قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني

(أبي اسمعني للحظة، أنا كنت أريد أنني سأبهرك حقا بمستواي التعليمي، أنا ترتيبي الأول على مدرستي، لقد كنت أعمل بجد خلال السنوات الماضية، و يلقبونني بالنابغة، لقد فزت بعدة مسابقات علمية و أدبية، و لي صورة مع وكيل وزارة التربية و التعليم وهو يسلمني شهادة تقدير، لقد أردت أن تفخر بي، و أريد القدوم للسكن معك و مع عائلتي، لقد سمعت الكثير عن عائلتي و اريد أن)
قاطعها صوت سالم الرافعي هادرا.

(تيماااااااء، توقفي عن هذا الكلام فورا، ما فعلته تستحقين عليه عقابا لا تنسيه لسنوات طويلة قادمة، كيف تتجرأين على السفر وحدك و زيارة شاب غريب لا تعرفين عنه شيئا؟، لو كنت أمامي الآن لصفعتك حتى يهتز الضوء امام عينيك، ستعودين الى امك على الفور و تنسين كل الهراء الذي قلته للتو، والديك هما من يقرران حياتك، لا أنت...

أنا ووالدتك انفصلنا قبل حتى أن تولدي، تقبلي هذا الإنفصال لانني لن أستطيع تقديم ما هو أفضل، و حين تتقبلين الوضع ستجدين كل طلباتك مجابة، غير هذا ستجدين وجها آخر لم تريه من قبل)
ثم سمعت صوت غلق الخط بدا قويا و كأنه باب صفقه في أذنها بعنف...
ظلت تيماء واقفة مكانها و الهاتف على أذنها لفترة طويلة، قبل ان تسمع صوت حركة خلفها.

فالتفتت و الهاتف لا يزال على أذنها. لتجد قاصي واقفا عند الممر وهو ينظر اليها متجهما، قبل ان يقول بخفوت قاتم
(علمت أنك ستفعلين هذا)
لم ترد تيماء على الفور، بل أخفضت الهاتف ببطىء و أعادته الى مكانه قبل ان تتراجع خطوتين و هي تقول بصوت غريب دون أن تنظر اليه
(آسفة، لم يكن على فتح هاتفك)
ظل قاصي صامتا قليلا قبل أن يقول بخفوت
(هل ستبكين؟)
رفعت وجهها شديد الاحمرار اليه قبل أن تهمس بهدوء.

(لماذا؟، كانت مجرد محاولة)
لم يبد عليه أنه صدقها، الا أنه عاد ليستدير مبتعدا عنها لكن ليس قبل أن يأخذ هتفه معه هذه المرة...
دخل قاصي الحمام صافقا الباب خلفه بعنف...
ثم اتجه الى الحوض ليتمسك به بقبضتيه حتى ابيضت مفاصل أصابعه وهو منخفض الرأس حتى أخفى شعره ملامحه...
كان يتنفس بصوت عال، قبل أن يرفع عينيه ببطىء لينظر اليهما في المرآة.

عيناه من النوع المخيف وهو يعلم ذلك، لكنهما لم يكونا كذلك بقوانين الوراثة...
بل اكتسبتا الشر مع مرور الأيام و السنوات، و الإدراك...
جمرتان مشتعلتان، هذا هو الوصف الذي تكرر أكثر من مرة أمامه، و معظمها من فتيات أعجبن بعينيه، بينما لم يتركن في ذاكرته اسما أو حتى ملامح...
أما هو فلم يرى أي اعجاب يوما بنظره عينيه.

بل أصبح ينفر من نظرتهما كل عام يمر، بداخله مرار غير قابل للتداوي...
وصمة عار غير قابلة للمحو أو التعديل...
و تلك الصغيرة الواقفة في منتصف بهو منزله، أثارت بداخله طاقة من العنف تجاه سالم الرافعي...
علي الرغم من أنه كان الأكثر تقبلا له، و يحمل له الكثير من العرفان و الإمتنان
لكن تصرفه اليوم رغم أنه كان يتوقعه بنسبة مئة بالمئة، لكن سماعه على الواقع أثار تقززه...

تيماء سالم الرافعي...
ابنة زواج يعتبر من زيجات النزوة في عائلة الرافعي...
سالم الرافعي و المتزوج من ابنة عمه بحكم قانون العائلة و النسب و التي أنجب منها وردة عائلة الرافعي
مسك سالم الرافعي
لم يكن بعيدا عن بضع تجاوزات نسائية لو صح تسميتها بهذا الإسم...
انتهت بزواج متهور في أحد المدن الساحلية حيث كان يقضي سهرات نهاية الإسبوع عادة...
فتاة عاملة تعرف عليها و استطاعت بمهارة اجباره على زواج سريع عنها...

لم تكن ذات أصل معروف أو نسب عريق، لكنها لم تكن سهلة المنال...
و جمالها الساحلي جعله يسرع في الزواج منها سرا، على الا تنجب و تنسى حلم الأمومة مطلقا...
لكن الطمع و ربما الخطأ كما ادعت جعلها تقع في المحظور و تحمل بطفلته، و كتب القدر كلمته و جاءت تيماء الى الحياة...

كان سالم من الضمير بحيث سجلها في المشفى على مضض و اختار لها اسمها، و تكفل بها هي و أمها من يومها ماديا بأحسن ما يكون، على أن تبتعد والدتها بالطفلة عن حياته، و لا ينتظران منه أي تواصل
و تم الطلاق أمام ما كان يدفعه سالم بسخاء...
حتى اليوم كان قاصي يرى أن سالم أكثر انصافا من كثير من البشر...
فعلى الأقل هذه الفتاة، نشأت نشأة مرفهة مادية، و دخلت أفضل المدارس في مدينتها...

لكنه لم يتخيل أن تتكون لدى هذه الفتاة غريزة الحنين للأب مع مرور السنوات...
زفر قاصي بقنوط وهو يستدير مسندا بكفيه و ظهره لحافة الحوض، ناظرا للبعيد بعينيه الشبيهتين بالجمرتين، و همس بعدم اقتناع
(لقد حظت بأفضل الفرص في الحياة، فلماذا أهتم؟).

خرج قاصي من غرفته بعد أن جهز تماما، و صفف شعره المبلل و عقده في ربطة صارمة خلف عنقه...
قميصه الأسود المفتوح حتى مقدمة صدره، و بنطاله الجينز الضيق كانا يمنحانه منظرا متمردا...
منظرا يخالف شيئا ما، يخالف جذوره...
عقد حاجبيه وهو يجيل النظر في أرجاء المكان الخالي، فلم يجد اثرا لتيماء...
هل هربت؟
هتف فجأة بقوة و قلق
(اللعنة).

ثم اندفع الى باب الشقة، ينوي الخروج بحثا عنها، لكن نظرة واحدة منه الى حقيبتها التي لا تزال متواجدة مكانها أرضا، جعله يقف مكانه و يتنفس الصعداء...
ثم نفخ صدره وهو يعاود البحث عنها بتأني، فقادته قدماه الى المطبخ، بما أنها سبق و اقتحمته...
للوهلة الأولى كان خاليا، لكن صوت خافت جعله يتسمر مكانه و يدقق النظر...

فوجد حذائيها الرياضيين الأبيضين ظاهرين من خلف الثلاجة، و هي مختفية خلها تجلس أرضا و تضم ركبتيها الى صدرها...
كانت تبكي كالأطفال، و كان قد بدأ يشك في أنها طفلة من الأساس...
وقف قاصي مكانه وهو يشعر بشعور غريب. لم يستطع تفسيره...
منظر اهتزاز جسدها الصغير، و صوت نحيبها الذي كانت تحاول جاهدة على كتمانه...
بعثا به شعور مقلق و غير مريح...

تحرك من مكانه و اتجه الى الحوض وهو يتظاهر بعدم رؤيتها، الى أن أعطاها ظهره و قد لاحظ أنها صمتت تماما عله يغفل عن وجودها...
الا أنه تابع تجاهلها، و هو يغسل كوبين من الأكواب المتسخة العديدة المتواجدة...
و ما أن شعر بها تزحف على ركبتيها و كفيها لتهرب منه كي لا يراها في وقت ضعفها و هي تبكي كالأطفال، حتى قال بصوت عال من خلف كتفه دون أن ينظر اليها.

(هناك القليل من الحليب المقترب من انتهاء الصلاحية، أتريدين شربه؟، لأنني سأعد فطورا بما أن الوقت لا يزال متوفرا لدينا)
بقت تيماء مكانها على ركبتيها و كفيها تنظر اليه بصمت، حمراء العينين، منتفخة الأنف...
ثم قالت أخيرا بخفوت.

(لاحظت وجود بعض النقانق، لقد سال لعابي لها، هلا أعدت لي بعضها؟، هذا لو كانت من لحم كائن صالح للأكل، فأنا لم آكل شيئا طوال يوم أمس من شدة الحماس، لكن على ما يبدو أن للإحباط أثر عكسي)
ابتسم قاصي دون أن يستدير اليها...
لكنه قال بصوت صارم
(لو أردت الأكل فاعملي لأجل لقمة عيشك، اذهبي الى غرفة المعيشة و قومي بتنظيفها كي نتمكن من الأكل في بيئة صالحة، فعلى الأرجح ستجدين هناك أسرة من الفئران).

قفزت تيماء على قدميها و هي تهتف ماسحة أنفها بظاهر يدها
(أنا ماهرة في اصطياد الفئران، هل لديك مصيدة حديدية و سم فئران؟)
توقفت يدا قاصي عن العمل وهو يعقد حاجبيه بذهول!
ثم لم يلبث أن قال بارتياب
(لما لا تبدأين بالوظيفة السهلة أولا؟، ثم ننظر في امر اصطياد الفئران بعد انتهائنا من الطعام)
حين انتهى قاصي أخيرا من اعداد بعض النقانق ووضعها فوق صينية تحوي كوب من الحليب، و بعض البيض المقلي...

خرج الى غرفة المعيشة وهو يتوقع ان تكون تيماء قد عاثت فيها فسادا و دمرت المتبقي منها...
الا أنه ذهل حين وجدها تمسح احدى الطاولات، و قد نزعت الشريطة المتعدة الألوان التي كانت تعقدها حول معصمها، و عاشت الدور لدرجة أن ربطتها حول جبهتها و انسدلت ضفيرتيها من تحتها فبدت كخادمة صغيرة و هي تعمل بمهارة هنا و هناك، و قد بدت الغرفة مرتبة فعلا...
قال قاصي بذهول وهو ينظر حوله
(لقد انبهرت، حقا).

رفعت تيماء وجهها اليه و قالت بحماس...
(أنا سأموت من الجوع، هل أستحق الطعام الآن؟)
تردد قاصي قليلا وهو ينظر حوله مجددا، ثم قال بهدوء
(لقد أعددت بيضا اضافيا، و هذا يعتمد عليه غسل الصحون المتراكمة في المطبخ)
قفزت تيماء متربعة على الأريكة في حركة واحدة و هي تقول
(سأغسلهم بعد أن آكل).

وضع قاصي الصينية على الطاولة أمامها، ثم جلس مقابلها أرضا و بدأ يأكل معها، لكن عيناه كانتا تتأملان نهمها في الأكل، و الربطة الملونة لا تزال حول رأسها كالوشاح الريفي...
يبدو أن الأطفال ينسون أوجاعهم بسرعة أكبر مما كان يظن...
و هذا أراحه قليلا، فهو ليس ماهرا في التعامل مع الإنهيارات العاطفية...
قال أخيرا محاولا جرها الى الكلام
(اذن أخبريني، لماذا قمت بتغيير اسمك؟، أراه مميزا و ملفتا).

أخذت قضمة كبيرة و هي تقول ببساطة دون أن تنظر اليه
(لم أحب معناه)
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول
(حقا؟، و ما معناه؟)
قالت تيماء بهدوء
(الأرض الواسعة القاحلة، من يدخلها يهلك بها)
ضاقت عينا قاصي وهو يتاملها مليا بعد هذا الوصف الغريب، ثم سألها متعجبا
(و كيف عرفت معناه؟)
رفعت تيماء عينيها الفيروزيتين اليه و قالت و هي تمضغ طعامها.

(أنا متفوقة جدا في دراستي كما أنني أدخل مسابقات اللغة العربية و أفوز بها باستمرار، فلا أترك كلمة تمر الا وعرفت معناها، هذا بخلاف أنه اسمي فمن الطبيعي أن يكون أول ما ابحث في معناه)
رفع قاصي احدى حاجبيه وهو يرى نفسه امام طفلة غريبة للغاية، حين يتكلم معها يكاد أن ينسى بأنها طفلة فعلا...
قال قاصي بخفوت وهو يتأملها طويلا
(وهل تعرفين معنى اسمي؟)
نظرت اليه تيماء مجددا و هي تقول ببساطة
(طبعا).

نظرت إلى عينيه و قالت بخفوت
(البعيد، البعيد جدا)
ظلا ينظران الى بعضهما طويلا، قبل أن يمد قاصي قبضته المضمومة عبر الطاولة متنحنحا، و قد اخذ لعدة لحظات بجمال لون عينيها...
(تشرفنا بمعرفة معاني أسمائنا آنسة تيماء)
مدت قبضتها المضمومة تلقائيا و ضربت بها قبضته، فقال مبتسما
(قبضتك كقبضة الصبية)
ضحكت تيماء بصوت عال و هي تقول.

(هذا لأنني بطلة في رياضة الجودو، لكن بصراحة أفضل الخيول رغم أنني لم أراها يوما على الطبيعة، أتوق الى رؤيتك و أنت تروضها)
قال قاصي بصوت خافت
(ليس هذا مشهدا جميلا تماما، أشعر بالذنب و انا أفعل ذلك، أن أحني ارادتها و أخضعها بينما هي كائنات رائعة الكبرياء و الإندفاع)
صمت قليلا قبل أن يرفع وجهه اليها قائلا بتحذير صارم.

(أنت أصلا لن ترينني مجددا، هل هذا مفهوم؟، ستنسين اسم قاصي الحكيم و تمحيه من دفتر عقلك للأبد)
مطت تيماء شفتيها و هي تقول بامتعاض
(أمن جمال عينيك سأرغب في رؤيتك مجددا؟، أو زيارة هذه الزريبة ثانية؟)
عقد قاصي حاجبيه و هتف بصرامة
(احترمي نفسك يا فتاة، و الا رميتك خارج الزريبة، أقصد الشقة)
نفضت تيماء كفيها بعد أن انتهت من طعامها و امتلأت معدتها، ثم قالت
(أنت شخص غريب جدا بالمناسبة).

نظر اليها قاصي بقسوة ثم قال متذمرا نافذ الصبر
(لماذا يا سيدة الحسن و الدلال)
قالت تيماء بخفوت
(من المفترض أنك من نفس بلدة أبي، و حسب ما أعرفه أنهم يحافظون على مظهر معين نوعا ما، بينما أنت مختلف، طويل الشعر، تعزف على الجيتار، لكن ترويض الخيول قد يناسبهم)
قال قاصي بصوت غريب
(يناسب من؟)
ردت تيماء متعجبة من تغير نبرة صوته.

(أهل الجنوب عامة، عائلة أبي مثلا، لا أعرف، لقد رسمت لهم صورا عديدة حسب ما جمعته من معلومات، لكنني لم أقابل أي منهم من قبل)
عبث قاصي بطعامه قليلا قبل أن يقول ببرود.

(أنت تجمعين معلومات ظاهرية، بعيدة كل البعد عن العصر الحالي، انهم أناس عاديون، يرتادون أعرق المدارس و الجامعات، و الكثير من أفراد عائلتك مثلا تابع دراسته في الخارج، لذا ستجدين منظرهم عصري، بل شديد العصرية، الا من بقى متمسكا بجذوره في الشكل، و هم قلة، كجدك مثلا)
انتفضت تيماء و هي تقول بحماس
(جدي!، كيف هو؟، و ما شكله؟)
قال قاصي يقاطعها بصوت فظ لا يقبل التساهل.

(تراجعي يا فتاة، اياك و التأمل من جديد كي لا تؤذين نفسك، اهتمي بنفسك و أمك فقط، اتفقنا؟)
ظهر بعض الألم جليا في عينيها، كان هذا هو احدى عيوب الأعين الملونة كما اكتشف، لا تخفي الألم بمهارة...
لكن كان على أحد ما ايقاف جموح تلك الفتاة، فهي تبحث في أرض ترفضها...
قال عاصي مغييرا الموضوع
(كيف عرفت أنني أعزف على الجيتار؟)
أشارت بذقنها الى احدى زوايا الغرفة قائلة.

(وجدته و انا أنظف الغرفة، هل تجيد العزف عليه أم أنه مجرد زينة؟)
لم يرد قاصي على الفور، بل نفض يديه هو الآخر، ثم نهض من مكانه و اتجه الى الجيتار و عاد به ليجلس أرضا مستندا بظهره الى الأريكة التي تجلس عليها تيماء و بدأ في العزف بخفوت قائلا
(ستكونين أنت أول جمهوري)
بدا عزفه بطيئا، رقيقا، به لمسة من قوة جعلتها تفتن بعزفه...
كان بعيدا عنها تماما وهو يعزف...

مخفض الرأس، ينظر الى جيتاره و كأنه وحيدا معه في عالم آخر منفصل عن كل ما حوله...
كان كمن يتحدث الى جيتاره، فيترجم الجيتار حديثه الى لحن عذب...
نسيت تيماء شفتيها فاغرتين و هي تستمع الى عزفه الذي بدأ يتسارع قليلا...
وهو يدخل في لحن آخر أكثر همجية و أسرع ايقاعا، قبل أن يقفز واقفا وهو يعزف بكل عنف متمايلا بجسده راقصا مع اللحن...

لم تستطع تيماء السيطرة على نوبة الضحك بهيستيرية و هي تراه يرقص بخصره متمايلا مع ألحان الجيتار...
كان جسده العضلي المفتول شديد الليونة، و قد بدا أحمقا تماما...
فأخذت تشهق من شدة الضحك الى أن دمعت عيناها، قبل أن تقفز واقفة على الأريكة من خلفه و هي تقلد حركاته، فالتفت اليها دون أن يتوقف، و قال بصوت عال كي يعلو على اللحن الصاخب
(ما هذا اللذي تفعلينه؟، أنت ترقصين كالراقصة الشعبية في المواسم).

هتفت من بين ضحكها الهيستيري
(و كذلك تفعل أنت)
خلع قاصي الجيتار عنه، ووضعه جانبا ووقف مكانه أمامها وهو يقول بهدوء متمايلا بجزعه و يده على معدته، بينما الأخرى مرتفعة تعطيها التعليمات
(لا تحركي خصرك، بل جزعك كله مع اللحن)
أخذت تيماء تقلد حركاته و هي غير قادرة على ايقاف ضحكها، حتى انهمرت الدموع على وجهها...

الى أن باتا يتحركان نفس الحركة تماما، و مر الوقت و هي غير قادرة على ايقاف ضحكها، بينما كانت تهز أكتافها في رقص شرقي دون أن يراها، ثم لم تلبث أن رفعت يدها الى أعلى فمها و هي تزغرد عاليا من بين ضحكاتها...
التفت اليها قاصي ضاحكا و هو يقول دون أن يتوقف جزعه عن التحرك برشاقة
(ألم أخبرك أن نهايتك ستعملين كراقصة شعبية في المواسم)
دوى فجأة صوت جرس الباب بعنف متواصل...

فصمتا فجأة و هما ينظران الى الباب معا، قبل ان يذهب قاصي ليفتحه تتبعه تيماء من خلفه كالعلقة...
أغمض قاصي عينيه وهو يرى أمامه جارته السيدة امتثال...
كانت الأعاصير تتلاعب بملامح وجهها و هي تطرق الأرض بقدمها...
فقال بصوت بائس
(صباح الخير سيدة امتثال)
الا أنها لم ترد على تحيته، بل قالت بصوت متجمد من شدة الغضب
(أستاذ قاصي، هل تعرف أي يوم هذا؟)
فتح قاصي عينيه وهو يقول بملل
(العاشر في الشهر يا سيدة امتثال).

صرخت فجأة
(بل يوم العطلة، اليوم الذي يرتاح به الناس و ينامون لبعض الوقت الإضافي، كي يتمكنون من متابعة روتين حياتهم الاسبوعي الممل في وجود أمثالك من الغير مكترثين لمسؤوليات الحياة)
تأوه قاصي بصمت وهو يهمس يائس
(ها قد بدأنا)
الا ان امتثال هتفت بقوة
(عزفك سيء، عزفك سيء، أنت عازف فاشل، فاشل، فاشل).

كان قاصي يحك أذنه باصبعه من هول عميق صوتها الرفيع و الذي يبدو كمثقاب الحائط، بينما تابعت هي بصوت أكثر ازعاجا من عزفه لو كانت تعلم ذلك
(الا يكفي الضرب و التحطيم المستمر الذي أسمعه من وكرك الغريب، و أيضا تصر على أن تتحفنا بعزفك النشاز)
ضحكت تيماء من خلفه و هي تقول
(و كنت تدعي أنني أول جمهورك!، أنا و نصف سكان الحي على ما يبدو).

التفت كلاهما فجأة و كأنهما قد انتبها توا الى وجودها، خاصة قاصي الذي استدار خلفه ينظر اليها ثم عقد حاجبيه وهو يرى الوشاح الملون لايزال معقودا حول رأسها، و ساقط قليلا فوق حاجبها الأيمن...
بينما تبدو في حالة مزرية بعد السفر و التنظيف، و فكر قاصي أنه لربما يكون قد استعبدها قليلا في تنظيف غرفة معيشته...
قالت امتثال فجأة بصوت خافت مرتاب يضمر التهديد بين طياته
(من، هذه؟، هل تحضر فتيات لشقتك؟).

انتفض قاصي وهو يستدير اليها هاتفا مستنكرا
(أي فتيات؟، تلك؟، إنها ليست فتاة)
كتفت امتثال ذراعيها و هي تنظر اليه متهمة، فتابع قائلا بتوتر
(إنها، إنها)
تقدمت تيماء أمامه و هي تقول بصوت خافت منكسر
(أنا أبنة أخته، تشرفت بمعرفتك سيدتي)
عقدت امتثال حاجبيها و هي تقول بشك
(أخت!، هل ظهرت لك عائلة فجأة؟، منذ أن سكنت هنا لم نعرف لك قريبا أو بعيدا، بل كنت كالنبات البري، بلا جذور).

أظلمت عينا قاصي فجأة، و غامت نظراته بوهجه رأته تيماء بوضوح و هي ترفع وجهها اليه، لذا تطوعت بالرد قبل أن يتهور و يخطىء بحق هذه السيدة
(لقد توفت أمي منذ سنوات، كانت لتسر بأن توصيك عليه لتهتمي به، فقد كان المدلل لديها)
أسبلت تيماء بجفنيها فانخفضت زاويتي السيدة امتثال تلقائيا و هي تهمس بينما فكت انعقاد ذراعيها و حاجبيها
(آآه، البقاء لله يا صغيرتي، وأين هو والدك؟)
تنهدت تيماء و هي تقول بخفوت.

(أسكن معه من يوم الحادث و أعتني به، وهذه أول مرة آتي أنا لزيارة خالي، فهو عادة من يأتي لزيارتنا و السؤال عن والدي، لأنه لم يتأقلم بعد على فقدان أمي)
تأوهت امتثال بصمت، ثم اقتربت لتربت على قمة رأسها الصغير المغطى بالوشاح الملون المعقود و هي تقول بخفوت
(سعدت بمعرفتك)
نظرت الى قاصي الذي كان ينظر بدوره الى تيماء مذهولا، عاقدا حاجبيه، ثم قالت بصوت مشتد.

(سأتركك مع ابنة شقيقتك اللطيفة، لكن هلا توقفت عن العزف و الغناء رجاءا، فأنت فاشل، اسمعها مني قبل أن تسمعها من غيري)
ابتسمت لتيماء برقة، قبل أن ترمق قاصي شزرا و تنصرف الى شقتها...
أغلقت تيماء الباب و هي تنظر اليه مبتسمة حتى ظهرت غمازتيها عميقتين، بينما كان هو متراجعا للخلف، عاقدا ذراعيه وهو ينظر اليها بعينين ضيقتين، ثم قال بهدوء بطيء
(ما فائدة هذا العرض المسرحي الذي حدث للتو؟).

رفعت تيماء كتفيها و هي تقول ببساطة
(كان هذا أسرع و ألطف، و سيفيدك في المستقبل و يحسن علاقتك بها من باب الشفقة عليك)
قال قاصي ببرود
(إن كانت لم تشفق على و أنا نبات بري بلا جذور. فلما ستشفق على الآن و أنا لدي قردة مثلك؟)
مطت شفتيها و قالت بامتعاض
(أنا المخطئة في محاولة رد الجميل لك)
تنهد قاصي بنفاذ صبر، ثم نظر الى ساعة معصمه و قال بقنوط
(لقد حان الوقت، هيا، اذهبي و احضري حقيبتك لنغادر).

اختفى الهزل من عينيها، و سكنت شفتيها بلا حركة، و بدت مترددة في التحرك، فقال قاصي بصرامة لا تقبل الجدل
(الآن يا تيماء، هيا).

من لحظة لأخرى كان يجذبه شيئا ما للنظر الى عينيها عبر مرآة السيارة...
حيث كانت تجلس في منتصف المقعد الخلفي من السيارة مكتفة ذراعيها، قانطة الملامح...
شفتيها اللتين خلقتا في شكلهما للإبتسمام، ارتسم عليهما خيبة أمل مريرة...
أعاد نظره الى الطريق وهو يشعر بالغضب...
مجرد بضعة ساعات و سيتخلص منها للأبد، لكن يظن أن صورتها هذه لن تبارح خياله لفترة طويلة...
قالت تيماء فجاة مقاطعة أفكاره.

(هل ستقلني لموقف حافلات السفر؟)
رفع نظره الى عينيها اللتين كانتا تنظران الى عينيه في المرآة الآن، عينيها شديدتي الجمال كغمازتيها...
و يعتقد أن هذه هي كل مقومات جمالها...
قال أخيرا بفتور
(للأسف، بقايا الضمير المضمحل لدي تأبى أن أدعك تسافرين وحدك كما أخبرتك، لذا سنذهب أولا لإحضار مسك و إيصالها الى النادي، ثم أعيدك الى أمك، و ننتهي منك للأبد)
يبدو
(مسك!، هل سنحضرها أولا؟، هل سأراها؟، حقا؟)
قال قاصي على مضض.

(نعم سترينها، لكن هذا سرا، قسما بالله لو بحت به لمخلوق فسوف)
لم تمنحه الفرصة للكلام و هي تهجم عليه و تتعلق بعنقه من الخلف هاتفة بحماس مجنون
(أشكرك يا قاصي، أشكرك، أشكرك، أشكرك)
اتسعت عيناه بذهول وهو يتأكد مما يحدث، حتى أنه نظر في المرآة ليتأكد بأنها متعلقة بعنقه فعلا...
صرخ فجأة بعنف
(ابتعدي يا فتاة و عودي للخلف).

انتفضت تيماء بذعر من صيحته المباغتة، و قفزت للخلف بالفعل، بينما كان هو يتنفس بسرعة مرجعا شعره للخلف وهو يبدو غاضب العينين بشراسة...
الا أن تيماء قالت بشجاعة
(ماذا حدث؟، لماذا تصرخ؟)
نظر إلى عينيها في المرآة نظرة غاضبة، كانت عيناها كبيرتين و متسعتين بخوف، فأعاد نظره للطريق بحنق، قبل أن يقول بصوت أهدأ قليلا.

(اسمعيني جيدا يا فتاة، بما أنك تسكنين بمفردك مع والدتك، في مدينة وحكما، عليك البدء في التعلم منذ الآن أن هناك تصرفات لم تعد تليق بعمرك، في بلدة والدك تتزوج من هي في مثل عمرك، ربما لن يكون والدك موجودا ليخبرك بذلك، لكن لا تسمحي لأحد في يوم ما بأن يقول أنك نتاج تربية امرأة)
رمشت تيماء بعينيها و هي تقول بفتور
(و ما الذي يعيب تربية المرأة؟).

تنهد قاصي وهو ينظر الى الطريق بإصرار مصمما الا يلتقي بعينيها مجددا، ثم قال بإيجاز مغلقا الموضوع
(تعتبر هذه مدعاة للإتهام عند بعض البشر)
قالت تيماء بإيجاز مماثل و هي تعاود عقد ذراعيها ناظرة من النافذة للطريق
(متخلفون هم اذن)
نقل نظره بين نافذته الجانبية والأمامية وهو يزفر بصمت، تبا لذلك!، لماذا تطوع لنصيحتها و هي المرة الاولى التي يراها اليوم، و الأخيرة أيضا!

تلك الفتاة تضج بالحرارة، جسدها مشع بالطاقة و الجنون لدرجة مخيفة...
وجنتها فوق فكه الخشن كانت حمراء و ساخنة...
زفر بقوة وهو ينظر من نافذته الجانبية مجددا...
تلك الفتاة يجب التخلص منها عاجلا و ليس آجلا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة