قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

الليلة السابقة، بعد الزفاف
كانت تجلس في سيارة سليمان الرافعي و التي يقودها عبد الكريم في الطريق الرملي المتعرج، و بجوارها تجلس سوار في المقعد الخلفي...
كانت كل منهما تبدو شاردة و هي تنظر من نافذتها الى الظلام الدامس في الخارج...
و أصابع كل منهما متوترة و متشابكة...
أخفضت تيماء نظرها الى الهاتف في يدها المتعرقة، يبدو صامتا خاويا، شديدة البرودة...
منذ متى أرسلت الرسالة؟

منذ نصف ساعة؟، أم ساعة؟، لا تستطيع التحديد من فرط انفعالها و خفقان قلبها المؤلم...
لا هي لم ترسلها، لقد ضغط اصبعها على زر الإرسال بالخطأ...
ساد صمت اجوف في داخلها، و كأنه فراغ قاتم، لينبعث صوت تردد صداه داخل هذا الفراغ وهو يقول
لكن أنت من كتبت الرسالة، أغمضت تيماء عينيها و هي تتأوه بصوت عال، رافعة يدها الى صدرها المتألم...
لم تنتبه الى أن سوار قد سمعت صوت تنهيدتها العالية الا حين قالت بخفوت.

(ماذا حدث؟)
أجفلت تيماء و انتفضت تنظر الى سوار في ظلام السيارة المتأرجحة بهما، فقالت بصوت مرتجف خوفا من ان تكون قد نطقت بأفكارها علنا في غمرة شرودها السحيق...
(ماذا؟، هل سمعتني نطقت بشيء؟)
عقدت سوار حاجبيها و هي تتامل تيماء بدقة، ثم قالت مبتسمة برقة
(لا، كنت تتأوهين فقط)
رمشت تيماء بعينيها و همست بتوتر...
(آه نعم، لا، كنت فقط، شاردة)
ابتسمت سوار بصمت شارد، و هي تراقب تيماء عن كثب، ثم قالت بخفوت.

(أتفكرين فيمن ستختارين؟)
رفعت تيماء اليها عينين متسعتين متوترتين و هي تقول متشنجة
(ماذا تقصدين؟)
ردت عليها سوار مبتسمة بتعاطف
(أنت تبدين كمن يقف على صفيح ساخن منذ وصلت الى هنا، تنتفضين لأقل همسة، على الرغم من وقاحتك و لسانك المحارب، الا أنك متوترة كقطة منتفشة الشعر، أعرف أن أمر اختيار أحد ابناء أعمامك صعب جدا عليك و أنت لم تعرفي أي منهم الا منذ ايام قليلة).

ابتلعت تيماء ريقها و هي تخفض عينيها ناظرة الى الهاتف البارد بين أصابعها، ثم قالت بفتور خافت
(آه نعم، صعب جدا)
قالت سوار مترددة قليلا، لكن دون أن تفقد ابتسامتها
(حسنا، أنا لا أريد الضغط عليك أكثر، لكن يمكنني تفضيل أخي أكثر من الجميع، إنكما مناسبين لبعضكما جدا، وهو يمتلك كالذهب، على الرغم من مظهره اللامبالي).

اتسعت عينا تيماء و هي تنظر الى سوار مصدومة، منتظرة أن تضحك سوار أو أن تصدر اي شيء ينم عن مزاحها...
الا انها على ما يبدو كانت جادة تماما...
فغرت تيماء شفتيها و هي تنقل نظرها بين سوار الهادئة و عبد الكريم الذي يقود السيارة ببساطة و كأنه اعتاد الكتمان و السرية...
ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية و قالت بتوتر.

(لا، لا صدقيني، أنا لست الزوجة المناسبة لاخيك، لو كنت تملكين ذرة حب أخوي له، لن تعيدي هذا الإقتراح مجددا، أنا مجنونة في أغلب الاوقات، عصبية، شديدة التملك، مشعثة الشعر، وهو على ما يبدو يتوقع شعرا شبيه بشعر أخته، أنا كارثة و حلت على من يختارني)
اتسعت ابتسامة سوار حتى ظهرت أسنانها ثم قالت بهدوء.

(الجميل في الأمر أنك أنت من تملكين حق الإختيار، بأمر من جدي، و يبدو أن أبناء أعمامك ليس لديهم أي مانع أو اعتراض و كل منهم يتمناك لنفسه)
مطت تيماء شفتيها و هي تبتسم بسخرية، ثم قالت بضيق
(ألم تدركي بعد أنهم لا يتمنوني لشخصي أو لجمالي المبهر!)
قالت سوار بلطف
(لا تكوني قاسية في الحكم عليهم، إنهم من أفضل الشباب، معدن شخصيتهم نقي).

هزت تيماء رأسها بيأس و هي تحاول انهاء هذا الحوار اليائس، الا ان سوار تابعت تقول بمرح
(ثم أنني كنت أرشح أخي الآن، وهو يختلف جدا عنهم، إن كان هناك ما أستطيع أن أضمنه لك هو انه مختلف، مختلف عن الجميع)
هزت تيماء رأسها و قالت معترفة بمضض
(نعم، هو مختلف، مختلف لدرجة أنني لو تزوجته لدخلت أنا يمينا و دخل هو يسارا)
صمتت و هي تخفض وجهها تعاود النظر الى الهاتف المظلم كظلام الليل...
حسنا من تخدع؟

من المؤكد أنه قد رأى الرسالة و تجاهل الرد عليها...
لكن حتى و هي تفكر بهذا الاحتمال كان قلبها يكذبه، قلبها يصرخ بها معنفا، الا تتخيل ذلك...
لكن ها هو الهاتف بارد جامد، يتحدى صراخ قلبها...
تنهدت تيماء و هي تنظر من النافذة، فقالت سوار بهدوء
(ها قد عدت الى التنهد من جديد)
نظرت اليها تيماء بقنوط ثم قالت بخفوت و تردد
(لقد قمت بشيء غبي).

توقعت أن تسألها سوار عما فعلته، الا أنها كانت تبدو شاردة و تركيزها بعيد، حتى أنها قالت و عيناها تسرحان في البعيد
(و أنا كذلك، قمت بفعل شيء غبي، جدا)
عقدت تيماء حاجبيها قليلا، و انتبهت الى سوارفقالت بخفوت
(ماذا فعلت؟)
لم ترد سوار على الفور، بل كانت تبدو و كأنها تسبح في عالم آخر و هي تقول بعد فترة
(تعاملت بطريقة طبيعية مع أمر ظننت أنه)
صمتت قليلا ثم لم تلبث أن قالت بخفوت أكبر و كأنها تحادث نفسها.

(كم عمري الآن؟، و كم عاما مضى منذ وقتها؟، مضى عمر كامل!، ترى هل ظني في محله؟)
قالت تيماء بعدم فهم
(عما تتكلمين؟، من الواضح أن زيارتك لهذه العائلة قد أثر عليك، أنهم)
نظرت اليها سوار مقاطعة بقوة
(لا يا تيماء، لا تتابعي، أنها عائلتي كذلك، ربما كنت أنا من ابتعد لفترة طويلة، اطول مما انتويت)
ردت تيماء بخفوت كي لا يسمعهما عبد الكريم.

(لكن هذا الرجل الذي أمرك بتغطية وجهك، بدا شديد التعنت وهو يأمرك بذلك بينما لا يحق له هذا، من يكون هذا الفظ؟)
هتفت سوار معترضة همسا
(لا تصفيه بهذا يا تيماء، انه ابن خالي و معلمي، كان شيئا كبيرا جدا بالنسبة لي، له مكانة مميزة لم يحتلها أحد سواه)
كانت تيماء تسمعها بتركيز، و كأنها تصف نفس المكانة الخاصة التي وضعت بها قاصي قديما، فوق جميع البشر...

لكن مكانة قاصي عندها كان العشق يكللها، أما سوار فكانت تتحدث عن رمز أكثر منه رجلا...
أما قاصي فكان الرجل الوحيد بحياتها...
قالت تيماء و هي تحاول الخروج من دائرة قاصي المحيطة بروحها ولو بالقوة
(لكن لماذا بدا شديد التسلط؟، هل يتصرف بتلك الطريقة مع زوجته؟)
نظرت اليها سوار مصدومة من السؤال العفوي، فترددت قليلا ثم همست باتزان مضطرب قليلا.

(لا أظن ذلك، زوجته تلك التي استفزتني ذات الفستان الأحمر، إنها ابنة خالي هي الأخرى و ابنه عمه)
فغرت تيماء فمها بذهول قبل أن تهتف همسا
(العقرباء المطرزة؟، ياللهي!، لا عجب اذن أن عقله قد اختل بعد العشرة الطويلة معها!، إنهما كثنائي يشكلان كارثة في حق البشرية)
أفلتت ضحكة متشفية من بين شفتي سوار، الا أنها كتمتها و قالت بحزم غاضب
(لا يصح هذا يا تيماء)
همست تيماء من بين أسنانها.

(و هل تعرف تلك العقرباء الفرق بين ما يصح و ما لا يصح؟، أقسم بالله لو كان أحدهم قد وجه لي كلاما كالذي وجهته لك لكنت اقتلعت عينيها و اقحمتهما في فمها، ما قالته كان خطأ رهيبا، فادحا، حتى أنها ادركت ذلك على الرغم من أنني لست من هذه البلد، لقد سمعت)
صمتت تيماء قليلا، ثم همست بخفوت أكبر متعاطف و غاضب
(لقد سمعت ما همست به في أذنك).

اجفلت سوار و برقت عيناها برفض غاضب و نفور، الا أنها لم تلبث أن استعادت توازنها بقدرة تثير الإعجاب...
و رفعت ذقنها و هي ترد عليها همسا بثقة...
(أنا أكبر من أن اهتز لكلمات وضيعة كتلك، أو حتى التنازل الى مستوى الرد عليها)
أبعدت سوار وجهها تنظر الى النافذة في الظلام منهية الحوار، الا أن بداخلها كانت تتوهج شعلة من الغضب، فما فعلته و قالته ميسرة لا يغتفر...

لكن الأكثر دناءة منها هو راجح، ذلك الذي يتعمد حتى هذه اللحظة أن يفضحها و يسيء الى سمعتها دون شرف أو نخوة...
حتى وصل به الأمر أن يشهر بها أمام، ليث...
لم تكرك أنها كانت تقبض كفيها معا بشدة، و هي تتخيل ردة فهل ليث على كلام راجح...
أغمضت عينيها و هي تتنفس نفسا غاضبا، لافحا، و هي تهمس في داخلها...
لقد ثقل حسابك معي يا راجح، ثقل جدا،
أرادت تيماء الكلام، هناك شيء ما يخصها في ما سمعته...
لا لا يخصها تماما...

لكن راجع الرافعي الذي ذكرته، اليس هو أخ قاصي؟، هل يحب سوار؟
توقفت تيماء و هي تنظر الى سوار مطولا...
كل الطرق تطوف حول قاصي من قريب أو من بعيد، أو ربما كانت هي من تربط العلاقات دون ارادة...
أطرقت تيماء قليلا بوجهها و هي تفكر أن راجح هذا يبدو شرسا، من نظرات عينيه الغير متزنة و الأقرب للعبث...
و منذ المواجهة التي سمعت عنها بينه و بين قاصي، لم ترى قاصي...
رفعت تيماء وجهها مصدومة و قلبها يخفق بعنف!

ترى أيكون قد آذاه؟
لكن قاصي أقوى و اعنف و هي أدرى الناس به، لا يمكن لشاب مدلل مثل راجح أن يهزمه بشيء!
أغمضت تيماء عينيها و هزت رأسها بيأس...
إنها على وشك الإصابة بالجنون حتما...
أجفلت فجأة حين سمعت صوت رنين مميز لوصول رسالة على هاتفها!
فانتفض قلبها في اللحظة الواحدة آلاف المرات، حتى أصبح بقائها حية يعد معجزة في حد ذاته...
أخذت تتنفس بصعوبة و هي غير قادرة على النظر للهاتف...

لا تزال مغمضة عينيها و قلبها يعزف لحنا صاخبا...
و حين استجمعت كل قواها، استطاعت رفع جفنيها بصعوبة و هي تفتح الرسالة بأصابع خرقاء مرتجفة...
هبط قلبها دفعة واحدة وكأنه أعلن فجأة عدم رغبته في الحياة...
فقد كانت الرسالة من أيمن...
و كان هو الشخص الوحيد الذي تتمنى سماع اي كلمة منه...
رسالة مترددة، تحمل اطارا من التهذيب و بعدا من الإحراج، لكن مما لا شك فيه انها كانت انسحاب لبق كلي...

مساء الخير يا تيماء، أعرف أنها رسالة متأخرة جدا...
لكن موقفي كان غاية في الحرج، و انا أعلم أنني قد تسببت في الالم لك دون قصد، الأمر كان أكبر مني و أرجو أن تدركي ذلك و تقدري أنك لم تكوني تامة الوضوح أمامي...
لم أعرف عن ظروفك كاملة و كان هذا ليوفر علينا الكثير من الحرج...
لازال رأيي هو نفسه، أنت انسانة رائعة و قوية و تشرفين أي رجل، و ربما ستكون عائلتك أكثر حظا مني بك...

سبب ارسالي لهذه الرسالة هو أبلاغك أنني على استعداد تام لمساندتك في نيل المنحة التي كنت تسعين لها، و سأساعدك بكل ما أستطيعه، و هذا أبسط ما أقدمه لك...
أنا انتظرك في الكلية متى كنت جاهزة، و أتمنى رؤيتك بأعلى المراكز، ظلت تيماء تنظر الى الكلمات طويلا، بعينين فاترتين. خاليتين من الحياة...
ثم لم تلبث أن أغلقت الرسالة و هي تلتقط نفسا عميقا، ناظرة الى الليل المظلم أمامها...

هل من المفترض أن تشعرها تلك الرسالة بالتحسن؟
حسنا لا يمكنها لومه تماما، ربما كان معه بعض الحق في أنها اخفت عنه بعض الحقائق...
مثل حقيقة وضعها و امها كدرجة دنيا في هذه العائلة...
اخفضت عينيها الكسيرتين، و هي تفكر أن موقف أيمن كسر جزء منها...
الجزء المعطوب منها و الذي يشعر بالنبذ و الدونية منذ سنوات طويلة...
الا انه لم يمس قلبها أبدا...

رجل واحد هو الوحيد القادر على جعل قلبها ينتفض انتفاضته المعروفة المؤلمة...
رجل واحد وهو الذي ارسلت له نداء احتياج ما أن رأت عروس ترتدي ثوبا أبيض، و الابتسامة تظلل وجهها بسعادة واضحة...
حينها لم تدري الا و اصبعها يبعث بتلك الكلمة المثيرة للشفقة اليه...
فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين قليلا بألم، هامسة لنفسها.

لكنه لم يرد، لم يرد، لقد هربت جريا من حفل الزفاف بجنون خوفا من أن تجده منبعثا من العدم، لكن ها هي تقف أمام نفسها لترى مدى الغباء الذي تتصف به...
فقاصي لم يبادر بالإتصال بها حتى!
ربما كان مع مسك حاليا، يشكو لها من معاناته و تعنتها، و ربما خففت عنه مسك مربتة على كفه و هي تنصحه أن يتخلى عن أمله فيها...
و ربما وجد حينها أن مسك هي الأنسب فعلا!

زفرت تيماء بأنين غاضب من نفسها و هي تصل بتفكيرها المشوش الى كل هذه القصص الوهمية المتداخلة...
تكلم عبد الكريم فجأة قائلا بصوت خشن حائر...
(من هذا اللذي يشير الي على جانب الطريق؟)
انتبهت كل من سوار و تيماء من شرودهما الى ما يقوله عبد الكريم، الا أن الرجل الملوح لهما كان خفي الملامح في هذا الظلام الدامس بالطريق الغير ممهد أو مضيء...

أبطأ السيارة قليلا الى ان وقف بمحاذاة الرجل الذي انحنى ممسكا باطار نافذة عبد الكريم المفتوحة وهو يقول بصوت عميق مألوف
(السلام عليكم، مرحبا يا عبد الكريم)
شهقت تيماء بصمت فاغرة شفتيها و هي تتطلع من مقعدها الخلفي الى صاحب الصوت الكفيل بانتفاضة قلبها بين أضلعها...
وهو...
هو وحده من سمع شهقتها، فرفع عينيه الى عينيها مباشرة...

استطاعت تيماء أن ترى الوهج بهما رغم الظلام الكثيف، فرفعت يدها الى فمها، غير قادرة على التنفس أو ابعاد عينيها عن عينيه المتربصتين بها...
تكلم عبد الكريم قائلا
(آه و عليكم السلام يا قاصي، ماذا تفعل هنا؟)
رد قاصي عليه بصوت عفوي طبيعي، بينما شعرت تيماء أن كل حرف من كلامح موجها اليها، يتخللها كالسهام
(كنت متوجها الى دار الرافعية، لسبب هام جدا، لكن السيارة تعطلت مني على الطريق، أيمكنك المساعدة؟).

رد عبد الكريم متفهما
(آه، حسنا لا بأس، انتظرني هنا حتى أصل بالسيدتين حتى الدار ثم أعود اليك)
رد قاصي بهدوء طبيعي تماما
(و لما لا أذهب أنا بهما الى الدار، فقد تأخرت على من يحتاجني جدا)
انهى عبارته وهو ينظر الى تيماء بنظرات حارقة جعلتها تخفض وجهها الملون بسرعة و هي تتنفس بسرعة خيالية، جعلتها تريد أن تنشق الأرض و تبتلعها...

و بنفس الوقت تتملكها مشاعر همجية تجعلها راغبة في الصراخ عاليا، ابتهاجا مجنونا، و ذعرا!
وبمنتهى العفوية تابع قاصي وهو يشير بذقنه
(مرحبا سيدة سوار)
ردت سوار عليه بقلق
(كيف حالك يا قاصي؟، لقد قلق عليك جدي الفترة الماضية، لقد اختفيت تماما)
رد عليها قاصي بنفس الصوت العميق الراسخ
(ليس وحده على ما يبدو).

التاع قلب تيماء و اختلج بعنف، فنظرت من نافذتها الجانبية متهربة منه و هي تنتفض داخليا بذعر و بهجة خائنة آلاف المرات...
تابع قاصي ببساطة
(أنا ذاهب عليه على الفور بكل حال)
ردت سوار بهدوء
(لا بأس اذن، سيقلنا قاصي يا عم عبد الكريم ليرى جدي وحاول ان تصلح سيارته الى أن أرسل اليك أحد الرجال على وجه السرعة، فقاصي يبدو مرهقا بشكل محزن).

لم يتردد عبد الكريم طويلا قبل ان يخرج من السيارة و يتبادل مع قاصي بضعة كلمات عن السيارة، و خلال ثوان كان قاصي داخل سيارة يحتل المقعد الأمامي بكل ثقله، فاهتزت السيارة و شعرت تيماء و كأن وجوده احتل المكان بأكلمه و ضمها، بقوة...
الا أنها أبقت عينيها المتسعتين المذعورتين على النافذة المظلمة باصرار و هي ترتجف بعنف
و ما أن تحركت السيارة بهم حتى قالت سوار باهتمام صادق.

(أين كنت يا قاصي طوال اسبوع؟، صوتك يبدو مجهدا حد الإعياء)
رد قاصي بصوت عميق بشدة، و عيناه على تيماء في المرآة بينما يقود السيارة بثقة و سرعة
(كنت في القرب سيدة سوار، لم أكن لأبتعد و أنا أترك جزء من نفسي هنا، و ما أن علمت أن هناك من يحتاجني أتيت على الفور، لم أكن لأتأخر أبدا)
قالت سوار باهتمام
(هل اتصل بك جدي؟)
قال قاصي ببساطة
(لقد أتيت قبل أن يتصل، أعرف أنه يريد رؤيتي).

صمت قليلا ثم قال بصوت بدا ذون نغمة مجنونة، محتوية للمحيط ان امكنه
(كيف حالك الآن يا تيماء؟)
قفزت تيماء في مكانها و هي تنظر اليه عبر المرآة، ثم قالت بغباء مثير للشفقة
(ها، ماذا؟)
نظر اليها قاصي عبر المرآة و بدا غافلا عن الطريق تماما...
(سألتك كيف حالك؟، هل زال ألم الجرح تماما؟)
بدت كالمجنونة و هي تنظر اليه بارتياع قبل أن تهمس بارتجاف
(أي جرح؟)
قال قاصي مبتسما بخفوت.

(الجراحة التي أجريتها، من الفترض أن يكون موعد نزع خيط الجراحة أمس)
رمشت بعينيها و هي تبعد عينيها عن عينيه قائلة بخشونة بدت زائدة عن الحد من فرط ارتباكها
(نعم، كل شيء بخير)
كانت تشعر بالذعر من جنونه، خاصة مع أريحية تعامله معها أمام سوار، فهو حتى الآن يدعو سوار بلقب سيدة، بينما ينادي اسمها هي مجردا ببساطة و حميمية، دون أن يهتم لوجود سوار...

لاح دار الرافعية من على بعد، فساد الصمت المشحون بالتوتر الى أن انحدر قاصي عبر الممر المؤدي اليه...
و ما أن فتحت بوابته حتى دخل بالسيارة، الى أن وقف بها دون أن يبطل محركها...
فقالت سوار بهدوء
(هيا يا قاصي ابطل المحرك و انزل لمقابلة الحاج سليمان)
رد قاصي بصوت غريب
(سيحدث سيدة سوار، لكن قبلا هناك حوار بيني و بين تيماء لم ينتهي بعد و أنا حتى الآن لم أملك الفرصة لإنهائه، لذا سأصطحبها معي لدقائق).

شهقت تيماء بصوت عال و هي تنظر اليه بذهول...
هل اختل عقله تماما؟، المعتوه؟، المجرم؟
الا أن سوار قالت بهدوء
(لما لا تكملان حواركما في الداخل اذن؟)
رد قاصي بثقة
(لن أجد الوقت لذلك، كلما أردت مكالمتها منعنا أحد أفراد العائلة من ذلك، بضعة دقائق فقط و سأعيدها، )
نقلت سوار نظرها بينهما في الضوء الشاحب المعتم المنبعث من مصابيح حدائق الدار، ثم قالت بخفوت.

(لا أظن أنني سأتركها لك في مثل هذا الوقت يا قاصي، لا أستطيع السماح بذلك)
ضحك قاصي بخفوت مجهد...
(لا تخافي سيدة سوار، لقد اعتدت ايصال تيماء لسنوات طويلة حتى بت أشعر بالغرابة كلما منعني أحد من محادثتها، انها في رعايتي منذ أن كانت طفلة)
قالت سوار و هي تراقبهما باهتمام متفحص...
(لكنها لم تعد طفلة الآن يا قاصي، و الوقت متأخر)
قال قاصي بنفس الثقة
(انها التاسعة ليس الا، و خلال دقائق ان لم أعدها).

صمت عن عمد وهو ينظر الى عيني تيماء المذعورتين في المرآة، فسحبت نفسا طويلا مرتجفا برعب قبل أن يقول متابعا بهدوء
(يمكنك ارسالة فرقة من رجال جدي بحثا عنا)
تعمده لفظ كلمة جدي كانت حركة في منتهى الخبث كي سيتدر عطف سوار، و بالفعل نقلت نظرها بينهما بتفحص غامض، قبل أن تقول بخفوت
(الى أين ستذهبا؟، البلد صغيرة و نحن لا نريد فضائح رجاءا)
رد قاصي بهدوء.

(سنخرج من أبواب القصر ليس الا، و اطمئني، لن أتسبب في الفضائح لتيماء أبدا، فهي جزء مني)
اغمضت تيماء عينيها و هي تتأوه دون صوت بيأس صارخة في داخلها بعنف
ياللهي، ياللهي!، ماذا يفعل المختل المجنون المعتوه؟، الا أن قاصي تابع بهدوء بريء
(كل فرد منكم هو جزء مني، و أنا لن أؤذي اي منكم أبدا سيدة سوار)
ساد صمت طويل مريع قبل أن تقول سوار موجهة كلامها الى تيماء
(أتريدين الكلام مع قاصي يا تيماء؟).

نظرت اليها تيماء بهلع وودت بجنون لو تشبثت بطرف عبائتها و بكت متوسلة اليها الا تتركها بمفردها معه كالأطفال، الا أن ذرة النضوج المتبقية بداخلها جعلتها ترفع وجهها و تستجمع كل قوتها كي تقول بصوت هادىء كذبا...
(نعم رجاءا يا سوار، هناك، حوار هام بيني و بين قاصي أحتاج، لإنهاءه و سأعود سريعا)
بقت سوار مكانها و هي تنظر اليهما، متسائلة بداخلها.

كيف لم تدرك الأمر من قبل؟، ترى أيعلم جدها بالأمر؟، أن هاذين الإثنين مغرمين ببعضهما؟، تحركت سوار من مقعدها و هي تقول بنبرة صارمة قليلا
(فقط دقائق يا قاصي، قد يسأل جدي عنها بأي وقت. )
قال قاصي ببساطة
(فقط دقائق سيدة سوار)
خرجت سوار من السيارة على مضض و كأنها لا تريد، الا أنها كانت مدركة بأنها لن تستطيع منعهما لو أرادا، و قد يتهورا بأي تصرف...
قد يظن جدها ان بامكانه احتجاز تيماء و طرد قاصي...

لكنها تعرف جيدا العالم الجديد خارج اسوار هذا القصر بخلاف جدها...
و أن قيود العائلة لم تعد مخيفة الى هذا الحد، خاصة لو امتلك احد افرادها جزءا مات من قلبه...
اغلقت سوار باب السيارة خلفها و تعمدت صعود السلالم برأس مرتفع دون ان تنظر خلفها كي لا تثير انتباه اي احد الى وجود تيماء في السيارة...

كانت تتسائل بداخلها هل ما فعلته كان صحيحا او خاطئا، لكن بداخلها كانت هناك مراهقة مختفية في احد زواياها، لا تزال تنظر الى قصص الحب بدافع من الأمل، الا أنه أمل ضعيف جدا، يكاد أن يكون يائسا، لقد أحبت ذات يوم و كانت النتيجة خذلان مريع لا تزال تعاني من آثاره حتى الآن...
تنهدت سوار و هي تهمس لنفسها.

عامة ما تأكدت منه الآن، ان تيماء لن تكون لفريد مطلقا، أما في السيارة فقد كانت تيماء في حالة من الذهول جعلتها تعجز عن الكلام لعدة لحظات و كان هذا أكثر من كافي لقاصي كي يقول بهدوء آمر
(اخفضي رأسك)
لم تفهم على الفور فقالت بغباء بائس
(ماذا؟)
قال قاصي وهو يتحرك بالسيارة
(أخفضي رأسك كي لا يراك أحد، بسرعة)
لم تفكر و هي تخفض رأسها، نصف مستلقية على المقعد الخلفي وهو ينطلق بالسيارة خارجا من بوابة دار الرافعية...

أغمضت تيماء عينيها و هي تتأرجح بقوة على مقعد السيارة، أثناء انطلاق السيارة فوق الطريق الغير ممهد مخلفة زوبعة من الغبار الأبيض الكثيف...
طالت الدقائق و هي تحاول تهدئة قلبها المجنون، لكن الدقائق كانت تمر و ابتعدا عن قصر الرافعي جدا، فتجرأت على رفع رأسها أخيرا و استقامت ناظرة حولها بخوف
لتجد أنهما قد ابتعدا عن الطريق الذي وصلا منه، كان طريقا آخر مهجورا محاطا بالزراعات من مكان...

حينها فقط نظرت الى قاصي و هتفت
(الى أين تأخذني؟)
لم يرد قاصي على الفور فهتفت بغضب بدأ يتفجر بعد الصدمة الأولى و تراجع تأثيرها
(الى أين تأخذني يا قاصي؟)
ابتسم قاصي ابتسامة رأتها في المرآة بوضوح، قبل أن يقول بخفوت بريء
(الى مكان بعيد، أستطيع فيه أن أشبع احتياجك)
فغرت تيماء شفتيها بذعر، بينما تلون وجهها بلون أحمر قاني وهي تصرخ
(احترم نفسك يا قاصي و أعدني فورا).

لم يبذل قاصي أي مجهود كي يغير وجهته، و لم تهتز به عضلة واحدة، الا أنه قال ببساطة
(لا زال تفكيرك ملتويا دائما تجاه المعاني ال)
الا أن تيماء لم تسمح له بالمزيد فصرخت بقوة
(قلت اخرس، لا اسمح لك بمثل هذا الكلام)
ارتفع حاجبي قاصي و قال ضاحكا
(لم أقل شيئا، عقلك الملوث هو الذي تكفل بالأمر، أنا فقط استمتع)
احمر وجهها اكثر حتى لم يعد هناك مجالا أكبر للإحمرار أكثر، فصرخت بعنف و هي تضرب مقعده بكفها.

(ارجعني للدار يا قاصي)
ضحك قاصي ضحكة خافتة خالية من المرح قبل أن يقول بخفوت
(أصبحت تقولين دار، لقد أثرت عليك فترة بقائك هنا)
صمتت تيماء و هي تنظر الى جانب وجهه المظلم، و قد بدا صوته متباعدا، متعبا، و به شيء غريب...
لذا سكنت مكانها عدة لحظات قبل أن تقول بخفوت
(أين كنت طوال هذه الفترة؟)
ترى هل لمح العتاب في صوتها الخافت؟

لم تكن تنوي أبدا أن تظهر شيئا منه، الا أن صوتها بدا عاتبا متألما بدرجة أكبر من أن تستطيع اخفائها...
لم تدرك أن ألمها كان كبيرا الى هذه الدرجة حتى رأته مجددا...
رد عليها قاصي قائلا بجدية
(كنت بالقرب منك، لم أكن لأتركك هنا بمفردك بعد أن أتيت بك و ارحل أبدا)
لم تدري من أين اندفعت العبارة المتهورة لتنطق بها دون تفكير، بصوت غامض
(سبق و فعلتها)
ساد صمت مرعب بينهما...

كانت تشير بوضوح الى فراقهما منذ خمس سنوات، حين أحضرها الى هنا و تركها، لمصيرها وحيدة منبوذة...
لم يتكلم قاصي، فازداد خوفها...
أرادت أن تتكلم، أن تخبره أنها لم تقصد ما لمحت اليه، الا أنها لم تستطع...
لم يرد قاصي عليها، و لم تصدر منه أي حركة أو حتى ايماءة ساخرة يطمئنها بها...
أوقف السيارة أخيرا، فنظرت حولها بتوتر...
كان مكان مهجور تماما، لا وجود لأي أثر من معالم التحضر...

جزء مكشوف من الصحراء المترامية، على جانبي طريق خلت منه الزراعات أخيرا...
ابتلعت تيماء ريقها و هي تلتفت اليه قائلة بخفوت
(لماذا أحضرتني الى هنا يا قاصي؟)
لم يجبها، بل خرج من السيارة بهدوء و استند الى مقدمتها و كأنه غير مهتم وجودها...
انتابتها موجة عارمة من الغضب الهائج و لم تشعر بنفسها الا و هي تخرج خلفه صافقة باب السيارة بعنف لتدور حول السيارة و تواجهه بكل قوتها هاتفة بغضب.

(قاصي أجبني، و إياك أن تتجاهلني بهذا الشكل مجددا)
و كأن السنوات لم تمر...
كان على نفس هدوءه اللا مبالي و أحد أقنعته الساخرة، و هي كانت على اندفاعها المتهور دون تعقل أو اتزان...
اختلج قلبها و كأنها تشعر بالسنوات تعود بها في لمح البصر الى حبهما الأول...
عيناه كانتا تتفحصانها بدقة دون تعبير واضح، ثم قال أخيرا بصوت خافت غريب
(تبدين جميلة).

لم يكن صوته يحمل انبهارا حقيقيا، ربما عيناه كانتا تلتهمانها بنفس النظرة القديمة دون أن يتغير منها شيئا، لكن صوته، لا...
صوته كان غامضا و متباعدا و كأنه غير راضيا تماما...
ارتبكت قليلا الا أنها رفضت أن تظهر له فقالت بخفوت
(كنت أحضر حفل زفاف)
قال قاصي بصوت خافت وهو يتأملها دون رحمه
(هذا ما اراه).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة