قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

فتح قاصي باب شقته القديمة، ثم التفت الى تيماء التي كانت تقف خله مكتفة ذراعيها بتوتر، تنظر حولها كاللصوص، فقال بخفوت
(ادخلي)
اجفلت تيماء من أمره الهادىء، فنظرت الى عينيه بتردد...
الا أنها ابتلعت ريقها و أومأت برأسها متظاهرة بالإبتسام، فتقدمته بتعثر و تركت له أمر حمل حقيبتها...
كان الظلام دامس و قد اقترب الوقت من الثالثة صباحا...

السكون بدا مخيفا و ثقيلا من حولها، لكنها تشجعت و خطت الى داخل البيت و ما ان تقدمت بخطوتين حتى استدارت اليه و هي تهمس بخوف
(أين مفتاح الضوء؟، آآآآه)
لم تكمل عبارتها المرتجفة فقد اصطدمت بصدره الرحب ما ان التفتتت، فلم تكن تعلم انه خلفها مباشرة...

شهقت تيماء و حاولت التراجع الا ان ذراعه امتدت لتحيط بخصرها تمنعها من الإبتعاد، بينما سمعت صوت الحقيبة و هي تسقط ارضا، أما ذراعه الأخرى فقد امتدت خلفه لتغلق باب الشقة...
فضاع بصيص الضوء الوحيد المنبعث من السلم الخارجي، و غرقا معا في بحر اسود عميق...
هتفت تيماء همسا و هي ترتجف
(قاصي، اشعل الضوء)
أما يداها فقد ارتحاتا على صدره الذي كان يخفق متسارعا، ينقل ارتجافه لها...

و شعرت بشفتيه تقتربان من أذنها وهو يهمس بصوت أجش
(ألم تخبريني مرة سابقا أنك لا تخافين الظلام)
شعرت تيماء بالدوار و همست مرتعشة
(لست خائفة، لست خائفة)
همس قاصي بصوته الأجش الذي يذيب عظامها وهو يزيد من تقريبها اليه، بينما انثنى ذراعيها بينهما
(لماذا ترتجفين اذن؟، لأنني معك؟)
أغمضت تيماء عينيها كي لا تراه، على الرغم من أنها لم تكن تراه من الأساس بسبب الظلام الدامس.

كان بإمكانها دفعه و الإبتعاد، الا أن عقلها توقف عن اعطاء الإشارة الى ساقيها بالتحرك، و تحولت الى دمية فاقدة الإرادة على ذراعه...
تابع قاصي بصوته الأجش الهامس
(الا تثقين بي؟، ألم تخبريني أنك تثقين بي أكثر من نفسك)
أخفضت تيماء وجهها حتى لامست جبهتها كتفه الصلبة و همست بإختناق
(أثق بك أكثر من ثقتي بنفسي، و هذه اللحظة أكثر من اي لحظة مضت، أثق بك، لكني لا أثق بنفسي).

لم تكد تهمس بكلماتها المثيرة للشفقة حتى رمشت عينيها و شهقت و هي ترى الضوء الساطع يغمرهما و يغشي عينيها...
و ما أن استطاعت استجماع تركيزها حتى تركتها ذراعه، فقفزت للخلف و هي تنظر اليه مرتبكة متسارعة التنفس، بينما استند هو بظهره الى باب الشقة يبادلها النظر بتكاسل، على الرغم من تسارع نفسه و اشتعال عينيه...
ثم قال أخيرا بخشونة و بصوت متحشرج
(مرحبا بك في بيتك، أتتذكرينه؟).

رمشت تيماء بعينيها عدة مرات و هي تحاول التقاط أنفاسها، ثم ابتسمت رغم عنها و همست
(طبعا أتذكره)
و انتهزت الفرصة كي تبتعد عن حصار عينيه الجامحتين، فتظاهرت بتفقد المكان...
كانت الشقة تبدو كما هي تماما، لم تتغير بها قشة...
نفس أماكن الأريكة و الكراسي، حتى الجيتار موضوع مكانه!، و كأنها تركته في الأمس...
فشعرت بحنين غريب، و كأنه بالفعل بيتها بالفعل، على الرغم من أنها لم تقضي به سوى بضع ساعات فقط...

همست تيماء بصوت مبتسم مشتاق
(حين غادرته سابقا، لم أعرف يومها أنه سيكون اكثر بيت أشتاق اليه فيما بعد، أنه سيكون بيتي)
كان قاصي يتأملها دون أن يتحرك من مكانه بصمت، و كأنه يخاف من نفسه إن تحرك خطوة تجاهها...
ثم قال أخيرا بصوت خافت
(ليت بإمكاننا أن نقيم به بعد زواجنا، لكن ما أن نعقد قراننا حتى سيتعين علينا الرحيل)
شعرت بالحسرة على هذا البيت على الرغم من انها لم تقم به يوما...

كم تخيلت نفسها تعد الطعام به لقاصي، تخيلت نفسها و هي تجلس أرضا بالقرب من الأريكة عند ساقيه وهو يعزف على جيتاره...
تسائلت كثيرا عن شكل غرفة نومه، كما رآى هو غرفة نومها...
همست تيماء بابتسامة حزينة
(خسارة)
تكلم قاصي بصوته المذيب للمفاصل
(كم تخيلتك هنا، كانت صورة أقرب الى المعجزة و تلك الطفلة التي أتت الى هذا البيت ذات يوم تكبر أمامي يوما بعد يوم حتى تتحول الى فراشة فاتنة).

استدارت تيماء اليه فدار فستانها حول نفسها، ثم قالت مبتسمة
(هل تراني فراشة فاتنة؟)
ابتسم دون أن يرد، و تكفلت عيناه بالإجابة، فأخفضت وجهها و قلبها ينتفض...
ازداد الجو حولهما توترا من هول مشاعرهما، فقالت تيماء بخفوت و تلعثم
(هل ستذهب الآن؟)
رد عليها قاصي بجفاء
(على الذهاب حالا)
رفعت وجهها اليه تشجعه بعينيها رغم الإحباط العارم الذي يساورها و همست مطمئنة
(لم يتبقى سوى بضع ساعات).

لم يرد عليها على الفور، بل ظل ينظر اليها الى أن قال أخيرا
(سأذهب الى الحمام أولا كي أنظف نفسي من و أغير قميصي ثم أخرج على الفور)
ياللهي!
لقد شعرت بالخوف و الشوق له قبل حتى أن يخرج، فماذا ستفعل بعد يغلق الباب خلفه و يتركها هنا في مثل هذا الوقت، الا أنها حاولت السيطرة على مشاعر وجهها كي لا يتخاذل فابتسمت له مشجعة
تحرك قاصي ببطىء و كأنه لا يرغب في مغادرتها...

بينما استدارت تيماء عنه، تبتعد عن عينيه المشتعلتين و قلبها يخفق بشدة...
ما أن سمعت صوت اغلاق باب الحمام من خلفها، حتى أخرجت النفس المتحشرج الذي كتمته طويلا...
نظرت حولها و أرادت اخراج أغراضها الخاصة من حقيبتها، لكنها لا تستطيع فتحها هنا في الردهة...
لذا تقدمت اليها و حملتها و هي تتحرك بتعثر على اطراف اصابعها بحثا عن أي غرفة تتخبأ بها...
لكنها لم تحتاج الى البحث طويلا...

فالشقة لم تحتوي سوى على غرفة واحدة في نهاية الرواق، و بينما هي تمر اليها مرت بالحمام و سمعت صوت انهمار الماء به بقوة...
فأغمضت عينيها و هي تلتقط نفسا متحشرجا، قبل ان تسرع الخطا هاربة الى الغرفة...
ما أن أشعلت الضوء بها، حتى ابتسمت تلقائيا و هي ترى غرفة نومه أخيرا...
كانت تقريبا كما تخيلتها...
السرير صغير لفرد واحد، معظمه من النحاس المشغول ببساطة...
و دولاب صغير، أما البساط فقد اهترأ من عنف خطواته...

و على الرغم من بساطتها الا أنها كانت من أجمل الغرف التي دخلتها يوما، يكفي عطره الذي داهمها ما أن أخذت بها أول نفس عميق...
تحركت ببطىء و هي تتقدم الى السرير فوضعت حقيبتها عليه...
ثم اتجهت الى المرآة القديمة المعلقة الحائط و أمامها طاولة خشبية صغيرة، من المفترض ان تكون تشكل مع المرآة طاولة زينة!
ابتسمت بحب و هي تتأمل تكوينه لأجزاء الغرفة من أغراض مختلفة...

ثم التقطت أحدى زجاجات عطره و أغمضت عينيها و هي ترش بعض منه على وجهها...
و صدر عنها تأوه عميق و هي تتعرف على هذا العطر...
هو ما يستخدمه كلما أتى اليها، نفس العطر لم يتغير منذ سنوات...
همست تيماء بعشق
(آه من عطرك يا قاصي، أخيرا لم يعد يفصلني عنك سوى هذا النفس من عطرك، و ما أن يتخلل أنفاسي حتى تصبح أقرب إلى من نفسي)
فتحت عينيها لتتأمل نفسها في مرآته...

لقد اختفت كل زينة وجهها التي وضعتها في بداية الليل، و هناك بقعة سوداء أسفل وجنتها...
لكن البريق في عينيها العاشقتين و احمرار وجهها كان أروع زينة وضعتها يوما
و بالفعل رأت نفسها فراشة جميلة...
تحركت تيماء و هي تبتعد عن المرآة محتضنة زجاجة عطره، و دون تردد فتحت حقيبتها لتضع بها قنينة العطر، ستحتفظ بها لنفسها...
شرعت تبحث عما تريده في حقيبتها و الإبتسامة تزين فمها...

الا أن حركة خلفها جعلتها تتوقف و تستدير حول نفسها مجفلة، لتجد أن قاصي يقف عند باب الغرفة وهو يرتدي بنطالا من الجينز فقط، بينما صدره عار كأول مرة تراه بها، و الماء لا يزال يقطر من شعره وهو يمسك بمنشفة سوداء يجفف بها عنقه...
تسمر كل منهما وكأنهما يريان بعضهما للمرة الأولى...
فغرت تيماء شفتيها ثم همست مرتجفة
(أنا، انا آسفة، لقد تحركت بحرية، قبل أن تأذن لي).

هز رأسه قليلا و كأنه يحاول أن يجلي تفكيره، ثم قال بصوت باهت قليلا
(بالطبع، أنا أعتذر لأنني دخلت دون اذن، هذا بيتك حتى الغد، فاعتاديه، سآخذ قميصا آخر و أخرج على الفور)
أومأت تيماء و عضت على شفتيها دون أن ترد، فتحرك قاصي أمام عينيها المبهورتين به ليخرج قميصا له من الدولاب بجوارها، لكن و ما أن استدار اليها، حتى وقعت عيناه على حقيبتها المفتوحة فوق السرير...

شهقت تيماء و هي تدرك أنها قد تركتها مفتوحة، فسارعت الى محاولة اغلاقها، الا أن قاصي كان أسرع منها وهو يمنعها و فتحها بقوة فهتفت تيماء ووجهها يلتهب
(ابتعد يا قاصي، لا تنظر في حقيبتي، اخرج من هنا)
الا أنه أمسك بمعصمها يبعدها عن الحقيبة، ليرفع حاجبيه وهو ينظر الى العدد اللا متناهي من الملابس النسائية الحريرية الخاصة، و التي احتلت مساحة كبيرة من الحقيبة...

تناول قاصي قميص نوم حريري قرمزي اللون، شديد الجرأة و رفعه وهو ينظر اليه بذهول...
بينما رفعت تيماء يديها تغطي بهما وجنتيها المتوهجتين و هي تشهق برعب...
أما قاصي فلم يسمعها، و لم تظهر على ملامحه الجامدة أي تعبير، بل تناول واحدا آخر بلون أرجواني أشد جرأة لا يترك شيئا للمخيلة!
خاصة بعد ان رفعه أمامه و استطاع أن يرى الرؤية واضحة من خلاله بكل بساطة، و كأنه منسوج من شباك العنكبوت، قبل أن يقول بخفوت مصدوم.

(ماهذا؟)
كانت تيماء تبكي من شدة الخجل فاختطفت القميص من يده و هي تهتف بغضب و عذاب
(لا يحق لك أن تفتش في أغراضي الخاصة، اخرج من هنا)
كان قاصي لا يزال على حاله وهو ينظر اليها بملامحه الجامدة و التي تعلوها بعض الصدمة...
يراها و هي تبكي و تكافح مع الحقيبة كي تغلقها بجنون...
فقال بنفس الصوت المصدوم الباهت
(و من يحق له اذن؟، لماذا اشتريت هذه الأغراض يا تيماء؟).

لم ترد عليه، و لم تستدير له، فقد انسابت دموع الإحراج على وجنتيها، فازداد اقترابا منها الى أن شعرت بحرارته على ظهرها و هو يهمس في أذنها بجدية
(أو السؤال الأصح، لمن اشتريت هذه الأغراض؟)
كتفت ذراعيها حول خصرها و هي تغمض عينيها دون أن تستدير اليه، بينما قال قاصي بخفوت متابعا
(طبعا لا داعي للسؤال إن كانت أمك قد اصطحبتك لشرائها).

لم تفتح عينيها، لكنها هزت رأسها نفيا دون أن تستدير اليه، فأومأ قاصي برأسه وهو ينظر الى عنقها و رأسها المنخفض، ثم همس بصوت أجش
(و من اين اشتريتها وحدك؟)
لعقت تيماء شفتيها و همست باختناق
(هناك، محلا للألبسة النسائية الخاصة في أول الشارع الذي به بيتنا، مررت عليه و ابتعت تلك الأشياء)
ابتسم قاصي ببطىء، لكنها لم تكن ابتسامة شهوة أو رغبة...
بل كانت شيئا اعمق، و أكبر بكثير، ترك اثره في عينيه المشتعلتين...

تعاطف لكن عاطفته بعيدة عن الشفقة، بل أقرب الى وجع القلب...
همس قاصي بخفوت اكبر يكاد ان يكون تحشرجا مشفقا...
(و اخترتها قطعة قطعة؟، ظننت أنني سآخذ وقتا اطول في محاولة تقريبك مني يا تيماء الوقحة)
شهقت تيماء مجفلة، لكنها لم تتجرأ على الإستدارة اليه...
الا أن نبرة صوته لم تكن تحمل الإهانة، بل كانت تحمل الإدراك...

الإدراك للمزيد و المزيد مما تمنحه اياه دون أي تحفظ، يشعر بها ترتجف، بعيدة عن أمها للمرة الاولى...
لم تعرف يوما معنى رعاية الأب، و مع ذلك حبها الغير مشروط له يتفجر بسخاء...
تيماء هي كل حياته و كل أهله، و هي أرضه المزهرة...
ابتعد عنها منتفضا بقوة و تراجع بظهره قائلا بابتسامة نادرة، نادرة جدا من شدة اتساعها وهو يقول بصوت مبحوح، غريب عنه، غريب عن سخريته و أقنعته كلها...

(سأغادر الآن تيمائي المهلكة، و سأبيت ليلتي بخيال لتلك الأشياء الخلابة و هي تضمك، على أمل أن ألبسك إياها بنفسي قريبا، قريبا جدا)
فغرت تيماء فمها بذهول بينما شعرت أن وجنتيها لم تكن لتتحمل المزيد من الحرارة...
بينما ضحك قاصي بخشونة وهو يتابع
(من كان يتوقع ذلك منذ عشر سنوات؟)
ضحك مجددا، فرفعت يديها الى وجهها المشتعل و هي تبدو كالحمقاء المذهولة بغباء...

و ما أن ساد الصمت خلفها حتى استدارت بسرعة لتجد أنها أصبحت وحيدة تماما في غرفته...
و قبل أن تسحب النفس الثاني، سمعت صوت باب الشقة يصفق بقوة، مخبرا إياها أنه قد رحل...
خرجت تيماء بسرعة الى الردهة و هي تهتف بلوعة
(قاصي!)
لكنها لم تسمع سوى صدى صوتها، فسقط كتفاها بأسى و هي تهمس باسمه مجددا...
و لأول مرة تشعر أنها وحيدة بهذا الشكل، الذي يفوق حتى تخلي والدها عنها...

استدارت تيماء و جرت قدميها بتثاقل عائدة الى غرفته...
لقد أشعل بداخلها مشاعر لم تعرفها مع رجل غيره من قبل، و لم تعرف بوجودها اصلا الا معه...
ثم غادر...
نعم هي تثق به و لا تثق في نفسها...

لا تعلم متى نامت و متى استيقظت...
كل ما تعرفه هو أنها فتحت عينيها على صوت مزعج، صوت رنين الباب و طرق عليه...
رمشت تيماء بعينيها و هي تحاول استيعاب ذلك الصخب العالي...
و ما ان عادت بادراكها لوجودها في غرفة قاصي، نائمة على سريره حتى انتفضت جالسة بقوة و هي تبعد شعرها الهمجي عن وجهها...
و همست بلهفة
(هل أتى الموعد بهذه السرعة؟).

لكن نظرة واحدة الى ساعة معصمها جعلتها تعقد حاجبيها، لم تكن الساعة قد تجاوزت السادسة صباحا بعد...
لقد نامت ساعتين فقط...
انتفضت مجددا على صوت رنين جرس الباب الصاخب، ففغرت شفتيها بهلع و هي تهمس
(و لماذا يستخدم قاصي الجرس بهذا الإلحاح و هو يمتلك المفتاح؟، ياللهي!)
قفزت من السرير و جرت حافية القدمين حتى وصلت الى باب الشقة، و يدها على صدرها الخافق برعب...
كانت تشعر بانها تموت مع كل خطوة تخطوها تجاهه...

ما سيحدث الآن لن يكون خيرا أبدا، قلبها يخبرها بذلك...
كانت تجر قدميها جرا كمن يساق الى حبل المشنقة، قبل ان تلتصق بباب الشقة و هي ترهف السمع...
و كان ما سمعته كفيلا بان يجعلها تسقط من شدة رعبها
فقد سمعت صوت والدها يقول بخفوت شرس كي لا يسمعه الجيران
(افتح الباب أيها القذر، أعلم أنها معك في الداخل، أقسم بالله إن لم تفتح الباب فسأكسره و أقتلكما معا أمام الجميع).

شهقت تيماء بصوت عالي و هي تضرب وجنتها بيدها بقوة، بينما اتسعت عيناها بذعر...
لكن مع ثاني ضربة على الباب تعالى صوته قليلا و قد فقد سيطرته على نفسه وهو يهتف
(اذن انت طلبت ذلك)
حينها أسرعت تيماء بفتح الباب دون تفكير ووقفت أمام سالم الرافعي ترتعش بعنف...
الا أنها حاولت جاهدة اخفاء رعبها عن ملامحها و هي تواجهه...
تسمر سالم مكانه وهو ينظر اليها بصمت غريب...

عيناه كالمجانين و فمه يغلي و يرتجف، وهو يتأملها ترتدي قميص بيتي قطني يصل الى ركبتيها، و شعرها أشعث بجنون في هالة مجعدة حول وجهها المتورم من أثر النوم...
دخل سالم الى البيت ببطىء دون أن يرفع عينيه الذاهلتين عنها، ثم أغلق الباب خلفه...
كان يتقدم اليها، و هي تتراجع أمامه و صدرها يرتج و ينتفض...
والدها في تلك اللحظة بدا مجنونا، مرعبا...
لم تراه يوما على مثل هذا الحال من قبل...

تكلم سالم الرافعي أخيرا بصوت خفيض ذاهل، شرس، مرعب...
(لم أصدق، لم أصدق حين أخبرني أحد رجالي، كدت أن أبطش به، القذر الذي آمنته على حرمة بيتي، و أنت، أنت التي يجري الفجر بدمك، كيف استطعت أن تسقطي رأسي في هذا الوحل المدنس؟، كيف؟، تقفزين الى سرير أول خادم من خدمي تتعرفين اليه!)
صرخت تيماء بوحشية فجأة
(اخرس).

كانت تلك الكلمة هي الشرارة التي جعلت والدها يفيق من ذهوله، لتشتعل ملامحه و عينيه فجأة بكل الإجرام وهو يخرج سلاحا ناريا من حزام بنطاله و يصوبه الى صدرها
شهقت تيماء و هي تفغر شفتيها برعب ناظرة الى السلاح المصوب اليها، فهتفت
(أبي أخفض سلاحك، لم يحدث شيء، أقسم لك)
الا أن سالم الرافعي هجم عليها و أمسك بشعرها المجعد بكل عنف وهو يخفض رأسها حتى صرخت ألما...

لكنه لم يبالي بصراخها المتوجع و جرها خلفه كحيوان معذب حتى غرفة النوم...
كانت تيماء تحاول مقاومته و هي تبكي بصوت عال الا أن قبضته في تلك اللحظة تحولت الى مصيدة من حديد، و زاده الغضب قوة مهولة كانت أضعف من أن تنجح في التحرر منها...
ما أن دخل معها حتى ارتطمت بطاولة الزينة مسقطة اياها أرضا بصوت عال فصرخت و ساقها تضرب بها و تتمزق بفعل الإطار الحديدي لها...

لكن سالم لم يهتم ونظر في أنحاء الغرفة حتى رأى حقيبتها المفتوحة، فتنقلت عيناه المتوحشتين على الأقمصة الحريرية الجريئة المتناثرة في كل مكان...
حينها لم يستطع منع نفسه وهو يضربها مؤخرة سلاحه في صفعة قوية شجت أعلى وجنتها، مما جعلها تصرخ عاليا كحيوان جريح، و سقطت أرضا...
الا أن يده الممسكة بشعرها لم تسمح لها بالوقوع تماما، فبقت رأسها مرفوعة في قبضة يده و الدماء تتفجر بغزارة من جانب وجهها...

كانت تبكي و تصرخ بعنف من شدة الوجع...
(لم يحدث شيء، أقسم لم)
لكنه لم يمهلها وهو يترك شعرها ليصفعها مجددا بيده الحرة...
صرخت تيماء و هي تقع أرضا، محاولة حماية وجهها بذراعيها و هي تصرخ و تنتحب...
الا أن قدمي والدها لم ترحمانها وهو يركلها بكل قسوة و هي تتلوى صارخة
(أرجوك توقف، لم أفعل شيئا، اقسم أنني لم أفعل شيئا)
الا أن والدها كان كالمجنون في تلك اللحظة وهو يصرخ بصوت أعلى من صوتها.

(اين هو، اين شريكك يا فاجرة؟، سأقتلكما معا و أنظف شرفي بدمكما)
تجمدت تيماء مكانها للحظة و هي تسمع تهديده بقتل قاصي...
فرفعت وجهها المتورم النازف بصعوبة و همست و هي تلهث
(لم يفعل شيء، استوعب ذلك، ستتسبب في فضيحة لنفسك دون سبب، لم يحدث بيننا شيء)
ضربها سالم بقدمه مرة أخرى وهو يصرخ بهياج
(أيتها الكلبة الحقيرة كيف تتجرأين على الكذب و انت هنا في غرفة نومه و بملابس النوم و تلك القذارة المتناثرة في كل مكان؟).

أغمضت عينيها بألم و هي تتأوه من شدة ضرباته و الدموع تنساب على وجهها لتمتزج بخيط الدم السائل من وجنتها و زاوية شفتيها...
ثم قالت تئن بعذاب...
(كنا سنتزوج، أقسم بالله كنا سنتزوج على سنة الله و رسوله، لهذا أعددت ملابسي، لكنه بات خارج البيت و كنا سنعقد قراننا اليوم، لكن لم يحدث بيننا شيء).

برقت عينا سالم بجنون و لم يتمالك نفسه وهو ينتزع حزامه الجلدي من حافة خصر بنطاله، ليرفعه عاليا و يهبط به بكل قوته على جسدها دون تمييز وهو يصرخ بجنون
(أيتها الحقيرة، تتزوجين من خادمي، و تحطين من قدري، هل أنت حامل منه؟، انطقي، الهذا سيتزوجك يا فاجرة؟)
صراخه اختلط بصراخها العالي و هي تتلوى يمينا و يسارا، اخذت تصرخ و تصرخ حتى راح صوتها و تجرحت حنجرتها فطفقت تشهق بعذاب من شدة الالم...

لكن صوتا مختنقا جعلها تئن بإختناق
(أنا لم أفرط في شرفي، اقسم، أنا أحبه، لقد أحببته فقط)
لكن شيطان سالم كان مسيطرا عليه وهو يواصل ضرباته بكل قوته، و ما أن رمى حزامه أرضا أخيرا حتى جثا بجوارها و عاد الى جذب رأسها من شعرها فصرخت بانين...
الا أنه هز رأسها بعنف وهو يهدر أمام وجهها رافعا يده ليلطمها مرة بعد أخرى
(أين هو؟، أين هو؟).

صرخت تيماء بجنون و هي تبكي متوجعة بينما تحول وجهها الى كومة من اللحم النازف المكدوم
(لن أخبرك لتقتله، لن أفعل، أقتلني إن كنت ترغب، لكنني لن أخبرك شيئا عنه)
كلماتها أثارت غضبه أكثر، فضربها مجددا، أغمضت تيماء عينيها و أرجعت رأسها للخلف تنتحب بقوة و هي تنادي
(أنجدني يا قاصي)
لكن لطمة أخرى جعلتها تبتلع المتبقي من كلماتها، ثم أعاد والدها جذب رأسها اليه من جديد وهو يهمس بشراسة.

(أين هو؟، سأجده في كل الأحوال لكن لو أخبرتني الآن فربما قتلتك قتلا رحيما دون عذاب)
شهقت و انتحبت اكثر، الا انها صرخت بكل عنف و هي تبصق دما من وجهها
(لن أخبرك، نحن لم نفعل شيئا، أقسم انني كما أنا و لم أفرط في شرفي)
ساد صمت قصير، و انفاس سالم عالية مرعبة وهو يتأمل وجهها المضروب و شعرها بين قبضته...
ثم قال أخيرا وهو يلهث بصعوبة
(هل أنت مستعدة لإثبات برائتك؟).

فتحت عينيها تنظر اليها من بين الدم الذي اختلط بدموعها، الا أنها همست باختناق
(ماذا تقصد؟)
هز سالم رأسها بقوة فتأوهت و قال مشددا من بين أسنانه
(هل أنت مستعدة للتأكيد على أنك لازلت عذراء؟)
تراخت عضلاتها، و نظرت اليه بضياع، كان وجهه متحجرا كتمثال نحت للشيطان...
ظنت وقتها أن ما نطق به هو اسوأ ما قد يحدث لها في حياتها، لم تكن تعلم أن الأسوأ لم يأتي بعد...
بل لم يقاربه حتى...

لكن فكرة واحدة سيطرت عليها، أن والدها فعلا قد يقتل قاصي دفاعا عن شرفه...
و لو تطلب الحفاظ على حياته أن تتنازل عن كرامتها، فستفعل...
لذا فتحت شفتيها المتورمتين و همست بضياع
(مستعدة، لكن عدني أن تتركه، أرجوك)
نظر اليها سالم طويلا، ثم قال أخيرا بصوت خفيض مرعب
(الكلام عن حياة هذا الفاسق سابق لاوانه، أولا سآخذك معي للطبيبة خاصة)
كانت تتنفس بصعوبة، و هي مستلقية تنظر الى السقف، تتمنى لو غابت عن الوعي...

لكنها همست أخيرا بصوت ميت
(سآتي معك).

كان يصعد كل درجتين معا...
لقد أتى مبكرا جدا عن الموعد، لكن خوفه عليها كان أكبر من أن ينتظر...
منذ ليلة أمس وهو يشعر بإنقباض عنيف في صدره، جعله متناقض التصرفات، حقيرا في معظمها...
لقد أغضبها أكثر من مرة و احتد عليها...
لكن هذه هي شخصيته السوداء القاتمة، لا يملك أن يغيرها...
لكنه سيراضيها الآن، سيبقى معها الى ان يحين موعد الذهاب الى المأذون، ثم لن يتركها للحظة واحدة بعدها...
و سيحرسها دائما...

تباطئت خطواته المسرعة فجأة، و توقفت تماما، وهو يقف أمام باب شقته المفتوح على مصرعيه!
لا يعلم كم طال وقوفه بهذا الشكل، ربما لدقيقة كاملة...
قبل أن يجبر قدميه على التحرك للدخول بملامح وجه ميت...
و كأن عقله قد امتلك جوابا ترفض عيناه و قلبه أن يصدقاه...
دخل قاصي ببطىء الى الردهة، ثم توقف مناديا بصوت أجوف، ميت
(تيمااء)
لا صوت، لا مجيب...
لم تتغير ملامحه، و لم تعد الحياة اليها، لكنه نادى مجددا بصوت أكثر تقعرا.

(تيماااااااااااء)
أيضا لا جواب، حينها وجد قدماه تسرعان الخطا الى غرفة النوم، فاقتحمها صارخا بقوة
(تيمااااء)
لكنه صمت فجأة، و تسمر مكانه وهو يرى طاولة الزينة مقلوبة أرضا...
و حقيبة تيماء موجودة كما تركها مفتوحة، بها ملابسها و أقمصتها الداخلية الحريرية...
و زجاجة عطره...
شعر أن روحه تسحب من صدره ببطىء وهو يجيل نظره فوق الأرض، ليرى بقعا واضحة من الدم القاني...

حتى طاولة الزينة، فإن اطارها المعدني مغطى ببقعة حمراء، من الواضح أنها دما...
فغر قاصي شفتيه وهو يشعر بقبضة من حديد منصهر تطبق على صدره...
و همس بضياع مجنون
(تيماء!)
رفع يده ليتحسس بها صدره الهائج برعب، نعم رعب، رعب لم يعرفه من قبل...
ثم لم يلبث أن صرخ عاليا بكل قوته
(تيمااااااااااااء)
سمع فجأة صوت وصول رسالة الى هاتفه...
فأسرع كالملسوع يخرجه من جيبه بأصابع ترتجف، علها تكون من تيماء بأمل خائب...

الا أن عيناه ضاعتا فوق الأحرف التي أعمتها وهو يقرأ بأنفاس متهدجة...
تيماء معي في البلد...
تعال الى هناك لو كنت تمتلك ذرة من رجولة متبقية...
و أنصحك الا تحاول الهرب، فسأحضرك مسحولا بالحبال على أرض الرافعية أمام الجميع...
أمامك فرصة أخيرة لتأتي على قدميك، رفع قاصي وجها بلون الرماد، و عينين بلون الدم...
تيماء في البلد، ما كان يخشاه قد حدث
لقد وقعت بين أيدي الرافعية...

دار حول نفسه كثور هائج، يعاين قوة احتجازه، قبل أن يضرب المرآة فجأة بقبضته و بكل قوته فتحطمت الى شظايا عنيفة قاتلة وهو يصرخ بجنون
(لاااااااا. لااااااااااا، لااااااااااااااااا)
صمت وهو يلهث بعنف، ما بين الشراسة و الرعب كانت ملامحه بعينين متسعتين وهو يريح قبضتيه على الحائط من جانبي المرآة المحطمة...
محنيا رأسه وهو لا يصدق، لا يريد أن يصدق...
تيماء ضاعت للأبد...
أي عذاب تتلقاه الآن!

رفع وجهه ببطىء ينظر الى صورته المشوهة في الأجزاء المتبقية من المرآة...
ثم و دون أن يدرك ما يفعله، التقط شظية من الشظايا...
نظر اليها طويلا، قبل ان يطبق عليها كفه بكل قوته، و أخذ يضغط و يضغط، حتى سال الدم عليها بغزارة، دون أن يظهر الألم على ملامح وجهه الحجري...
و اخذت القطرات تتوالى على الأرض عند قدميه، بجوار بقعة الدم الخاصة بتيماء...
لكن قاصي لم يدرك ذلك كله، بل بدا و كأنه يستمد الموت من الألم...

يريد الموت، كي يذهب الى سالم بلا حياة...
حتى يستوعب ما تعرضت له تيماء، بسببه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة