق بك الى آخر العالم باشارة من اصبعك)
ضاقت عينا قاصي وهو يسمع صوتها الباتر الذي كان يشق ثقل ظلام الليل من حولهما...
بينما تسارعت أنفاسه، و خفق صدره بعنف حتى شعرت بالخوف عليه بالفعل...
لكنها. قوت قلبها و رفعت ذقنها متابعة، بنبرة حادة، كشفرة خاطفة
(لقد قدرت كل ما تركته لأجلك، و أريد تعويضا).

تسمر مكانه بعد أن تجمد طلبها الباتر بينهما...
كان صوت أنفاسه الخشنة مسموعا لها، و عيناه تحولتا الى اسيرتين في قيود عينيها الفيروزيتين القاسيتين...
ثم قالت مجددا و هي تضرب الأرض بقدمها
(أريد تعويضا يا قاصي يناسب حجم ما تخليت عنه)
ساد صمت مؤلم و كل منهما لا يملك التحرر من عيني الآخر
الى ان قال قاصي أخيرا بصوت أجش، بعيدا عن صوته الحقيقي
(ماذا تطلبين كتعويض؟).

رفعت ذقنها أكثر و هي تنظر الى عينيه المظلمتين، ثم أجابت بقوة و دون تردد
(أفضل مما تقدمه الآن، أريد الأفضل يا قاصي، بل الأكثر من الأفضل)
أرجع رأسه للخلف وهو يستمع الى صوتها الآمر الصلب، و الذي يناقض تماما اتهام الصغر الذي رماها به منذ لحظات...
برقت عيناه، و هو يرى التحدي المستفز في عينيها يزداد بوقاحة...

لكن في صدره كانت هناك مضخة عملاقة، تزداد ضخا مع كل كلمة تنطق بها، حتى تحولت ضرباتها الى هدير عنيف، و أكثر وقعا مما تتطلبه تلك اللحظة...
انتهى الكلام عند هذا الحد، و لم تنتظر هي جوابا، بل يكفيها وقوفه أمامها مسمرا وهو يتنفس بقوة هادرة، دون أن يجرؤ على ابعاد عينيه عن عينيها...
لن تضغط عليه أكثر، يكفيه أن يستمد الصلابة من عينيها ليجابه بها خوفه الذي يجعله عنيفا الى هذا الحد...

لحظات و سمع رنين هاتفه، فانتفض وهو يخرجه من جيبه بسرعة ليرد...
كان صوته خشنا متوترا و ملامحه اكثر توترا و هو يستمع الى من يكلمه، بينما انعقد حاجبيه بشدة...
سمعته تيماء يقول بتوتر و قبضته تنقبض بعنف
(لا، ليس بعد، السيارة تعطلت بنا و لا نزال ننتظر أن تتحرك، أو أن نجد أي مساعدة)
ثم لم يلبث أن هتف بقوة
(لا هذا لا يمكن أبدا، نحن في منتصف الطريق أمامنا ساعتين على الأقل، هذا إن تحركت السيارة).

ازداد انعقاد حاجبيه ليدور حول نفسه بتوتر هاتفا
(هل سمعتني، ليس قبل ساعتين في أحسن الظروف، لا تدع أي منهم يغادر)
ارتجفت شفتا تيماء و هي تتوقع المزيد من الأخبار السيئة...
بينما هدر قاصي بعنف
(لا يمكننا التأجيل، مستحيل فالأمر خطير، أخطر مما تظن)
زفر قاصي نفسا من أعماق صدره وهو ينظر الى السماء بجنون بينما تكاد أصابعه أن تقتلع خصلات شعره...
ثم هتف بترجي يتناقض مع ملامحه الشرسة.

(حاول فقط أن تجعلهم ينتظرون قليلا، لا يزال الليل في منتصفه)
خفق قلب تيماء بعنف، و هي تراه يدور حول نفسه هادرا
(تبا لك و لهم، اغلق الهاتف)
و ما أن أخفض هاتفه حتى صرخ عاليا وهو يركل اطار السيارة عدة مرات بعنف...
(تبا، تبا، تبا)
اندفعت تيماء لتمسك بذراعه و هي تهتف بتوتر عنيف
(توقف يا قاصي، توقف أرجوك)
أبعد يدها عن ذراعه بقوة وهو يهتف
(ابتعدي عني الآن يا تيماء، لا أستطيع السيطرة على غضبي في تلك اللحظة).

الا أنها عادت و تمسكت به بكل قوتها لتهتف بتصميم
(لا بأس، لا تسيطر على نفسك، لكن لا تبعدني عنك)
أسند كفه الى سطح السيارة و احنى رأسه وهو يحاول التنفس بصعوبة، بينما تيماء تنشب مخالبها في لحم ذراعه و هي تحاول أن تساعده كي يهدأ...
و ما أن بدأت أنفاسه تهدأ قليلا، حتى تجرأت و سألت ببطىء
(ماذا حدث؟، أخبرني)
ظل صامتا قليلا، قبل ان يقول بجمود دون أن ينظر اليها...

(لقد غادر المأذون فغادر معه الشاهدين بسبب تأخرنا)
أومأت تيماء برأسها متفهمة رغم البؤس الذي اكتنفها عنيفا في تلك اللحظة، لكنها قالت بجدية
(لا بأس، نبحث عن مأذون آخر و امر الشاهدين سهل)
هز قاصي رأسه بيأس، قبل أن يقول بصوت غاضب مكبوت
(ليس الامر بهذه البساطة)
قالت تيماء بلهفة
(لماذا لا يكون؟)
رفع وجهه ينظر الى ملامحها الفتية بيأس قاتم، قبل أن يقول بخفوت مشددا على كل حرف كي لا ينفجر غضبا مجددا.

(لا يمكننا عقد قراننا بهذه البساطة، أخبرتك أننا نثير الشبهات، أنت لم تتجاوزي التاسعة عشر حتى دون أهلك و دون ولي، لذا كان على الإستعداد لهذا)
رمشت تيماء بعينيها مدركة أن هناك الكثير من الأمور كانت غافلة عنها، بينما شعرت باليأس يكتنفها بشدة
فانتظرت عدة لحظات قبل ان تقول بخفوت بائس
(اذن هل، هل ستعيدني الى بيتي؟)
برقت عينا قاصي بشراسة و هو يقول
(مستحيل).

شعرت بالراحة الآن من شدة عنف اجابته، كانت تخشى أن يعيد التفكير في الأمر...
فقالت بخفوت
(و ماذا سنفعل؟)
قال قاصي بخشونة
(تم تأجيل الموعد لصباح الغد)
شعرت بخيبة الأمل، كانت تعد لدقائق لتصبح زوجته بالفعل، الا انها شعرت على الأقل بالراحة و هي تقول
(ها قد حلت المشكلة، لا بأس اذن، آآآآآه لكن أين سأذهب أن لم تعيدني الى بيتي؟)
بدأ القلق الآن يعتمل بداخلها مجددا، فنظر اليها قاصي بملامح كئيبة...

رمشت بعينيها و همست بخفوت
(يمكنني قضاء ليلتي في فندق)
لم تتحرك ملامحه الصخرية وهو ينظر اليها بصمت قبل أن يقول بجفاء
(لن يقبل أي فندق محترم مكوثك لليلة واحدة دون حجز مسبق و أنت في مثل هذا السن، كما أنني لن أسمح بذلك)
تنهدت تيماء و قد بدأت تشعر بأنه محق في كل الغضب الذي يشعر به...
فقالت بقلق
(اذن أعود الى بيتي و نسافر غدا صباحا)
ضحك بسخرية سوداء وهو يقول بخفوت.

(بعد ان أرسلت الرسالة الى امك؟، هل تتوقعين أن تودعك غدا صباحا و تتمنى لك التوفيق؟)
قالت تيماء بشجاعة
(أمي لا تستيقظ قبل الظهيرة، كما أنها تتناول أقراص قوية للنوم)
هتف قاصي بعنف
(لا أستطيع المجازفة، و لو كان احتمال الخطأ واحد بالمئة، لقد بدأنا طريق اللاعودة يا تيماء، افهمي ذلك)
ابتعد عنها لجلس أرضا مستندا الى اطار السيارة، رافعا ساقيه و قد أراح مرفقيه اليهما غير مباليا باتساخ ملابسه...

و هي أيضا لم تبالي بملابسها حين انخفضت لتجلس بجواره و قد طوت ساقيها تحتها، تنظر اليه و تود لو تضمه الى أحضانها طويلا كي يرتاح قليلا من شدة التوتر الذي يعصف به منذ أن أتى اليها...
مدت يدها لتريحها على ساعده برفق و همست
(قاصي، بماذا تفكر؟)
كان وجهه جامدا وهو ينظر الى الليل أمامه قبل أن يقول بخفوت
(أفكر عما سأفعله بك الآن)
زمت شفتيها و قالت بنفور.

(و كأنني طرد أو بضاعة، ليس هذا الشعور المناسب لعروس في ليلة زفافها)
رفع قاصي عينيه الى عينيها و هالها التعبير الخائن المزلزل بهما قبل أن يقول بصوت قاتم، اسود
(كما ترين، لا ليلة زفاف اليوم، لذا من الأسلم لك أن أفكر بك كطرد)
ضحكت تيماء رغم خيبة الامل الشنيعة و احمرت وجنتيها قليلا و هي تخفض وجهها، و قد بدأت تشعر بالأمان يتسلل اليها لأنه بجوارها، في هذا المكان الموحش المظلم...

ساد الصمت بينهما قليلا و هي تستمتع بتلك اللحظات الموحشة، يكفيها أنه هنا...
الى ان قال قاصي بجمود بعد تفكير عميق
(ستبيتين في شقتي الليلة)
انتفضت تيماء و هي ترفع وجهها اليه مصدومة، ثم قالت متلعثمة...
(لكن، ليس، هذا لا)
نظر إلى عينيها طويلا بعينيه العاصفتين، ثم قال اخيرا بفتور لا يتناسب مع نظرات عينيه
(و انا سأقضي ليلتي خارجا).

أفلت نفسا مرتجفا من بين شفتيها و هي تنظر أمامها، حاولت الجدال من باب المجاملة كي تثنيه عن هذا التعب الذي سيتكلفه، لكنها كانت تعلم أنها ستكون محاولة حمقاء، فلا حل آخر سوى هذا...
تكلم قاصي أخيرا بصوت غريب خافت، و شارد في البعيد
(لم أعرف معنى الخوف قبل أن أعرفك)
اتسعت عيناها و هي تنظر اليه، بينما لم يلتفت اليها و كأنه لم يخاطبها للتو...
همست تيماء بخفوت
(أنا معك، و انتهى الأمر).

قال قاصي بنفس النبرة الشاردة
(لن ينتهي قبل أن تصبحي زوجتي، ملكي، و آخذك بعيدا)
ابتسمت تيماء بارتجاف لكن ابتسامتها فشلت و تهاوت و هي تقول
(فقط بضع ساعات و ينتهي الأمر، بضع ساعات أزيد قليلا)
نظر قاصي اليها، ينظر إلى عينيها طويلا، و لأول مرة منذ أن رآها يتأمل شكلها...
كانت قد اهتمت بنفسها كعروس، و هذا ما لم يلحظه من قبل!

كانت ترتدي فستانا أبيض رقيق من الشيفون يتراقص حول ركبتيها، و فوقه سترة من الجينز الأزرق...
أما شعرها فقد جمعته في ربطة أنيقة محاطة بوردتين كبيرتين من الجوري الأبيض، ذكرته بشكلها يوم مولدها حين اعترفت له بحبها...
لقد تنازلت عن فستان الزفاف ضمن الكثير من التنازلات التي قدمتها، لكنها لم تتنازل عن كونها عروس!
لكنه لم يلاحظ، لم يلاحظ أي من هذا، بل بدا و كأنه لم ينظر سوى لعينيها فقط.

هل تدرك كم كان ممزقا ما بين الخوف من أن يفتضح أمرها قبل زواجهما و ينالها الأذى من والدها...
و ما بين عذاب الضمير...
كم كان يشعر بالحقارة و الدونية، حتى الآن منحته تيماء كل شيء، تنازلت عن كل شيء لأجل البقاء معه...
تيماء كانت هي الجانب السخي في هذه العلاقة منذ البداية، كانت تعطي بلا حدود...
لكن ماذا أعطاها هو في المقابل؟
ماذا أعطاها سوى التخلي عن دراستها و حلم حياتها، و خزي أبدي سيلازمها العمر كله!

همست تيماء تخرجه من أفكاره برقة
(بماذا تفكر؟، هلا أرحتني و ادخلتني الى رأسك ذات الأسرار السوداء)
نظر اليها طويلا بصمت قبل أن يقول بصوت أجش صادق...
(أفكر كم أنت جميلة!، و كم تبدين كأجمل من أجمل عروس رأيتها من قبل!)
و كانت ابتسامتها في تلك اللحظة هي أجمل هدية تلقاها في حياته...
ابتسامة منحته الحياة التي اندفعت في جسده الخامد، فقفز من مكانه و مد اليها كفه ليقول بصوت صارم.

(انهضي لنصلح تلك السيارة اللعينة، سنصل حتى لو اضطررت الى جرها بنفسي)
كانت تيماء مصدومة من سرعة تغير مزاجه، لقد غازلها للحظة، فقط لحظة...
قبل أن يعود الى أحد أقنعته، وهو القناع الصارم...
مدت يدها لتضعها في كفه، فوجدت نفسها تطير واقفة كالريشة و فستانها يتطاير من حولها...
و قبل أن تستعيد أنفاسها قال قاصي بنفس النبرة الصارمة وهو يتركها و يتجه الى مقدمة السيارة
(تعالي لتساعديني).

فغرت تيماء شفتيها و همست بعدم استيعاب
(ها؟، حاضر، انا قادمة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة