قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني عشر

همست تيماء بعد فترة
(لكنني لا أحب شخصها، إنها، سلبية جدا، اتكالية، و لا تستطيع الإعتماد على نفسها، سرعان ما تبكي لأتفه الأسباب، تذل نفسها لوالدي طلبا للمال بعد أن القى بها و بي)
صمتت و هي تطرق بوجهها شاعرة بالندم مما تفوهت به للتو، لكن قاصي قال بخفوت
(الا ترين أنك متحاملة على والدتك قليلا؟، ليس بالضرورة أن تكون بمثل هذا السوء لأن شخصيتها لا تشبه شخصيتك)
التفتت اليه تيماء و هتفت بحدة.

(كيف ترضى على نفسها تقبل المال من أبي كل هذه السنوات بعد أن رماها؟، انها لا تتحلى بأي كرامة)
قال قاصي بقسوة
(و كيف تتخيلين أن تنفق عليك و على نفسها دون المساعدة من والدك؟)
هتفت تيماء بقوة و حدة
(تعمل، حتى لو اضطرت للخدمة في البيوت على أن تحافظ على كرامتها)
ضحك قاصي ضحكة مستنكرة وهو يقول بنفس القسوة
(ما أسهل الكلام!، تطلبين منها الشقاء و لا تعلمين عنه شيئا)
هتفت تيماء بقوة و صدق.

(كنت لأساعدها، سأعمل و أنفق على نفسي)
ضحك قاصي بنبرة أعلى لكن دون مرح، قبل أن يقول بسخرية جدية
(أتشاهدين أفلاما عربية كثيرا؟، أي عمل هذا لامرأة و صبية و كلاكما لا تحملان شهادة، بينما الآلاف من خريجي الجامعات عاطلين لا يجدون العمل)
صمت قليلا وهو يتنفس بغضب ناظرا اليها قبل أن يهتف بقسوة
(تطلبين منها العمل دون المستوى؟، أنت صغيرة، لا تعرفين الحياة و ما قد تحمله لكما دون رعاية والدك).

هتفت تيماء بنفس الإصرار
(و ها أنا أطلب الذهاب اليه، مادام الأمر كذلك فليأخذني اذن، اريد رعايته حقا كمسك، و لا أحتاج لماله)
عاد قاصي ليضحك ساخرا وهو يقول بخفوت ناظرا الى الطريق أمامه...
(أنت حقا طفلة)
هتفت تيماء بانفعال
(توقف عن تلك الكلمة)
الا أنها لم تتحضر للكف التي اندفعت لتقبض على معصمها فجأة بعنف ترفعه بينهما وهو يهزها هاتفا بعينين مشتعلتين غضبا.

(بل طفلة، عنيدة و حمقاء، و لا تحملين أي قدر من المسؤولية التي تدعينها)
اتسعت عينا تيماء ألما و هي تهمس
(أتركني، أنت تؤلمني)
لكن قاصي بدا و كأنه لم يسمعها من الأساس، بل شدد على معصمها أكثر وهو يهزها مجددا هاتفا
(أنت أنانية، تريدين الذهاب الى والدك لأنه الأقوى، تعجبك قوته و شخصيته التي لا تقهر، و تظنين انه هو الأجدر بالحصول على ابنة مثلك، و ليست امك الضعيفة الشخصية كما تدعين).

ضيق عينيه وهو ينظر الى عينيها قائلا بصوت خافت شرس متابعا...
(لا تعلمين صعوبة تربية طفل بالنسبة لامرأة وحيدة، لا تعرفين ما قد تقابله في هذه الأعمال المتدنية من حثالة البشر)
ارتجفت شفتي تيماء قليلا أمام القسوة البادية في عينيه و صوته، الا أنها رفعت ذقنها لتقول بفتور.

(هي أحطت من قدرها بالفعل حين قبلت الزواج برجل متزوج، و ارتضت أن تكون المستوى الثاني والأدنى بعد زوجته الأولى، لذا عليها تحمل الثمن، لا أن تمد يدها كل شهر كالمتسولين و تنتظر منه مالا قد يمنعه عنها مع أول تهديد، و كأنه يحسن الينا)
عقد قاصي حاجبيه وهو ينظر اليها بحيرة ثم قال مذهولا
(يخيل لي أنك تكرهين والديك كلاهما معا)
أخذت تيماء نفسا مرتجفا و نظرت الى الطريق المظلم. ثم همست بخفوت.

(لا أكرههما أبدا، حتى والدي الذي لم اره في يحاتي سوى مرة أو مرتين، لا أكرهه، لكنني أكره تصرفاتهما معا، و لو كان الخيار لي، لاخترت الأقل سلبية و ضعفا)
ساد صمت طويل، لا يقطعه سوى صفير الرياح الليلة الباردة من حولهما، قبل أن يقول قاصي بجفاء مكررا
(أنت فعلا طفلة، و ينقصك الكثير كي تتعلميه)
نظرت اليه تيماء بصمت قبل أن تقول بخفوت.

(أنت لا تعلم أمي، إنها لا تأخذ المال لأنها تحتاجه، إنها تتمتع بالرفاهية، تتمتع بجمالها، تنفق على نفسها و جمالها الكثير، لو كانت شديدة الإحتياج، لو اقتصرت طلباتها على التعليم و الطعام لعذرتها، لكنها تدهس كرامتها من أجل بعض الزينة و الملابس، و قطعا ذهبية تظل تشكو من قلتها، أترى كم يكون هذا ثمنا بخسا أمام كرامة الإنسان)
هز قاصي رأسه وهو يقول ببرود.

(اذن هي تتمتع بمميزات الوضع و كمالياته، ما المشكلة؟، شابة تركها زوجتها هي و طفلتها و فرض عليها الا تتزوج من جديد، أي أن حياتها أصبحت حياة أنثى مع ايقاف التنفيذ، هل تستكثرين عليها بعض الحلي و الزينة؟، بينما تبقين على مصاريف تعليمك كأمر مسلم به؟، لم أرى طفلة في عمرك أكثر أنانية!)
هتفت تيماء كالأطفال فعلا.

(لا تقل طفلة، ثم أنني لم أكن يوما أنانية، أنا أتمنى لها الأفضل، اريدها ألا تذل نفسها لأبي، كنت أتمنى أن تتزوج عوضا عن الإمتثال لأوامره الصارمة)
قال قاصي بقوة
(و هل الأفضل لها أن تتركيها و تختارين والدك؟)
ارتجفت شفتيها من جديد و هي تنظر الى عينيه المشتعلتين في عتمة السيارة التي تضمهما بعيدا عن العالم...
لكنها قالت بخفوت و استسلام.

(إنه لا يريدني، أنا حتى لم أحاول الذهاب اليه اليوم، لقد سلمت أنه لا يريدني، فلماذا تؤلمني؟)
رمش بعينيه، و كانت هذه طفرة في حركات ملامحه...
لم يكن من عادته أن يرمش ارتباكا في تحدي كلامي، لكن صوتها الخافت المستسلم ألجمه...
نعم، من هو ليحتجزها هنا و يحاكمها؟، ما هي الا مجرد طفلة حتى لو أخطأت في أفكارها المتمردة.
هذا حقها، فهي على أعتاب المراهقة...
و جاءت الصدمة الثانية حين قالت بخفوت بائس.

(هلا تركت معصمي الآن من فضلك؟، ستترك عليه علامات زرقاء غدا!)
شحب وجه قاصي فجأة و اخفض وجهه منتفضا، ليجد أنه لايزال قابضا على معصمها بدرجة تجعل مفاصل أصابعه بيضاء بشدة...
انتفض و كأن عقربا قد لسعه، ليترك معصمها هامسا بذعر
(ياللهي)
أخفضت تيماء وجهها بصمت و أخذت تدلك معصمها بشرود دون أن تهتم بألمها، فقال قاصي مذهولا
(تيماء، أنا لم أقصد ان أتهجم عليك)
نظرت من نافذتها الجانبية و كأنها ترى شيئا، هامسة بخفوت.

(لا عليك)
هدر قاصي بقوة
(ماذا تعنين بلا عليك؟، لماذا لم تصفعيني؟)
رفعت تيماء حاجبيها بذهول و هي تقول
(أتريد مني أن أصفعك؟)
هتف قاصي بعنف
(لم تكن يدك لتصل الى وجههي قبل أن أكسرها لك، لكن لماذا لم تحاولي؟، و لماذا لم تصفعي ذلك الرجل الذي وضع يده عليك هناك في المحطة؟)
رمشت تيماء بعينيها و هي تهز كتفيها قائلة.

(لم أتعرض لموقف مماثل من قبل فلم أظنه مخيفا، لا أرى أنني جميلة كي يتحرش بي أحد!، أمي هي التي تنال كل الغزل و نحن معا في الطريق، أما أنا فمهمتي تقتصر على شتم كل من يغازلها)
أغمض قاصي عينيه بيأس و هو يسمع تلك الكارثة البشرية تتكلم...
ثم فتح عينيه محاولا التكلم بهدوء قائلا
(اسمعيني جيدا، سأعلمك شيئا، المتحرش لا يرى الجمال أبدا، لا يهمه شكل ملامحك و لن يتذكر لون عينيك).

صمت قليلا وهو يتأمل لون عينيها الذي بدا أقرب الى الأزرق الداكن في الظلام، قبل أن يهز رأسه قليلا متابعا بخشونة و قسوة
(المتحرش يتعرف على ضحيته من حركاتها، ارتباكها، وجهها المنخفض، براءة ملامحها، عدم ادراكها لما يدور حولها، حين يجد تلك المواصفات تحثه حواسه على الاقتراب ببطىء و التمهل، متفحصا إن كانت على علم ووعي بمن هم حولها أم لا، يدرس ان كانت تستطيع الدفاع عن نفسها أم لا، هل تفهمين ما أقوله؟).

كانت عيناها متسعتان قليلا، و قد بدأ خوف ضعيف يتسلل اليها، و لم ترد لفترة، قبل أن تقول بخفوت
(و هل يجب أن أخاف منك الآن؟)
أجفلت ملامحه قليلا قبل أن يقول مؤكدا بقوة
(نعم. نعم عليك الخوف مني، أعلمي أن كل رجل تقابليه في حياتك سيكون متهما الى أن تثبت برائته)
تاهت عيناها في عينيه للحظات طويلة. جعلته يضيق عينيه و يتراجع قليلا عنها قبل ان يسمعها تقول بخفوت.

(لو لم تكن اهل ثقة لما انذرتني الآن، لا أعلم لماذا اخبرتك بكل تفاصيل حياتي الآن، أنها المرة الثانية التي اراك فيها)
اهتز فكه قليلا، قبل ان يلتفت ناظرا امامه ليقول بخشونة ممسكا بالمقود
(لأنك طفلة، تثقين بمشاعرك فقط دون تعقل)
رفعت حاجبيها و هي تقول بتردد
(سألتحق بالأول الثانوي العام المقبل، كيف أكون طفلة؟)
نظر اليها قاصي ليقول بصرامة.

(هذا أدعى لكي تبدأي في التفكير بنضج، و تكفي عن ازعاج من حولك، هيا الآن، سأعيدك الى أمك مجددا)
انحنى ليشغل محرك السيارة، الا أنه التفت اليها قائلا فجأة بقسوة
(لو أعدتها مجددا يا تيماء فسأصفعك المرة المقبلة، أتفهمين؟)
بهتت ملامحها و همست بحدة رغم اجفالها
(كيف تجرؤ؟)
قال قاصي بمنتهى الجدية
(أجرؤ، و أرني وقتها كيف ستشكين الى والدك أنني صفعتك).

شعرت بالبرد يلفها فضمت ذراعيها فوق صدرها و هي تنظر اليه، الى عينيه الجديتين، الى شعره الطويل المتطاير حول ملامحه الصلبة، قبل أن يقول بجفاء
(خذي ارتدي هذا قبل أن تتجمدي)
و قبل أن تسأل رأته يتلوى ليخرج من معطفه، قبل ان يستدير اليها قائلا بصيغة الأمر
(هيا، مدي ذراعك)
أرادت أن تتحداه، الا أنها كانت تشعر بالبرد يكاد أن يحولها الى قطعة ثلج...

فمدت ذراعها لتدسها في كم معطفه الطويل، ثم أدخلت ذراعها الأخرى. بينما هو يساعدها قريبا منها. و ما أن انتهى من تزرير أول زرين له...
حتى التقت عيناه بعينيها، عيناها بلونهما الأزرق الداكن في الظلام، بينهما في الواقع في خضار البحر...
شعره كان متهدلا أمام وجنتيه، بينما عيناه تضيقان أكثر وهو يقرأ تلك الرسائل المعبرة في عينيها.

إنها بالفعل تملك التأثير الأقوى على نفس بين الكثير من البشر ممن قابلهم خلال حياته...
تكلمت تيماء أخيرا بخفوت و هي تتأمل وجهه
(كيف هو؟، والدي، شخصه و ليس شكله، فأنا أعرف شكله)
تصلب قاصي مكانه قليلا، قبل أن يقول بجمود وهو يشد جانبي ياقة المعطف كي تدفىء عنقها...
(انه صلب، قوي الشخصية، لديه عيوبه و لديه مميزاته، انسان مثل باقي البشر)
همست تيماء بلهفة مسكينة مترددة.

(اليس مميزا، يترك في النفس أثرا لا ينسى؟، مثلك؟)
اتسعت عينا قاصي وهو يردد مستوعبا
(مثلي؟)
أومأت تيماء و هي تقول بعفوية خافتة
(أنت شخص مختلف، رغم وقاحتك و تسلطك، لكنك تترك تأثير لا يمحى بسهولة في ذاكرة من يراك)
ضيق قاصي عينيه بذهول وهو يستمع الى كلامها و همس لنفسه دون ارادة منه
(غريب!)
قالت تيماء ببطىء
(ما هو الغريب؟).

رمش قاصي بعينيه وهو يهز رأسه قليلا كي يجلي أفكاره قبل أن يستعيد جمود ملامحه و خشونة صوته قائلا بفظاظة وهو يبتعد عنها بسرعة
(كفي عن الثرثرة، يجب أن أعيدك الى والدتك حالا قبل أن تنهار قلقا عليك)
ابتعد عنها وهو يحرك السيارة و ينطلق بها الى الطريق مسرعا، عيناه على الطريق و تفكيره مشتت
لقد نطقت تلك الفتاة بنفس ما كان يفكر به تجاهها، تماما!
قالت تيماء بعد فترة و هي تلتحف بمعطفه و كأنه يحتضنها.

(أمي لن تنهار قلقا علي، ربما ستنهار قلقا على نفسها، فأنا أمها و ليس العكس)
زفر قاصي بقوة غاضبا من نفسه، تلك الفتاة مزعجة، حقا مزعجة، تحرك به اهتماما غير مرغوب به أبدا...

هذه المرة حين فتحت أمها الباب...
أوشك قاصي على ان يسلمها تيماء و ينصرف، الا أنه فوجىء بثريا كانت منهارة من البكاء...
ارتفع حاجبيه حين فتح الباب بعنف ليجدها أمامه متورمة الوجه، حمراء العينين مثل تيماء حين تبكي تماما...
لقد تعجب أنها لم تتصل به ولو لمرة واحدة خلال أربع ساعات...
و تسائل عن مدى قسوة قلب تلك المرأة، و إن كانت تستحق لقب أم من الأساس...

لكن منظر وجهها الآن جعله يسحب ما كان ينوى قوله قبل أن ينصرف...
كانت تيماء هي أول من تكلم. فقالت بصوت خافت و هي ترى وجه أمها المتورم من البكاء...
(أمي!)
انحنت ثريا دون أن ترد لتجذب تيماء الى صدرها بقوة كادت أن تحطم أضلعها و هي تحتضنها بقوة مغمضة عينيها الباكيتين على شهقات صامتة...
فتراجع قاصي خطوة ينوى الرحيل وهو يراقب هما بإهتمام لم يعهده في نفسه من قبل...

لكنه تسمر مكانه وهو يرى ثريا تبتعد عن تيماء و تستقيم لترفع يدها و تصفعها فجأة بكل قوة!
هدر قاصي بعنف وهو يندفع بين ثريا و تيماء التي وقفت خلفه و يدها على وجنتها الحمراء. تنظر الى أمها بصمت
(ماذا تفعلين؟)
لكن ثريا لم ترد عليه، بل مدت نفسها تحاول انتزاع تيماء من خلفه بقوة و ملامحها تنطق بالقهر و ال، خوف!
الا أن قاصي ثبت نفسه مكانه وهو يمد ذراعيه يحول دون وصلوها الى تيماء هادرا بقوة.

(توقفي عن هذا، لا تضربيها)
لكن ثريا همست من بين أسنانها
(ابتعد، انها طفلتي و أنا من سيربيها)
توحشت عينا قاصي و أقسم أنه لن يسمح لثريا بضرب تيماء، على الرغم من أنها تستحق الضرب بالفعل.
ربما بيده هو لو أعادتها، لكن لن يضربها أحد آخر، حتى لو كان هذا الآخر هي أمها!
ترى أيتصرف بمنطقية؟، لا يعلم لكن ما يعلمه هو أنه هتف بقوة
(توقفي عن ذلك سيدة ثريا، لن أسمح لك بضربها).

رفعت ثريا عينيها المتورمتين الغاضبتين اليه و هي تهمس بشراسة
(من أنت كي تسمح أو لا تسمح؟، ما دخلك بيني و بين طفلتي؟)
لم يرد عليها على الفور. للحظات تشتت تفكيره بملمس هاتين الكفين الصغيرتين اللتين استقرتا على جانبي خصره...
دفئهما انتقل الى جذعه الصلب. عبر قماش قميصه الأسود...
تخبره أنها تحتمي به، خلفه و رأسها تطل قليلا كي تراقب أمها بقلق...
كيف له أن يخذل كفين صغيرتين دافئتين!، تبا لذلك...

رمش بعينيه قبل أن يقول بصرامة
(دخلي أنني أنا من سافرت من مدينة لأخرى كي أعيدها اليك مجددا، و هذه المرة كانت بناءا على طلب منك، لم أقد السيارة ثلاث ساعات وصولا الى هنا كي أراك تصفعينها على وجهها!)
هدرت ثريا بقوة و هي لا تزال تبكي
(أنا أعاقبها، لن أسمح لها بأن تبتعد مجددا)
نظر اليها قاصي نظرة أقوى منها على الرغم من سنوات عمره الأربع و العشرين...
نظرات تشتعل غضبا، ثم قال أخيرا بصرامة.

(عاقبيها لكن لا تصفعيها، ليس وجهها)
هتفت ثريا بعنف و هي تبكي
(لا تنصحني يا ابن الأمس، انت لا تزال صبيا. مغرورا، وضعك والدها في طريقنا قسرا عوضا عن وجوده، ابتعد عن طريقي)
فتحت ثريا شفتيها تنوى الهجوم عليه. الا أن البكاء منع الكلمات من الخروج عبر حلقها المختنق فانتهز قاصي الفرصة و قال مهددا
(لو ضربتها مجددا فسوف أخبر والدها، لكن ليس ليمنع عنك المال، بل ليأخذ تيماء، للأبد).

اتسعت عينا ثريا بخوف و هي تسمع منه هذا التهديد الجديد، بهت وجهها فجأة، و شحب في لحظات بينما اهتزت حدقتي عينيها، فقال قاصي متابعا دون رحمة
(ترى أتستطيعين العيش دونها سيدة ثريا؟، أتستطيعين حتى الإعتماد على نفسك دون مساعدة منها؟)
ظلت ثريا تنظر اليه بذعر، جعله يشفق عليها للحظات، لكنه لم يظهر ذرة من هذه الشفقة على ملامحه القاسية...

و استمرت حرب النظرات بينهما الى أن شعر بالكفين الصغيرين يبتعدان عن خصره، لتتحرك تيماء من خلفه و تتجاوزه و هي تقول بخفوت منهية هذا الصراع
(أنا آسفة أمي)
رمشت ثريا بعينيها و هي تبعدهما عن عيني قاصي. ملتفتة الى تيماء. ترمقها بجفاء حزين قبل أن تقول بخفوت
(ادخلي غرفتك الآن)
تحركت تيماء تنوي الدخول مطرقة الرأس تجر حقيبتها أرضا. الا أنها التفتت تنظر الى قاصي نظرة أخيرة...

عيناها كانتا حزينتين، فقدتا عنادهما للحظة، شفتيها ترتعشان دون الكبرياء المزهو، وجنتها حمراء...
و ها هي تترك بداخله نقشا لنظرة لن ينساها أبدا، يكفيه أنه لا يزال يشعر بلمسة كفيها على جانبي جسده حتى الآن، و للحظة مجنونة رغب في ان يبتعد بها قليلا...
ربما يعيدها الى السيارة و يقودها دون هدى، يستفزها أو يرهبها كي تعود الى طبيعتها المستفزة...

قطعت تيماء أفكاره بأن أبعدت وجهها عنه و دخلت تجر ساقيها بتخاذل...

متى باتت وجهة عينيه أينما حلت؟،
متى كانت المرة الأولى التي رفضت فيها عيناه الإمتثال لاوامر عقله كي تحيدان عنها...
هو نفسه لا يعرف...
ربما حين أطلت على سن السادسة عشر وهو يراها بين حين و آخر خلال هاذين العامين...
تعددت الاسباب. و بات بيتها و أمها من مسؤوليات حياته...
باتا يعتمدان عليه اعتمادا تزايد تدريجيا...
وهو لم يعد يمانع مع الوقت...

ثلاث ساعات، هو مقدار الوقت الذي يتطلبه الوصول اليهما كي ينهى معضلة، أو يتم مصلحة حكومية بالتوكيل الذي كلفه به والد تيماء، ثم تبعه توكيل من ثريا نفسها بناءا على أوامر سالم...
أو يسيطر على تهورات تيماء التي لا تنتهي...
عاقبها مرارا بسلطة فرضها عليها بنفسه، دون أن يوكله أحدا بها...
و كانت بينهما حربا شعواء...
تمردها يزداد و عنفوانها يتألق جمالا، لكنه يزجها في الكثير من المشاكل...

كانت قوية مثل مسك، الا أنها تمتلك شخصية مختلفة على نحو يميزها. أساسها التمرد...
بينما قوة مسك يميزها الكبرياء...

كل الظروف تضافرت كي يصير من أعمدة هذه الأسرة الصغيرة من فردين فقط...
وهما باتا يعتبرانه الثالث...
لكنه يصر على البقاء متباعدا، فظا، رسميا دون مشاعر...
فالإندماج معهمها أسهل مما يحب، اكثر لذة مما يرغب...
متى رآها أنثى للمرة الأولى بحياتها؟
هل يسمح للخزي بداخله أن يعترف صاغرا؟، أن يقر بأنه كان يختلس النظر اليها بطرف عينيه وهو يرى انوثتها تثمر سريعا جدا، و جسدها يزداد طولا و انحناءا دون رحمة...

حتى شعرها المجعد القصير الذي تتركه كهالة مجنونة حول وجهها بات يجعلها كفنانة تشكيلية...
مجنونة و غير مقيدة، تماما كما يحب نساؤه!
نساؤه!
تلك الحادثة التي عرته أمامها، لا يزال يتذكرها بكل تفاصيلها الصغيرة...

حين كان بردهة شقتهما، يطلب من ثريا التوقيع على الأوراق الخاصة لنقل حساب خاص لتيماء و تكون هي المتصرفة به...
كان ينتظرها كي تأتي معه للمصرف، و يديه في جيب بنطاله...
مطرق الرأس، بينما أذناه تلتقطان صوت تيماء يدندن من بعيد...
تجرأ على رفع نظره الى باب المطبخ المفتوح، حيث كانت تيماء تقف أمام الحوض تغسل بعض الاطباق و قد تعودت وجوده في البيت بأريحية...

كانت السماعات في أذنها، بينما ترتدي بنطال جينز قصير جدا لا يكاد أن يغطي نصف ساقيها...
جسدها الذي طال و امتلأ خلال العام الماضي، بانت ملامحه و هي تتمايل متراقصة...
ضاقت عيناه وهما تغدران بسيطرته و ضميره للحظات...
شعرها المجعد يتألق لونه يوما بعد يوم، و قد هذبته ليبدو و كأنه من صنع مصفف متخصص في التجعيد...
بينما تلك الأقراط اللعينة التي بدأت في وضعها بأذنها تتراقص مع تمايلها...

وحده الخف البيتي على شكل بطتين هو الرابط الوحيد بينها و بين الطفولة...
حين دق جرس الباب أثناء وقوفه انتظارا يراقبها دون أن تلحظه، كانت قد رفعت السماعات عن اذنيها و سمعته فنادت بقوة
(أنا سأفتح يا أمي، لقد وصل معتز)
تحركت جريا عبر المطبخ مرورا بالردهة حيث وقف قاصي، فابتسمت له ملوحة، و حاولت تجاوزه الا أنه أمسك ذراعها دون أن يدرك، ثم قال بخشونة
(من معتز؟).

رفعت اليه عينيها الفيروزيتين الواسعتين لتقول بحيرة و هي تبعد خصلة مجعدة مستعصية خلف أذنها
(انه ابن جارتنا، هذا موعده كي اشرح له درسا في الرياضيات)
عقدت حاجبيها حين اشتدت كفه على ذراعها، و نظرت الى عينيه فوجدتهما غاضبتين، بشدة...
فهمست بقلق
(ماذا هناك يا قاصي؟)
رد عليها بقسوة
(ماهذا الذي ترتدينه و أنت تفتحين لصبي مراهق؟، ألم أطلب منك أن تهتمي بتصرفاتك؟).

أخفضت تيماء عينيها الى ساقيها الظاهرتين من البنطال الجينز القصير جدا...
ثم رفعتهما لتقول بهدوء
(نعم طلبت)
قال بصرامة أقسى و قد استفزه هدوءها أكثر...
(و حذرتك من عنادي مجددا يا تيماء، فماذا تحاولين؟، استفزازي أكثر كي أظهر أسوأ ما بي؟، لأنني لن أتوانى عن ذلك، قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه، أظنك بت تعلمين أنه لا طائل من محاربتي)
كانت تنظر اليه ببراءة و بعينين متسعتين صادقتين، قبل أن تقول بهدوء.

(و اظنك بت تعلم أنني لن أكف عن محاربتك يا قاصي، فأنا لا أخضع لتسلط و لا أقبل بسجان من حولي)
اشتعلت عيناه بنظرات صامتة. بدت اكثر جفاءا و تسلطا و قسوة...
و كانت هذه النظرات تؤلمها، لكنها رفعت ذقنها بشجاعة تتحداه و لا تقبل بأن تخفض عينيها عن مستوى عينيه...
حينها قال بصوت مهدد
(اذهبي و بدلي ملابسك يا تيماء)
رفعت احدى حاجبيها و هي تضع يديها في خصرها ببطىء أمام ناظريه الحادين و هي تقول متحدية
(أو ماذا؟).

لم يتمالك نفسه من الإمساك بكلتا ذراعيها بقبضتيه وهو يهدر بصوت خافت يهزها قليلا
(تيماء، لم تعودي طفلة)
ظل التحدي بين أعينهما طويلا و هي تشعر بثقل كفيه على ذراعيها، بينما جرس الباب يستمر في الرنين من خلفهما، مصاحبا لصوت أمها تنادي من الداخل
(لما لا تفتحين الباب يا تيماء؟)
لم يجبها أي منهما وهما ينظران الى بعضهما، قبل أن يصمت رنين الباب و يعلن عن رحيل المتطفل عليهما، فقالت تيماء أخيرا بهدوء خافت.

(لقد رحل)
ضاقت عينا قاصي قليلا بعدم تركيز و كأنها قد انتزعته من عالم بعيد، فقالت تيماء مبتسمة بخبث
(لقد حققت غايتك و رحل ضيفي)
تصلب فك قاصي وهو يبعد كفيه عنها ليقول بخشونة خافتة
(لقد أنقذ نفسه)
كان كلامه غريبا، ككل شيء يخصه، فراقبته وهو يبتعد عنها بصمت، مكفهر الملامح على الرغم من جمودها، فقالت أخيرا بصوت خاففت
(قاصي، لماذا تغيرت معي مؤخرا؟)
صمت للحظات دون أن يلتفت اليها قبل أن يقول بصوت جامد، مدرك قصدها.

(ماذا تعنين؟)
عضت على شفتها بغيظ الا أنها قالت متحدية
(أنت تبتعد عني، تعاملني بجفاء، كلامك لي أصبح يقتصر على الأوامر، ماذا فعلت كي تبتعد عني بهذا الشكل؟)
زفر نفسا خشنا وهو يغرز أصابعه في خصلات شعره ليعيده للخلف بتوتر...

كيف يشرح لها؟، و الأصعب كيف يشرح لنفسه أمرا غريبا لم يكن بحسابه قبلا...
كيف يخبرها أنها صارت تحتل مكانة بحياته لم تحتلها امرأة أخرى سوى، امه!
كيف يخبرها أنه خلال عامين، ترك لنفسه حرية الإنسياق خلف الإنجذاب لها...
لتمردها، لكيانها المستقل، لشخصيتها الفريدة...
لابتسامة ثغرها التي تقتنصها عيناه...
لغمازتي وجنتيها و التي لم يرى أكثر منهما حلاوة من قبل!

كان يترك لنفسه حرية الاستمتاع بكل تفاصيل روحها الشقية التي تحاصره في كل مكان...
لكن ما لم يحسب له حسابا، هو أن يكون لرغباته الذكورية حسابات أخرى مؤخرا!
هل يخبرها أنه كان ينتهز الفرص كي يختلس النظر اليها؟
كيف يلمح لها أنها باتت مصدر ازعاج جسدي غير مشرف له؟
ما السبيل لإخبار مراهقة بأن لها تأثير على رجولته يفوق ادراك سنوات عمرها الفتية!
اختصر كل هذه التساؤلات و قال بصوت جامد خافت.

(أين الإبتعاد و انا هنا، لا يفصلني عنك سوى خطوتين)
زمت تيماء شفتيها و هي تنظر اليه بتحدي لا يقبل باستغفالها، فقالت بثقة
(أنت تعلم ما أقصد يا قاصي، أنت لم تعد أنت، لم تعد تسمعني ألحان جيتارك)
قال قاصي بخفوت وهو يتظاهر بالنظر بعيدا الى شيء وهمي
(أنا لم أعد أجد الوقت كي أعزف عليه، البركة بك أنت و أختك، لو اشتريتما عبدا لما كان رهين طلباتكما كما أفعل أنا)
قالت تيماء بغيرة طفولية.

(و على الرغم من هذا تعامل مسك بطريقة أفضل مني، و كأنها صديقتك)
قال قاصي بنفاذ صبر متخاذل
(لأنني أعرفها قبلك)
قالت تيماء بنبرة غريبة
(و ماذا لو أردت أن أحل محلها؟)
استدار قاصي اليها رافعا حاجبيه بتوجس، ثم قال بحذر
(ماذا تقصدين؟، انتهينا من قصة انتقالك الى والدك منذ زمن؟)
تقدمت منه باصرار و هي تقول بتحدي و جرأة
(انتهينا من الانتقال الى أبي، هيا لديها أبي، لذا من العدل أن أحصل أنا عليك).

أجفل قاصي فجأة، و تسمر مكانه وهو يردد بعدم راحة و تشنج
(تحصلين علي!)
قالت تيماء و هي تقترب منه أكثر
(نعم، لا يهمني أنك تعرفها قبلي، لكنك صديقي أنا، أريد أن أكون أقرب لك، تفضلني عنها)
زفر قاصي بخشونة و خيبة أمل غريبة، قبل أن يقول بنفاذ صبر وهو يحك جبهته بيده. يريد الهروب منها بأقصى سرعة...
(توقفي عن طفوليتك يا تيماء، أنا لا آتي الى هنا كي ألعب معك، أنت و أمك جزء من عملي، أتقاضى عليه أجرا من والدك).

قالت تيماء بعناد
(لكن أنا أريدك أن تلعب معي)
ياللهي!
إما أنها مدركة لما تقول حد الوقاحة، و إما أنها لا تزال حمقاء كطفلة في الخامسة من عمرها...
لكن بالنسبة له كلتا الحالتين لا تفيدان في تهدئة النيران التي أشعلتها بداخله...
قال قاصي بخشونة مهتزة
(اذهبي و نادي أمك، إنها ترتدي ملابسها منذ دهر، سيغلق المصرف أبوابه)
قالت تيماء بخفوت.

(قاصي أنا أفتقدك، جدا، أنت أصبحت شخص مهم جدا بحياتي، على الرغم من أنك الأكثر فظاظة و تعنتا و عنادا أشد من الحجر، لكنني لا أعرف لماذا تغيرت تجاههي بهذا الشكل)
كانت كلماتها تشعلان بداخله طوفان من الجنون، لا يعلم ما الذي يفعله هنا!
لديه في حياته ما هو أهم، حياته نفسها عبارة عن مأساة سوداء مرة الطعم كالعلقم ولم يظن أن تحليها طفلة!
قال قاصي أخيرا بجمود ميت زيفا
(تيماء، اذهبي).

حينها انتابها اليأس و الإحساس بالكرامة المهانة، فهي لم تتوسل أحدا قبلا...
فقالت بصوت جليدي به نبرة قهر طفولية
(لا بأس، لا تشغل بالك، أعتذر إن كنت قد أرهقتك بمطالبي الطفولية، أدرك أنني لا أماثل مسك روعة، لا وجه للمقارنة من الأساس، فإن كان أبي بحد ذاته قد اختارها هي، فلماذا أتوقع منك شيئا مختلفا؟)
أغمض قاصي عينيه وهو يصلب من فكه بقوة، بينما تابعت هي بحدة.

(أنا لا أمتلك ذرة من جمالها و جاذبيتها، لكنني لم أظن أن الصداقة تعتمد على الجمال أبدا، فلماذا ترفض الإعتراف حتى الآن بأنك تحبها؟)
لم يسمع سؤالها الأخير، ربما لو كان قد سمعه لوبخها و شدد من لهجته القاسية كي تتأدب...
لكنه لم يسمعه، فكل ذهنه كان شاردا وهو يقول بخفوت هامس دون أن يستدير اليها. مستنكرا ظلمها لنفسها
تيمائي المهلكة، وقفت أمامه لتقول بصدمة و غضب منفعلة.

(تعرف بأنني لا أحب معنى اسمي، فلماذا تزيد من كرهي له.!)
حينها استدار اليها، ينظر الى عينيها مباشرة وهو يقول بكلمات لم تنساها يوما
(أنت أرض أينعت جمالا، فأهلكت الأعين بسحرها)
شعرت و كأن الهواء قد تجمد بينهما فترة، و اختفت أصوات زحام الطريق الأتية من الشرفة...
ففغرت شفتيها بعدم فهم، بينما الرجفة في داخلها كانت تجعل أطرافها تهتز بقوة و تهدد بسقوطها...
لا تعلم ما الذي حدث؟

عبارة لم تفهمها، لكن لماذا ينتفض كيانها كلها بهذا الشكل المرعب، إن كانت لم تفهمها حقا؟
و ماذا عن جرمتي النار في عينيه المشتعلتين في تلك اللحظة!
ابتلعت ريقها بصعوبة، الا أن قاصي أبعد وجهه وهو يقول بخشونة جافة
(اذهبي و نادي أمك)
أطرقت برأسها قليلا و ابتعدت، الا أنها بعد عدة خطوات استدارت اليه و همست من فوق أكتافها
(معتز الذي كنت سأشرح له بعض الرياضيات، في السابعة من عمره).

استدار قاصي اليها، ينظر الى عينيها بترقب، بينما كانت عيناه تحملان معان أكبر من أن تستطيع فك شفرتها، فتابعت تقول بخفوت
(أنا لا أرتدي تلك الملابس أمام رجل سواك)
اجربت نفسها على متابعة سيرها، الا أن صوته قصف بصرامة من خلفها و بقوة سمرتها
(أنا قبل الجميع يا تيماء)
عبارته تلك كانت تحتمل العديد من المعاني، الا أنها كانت أضعف من محاولة الفهم حاليا، فأسرعت الخطا جريا أمامه، هربا منه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة