قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

كانت واقفة أمامه ترتدي تنورة سوداء طويلة حتى كاحليها، مخملية جميلة و فوقها كنزة كحلية اللون، متناثر عليها بعد الخيوط الفضية...
كانت هذه هي الملابس الوحيدة التي أحضرتها معها و أمكنها أن ترتديها لحفل الزفاف...
و من فوق ملابسها كانت عباءة سوار الحريرية السوداء المفتوحة تتطاير خلفها بمنظر مهيب...
و السلسال الذهبي الثقيل يستقر على صدرها و يثقلها...

قال قاصي أخيرا متابعا وهو ينظر الى عينيها المكحلتين بحكل ثقيل أسود يتناقض مع لونها الفيروزي...
(تبدين رافعية أبا عن جد)
عبارته الخافتة جعلتها تتسمر مكانها، و كأنه كان يتهمها بشيء ما أبعد من ملابسها...
كانت هذه العبارة دائما ما تمثل لها اتهام تنكره بكل قوتها، و هي تشعر بالنفور
الا انها وجدت نفسها تقول بخفوت و هي تنظر الى عينيه
(أنا رافعية أبا عن جد، لا أحتاج الى القليل من الملابس كي أثبت ذلك).

ارتفع حاجب قاصي بصمت و كأنها قد صدمته بكلامها الهادىء...
فقال ساخرا يستفزها
(هل اقتنعت بذلك أخيرا؟، كنت دائما تنفرين من الفكرة)
ازعجتها سخريته و زادتها مرارة، فقالت بفتور
(ربما قررت أخيرا الاستفادة من الأمر الواقع المفروض علي، و لماذا يضايقك ذلك؟)
نظر قاصي إلى عينيها طويلا، نظرة اذابت عظامها قبل ان يقول بهدوء و قد تداعت سخريته حطاما...

(ربما لأنني أعتدت أن تلجأين إلى دائما، أعتدت أن اكون أهلك و عائلتك الوحيدة)
لم تدري بنفسها الا و هي تتأوه بخفوت، و عيناها تتشربان رجولته التي تاقت الى كل ملمح منها منذ زمن طويل...
هوا قاصي رغم تغير شكله الا أنه بنفس الوسامة الخشنة التي تمس القلب قبل العينين...
فكه القوي الذي يبدو و كأنه قد نحت خصيصا للألم...
و عيناه الهادرتين، بالجمر المتوهج بهما...

اقتربت منه تيماء ببطىء و العباءة الحريرية السوداء تتطاير من خلفها، الى أن وصلت اليه...
ووقفت أمامه مباشرة...
كان قد ترك ضوء مصابيح السيارة مضاءا من خلفه، فبدا وجهه مظلما بعيدة عنه. ، لكن ما أن اقتربت منه الى هذه الدرجة حتى اتسعت عيناها و شهقت بهلع و بصوت عال و هي ترفع يدها إلى فمها الصارخ
(قاصي، ماذا أصاب وجهك؟).

كان هناك خط رفيع من قطبات حديثة، ممتد على طول وجهه من حاجبه االأيمن مرورا بأنفه حتى وجنته اليسرى...
لم يتحرك قاصي من مكانه، بل ظل قريبا منها بعطره التي تستطيع تمييزه جيدا، ينظر اليها بنظرة هادرة، نظرة تشملها و تبتلعها لتغرقها بأعمق أعماقه...
الى أن قال أخيرا بصوت ساخر خافت
(لقد أصبحت مشوه الوجه، هل سيؤثر هذا في ارتباطنا؟)
ارتباطنا؟

انه يتكلم بمنتهى الثقة، و البهجة المجنونة تشتعل في صدرها بفعل كلمته الساخرة العابرة...
الا أنها تغاطت عنها بأعجوبة و هتفت بقوة من وقع صدمتها
(من فعل هذا بوجهك يا قاصي؟، هذا ليس حادثا عابرا أبدا)
قال قاصي ببساطة وهو يهز كتفيه غير مهتما
(لا تبالي بها، لقد اخبرتني الممرضة انها تزيدني جاذبية)
لم ترد تيماء على استفزازه الواضح، كان يحاول ان يبعدها عن السؤال، الا انها قالت بقوة و الم مجددا.

(قاصي تكلم فورا، من فعل بك هذا؟)
الا أن قاصي ابتسم، ابتسامته التي اشتاقت اليها...
تلك الإبتسامة المشاغبة الشهية، و التي جعلته الآن أضغر سنا و كأنه عاد للعشرينات مجددا...
وهو يقول بمرح
(كانت ممرضة صغيرة و لطيفة، عيناها خضراوين جميلتين، و شعرها ناعم كالحرير)
المرح في صوته لم يطال عينيه، عينيه الغائرتين و صوته الأجش...

فقالت تيماء بحدة و قد بدأت غيرتها الحمقاء تشتعل مجددا على الرغم من معرفتها أنه لا يقول ذلك الا كي يستفزها فقط
(قاصي، توقف عن هذه السخافة، لم تعد شابا عابثا)
الا أنه استقام من استناده الى السيارة فوقف أمامها، حتى اضطرت الى رفع وجهها اليه و ابتلعت ريقها بصعوبة، بينما عيناه لن تحررا عينيها من الأسر مطلقا وهو يهمس بصوت أجش
(الا أن عينيها لم تحملا درجة اللون الأزرق الموجودة بعينيك).

كانت على وشك السقوط أمامه من شدة ارتجاف ساقيها فأفلت تنفسها المرتجف من بين شفتيها...
و دون أن تدري وجدت يدها ترتفع لتلامس الجرح الممتد على طول وجهه و هي تهمس باختناق بينما غلالة من الدموع تتجمع على حدقتيها اللتين تغزل بهما للتو...
(من فعل بك هذا؟، أهو أخيك؟، كنت أعلم انه سيحاول أذيتك).

ارفعت يد قاصي لتقبض على كفها فجأة وهو يخفضها عن وجهه، الا أنها ما أن حاولت نزع يدها لم يحررها بكل أحكم قبضته عليها...
أخذت تيماء تجذب يدها بقوة دون جدوى و هي تهمس بخوف و قد بدأت مشاعرها تهدد بالإنهيار
(قاصي اترك يدي، اترك يدي، لا تفعل ذلك)
الا أن ملامحه تحولت الى ملامح مخيفة، مخيفة في عنف المشاعر التي ظهرت عليها وهو يهمس بصوت أجش.

(اشتقت الى كفك الصغيرة مثل العصفور بين أصابعي، اشتقت اليك كلك، عناقك، همسك، هتافك القوي بأنك لي و لن تكوني لغيري أبدا، أين ذهبت تلك المرأة التي أحبتني يوما؟)
كانت أصابعه تتحسس كفها فزادها ذعرا و هي تحاول عبثا سحب يدها، فهتفت بترجي
(اترك يدي يا قاصي، أرجوك، قد يرانا أحد، أرجوك)
الا أنه اقترب منها خطوة وهو يهمس بصوت أكثر عنفا
(لن يرانا أحد هنا)
هتفت تيماء بعذاب.

(أرجوك يا قاصي، أنا لم أعد كما كنت، و لن أسمح لك بالتمادي)
يده الأخرى وجدت طريقها الى خصرها تحت العباءة المفتوحة وهو يجذبها اليه هامسا بالقرب من فكها الناعم
(اشقت الى تلك القبلة الوحيدة بيننا، تلك التي أحلم بها كل ليلة لتفترسني ببطىء و أنا أعيدها و أعيدها، بأحلامي فقط)
كانت تيماء تتلوى بعنف لتتخلص من يده على خصرها و ما أن أبعدتها حتى امتدت يدها الحرة و صفعت وجنته بكل قوتها...

ساد صمت مريع بينهما، و كل منهما ينظر للآخر، هي ترتجف من هول مشاعرها وهو متسارع النفس لدرجة الجنون و الألم...
الى أن همست تيماء بصوت منتحب، صارم، و قاسي...
(اترك يدي)
ترك يدها ببطىء، ثم لم يلبث ان رفع يده يتحسس بها وجنته ليقول بسخرية على الرغم من نفسه الذي لا يزال غير ثابتا بعد.
(لازلت شرسة يا تيمائي المهلكة، الا أنك كنت قديما شرسة اندفاعا نحو عواطفي، لا هربا منها).

أسبلت تيماء جفنيها و هي تدلك يدها كي تمحو أثر يده الحارق عن كفها...
ثم قالت بصرامة و جفاء دون أن تنظر اليه...
(هل آذيت الجرح في وجهك؟)
سمعت صوت ضحكتة الخافتة، قبل أن يهمس بصوت أجش
(انظري إلى و تأكدي بنفسك)
كان يريدها أن ترفع عينيها اليه مجددا، و قد فعلت، رفعت اليه عينين دامعتين و قاسيتين، تنظران الى جرحه ثم همست أخيرا بنفس الجفاء، الا أنها لم تستطع أن تخفي اللهفة في صوتها المرتجف.

(لماذا لم تدافع عن نفسك؟)
ابتسم قاصي بسخرية وهو يتحسس وجنته ثم قال
(كانت صفعتك سريعة خاطفة، لم استطع تداركها)
هتفت تيماء بجنون غاضب
(توقف عن ذلك، أنت تفهم تماما ما أعنيه، لماذا لم تدافع عن نفسك قبل أن يفعل بك أخاك ما فعل)
قال قاصي ببرود مفاجىء
(انسي أمره، يوما ما سيوفي كل ديونه، ليس هو وحده، لقد تركته يرسم هذا الجرح كي لا أنسى أبدا)
شعرت تيماء فجأة بخوف بارد كقبضة جليدية حول قلبها...

و هي ترى تحول نبرة صوته من لون الى آخر، و كأنه شخص آخر تماما...
فقالت بعد فترة من العذاب النفسي و الصراع ما بين ضعفها تجاهه و صلابة ما ربت نفسها عليه خلال السنوات الماضية...
(لماذا أتيت اليوم يا قاصي؟)
نظر الى عينيها طويلا قبل أن يقول بصوت أجش خافت
(الا تعلمين لماذا؟، لأن المرأة التي تخصني نادتني، و صرخت احتاجك، فلم أكن لأتخلف عنها الا بموتي).

رفعت اليه عينين صامتتين، متهمتين، التقط اتهامهما بوضوح فقعد حاجبيه...
الا أنها استدارت عنه و قالت بجمود
(لقد أرسلتها اليك بالخطأ)
سمعت ضحكته الخافتة مجددا من خلفها، ثم قال بهدوء
(لمن كانت اذن؟، قبل أن تخطئي و ترسلي بها الي؟)
لم تجد جوابا، حاولت أن تبحث عن أي تفسير عملي بارد الا أنها لم تجد...
لأنها ببساطة لم تستطع أن تخادع نفسها أكثر من ذلك، و كأنه كان يقرأ أفكارها رغم عندم التفاتها اليه...

فقال بخفوت وهو يقترب منها
(اهمسي بها، أريد سماعها مرة واحدة، ليس من العدل أن أقرأها لأول مرة بعد كل هذه السنوات)
أغمضت تيماء عينيها و أطرقت بوجهها و هي ترفع يدها الى جبهتها، فهمس قاصي مجددا بصوت أكثر تحشرجا و سخونة
(اهمسي بها، هل هذا طلب عسير جدا؟)
هزت تيماء رأسها نفيا دون أن تجيب، فقال قاصي بخفوت وهو يقترب منها خطوة أخرى
(في السيارة قلت شيئا، لم تخطئه أذناي، قلت سبق و فعلتها ).

فتحت تيماء عينيها و هي تتنفس بصعوبة ناظرة الى الظلام المدقع أمامها...
الا أن قاصي لم يرحمها، بل قال بقسوة مفاجئة
(هل تلومينني لأنني تركتك لجدك منذ سنوات؟)
شهقت تيماء شهقة نجحت في كتمها بكل قوتها، الا أن قاصي استطاع ان يلمح ارتجاف جسدها رغم الظلام المحيط بهما...
و حين لم ترد. همس بصوت أكثر تحشرجا
(هل تلومينني أيضا على ما أصابك من والدك؟)
هتفت تيماء بصوت متشنج.

(هذا موضوع محرج، شديد الخصوصية لا تطرق اليه مجددا)
قال قاصي بقسوة و انفاسه الهادرة تلفحها
(لا خصوصية أو احراج بيننا، كنت أقرب اليك من نفسك)
صرخت تيماء فجأة بغضب
(يؤلمني اذن، هل هذا ايضا لا يؤثر بك؟)
لم تتوقع اليد التي قبضت على ذراعها و تديرها اليه بعنف، ليصدمها وجهه القاتم المخيف و قد زاده الجرح شراسة...
(انظري إلى و أنت تنطقين بتلك الكلمات، انظري لعيني و انطقيها).

ساد صمت طويل و هي تتهرب من عينيه و تحاول جاهدة ان تفك قيد اصابعه عن ذراعها
الى أن هدر بها قاصي بعنف
(هل تفعلين؟، هل تلومينني على ما أصابك؟ )
رفعت تيماء وجهها اليه تنظر الى عينيه أخيرا كما امر، ثم قالت بصوت أجوف فاتر، مرتجف قليلا
(الا تظن أنه من المنطقي أن ألومك؟)
عاد الصمت بينهما مجددا، و كل منهما ينظر لاهثا الى الآخر...
عينا قاصي اظلمتا فجأة، و شحبت ملامحه. أم أنها تتوهم ذلك؟، لا تعلم تماما.

الى أن قال قاصي أخيرا بصوت فاتر بلا حياة، به طيف من السخرية
(ربما لأنك لم تخضعي للمنطق أبدا في علاقتك بي، لذا تخيلت، أو ربما تمنيت أن تكوني غير منطقية في هذا الأمر تحديدا كذلك)
أطرقت برأسها، و هي تتهرب من عينيه لتهمس بخفوت
(اخبرتك أنه أمر مؤلم لكلينا، فلا داعي لفتحه مجددا، لقد كبرت و نسيت، لكنك تصر على تذكيري به)
أمسك بذقنها يرفع وجهها اليه و همس بصوت خشن أجش.

(انظري الى عيني، لا، لا تسبلي جفنيك، انظري الى عيني)
رفعت جفنيها و نظرت الى عينيه ببطىء، فأغشتها العواطف الجامحة بهما، الى أن همست متأوهة
(آآآه يا قاصي)
انسابت دمعتان ثقيلتان من عينيها على وجنتيها ببطىء، فشدد على ذقنها يقول مترجيا بصوته العميق الخشن
(اهمسي بها، اهمسي بندائك، أريد سماعه، أرجوك تيمائي)
نظرت اليه نظرة أخيرة كانت كفيلة بأن تجعلها تشهق باكية متأوهة بعذاب، هاتفة بكل كيانها الذائب في عشقه.

(أحتاجك، أحتاجك يا قاصي أكثر من أي وقت مضى بحياتي)
توهجت عيناه وهو يهتف همسا باسمها قبل أن يضمها الى صدره بكل قوته...
شعرت في تلك اللحظة أنها قد عادت الى وطنها كما كان يخبرها...
تحت وجنتها كانت مضخة قلبه تضخ الحياة الى سائر جسده و كأنه ارض جافة ترتوي بعد ظمأ...
وكان اسمها يخرج مرتجفا من بين شفتيه و هي ترفع يديها ببطىء الى ظهره، مغمضة عينيها تنهل من تلك الراحة التي اشتاقت اليها طويلا...

الا أنها انتفضت فجأة و دفعته في صدره لتتراجع شاهقة و هي تهتف بذعر
(لا أستطيع)
شعر وهي تبتعد عنه أنها قد انتزعت معها جزء من صدره، الجزء الأهم و النابض بالحياة...
لكنه لم يستطع ارجاعها الى أحضانه دون ارادتها لذا تأوه ساحبا نفسا خشنا متفجرا قبل أن يقول بقوة و غضب
(سنتزوج)
هتفت تيماء بذعر و هي تلمس وجنتيها المحترقتين
(هذا جنون، جنون و مستحيل).

قال قاصي وهو يقترب منها خطوة الا أنه توقف قبل أن يفقد سيطرته على نفسه مجددا
(جنون نعم، لكن مستحيل لا، سترحلين معي الآن و نتزوج)
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه غير مصدقة...
كلمة واحدة، فقط كلمة واحدة منها تجعل بها نفسها تعود الى وطنها الوحيد الذي عرفته...
الا أنها هزت رأسها بقوة تجليه من تلك الأحلام الصاخبة المجنونة و هي تهتف رافعة يدها الى جبهتها.

(توقف، ارجوك توقف عن هذا الجنون، أنا لم اعد مراهقة في الثامنة عشر من عمري تهرب معك من أهلها)
هتف قاصي بغضب مستعر
(تلك المراهقة التي تتحدثين عنها كانت أكثر امرأة دافعت يوما عن الرجل الذي احبت)
نظرت اليه تيماء و صرخت و هي تقبض كفيها حتى أدمت أظافرها راحتهما...
(تلك المراهقة لم تكن تملك ما تخاف عليه، أما الآن فلدي حياة و عمل و دراسة، و أم تنتظرني)
هتف قاصي بجنون.

(كان لديك أكثر و أنت أصغر سنا، لقد تخليت عن كل شيء لاجلي)
هتفت فجأة بشراسة مفاجئة و هي تضربه في صدره
(نعم أنت محق، لقد تخليت عن كل شيء لأجلك و أنت في المقابل تخليت عني)
ساد صمت مريع بينهما، بينما كان قاصي ينظر اليها غاضبا هائجا كحيوان شرس، ثم قال من بين أسنانه بتهديد
(تعلمين أن هذا ليس صحيحا، كنت أحميك من شيء اسوأ قد يحدث لك)
صرخت بجنون و هي تضربه في صدره مجددا.

(ليس هناك أسوأ مما تعرضت له، لقد ذبحوني يا قاصي دون رأفة)
التوت عضلة بعنقه و تشنج حلقه وهو يهمس
(أعرف)
الا أنها ضربته صارخة بحالة هيستيرية
(لا تعرف، لا تعرف)
كانت تضربه بلا هوادة، الى أن أمسك بكتفيها و هزها بقوة هادرا بها
(بلى أعرف، أعرف و أموت كل ليلة و أنا أتخيل ما حدث لك بسببي، و لا أملك ما أقدمه لك سوى أن أنتزعك من بين براثن الجميع و أهرب بك بعيدا، و حينها سأنسيك ما حدث لك، أقسم أنني سأنسيك).

كانت تشهق و تبكي بعنف متلوية كي تتحرر من يديه، هاتفة باختناق
(لن تستطيع يا قاصي، اتركني، أنا لم أعد كما كنت، لقد تغيرت و فقدت كل تلك المشاعر التي كانت تملأني شجاعة و تهور)
هزها بعنف الى أن ارتمى رأسها للخلف، فنظر على ضوء مصباحي السيارة الى وجهها المغطى بالدموع السوداء و الكحل الكثيف السائل على وجنتيها حتى بدت كصورة بائسة للعذاب...

و ما أن التقط تركيزها معه بعد مرحلة الإنهيار هتف بها مشددا على كل حرف كي تسمعه.

(لن أسمح لك، أسمعت ذلك؟، سأعيدك الى نفسك القديمة، أنا المسؤول عما أصابك و أنا من سيعيدك، لما لا تستوعبين أنك لن تصلحي لغيري، ما بيننا أكبر من الحب أو اي مشاعر يتغنى بها الآخرون، ما بيننا حياة لن تستقيم الا بوضع الأمور في نصابها الصحيح، أنت لي، تخصيني، أنا و أنت أسرة واحدة مكتملة في حد ذاتها، أنتى أرضي و أنا عائلتك، لن تصلحي لغيري يا تيماء، أنت معطوبة بدوني)
همست بإعياء و تعب و هي تنظر الى عينيه.

(أنت وغد، نذل)
لم يهتم باتهامها المؤلم له على الرغم من أنه قد ضرب قلبه بقوة قاتلة، الا انه كرر بكل تصميم
(أنت معطوبة بدوني، و أنا ميت بدونك، لا نصلح الا لبعضنا، المنطق هو أنك قد تكونين أفضل و أعلى شأنا و تستحقين من هو أفضل، لكن الواقع هو أننا لا نصلح الا لبعضنا)
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تئن بصراع عنيف...
دوامة من الصراخ العالي تحيط بها و تغرقها في أعماق صخبها...

كيانها كله يرجوها أن تقبل، أن تضرب بكل المنطق عرض الحائط و تقبل...
أن تعيد الروح الى جسدها الواهن، و تقبل...
لكن عقلها كان يقاوم و يذكرها بمرارة ما تعرضت له، و بالمستقبل الذي ينتظرها...
و قاصي أيضا لم يرحمها بل ذكرها بكل قسوة وهو يهزها مجددا
(حين آذوك لم تنادي باسم أمك، و لم تترجي والدك، بل ناديت باسمي أنا يا تيماء، الا يخبرك ذلك بشيء؟)
همست بعناء البغال.

(يذكرني بأنك تخليت عني و تركتني، و انا ناديت حتى غبت عن الوعي)
كان هذا فوق احتماله فتركها وهو يستدير عنها يخفي عنف مشاعره المتألمة...
ثم همس باختناق
(كم أنت قاسية، لا ترحمين رجولة عاجزة لتلك الذكرى)
قالت تيماء بألم من خلفه.

(هل تلومني و تدعي أنني أنا القاسية!، كنت مجرد مراهقة و الحياة بالنسبة لي ما هي الا غنيمة كبيرة أغتنم منها ما أستطيعه بكل قوة و دون تراجع، أما الآن، الآن عرفت معنى الذل و الألم و الإنكسار على يد أقرب الناس لي)
استدار اليها قاصي ليهتف بقوة
(أنا أقرب الناس اليك يا تيماء، لما لا تعيدين تلك العبارة الى عقلك الغبي علك تسوعبينها من جديد)
نظرت اليه بصمت و هي تلهث تعبا، عناءا...

و بعد فترة طويلة رفعت يدها لتمسح وجهها بصمت، و هي تبتلع ريقها باختناق ثم قالت بخفوت
(لا بأس، أعترف أنني لا أصلح لغيرك و أنني معطوبة بك، لذا لن أفكر مجددا في الزواج، هل يرضيك هذا؟)
نظر اليها مذهولا، ثم ضحك عاليا بقوة بثت الرجفة بها، أخذت تنظر الى ضحكه الصاخب و الخالي من المرح، بعينين عميقتين ضائعتين، الى ان هدأ أخيرا، لينظر اليها بعينين براقتين مشتعلتين وهو يهمس بصوت حنون.

(لقد خلقت لتكوني زوجة و أم، زوجتي و أمي، و أم أطفالي، من تخدعين؟)
فغرت شفتيها و شعرت بقلبها يرجف بقوة...
أم أطفاله!، ياللها من عبارة أدفأت قلبها و ربتت على جرحه...
لم تشعر أن شفتيها قد ابتسمتا بارتجاف شارد...
و قد التقط قاصي ابتسامتها فتنفس بعمق وهو يقول بخفوت دون أن يبتسم
(كم أنت جميلة!، و كم هي جميلة غمازة خدك الحزينة تلك!).

رفعت عينيها الغائرتين اليه، و هي تعض على شفتيها، ثم استدارت عنه تريد أن تبتعد عن تأثيره المدمر عليها...
الا أنه لم يسمح لها بل قبض على ذراعها و أدارها اليه بالقوة ثم تركها و قال صارما
(سنتزوج، هل فهمت هذه الكلمة جيدا؟)
شعرت نفسها على وشك الإغماء، فابتلعت ريقها و قالت ببرود زائف خافت
(قاصي، نحن لم نلتقي سوى منذ اسبوع واحد فقط، بعد سنوات من الفراق، دعني أفكر بحياتي لفترة).

كان موقفها المفاجىء أكثر لينا، و بدا هذا انتصارا عليه أن يصرخ طربا به...
الا أنه رفض التنازل للحظة، بل قال بشراسة يحاصرها من كل اتجاه
(لا مزيد من التفكير العقيم و ضياع السنوات، سنتزوج، و هذه المرة لن أتركك الا جثة هامدة. )
نظرت اليه و هي ترتعش بشكل واضح، و الصراع بداخلها بدأ ينحسر تجاه جهة واحدة، شاطئه...
همست أخيرا
(جدي لن يوافق على هذا أبدا)
قال قاصي من بين أسنانه.

(جدك يريد تزويجك من أحد أحفاده، فهل ستقبلين؟)
ردت تيماء دون تفكير
(لا، هذا لن يحدث أبدا)
قال قاصي بوقاحة يرد عليها حد الغرور
(بالطبع لن يحدث، هل ظننت أنني أستشيرك؟، انا فقط كنت أقر أمرا واقعا، لذا جدك سيغضب في كل الأحوال، لكن أنا من سأواجهه هذه المرة، أما أنت فسأبعدك عنهم للأبد).

رفعت قبضتيها المضمومتين الى فمها و هي ترتجف بشدة و عيناها زائغتين، حينها مد قاصي يديه يمسك بقبضتيها بين كفيه يبعدهما عن شفتيها وهو يقول بصوت مقنعا...
(الا تريدين الإستيقاظ كل يوم بين أحضاني؟)
نعم أريد، أريد الراحة و النوم على صدرك للأبد...
الا انها حين تكلمت قالت بخفوت
(اترك يدي، أرجوك)
ترك قبضتيها على مضض لكنه تابع اقناعه المسيطر...

(الا تريدين أن تكوني حلالي بعد كل تلك السنوات؟، تبثين إلى آلامك وتبددين وحدتي؟)
رمشت بعينيها ثم قالت بجفاء مرتجف
(ماذا عن مسك؟)
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول بقوة
(ماذا بها مسك؟)
همست تيماء بتردد
(أنت، هي، علاقتكما تبدو أقوى من علاقتك بي، و أنت تبدو على وشك الارتباط بها لو لم أرضخ أنا الى طلبك، و أنا أظنك مختلا مثيرا للتقزز بما تفعله).

ساد صمت متوتر بينهما، و قاصي يعض على زاوية شفته السفلى و هو يحدق بها بنظرات مستعرة...
ثم قال بخفوت شرس
(أتعلمين من هو المختل نفسيا؟، لا أحد غيرك يا مهووسة يا عقيمة الروح و عمياء النظر)
هتفت تيماء باعتراض متخاذل
(أنت تحرجني بالكلمات فقط كي أتغاضى عن علاقتكما)
أمسك بذراعها يهزها وهو يقول من بين أسنانه
(توقفي عن ذكر كلمة علاقة تلك كيلا أقحم الكلمة في فمك).

ردت تيماء بصعوبة بينما هو يمسكها كمن قبض على لص محافظ هارب...
(أنا لا أقصد شيئا شائنا، لكن الأعمى يستطيع رؤية العلاقة القوية بينكما)
قبض قاصي على ذراعها أكثر فهتفت متوجعة و مصححة
(روحية، أقصد علاقة روحية، عميقة)
ظل ينظر اليها قليلا دون رحمة، ثم لم يلبث أن قال مكررا كلماتها بقرف
(روحية، عميقة، الا تخجلين من نفسك و أنت بهذه التفاهة، بدلا من أن تكوني بجوار أختك الوحيدة، تفكرين بهذا الاسلوب الملتوي؟).

رفعت عينيها الى عينيه، و قالت بجدية و بصوت خافت، حزين
(فقط أخبرني شيئا واحد، لو رفضت طلبك، هل سترضخ لقرار جدك و تتزوج مسك؟، أرجوك أرحني، أرجوك)
نظر اليها طويلا بعينين عليهما قناع غريب أخفى مشاعره تماما، ثم لم يلبث أن قال ببرود
(ربما، سبق و اجبتك)
ابتلعت تيماء ريقها و هي تنظر اليه بعينين متسعتين، مشتلعتين باللهب الأزرق بهما قبل أن تقول فجأة قاذفة الكلمات بوجهه و هي تحرر ذراعها من كفه.

(اذن أنا أرفض، اشبع بها أيها النذل)
لكنه أمسك بذراعها فجأة بكل قوته حتى حفر أصابعه بشدة في بشرتها وهو يهمس من بين أسنانه
(سأتزوج مسك لو قبلت بي، و سيداوي كل منا جرح الآخر، هل تتخيلين وقتها الحجيم الذي ستحيين به كل يوم و كل لحظة؟، سأكون وقتها أكثر من راضيا برؤيتك تحترقين حية)
فغرت تيماء شفتيها و هي تنظر الى الغضب الاسود المرتسم على ملامحه ثم همست مرتجفة
(أنت متوحش)
قال قاصي بمنتهى العنف و الصدق.

(كان عليك ادراك ذلك منذ وقت طويل، أنا شخص ذبحت أمه أمام عينيه طفلا، و مزق أخيه وجهه رجلا، و عشت تحت وصمة ابن حرام لعمري كله، ماذا تنتظرين مني أفضل من ذلك؟)
اتسعت عيناها ارتياعا و هي تنظر الى ملامحه الشيطانية في الظلام و ضوء مصابيح السيارة من خلفه يزيد من قساوة تلك الملامح، و للحظة شعرت و كأنها لا تعرفه...
الا انها تعرف جيدا انه في بعض الأحيان يصل الى تلك الحالة من العنف الغير مسيطر عليه...

كانت تتفهمه دائما و تحاول ان تضمه اليها القدر الذي تستطيعه حتى تهدأ نوباته...
الا انها لم تتخيل ان يكون عنيفا معها هي، و بهذا الشكل المؤلم...
ترى هل هو صادقا؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة