قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

مضت عدة دقائق وهما ينتظران في السيارة بعد أن أوقفها قاصي، مستندا بمرفقه الى اطار نافذته المفتوحة...
يحاول تجاهل تيماء قدر الإمكان الى أن يتخلص منها...
بينما كانت هي ملتصقة في النافذة المقابلة بكفيها، تنتظر أي اشارة لظهور مسك...
أخيرا سمعت قاصي يقول بإيجاز
(ها هي)
اتسعت عيناها و تحفزت مشاعرها و هي تهتف
(أين؟، أين؟)
نظر اليها قاصي نظرة أفلتت منه رغم عنه، كانت متوهجة و متحمسة بدرجة تثير الوجع...

الا أنه لم يكن يتوجع من اجلها في الواقع، فالفتاة محظوظة رغم كل شيء و ستدرك ذلك لاحقا...
رد عليها بفتور
(الآتية من بعيد، الطويلة ذات ذيل الحصان الأسود الطويل و الكنزة الصوفية الواسعة)
اتسعت عينا تيماء أكثر و هي تراقب فتاة هيفاء، طويلة و رشيقة، تبدو في السادسة عشر لا أكثر...
لها خيلاء الخيول، و شعرها، و جاذبيتها...
كانت تقترب من السيارة مسرعة بأناقة و هي تجر حقيبتها الجميلة خلفها...

جذبت عيني كل من يمر بها...
أنفها مرتفع بكبرياء فطري عريق، و ابتسامتها ترسم للثقة بالنفس أبعادا أخرى...
ابسامتها الرقي و الجمال في حد ذاتهما، و كأن الكون يشرق لابتسامتها الأنيقة...
عيناها بنيتان للغاية، ذلك البني المحمر الذي يقترب من لون العقيق...
تظهر لامعة في الشمس بدفىء عالي...

كانت مسك قد وصلت الى السيارة فاتجهت الى الحقيبة الخلفية للسيارة و التي فتحها قاصي لها فوضعت بها حقيبتها ثم أغلقتها بقوة عضلية واضحة، قبل أن تعود و تفتح الباب و تجلس في المقعد الأمامي مبتسمة و هي تقول باشراق
(صباح الخير، طبعا تريد ضربي)
نظر اليها قاصي بلا مرح وهو يقول من بين أسنانه
(كم مرة أخبرتكم أن وظيفة السائق ليست من مهمامي الرسمية؟)
كانت عينا مسك على تيماء المبهورة. فاغرة الشفتين بذهول، و هي تقول.

(آسفة جدا قاصي، أخبرت والدي عن البطولة منذ عدة ساعات فقط، فلم يستطع توفير سيارة بسائق في الحال، و بصراحة اشتقت اليك)
نظرت اليه مكشرة أنفها و هي تقول بغضب زائف
(ألم تشتاق ألي؟، ما هذه النذالة؟)
رد قاصي وهو يحرك السيارة
(حين تطير ساعات العطلة الثمينة فبالتأكيد لن تجدين سوى النذالة)
قالت مسك مبتسمة و هي تنظر الى تيماء التي كانت تقريبا تجلس بينهما، و لا تزال فاغرة الفم و عيناها لا تنخفضان عن مسك...

(من صديقتك اللطيفة؟)
زم قاصي شفتيه دون أن يرد، مركزا اهتمامه على الطريق، فتطوعت تيماء قائلة بانبهار
(إنه يعلم لدى والدي)
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر الى قاصي قائلة
(لدى كم والد تعمل بالضبط؟)
قال قاصي ون أن ينظر اليها
(أنا أعمل لدى من يحلو لي، هل اشتريتموني؟)
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بلهجة ذات مغزى
(أووووووه، أحدهم غاضب بشدة، ماذا قلنا عن تمرين تنظيم النفس كلما شعرنا بالغضب)
رد قاصي من بين أسنانه.

(بالله عليك يا مسك، أنا في استعداد لقتل أحدهم الآن فلا تكوني أنت رجاءا، نظرا لمعزتك عندي، هذا اليوم ليس عاطفيا منذ بدايته)
فتحت مسك شفتيها تنوي الرد عليه، لكنها صمتت حين شعرت بشيء ما يجذب بعض شعراتها...
فالتفتت لتجد تيماء تمسك ذيل حصانها و تجري بيدها عليه و هي تنظر اليه مبهورة، ثم قالت بذهول
(شعرك جميل جدا، هل هو مصفف؟).

نظر اليها قاصي في المرآة، ثم لم يلبث أن ضحك رغم عنه وهو ينظر من نافذته الجانبيه، بينما ضحكت مسك هي الأخرى و هي تقول بتهذيب راقي
(حسنا هذا لطف شديد منك، لا هو ليس مصففا، لقد ورثت شعر أمي، و أنت عيناك لونهما غريب و جميل جدا)
رفعت مسك كفها و مدته الى تيماء قائلة
(بما ان قليل التهذيب هذا لا ينوي أن يعرفنا على بعضنا، فاسمحي لي بالتعريف عن نفسي، أنا مسك سالم الرافعي).

أمسكت تيماء بكفها بلهفة و هي تقول مبتسمة و غمازتيها تظهران بعمق
(أنا، تيماء)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول
(اسم غريب، لكن لطيف، تشرفت بمعرفتك تيماء)
ردت تيماء و هي لا تزال في حالة انبهار و سعادة
(و أنا أيضا)
نظرت مسك أمامها و هي تبتسم متأملة خاتم الخطبة في يدها بسعادة، فلمحها قاصي...
فزم شفتيه ساخرا وهو يقول.

(كفي عن النظر الى خاتم الخطبة يا مسك، منذ أشهر و لم تحفظي شكله بعد!، من يراك لا يظن أنك من النوع المتهافت على الخطبة)
ابتسمت بسعادة و هي تقول
(و لما لا أنظر اليه؟، لقد خطبت الى ابن عمي الذي تصادف أن أقع في حبه، و الجميع سعداء، بعكس من تخطب غصبا من عائلتنا الى ابن عمها لمجرد أن هذا هو القانون، الحياة مثالية يا قاصي يا صديقي، لا تعب و لا مشاكل، كل شيء على ما يرام).

مط قاصي شفتيه مبتسما دون أن يرد، بينما تابعت مسك تقول مبتسمة بخبث
(بالمناسبة، هل أخبرتك أن أشرف يغار منك؟)
نظر اليها قاصي نظرة جانبية وهو يقول باستهزاء
(يغار مني أنا؟)
ابتسمت أكثر و هي تقول
(نعم، هل تتخيل هذا؟، لقد تجاوز كل زملاء الدراسة و النادي و يغار منك أنت تحديدا، يرفض أن تقوم بايصالي من مكان لآخر و يرفض صداقتنا)
قال قاصي وهو يدور بالسيارة بمهارة.

(اذن عليك أن تنفذي أوامره و تقطعي علاقتك بي، و سيكون هذا من دواعي سروري، صدقيني ستكونين قد أسديت لي خدمة لن أنساها أبدا، لتبحثي عن خادم آخر لك يا أميرة)
مدت مسك وجهها و هي تقول بغيظ
(في أحلامك، لا غنى لي عنك)
ابتسم قاصي رغم عنه، بينما تابع طريقه حتى أوصلها الى نادي الفروسية، و ما أن أوقف سيارته حتى خرجت مسك برشاقة و اتجهت الى صندوق السيارة، الا أن قاصي كان قد سبقها وفتحه ليحمل حقيبتها قبل ان يقول.

(ماذا ستفعلين بحقيبتك هذه؟، هل أوصلها لشقة والدك؟)
قالت مسك و هي تمسك بمقبضها
(بل أحتاج لبعض الملابس منها، هل يمكنك أن تأتي الى هنا الساعة السابعة؟، أرجوووك، ارجوووك، أرجوووووووك)
كورت شفتيها و رمشت بعينيها فبدت كجرو مثالي الجمال، مما جعل قاصي يتافف بصوت عال قبل أن يقول ناظرا الى ساعة معصمه
(حسنا، لو تحركت الآن على الفور لربما تمكنت من الوصول اليك في الموعد).

كانت تيماء تنظر اليهما من الزجاج الخلفي مبتسمة، مستندة بذقنها الى ذراعيها المكتفين على ظهر المقعد الخلفي، فقالت مسك و هي تلوح لها مبتسمة
(ألن تخبرني عن صديقتك؟)
نظر قاصي هو الآخر إلى تيماء التي لوحت لهما مبتسمة، ثم أعاد نظره الى مسك ليقول بخفوت
(هل لديك من يخفي السر؟)
اتسعت عيناها بحماس و هي تهمس بثقة
(في بئر)
قال قاصي بخفوت
(انها تيماء سالم الرافعي).

سقط فك مسك بذهول و هي تنظر الى ملامح قاصي المتجهمة و التي لا تحمل أي أثر للهزل...
و حين وجدت أنه لن يضحك و ان هذه ليست مزحة، قالت ببلاهة
(ابنة طليقة أبي؟)
قال قاصي بتذمر
(ربما كانت كلمة أختي أسهل، جربيها يوما)
رمشت مسك بعينيها عدة مرات قبل أن تزفر بتوتر قائلة
(حسنا، هذه كارثة، فلو علمت أمي بتواصل تيماء مع أبي فسوف)
قال قاصي رافعا اصبعه محذرا.

(لن تعرف، اياك أن تخبري مخلوق انها أتت الى هنا، والدك أقسم أنه قد يعاقبها هي و أمها لو تسببت له في المزيد من المشاكل، ولا أظنك تريدين اذيتها)
قالت مسك بتأكيد
(لن أنطق بكلمة، هل ستتأكد من ايصالها لوالدتها؟)
أومأ قاصي قائلا
(ربما لو توقفت عن الكلام و غادرت حالا)
ابتسمت له مسك بتردد ثم همست بخفوت
(حسنا، أراك لاحقا)
أومأ لها قاصي قبل أن يتجه الى مقعده خلف المقود، بينما ابتعدت هي تجر حقيبتها خلفها...

لكن و اثناء ابتعادها استدارت تنظر الى تيماء التي كانت لا تزال تراقبها مبتسمة...
و دون أن تدري ارسلت لها مسك قبلة في الهواء، فقابلتها تيماء بالمثل...
و حين اختفت مسك أخيرا استدارت تيماء الى قاصي و قالت دون مقدمات
(هل تحبها؟)
نظر قاصي الى عيني تيماء بذهول في المرآة، ثم قال بلهجة شريرة
(لقد تماديت كثيرا يا فتاة، و سبحن من يصبرني عليك حتى الآن، بينما الصبر ليس من شيمي).

ابتسمت تيماء و هي ترتاح في مقعدها مسترخية، تشاهد تحرك الطريق من حولها بعينين ناعستين...
بينما كان قاصي ينظر الى الطريق لفترة طويلة قبل أن يقول
(تيماء، لن تهربي من والدتك مجددا، قد تقابلين وحوشا في هيئة بشر، حينها ستتمنين لو بقيت بين أحضان والدتك للأبد، لا تعيديها مجددا، فليست كل مرة تسلم الجرة، اتفقنا؟)
لم تنطق تيماء و لم ترد عليه، فنظر اليها في المرآة...

شعر بشيء غريب بداخله وهو يراها قد راحت في سبات عميق، حتى بدأ شخيرها الطفولي الخافت...
تنهد قاصي وهو ينظر الى الطريق أمامه قائلا بخفوت
(حسنا، فلنترك الإتفاق لما بعد).

(ثبتي ساعدك جيدا يا سوار، ارفعيه لأعلى و أجعليه جزءا ثابتا مع السلاح)
دوت الصرخة الرجولية الخشنة بين أرجاء الوادي...
كان عدد من المتجمعين ينظرون اليها بانبهار و هي متلحفة بالسواد من أولها لآخرها، لا يظهر منها سوى عينيها الكحيلتين...
و السلاح الرشاش في ذراعها مرفوع لأعلى، الى السماء...
عيناها متسعتان بقلق قليلا، الا أن نشوة السعادة بهما لا يمكن اخفائها أبدا و هي تنفذ الأوامر بقلق.

علي الرغم من ثقل وزن السلاح، الا أنها علمت بأن أي خطأ منها قد يكلف أحد المتواجدين حياته...
لذا أخذت نفسا عميقا ثم كتمته و أوقفت عمل رئتيها قبل أن تضيق عينيها و تطلق الأعيرة النارية في اتجاه السماء محاولة قدر الإمكان تثبيت ساقيها كجذور في الارض لا تتزعزع تحت انفجار أعيرة الرشاش القوية...
و ما أن ثبتت فعلا و تحدد اتجاه الأعيرة بنجاح، حتى كانت ابتسامتها تتألق بانتصار تحت غطاء وجهها...

و تألقت عيناها بالثقة و القوة، و طار منهما القلق...
هدر ليث أخيرا بقوة، بينما الفخر يملأ عينيه الجبليتين
(هذا يكفي الآن، يكفي سوار، أوقفي الإطلاق)
أخفضت السلاح أخيرا بينما تعالى التصفيق من كل المتواجدين حولها من ابناء البلدة، رجالها و نسائها من البسطاء و بعض شباب العائلة...
أشار اليها ليث بأصابعه كي تأتيه، فاقتربت منه و السلاح بيدها، بينما تبتسم لكل من يحيها باللقب الذي باتت تحفظه عن ظهر قلب.

بنت رجال، وصلت الى ليث و التي كانت هيئته تعلو كل من حوله، و سلطته تجبر الجميع على احترامه...
له هيبة لا يمكن اغفالها، يهابها كبار البلدة قبل صغارها...
نظر الى عينيها الكحيلتين المتألقتين، بينما تهتف بتلذذ و استعطاف
(لم أكتفي بعد يا ليث، أريد ضرب النار قليلا بعد)
ابتسم ليث رغم عنه وهو يرقب تألق عينيها المشعتين، تلك العينين بلون العسل، الا أنهما في قوة الصخر...

يحب الحرب المسيطرة فيهما، يعشق نظرات الغزو بهما...
تلك هي سوار غانم الرافعي، ابنة عمته، ابنة وهدة الهلالي، ابنة عائلة الهلالي...
فخره الذي ينتمي اليه من جذور الجذور...
الا أنه حين تكلم قال بحزم
(ألم تكتفي بعد من استعراض قدراتك أمام الرجال؟، ما من فتاة تقوم بهذه التصرفات على العلن)
قالت سوار بعينين تتألقان
(لا أنتظر هذا الكلام من من علمني الإمساك بالسلاح، عليك أن تكون فخورا بي).

و أنا أكثر من فخور بك يا من تحملين جينات الهلالية، كانت هذه العبارة هي أول ما اندلع بذهنه ما أن سمع عتابها الرقيق...
كلما نظر الى سوار غانم الرافعي، شعر بكيانه يتوهج فخرا بها و كأنها جزء من هذه الأرض التي يعشقها...
رمش بعينيه قليلا كي يمحو ما قد يظهر بهما غدرا، ثم قال بحزم
(هاتي السلاح و كفى دلالا يا ابنة وهدة الهلالي)
أخذ منها السلاح، ثم رفع كفه محييا الرجال بحركة واحدة واثقة، ثم قال بهدوء.

(هيا بنا، تعالي لنسير قليلا)
سارت سوار بجواره على امتداد الطريق الصخري المطل على السفح الأخضر المنخفض و خلفه الجبل الممتد في سلسلة طويلة الى مدد النظر...
لطالما سحرها هذا المنظر...
سافرت كثيرا، و تنقلت عدة مرات، رأت معظم عواصم العالم، الا أنها لم ترى منظرا أكثر منه جمالا...
ربما ليست البلاد الأجمل، لكن جمالها يكمن في روح ابنائها، مهما غربهم السفر...
الطبيعة بها بدائية لم تصلها العصرية بعد...

لم تصلها الى أيدي المزارعين منذ مئات السنين، فباتت كالجنة الخضراء...
توقفت سوار قليلا و هي تغمض عينيها لتستنشق نفسا عميقا من ذلك الهواء الساحر المحمل بالعطور المخملية من أرضها...
و همست و كأنها في عالم آخر
(كم أعشق تلك الرائحة، هذه الأرض، هذا الهواء و تلك السماء)
توقف ليث و استدار ليجدها قد تخلفت عنه ووقفت على حافة الطريق الصخري...

بهتت ملامحه وهو يتأملها في ردائها الأسود الهفهاف و قد تطاير الغطاء عن وجهها بعيدا عنه، بينما رفعت ملامحها البيضاء الجميلة الى النسيم يداعبها و قد أغمضت عينيها بنهم...
كانت صورة من الجمال الشرقي، و الطبيعة من خلفها ترسم معها لوحة خلابة...
زفر ليث نفسا ساخنا قبل أن يعود اليها خطوتين. ثم هدر بخفوت كان أخطر من الصوت العالي
(غطي وجهك يا سوار).

فتحت عينيها الكحيلتين و هي تنظر اليه بدهشة قبل أن تبتسم ابتسامة عريضة ظهرت لها أسنانها التي تبدو كصفين من اللؤلؤ، ثم قالت ببساطة
(أنا لا أغطي وجهي في كليتي أو في المدينة عامة يا ليث)
زم ليث شفتيه و قال من بين أسنانه
(هنا الأمر مختلف، هنا لا تكشف النساء وجوههن)
قالت سوار و هي تستدير اليه مبتسمة بثقة
(هراء، رأيت النساء العاملات في المزارع يكشفن وجوههن، و كانت سمراء من شدة التعرض للشمس).

زفر ليث وهو يقترب منها خطوة قائلا
(هذه حالة خاصة، لمن فقدت معيلها و تحتاج للعمل فتكشف وجهها كي تستطيع العمل قدر امكانها، أما أنت فلماذا تكشفين وجهك؟)
قالت سوار و هي تكتف وجهها
(ليث لو قررت تغطية وجهي فسيكون هذا في كل مكان، لا أرض نعم و أرض لا)
قال ليث بقوة عاقدا حاجبيه منفعلا
(اذن غطي وجهك بكل مكان)
ارتفع حاجبيها أمام هجومه المفاجىء فقالت بدهشة.

(لماذا أنت محتد بهذا الشكل؟، ملابسي تختلف عن ملابس معظم صديقاتي في الكلية و لا تظهر مني شيئا)
قال ليث بقوة
(تظهر وجهك)
قالت سوار بتحدي
(و ما به وجهي؟)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يبعد وجهه عنها قائلا بصوت خشن بلا تعبير
(تعلمين أنك جميلة، فوق ال، المستوى المتوسط)
افترت شفتيها عن ابتسامة واسعة عريضة، ثم قالت مازحة
(شكرا لك يا ليث، هذا لطف منك يا ابن خالي)
رفع وجهه اليها وهو يقول بصوته الرجولي الغاضب.

(لم أكن أقول هذا لأدللك، هناك من يفتن بوجهك)
ابتسمت أكثر و قالت بخبث
(من؟، هل كلملك أحد عني؟)
هدرت عيناه بعاصفة كاسحة وهو يقول بصرامة مخيفة للرجال
(تحشمي يا سوار، لا مزاح في مثل هذه الأمور)
اقتربت سوار منه خطوة و قالت بهدوء
(لا أصدق أنك عشت معظم عمرك بعيدا عن هذه الأرض يا ليث، بل و أتممت دراستك في الخارج، بينما قوانين البلد متجذرة بداخلك، و كأنك لم تغادرها يوما).

التقت عيناه الصقريتين بعينيها و قال بصوت غريب
(أنا أعود اليها دائما، الإنتماء لها لا يقاس بالأيام التي قضيتها بها، بل بالروح، و روحي مكانها هنا مهما ذهبت)
استدار ينظر الى الأرض الواسعة، ثم قال مسحورا بها بفخر.

(هذه الأرض يا سوار عمرها مئات السنوات، لا تبخل بخيرها على من يعمل بها، تعطي بسخاء و دون حدود، شرط أن تمنحيها كيانك، بها عرق الرجال و هم يزرعون و يستقرون و يبنون حياة كاملة، دفن بها الكثير من العظماء، ربما لم يعرف العالم باسمائهم و لم ينالو شهرة، الا أن دورهم لم يكن ليقل عن الكثير من المشاهير، خرج منها العلماء و رجال الدين، و كانو يعودون اليها مجددا، اسم كل عائلة بها ممتد منذ أكثر من مئة عام، تلك الأرض ضمت العرق و الدم على حد سواء، بقى الخير بها و ينتهي الدم يوما ما، من أجلها اقتتل الكثيرون، لكن يبقى من عرف سرها و أعطها أكثر مما رغب أن يقتطع منها).

كانت سوار تستمع اليه مبهورة، لطالما أحبت حديثه عن هذه الأرض...
يتحول الى كائن منصهر فيها و ينسى العالم من حوله، و كأنه يتحدث عن حبيبته...
ابتسمت سوار أخيرا و قالت بخفوت
(و هذا شعوري أنا أيضا، على الرغم من أنها لا تمثل لي في الواقع أكثر من العطلات و الإجتماعات العائلية، الا انني أشعر بالإنتماء لها، أعشقها).

ساد صمت قليل قبل أن يتلفت اليها، ينظر اليها بطريقة لم تفهمها، و كأنه انتبه اليها أخيرا بعد الكلام عن أرضه، ثم قال أخيرا بخفوت صارم، لا يكاد يعلو عن الهمس البطىء الا أنه مسيطر
(اذن غطي وجهك)
رفعت سوار الغطاء الأسود المتساقط على كتفها لتحيط به وجهها ببساطة، مظهرة عينيها...
حينها فقط تضاعف جمال عينيها العسليتين اللتين حرصت على تكحيلهما ببراعة...
و نسى هو نفسه في تأملهما دون أن يدرك...

زفر نفسا محترقا وهو يهمس بداخله
لا حل معك يا مليحة الوجه، جمالك ينطق دون اذن منك، قالت سوار بعد أن انتهت من عقد الغطاء و عيناها تتألقان بضحكتهما الصافية
(أتعلم، من يراك يظن أنك قد ولدت في الجلباب و عمة الرأس، ملامحك تليق على هذا الزي جدا مما يجعلك تبدو فارسا)
ابتسم ليث رغم عنه، مما جعل سوار تبتسم مذهوله...
فلقد أحرجته!

ليث ابن خالها، ذلك الضخم الذي يوقره و يهابه كل سكان البلدة و يحبونه أيضا، و الذي يكبرها بما يقارب العشر سنوات، ليس معتادا على المديح من الجنس اللطيف، في الواقع هو لا يجيد التعامل مع النساء أبدا...
لقد أتم دراسته في الخارج...
و على الرغم من أنه لا يجيد اسلوب التعامل مع الأنثى، الا أنه يملك الجوهر الذي يجعلهن يفتن به...
فهو رجل ليس ككل الرجال...
محظوظة هي من ستكون زوجته...

إنه مثال الرجل الحامي لأسرته، المخلص لأنثى واحدة، هي من ستملك قلبه، هذا بخلاف وسامته الرجولية الشرقية...
قال ليث مقاطعا أفكارها بإيجاز فظ
(شكرا)
ضحكت سوار و هي تقول بمرح و صوت خشن مقلدة عبارته
(لم أكن أقول ذلك لأدللك، هناك من قد تفتن بك يا ابن خالي)
أظلمت عيناه و نظر حوله ثم قال بصرامة
(اخفضي صوت ضحكاتك تلك)
مطت سوار شفتيها و هي تتأفف بضيق، ثم سارت الى جواره بصمت، ثم عادت و توقفت للحظة و هي تقول برجاء.

(متى ستعلمني ركوب الخيل يا ليث؟)
توقف هو الآخر لينظر اليها عاقدا حاجبيه، ثم قال بصرامة قاطعة
(ركوب الخيل مستحيل، هذا ستنسينه تماما)
ضربت سوار الأرض بقدمها و هي تقول متذمرة
(مسك ابنة عمي و التي تصغرني بعامين بطلة في الفروسية، فهي تركب الخيل منذ أن كان عمرها خمس سنوات، فما ذنبي أنا إن كان والدي قد رفض أن يشترك لي في نادي الفروسية مثلها)
قال ليث غاضبا.

(والد مسك حر معها، أما انت فأين ستركبين الخيل؟، هنا في البد؟، هل تنوين الجري فوق الفرس في الأراضي على مرآى الرجال؟، انسي هذا الموضوع تماما و يكفي أنني علمتك مسك السلاح و يكفي عدد المتفرجين كل مرة)
قالت سوار غاضبة
(ظننتك فخورا بي)
صمت قليلا و لان الغضب عن ملامح وجهه، قبل أن يقول أخيرا بصوت ذو نبرة غريبة.

(أنا فخور بك يا سوار، أنت لست تربية والدك وحده، بل أنا شارك بتربيتك حتى أصبحت تضاهين الرجال شجاعة و قوة)
صمت قليلا ينظر الى عينيها القويتين الصريحتين في تعبيرهما، قبل أن يقول متابعا بلهجة فخر وهو يرفع يده الى صدره، يتأملها بزهو
(فأنت تحملين جينات الهلالية في دمك)
ابتسمت سوار ابتسامة متألقة تحت غطاء وجهها من الزهو الذي شعرت به في كلامه، فقالت بعد فترة
(أنت تحب عمتك، أليس كذلك يا ليث؟).

ابتسم ليث و هو ينظر اليها قائلا
(وهدة الهلالي، فخر نساء عائلة الهلالي، تحمل دمائهم في عروقها، تنبض روحها بالقوة و الشجاعة و أنا أقدر الشجاعة، أحترم المرأة القوية، تلك القادرة على الدفاع عن اسم عائلتها و عرضها و أطفالها بقوة و شراسة، حتى لو غاب عنها رجلها)
ابتسمت سوار و قد انتقل اليها فخره تلقائيا و كأنها نارا متوهجة سرت منه اليها، ثم قالت بخفوت.

(لماذا أنا الوحيدة في عائلة الرافعي التي تنتمي والدتي الى عائلة أخرى؟، كل نساء العائلة من نسل عائلة الرافعي)
اشتدت نظرات ليث لعدة لحظات، قبل أن يستدير عنها و ينظر الى الوادي الأخضر و الجبل من خلفه
فاقتربت منه سوار قائلة بفضول
(أعرف أنها مسألة ثأر قديم منذ أجيال طويلة و انتهى بزواج أمي من أبي)
نظر اليها ليث ثم قال بهدوء
(هل قصت أمك عليك الحكاية من بدايتها؟)
هزت سوار رأسها نفيا و قالت.

(أمي ترفض أن تنطق كلمة الثأر دارنا، و تصر على أنها تزوجت أبي عن حب لن يعرفه غيرهما مهما زاد عدد العاشقين في هذا العالم)
ابتسم ليث وهو يعاود النظر الى الأرض الزاهية الخضار، ثم قال باعجاب
(تلك هي وهدة حين تحب، حين تعشق رجلها و تمحو الماضي و تبقي على حياتها له فقط، قوية حتى في حبها)
أومأت سوار و قالت.

(نعم هي قوية في حبها، أتذكر في طفولتي أن حياتها لم تكن سهلة كلما جائت الى هنا، اسم عائلة الهلالي له احترامه، لكن يظل الثأر يترك طعما صدءا لا يمحى بسهولة، لذلك عمد والدي على السفر و بناء أعمالا في المدينة و في الخارج، كي يبتعدا قليلا عن صعوبة الأمر هنا، لكن في النهاية يعودان، و انا معهما، مثلي مثلك)
ابتسم وهو ينظر اليها، ثم قال أخيرا بخفوت
(سوار).

نظرت اليه مبتسمة، و عرف أنها مبتسمة من ابتسامة عينيها التي لا يخطىء ابتسامتهما أبدا...
فردت عليه قائلة بانتعاش
(نعم)
فتح فمه ليتكلم، الا أن صوت قوي قاطع هدوء المكان من حولهما مناديا بقوة تسببت في انطلاق عدد من الطيور من حولهما
(سوااااار)
انتفضت سوار و استدارت لترى ابني عمومتها على ظهري حصانيهما...
كانا بعيدين، الا أن صيحة راجح شقت السكون بقوة وهو يناديها...
نظرت اليه سوار نظرة لم تخطئها عيني ليث...

فإن كان لا يخطىء ابتسامتها، فهو لن يخطىء، نظرة الحب!
نظرة تحدي و اقتدار...
نظرة كبرياء على هذا الشخص، الا أنها تحمل بين طياتها حبا تريد قمعه، تريد قتله...
عيني سوار كانت لغته التي يجيد قرائتها دائما...
راجح و سليم، أبناء عم من عائلة الرافعي، يصغران ليث بخمس سنوات...
الا أن سليم هو فقط من كان صديقه منذ الطفولة...

سليم كان شخصا مختلفا، تكاد روحه البيضاء تطل من خلال ملامحه بهالة تمنح الأمان لكل من ينظر اليه...
أما راجح فهو على النقيض منه تماما...
لم ينشأ بينه و بين ليث الا العداء منذ الصغر، لكن على ما يبدو أن قلب سوار كان له رأي آخر...
تكلم راجح أخيرا بفظاظة وهو يسيطر على حركة جواده بقسوة...
(سوار، ماذا تفعلين هنا بمفردك؟)
ردت عليه بصوت عال متحدية على الرغم من وجهها المغطى
(و ما دخلك أنت؟).

اشتعلت عيناه بنار سوداء قبل أن يهدر بها حانقا
(أحترمي نفسك و أنت تخاطبينني، و الا قسما بالله ستجدين لجام الحصان مسلطا على وجهك)
تقدم ليث ليقف أمام سوار و قال بصوت يجمد الدم بالعروق دون حتى أن يعلو
(أرني كيف سترفع اصبعا تجاهها كي أقطعه لك شرائح و أطعمه لحصانك)
التقت أعينهما بكره أوشك على أن ينقلب لكارثة لن تكون الأولى من نوعها، الا أن سوار قالت من خلف ليث بقوة.

(لا تتعب نفسك يا ليث، فأنا لم أفقد أبي بعد كي يتطاول على أحد أبناء عمومتي)
تكلم سليم بصوته الحنون مقاطعا الجميع
(لا داعي لكل هذا يا سوار، تعلمين أنه يستفزك فقط)
حينها ابتسم راجح وهو يرمق سوار بطريقة جعلتها تتنفس بسرعة رغم عنها وهو يقول
(لا بأس، تعالي و لا تخافي، تعلمين أن قلبي لن يطاوعني على أذيتك)
حين ظلت واقفة مكانها تنظر اليه من فوق غطاء وجهها بعينين ترفضان ما يفعله و مع ذلك...

تحملان مشاعر أخرى خائنة...
قال راجح بقوة
(تعالي يا سوار، لا يصح وقوفك مع الأغراب بهذا الشكل)
عند هذه النقطة صدح صوت ليث بقوة
(الأغراب كلمة ليست الكلمة المناسبة بيني و بين ابنة عمتي، سوار ابنة عائلة الهلالي كذلك)
أشار اليه راجح قائلا بلهجة قاطعة
(خطأ، سوار ابنة عائلة الرافعي، أسمها سوار غانم الرافعي، و ليس الهلالي، هل لديك تعديل على اسمها؟، و خارج بيت والدها و أعمامها فسوار لن تقف مجددا مع أحد).

تقدم ليث خطوة ليقول بصوت هادىء لم يفقد سطوته
(جدك يعلم بكل مرة أتت بها لزيارتنا، و يوافق، ووالدها موافق و لا يحط من كلمة والده، لذا أنت ليس لك اي صفة لإصدار القرارات)
ضاقت عينا راجح بكره صامت، لم تهز عضلة بملامح وجه ليث، قبل أن يقول بخفوت
(قريبا ستكون لي كل السلطة يا ابن الهلالي، و حينها سنرى من سيتحداني)
لم تهتز سطوة ليث ولو للحظة، الا أن داخله انتفض انتفاضة شرسة، موجعة...

تكلم راجح مجددا وصوته يحمل رنة الإنتصار المتشفي
(تعالي يا سوار، اركبي خلفي على الفرس)
انتفض ليث وهو يمد ذراعه في الهواء، مانعا سوار من التقدم، بينما هدر بقوة مفزغة
(هل جننت تماما؟)
حينها قفز سليم من على فرسه ليقول بلهجة من سلم الأمر لله
(إنه يستفزكما، تعالي يا سوار، سيري بجواري و سنوصلك للبيت، والدك يريدك)
تقدمت سوار من خلف ليث و هي تقول بلهجة واثقة متحدية
(و كأنني كنت سأركب معه مثلا).

سارت الى أن وصلت لسليم، ثم استدارت الى ليث و لوحت له بابتسامة كبيرة غير آبهة براجح...
و طبعا لم يعرف أنها تبتسم من تحت غطاء وجهها الا من ابتسامة عينيها...
لوح سليم لليث كذلك بوجهه السمح المبتسم، و ما أن غادر ثلاثتهم حتى استدار ليث ينظر الى الأرض الواسعة المنخفضة، قبل أن يركل أول حصاة في طريقة بمنتهى العنف، لتتدحرج و تسقط في الوادي، أما عيناه الغاضبتان، فكانتا قصة أخرى...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة