قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث عشر

أول اعتراف منها بال، الحب؟،
يومها كانت قد أتمت السابعة عشر، بعد عام كامل من النظرات المختلسة من طرفه، و التي تغيرت تماما عن العام الذي سبقه...
نظرات اشعلت بها أنوثة لم تكن مدركة لها من قبل...
لذا بدأت تتفنن في جذب اهتمامه لها، اشعال الجمر بتلك النظرات المختلسة عن قصد...
في البداية لم تكن تريد سوى تغذية ذلك الشعور المتقد بأنوثتها...

كانت كمراهقة عديمة التجارب مع الجنس الآخر، تشعر بالتلذذ و هي ترى نظرات الإعجاب التي صدمتها من رجل كقاصي!
مجرد شابا في السابعة و العشرين، الا أنه بالنسبة لها في ذلك الوقت كان رجلا. يكبرها بعشر سنوات كاملة...
و ينظر اليها بنظرات تعبت كثيرا الى أن ترجمتها أخيرا...
تيمائي المهلكة!، كانت هي مفتاح الصندوق الأسود لانجذابه لها...
هذه العبارة القصيرة التي فضحته أمامها...
لكن و من بعدها، تغير كل شيء...

و بدأ شعور غريب تجاهه في التكون داخلها، باتت ترتبك في قربه...
تحمر وجنتاها لنظراته، تتعرق يداها ما أن يصافحها في تلك المرات النادرة الى أن توقف ذات يوم عن مصافحتها...
لم يعد بالنسبة اليها مجرد قاصي الذي تعرفه و اعتادت على رؤيته و استفزازه، بل بات شخص آخر يثير الرجفة في قلبها و يقلب كيانها كله...
و مع مرور الأيام، و يأسها من أن يتقدم قاصي بأي خطوة أو اعتراف من جانبه...
قررت هي الهجوم!

كان من المفترض أن يقلها ذاك اليوم الى حفلة يوم مولدها...
خرجت من باب بنايتها تتهادى بفستانها الشيفون الطويل الذي تهفهف تنورته حول ساقيها...
كان أنثويا و بسيطا و مصمما خصيصا كي يناسب فتاة في مثل عمرها، مرحة و طفولية...
الا أنه لم يخفي الكثير من جسدها الناضج حديثا، بقماشه الخفيف، خاصة ان تنورته الداخلية قصيرة و بالكاد تلامس ركبتيها تحت التنورة الشيفون الطويلة...

و كما اعتادت أن تراه، كان يقف مستندا الى السيارة بإهمال و يداه في جيبي بنطاله. ينظر بعيدا بشرود كعادته دائما...
أخذت تعد الخطوات المتعثرة في حذائها ذو الكعب العالي لأول مرة و هي تنتظر منه أن يرفع رأسه و يراها.
و قد فعل...
رفع وجهه اليها بلا اهتمام، الى أن استوعب أنها هي بالفعل!
للحظات تعثرت أكثر من مرة ازاء نظرته التي اشتعلت فجاة، و شفتيه اللتين توترتا قبل أن يفغرهما مصدوما...

وصلت اليه أخيرا و هي تقول بلهجة مرحة زائفة...
(هل تأخرت عليك؟، اعذرني يا قاصي، لقد استغرقت زينتي وقتا طويلا)
حاولت جاهدة أن تضفي الأنوثة الى صوتها الطبيعي، ثم تمكنت من الإبتسام بإغراء و هي تقول
(ما رأيك بمظهري؟)
و كي تستعرض سؤالها، دارت حول نفسها مما جعل الفستان يرفرف حول قدها المكتنز، مع نسيم الليل...

بينما شعرها المجعد النحاسي القصير. كانت قد سيطرت عليه بصعوبة في عقدة مشعثة، تتناثر من حولها الخصلات السلكية المجعدة...
المرة الأولى التي تتزين بها، مستخدمة أدوات والدتها، و كان هذا من أجله هو، قاصي...
حين أنهت استدارتها الكاملة، لم تستطع الإتزان فوق كعبي حذائيها. فتعثرت و كادت أن تسقط.
لولا ان استقبلها صدره الرحب و هي تقع عليه!

لا تزال حتى الآن تتذكر عطره، و هي تغمض عينيها مبعدة خصلات شعرها المنفلتة عن وجنتها كي تنعم بتلك اللحظة الصادمة و التي جعلت كيانها كله ينقلب...
و مما زاد جنونها أنها قد امسك بها تلقائيا، لكنه لم يبعدها على الفور...
سمعته صوت نفسه الأجش، قبل أن تشعر بملمس كفه الدافئة على ظهرها برفق، و حرارته تنتقل اليها عبر قماش فستانها الخفيف فتحرقها ببطىء...
اتسعت عيناها قليلا دون أن تجرؤ على رفعهما اليه.

لقد خافت من نظراته قبل أن تراها بالفعل، فهي تعرف عينيه جيدا...
سمعت صوته يزمجر بهمس خشن في أذنها
(هل أنت بخير؟، هل لويت كاحلك؟)
أغمضت عينيها لعدة لحظات، تتمنى لو بإمكانها الكذب عليه، عله يضمها الى صدره لفترة أطول...
لكنها استنشقت عبيره الرجولي في دفعة قوية قبل أن ترفع رأسها مرغمة و هي تبتسم بارتباك هامسة
(لا، أنا بخير، بأفضل حال).

ظلت مطرقة بوجهها المشتعل المبتسم لعدة لحظات قبل أن تسمعه يقول بعدم تركيز و بنبرة خشنة
(إنه ذلك الحذاء المضحك، سيتسبب في كسر عنقك)
تجرأت حينها على رفع وجهها المحمر اليه، حتى التقت أعينهما في الظلام و هالها أن تضيء عيناه الليل الحالك من حولهما، بذلك الإشتعال بهما، فهمست مرتجفة
(اذن عليك أن تكون ممتنا له، فسيخلصك من إزعاجي، ستكون حرا أخيرا).

عقد حاجبيه قليلا وهو يتأملها طويلا، بينما حركة صدره غير ثابتة، متزعزعة و متسارعة...
ثم قال أخيرا
(لا تكوني حمقاء، اصعدي و بدلي هذا الحذاء، و الفستان)
ارتفع حاجبيها و هتفت قبل أن يتابع المزيد من تسلطه
(الا الفستان، على جثتي، لا تبدأ في تعنتك يا قاصي، )
زمجر قاصي بخشونة قائلا
(تيماء تبدين).

صمت فجأة حين خفتت أحرف كلماته و اختفت، بينما لم تتوقف عيناه عن السفر فوق ملامح وجهها و قوامها، فارتجفت طويلا الا أنه أبعد عينيه عنها ليقول بصرامة خافتة
(اصعدي و بدلي ثيابك يا تيماء، أنت مسؤوليتي و لن أقبل أن ينظر أحدهم اليك كما)
قاطعته تيماء فجأة بمنتهى الهدوء
(كما نظرت إلى للتو؟)
برقت عيناه ببريق أخافها و توقعت منه عقابا على كلامها الوقح، الا أنه قال بلهجة صادمة.

(نعم، كما نظرت اليك للتو، لن تستطيعن منع جائع، من التهام ما تعرضين بسخاء)
هل كان يتكلم عن نفسه؟
أم انها احد دروس التوعية التي يغمر أذنيها بها لسنوات...
أرادت أن تتحداه علها تحصل منه على المزيد من الإعترافات، الا أنها أرغمت نفسها على التركيز في الخطوات المحسوبة، لذا همست بتوسل
(قاصي أرجوك لا تفتعل شجارا الآن، حفلة يوم مولدي على وشك أن تبدأ قبل وصولي، لا تفسد أول حفل لي أرجوك).

كان اول احتفال لها بالفعل، لم تهتم يوما بمثل هذه الإحتفالات، و لم يتذكر احدهم يوم مولدها من الأساس
حتى قاصي!، و كان هذه يؤلمها على نحو خاص من بين جميع الأفراد محدودي العدد في حياتها...
لكن الليلة ستعلمه الا ينسى يوم مولدها أبدا...
عليه الا يتحدى فتاة نشأت على شاطىء البحر مطلقا، حتى لو كانت جذوره في أرضه أكثر صلابة...
رأت فكه يتصلب برفض و عدم اقتناع، فمدت يدها تمسك بكفه قائلة بصدق.

(أرجوك، أوصلني الى حفلي)
و من يستطيع مقاومة تلك العينين الواسعتين و غمازتين لا تختفيان مع التوسل...
الكحل الأسود كان ثقيلا و شديد التناقض مع لون عينيها الفيروزي، مما جعلهما كاملتين الجمال...
كلوحة لبحر هادر...
أخذ قاصي نفسا متخاذلا قبل أن يقول بفظاظة مبعدا تفكيره الأحمق عن تلك الصورة...
(ادخلي الى السيارة)
في طريقهما، كان قلبها يخفق بعنف، لم تكن المرة الأولى التي تجلس بجواره في السيارة...

لكن هذه المرة كانت مختلفة، كانت تشعر أنه يطير بها في عالم خاص بهما وحدهما...
من كان يظن أن يكون قاصي هو الفارس الذي ستحلم به يوما؟
هي نفسها فوجئت بتحول مشاعرها على نحو غريب مؤخرا تجاهه...
إنه الأكثر استفزازا لها على الإطلاق، إنه الوحيد الذي يمتلك القدرة على اقتحام حياتها و التحكم بها بوقاحة تفوق تخصص عمله و الأجر الذي يتقاضاه، و تشك أن يكون والدها قد منحه كل هذه الصلاحيات...

رفعت اصبعيها تستند بذقنها اليهما و هي تطلع الى ليل المدينة المبتهج بابتسامة حالمة...
لم تدري انه كان يختلس النظر اليها بين الحين و الآخر، الى أن فضح نفسه أخيرا قائلا بخفوت
(لما تضحكين؟)
التفتت تنظر اليه و ابتسامتها لا تزال تلون ثغرها بأجمل الألوان، تتأمل جانب وجهه الصلب. و شعره المتطاير حول عظام وجنتيه الشبيهتين بتكوين قرصان...

به شيء يجعله أكثر مرارة مع الأيام، يفقد الطفولة بداخله شيئا فشيئا عن أول يوم رأته به...
أو ربما، بداخله لا يزال يقبع طفل منطوي يتقوقع بعيدا عن الجميع...
تعرف ان حياته تحمل الكثير من الأسرار القاتمة يرفض أن يبوح بها لمخلوق، حتى هي...
لكن هذا على وشك أن يتغير...
قالت أخيرا بجزء من الحقيقة
(أشعر بالحماس لحفل يوم مولدي الأول)
ابتسم قاصي رغم عنه بحنان كاد أن يسقطها على أرض السيارة، قبل أن يقول بخفوت.

(لم أظن أن السيدة الشابة الذكية، تهتم بهذه الحفلات و الا لكنت أعددت لك حفلا مناسبا)
فغرت شفتيها قليلا بأمل كبرعم صغير مزدهر قبل أن تهمس مباشرة
(و هل كنت تتذكر يوم مولدي كل عام؟)
ارتبك قليلا، و كم أسعدها ذلك و جعل ابتسامتها تتسع و هي تراقبه، الا أنه حين تكلم قال بخفوت جاف
(أعرف يوم مولدك بالطبع، ألم آخذك لإستخراج بطاقة هويتك و العديد من الأوراق الخاصة بك من قبل؟).

مطت شفتيها بخيبة أمل و هي تستدير لتنظر من النافذة من جديد قائلة بفتور و امتعاض
(نعم، صحيح)
نظر اليها نظرة جانبية، و هي تعود لتسند وجهها شاردة الى أصبعيها...
فقال مبددا الصمت بينهما
(اذن، متى تدبرت الإعداد لهذا الحفل دون علمي؟)
تنهدت قليلا دون أن تستدير اليه، ثم قالت بخفوت
(اخترت المكان من حاسوبي، و قمت بالحجز، ثم دعوت أصدقائي)
نظر اليها نظرة جانبية قبل أن يعيد عينيه الى الطريق سائلا بطريقة طبيعية.

(أصدقاء أم صديقات؟)
نظرت اليه مجددا بعينين براقتين حائرتين، ترى هل تتجرأ و تفسر تصرفاته على أنها، غيرة؟
فهمست تلقائيا
(أصدقاء و صديقات)
رأت أصابعه تشتد على المقود قليلا و ملامحه تزيد صلابة، أم تراها تتوهم؟
قال قاصي أخيرا بنبرة عادية لا تنم عن شيء
(هل لديك صديق خاص؟)
اتسعت عيناها بذهول و هي تهمس بعدم فهم و بريق سعادة يتلاعب بمعدتها
(عفوا؟).

كانت ملامحه أقرب الى الرمادية دون اظهار مشاعر معينة، لكنه قال بهدوء ثلجي
(هل لديك صديق خاص؟، مراهق في سنك معجب بك، أحد زملاء دراستك مثلا!، و لهذا تعدين هذا الحفل للمرة الأولى)
حسنا لقد اقترب من منتصف الحقيقة، لكنها رفضت أن تريحه، فقالت باهتمام
(و ماذا لو أجبتك أن هذا صحيح؟)
رأت رأسه يلتفت اليها مندفعا كالرصاصة، و عيناه تحترقان بلهيب غاضب وهو يهدر قائلا
(أريد ردا قاطعا، هل هذا صحيح أم لا؟).

كانت تتنفس بسرعة و هي ترى بدء شرارات غضبه لكنها قالت باصرار و شجاعة
(أخبرني أولا، ماذا ستكون ردة فعلك؟)
هدر بقوة أعلى و دون تردد...
(سأهشم رأسه، و أكسر أطرافه للتجرأ على الإقتراب منك)
لا مجال للشك بعد الآن...
أنها تطير فوق غيمة مسرعة نحو الأحلام و السعادة النارية ذات المفرقعات الملونة المتوهجة...
كل ما حولها يشدو بلحن مجنون صاخب...

فبرقت ابتسامتها ذات اللون العنابي الداكن، و ازداد عمق غمازتيها، قبل أن يراها قاصي فزداد جنونه وهو يصرخ
(أريد جوابا قاطعا يا تيماء)
انحنت ابتسامتها بحنان، لتهمس أخيرا كي تريحه المسكين الضخم ذو القلب المنطوي المتباعد
(اطمئن، لم يكن لي يوما صديقا خاصا، لست من هواة خوض العلاقات الطفولية ثم البكاء على أطلالها)
رأت عضلات حلقه تتحرك بصعوبة، و أنفاسه تترد قليلا، قبل أن يقول بجفاء و هو يركز نظره على الطريق.

(حسنا، هذا مريح، كدت أن تنالين صفعة على وقاحتك، لكنك أنقذت نفسك)
لم تغضب منه، لن تسمح له بإغضابها ككل مرة، لكنها قالت مبتسمة برقة
(أنت تتمادى كثيرا في كلامك معي يا قاصي)
لم يظهر عليه الحرج، بل قال بخشونة دون أن ينظر اليها...
(اصرفيني من العمل اذن، و سأكون ممتنا لك)
ذكرتها عبارته بمثيلتها، سمعته يقولها لمسك في أول لقاء لهما، كان يمازحها بخشونة...

و ها هي تحتل مكان مسك و تنال بعضا من عبارتهما المازحة الخاصة...
و كم أسعدها ذلك، إنها تتقدم
لذا ردت بمزاح مماثل أكثر مداعبة
(ليتني أستطيع، من غيري لديها حارس خاص!، أنا مرفهة)
نظر اليها نظرته الجانبية التي اعتادتها، ثم اعاد عينيه الى الطريق قائلا بنبرة غريبة
(حارس خاص!)
انتفض قلبها بقوة مرتجا بين أضلعها و هي تقول بخفوت
(ألست حارسي الخاص يا قاصي؟).

لم يرد، كم تمنته ان يجيبها بكل تأكيد، لكنه لم يرد، تنهدت بإحباط و هي تنظر أمامها، الا أنه على الأقل لم ينفي كلامها و لم يسخر منه، و هذا يدعو للتفائل نوعا ما...
حين وصلا الى المكان أخيرا. سارعت تيماء للخروج من السيارة بساقين ترتجفان بعدم ثقة فجأة...
كان الهواء البارد يلفح جسدها و يطير قماش الرقيق من حولها، و تتداخل خصلات شعرها مع ملامحها و تلتصق بحمرة شقتيها العنابيتين...

تقدمت لتصعد عدة درجات و هي تعلم أنه خلفها، لكن شيئا ما جعلها تستدير و هي على درجات السلم...
فوجدته لا يزال واقفا عند السيارة، ينظر اليها، مبهورا!، فقط من نظرات عينيه المتفرسة أدركت أنه يأملها مبهورا...
قالت تيماء بشجاعة
(هيا يا قاصي، لماذا تقف عندك؟)
لم يرد على الفور وهو ينظر اليها طويلا قبل أن يقول بهدوء بعيد...
(أوصلتك الى حفلك و انتهت مهمتي، على الرحيل)
شعرت بقلبها يسقط بين قدميها، فهتفت بقوة.

(لا يا قاصي لا تتركني)
رأت عيناه تضيقان قليلا قبل أن يقول بنفس الهدوء المتباعد و الذي بدا، حزينا
(إنه حفلك، اذهبي و امرحي، كوني أميرة الليلة)
لن أكون أميرة لسواك!
لكنها أمسكت لسانها عن النطق بعبارتها المجنونة، و قالت باصرار يكاد أن يكون توسلا...
(لا تتركني يا قاصي، أنا خائفة)
ضحك ضحكة بدت حزينة لعينيها، قبل أن يقول
(خائفة!، منذ طفولتك و أنا أجري خلفك عند طرق الحافلات و احضرك من مدينة لأخرى!).

ابتسمت ابتسامة جميلة، أشعلت نار الإفتتان بعينيه و هي تقول بهدوء
(لكنني أخاف البهرجة و الإحتفالات، أنا أحتاجك)
لم تحتاج الى قول المزيد، فلقد نطقت بالكلمة السحرية، لتجده يغلق السيارة و يتبعها، عيناه عليها لا تحيدان...
بريقهما يزداد سطوعا مع كل خطوة يقتربها، الى أن وصل اليها، فأخفض وجهه لينظر الى عينيها طويلا قبل أن يقول بخفوت
(سأكون بجوارك، اذهبي و تمتعي و لا تخافي شيئا، أنا هنا).

و ستظل هنا للأبد، بجواري...
و للمرة الثانية امتنعت عن النطق بما يجول في رأسها و قلبها، فسارعت تستدير و تدخل قبل أن تفضحها عيناها أكثر فيهرب منها قبل أن تحقق مرادها...
دخلا الى المكان الهادىء بألحانه الرومانسية الرقيقة...
لقد تعبت كثيرا الى أن اختارته، و قد كان جميلا بالفعل...
تأملته بسعادة ووجل، فقال قاصي بخفوت وهو ينحني اليها
(أين هم أصدقائك؟)
عضت شفتيها معا قبل أن ترفع عينيها اليه مبتسمة و همست.

(سأجدهم، لا تقلق)
وصل اليهما النادل و ما أخبرته بحجزها حتى قادهما الى طاولة جميلة، معدة بشكل رائع في أحد الزوايا البعيدة...
انتظرت تيماء الى أن ابتعد النادل، فمسحت الإبتسامة عن وجهها سريعا و احنت عينيها بألم مدروس و هي ترفع وجهها لقاصي هامسة بوجع
(لم يحضر أحد يا قاصي!)
نظر قاصي مقطبا الى الطاولة الخالية تماما الا من عدد من كراسي أنيقة فارغة، قبل أن يقول بخشونة وهو ينظر الى ساعة معصمه.

(ربما لم يحن الوقت بعد، انتظريهم قليلا)
هزت تيماء برأسها يأسا و هي تقول بخفوت
(لقد وصلت أنا بعد الموعد بوقت ليس بقليل، لم يأتي ولو فرد واحد ممن قمت بدعوتهم)
أظلمت عينا قاصي وهو ينظر الى وجهها الطفولي الجميل الحزين، و شعر بقبضة جليدية تطبق على صدره، قبل أن يقول بخشونة مزمجرة
(تعالي اجلسي و انتظريهم، لا تتسرعي)
سارت منخفضة الكتفين بقصد و جلست، و حين وجدته واقفا مكانه، رفعت وجهها اليه لتقول بخفوت.

(اجلس يا قاصي، لا تتركني، منظري محرج بما فيه الكفاية)
بدا قاصي مترددا، عاقدا حاجبيه، بدا مرتبكا، مما جعل قلبها يفيض بالحنان تجاهه، خاصة حين قال بخفوت
(قد يصل أصدقائك بأي وقت يا تيماء، أنا لا أناسبهم عمرا أو شكلا)
استدعت أجمل ابتساماتها حتى بدت غمازتيها كحفرتين عميقتين و هي تقول برقة
(أنت رائع)
الآن لقد اربكته أكثر، و التهمتها عيناه و كأنها قطعة حلوة شهية...

عيناه صديقتيها، حليفتيها، تخونانه و تتآمران عليه معها، فتفضحان سره
اقترب منها ليسحب كرسيا و يجلس مقابلا لها، فمدت كفيها تشبكهما فوق سطح الطاولة بارتباك و هي تراقبه بلهفة من تحت ستار رموشها الكثيفة، بينما هو يتجنب النظر اليها عن قصد...
فقالت كي تهدم جدار الصمت بينهما
(لم تخبرني إن كنت أعجبك؟)
رفع وجهه اليها مجفلا قبل أن يقول بصوت واه
(ماذا؟)
ابتسمت و همست
(شكلي، هل أعجبتك؟).

انحدرت عيناه عليها ببطىء، قبل أن يبعد وجهه عنها ناظرا الى المكان، فزمت شفتيها بغيظ و هي تقول
(على الأقل احترم أن هناك سيدة تجلس معك على طاولة واحدة و قم بالإطراء على شكلها)
نظر اليها بعينين مداعبتين عرفتهما منذ سنوات وهو يقول ساخرا
(سيدة!، تيمائي يا تيمائي، لم تغادري مقاعد الدراسة المدرسية بعد)
تيمائي يا تيمائي!، هل ياء الملكية تمنحه هذا الحق الحصري؟
أخذت نفسا مبتهجا و هي تقول.

(مجرد أشهرا قليلة و ألتحق بالجامعة)
قال قاصي مرحبا بتغيير الموضوع
(كيف حال الدراسة معك؟، أتوقع منك مجموع عال كما هو مستواك دائما)
زمت شفتيها بغيظ و هي تراه يتهرب منها بكل قوته...
فأبعدت وجهها عنه و هي تقول بايجاز مبهم
(الدراسة أمر مفروغ منه في حياتي، لا تقلق)
عاد الصمت ليسود بينهما، الى أن اقتربت منهما نادلة غاية في الجمال و الجاذبية، ترتدي تنورة سوداء قصيرة ضيقة، تحتها جوارب سوداء زادتها جاذبية...

ابتسمت لقاصي و هي تقول برقة
(مرحبا، هل أبدأ بتنزيل قالب الحلوى الآن؟، أم تبدآن بالعشاء)
كان قاصي يرمقها باعجاب، دون أن يبتسم، مما جعل تيماء تكاد أن تجن بمشاعر غريبة عليها، أقرب الى الرغبة في القتل...
سارعت تيماء لتقول بفظاظة
(ليس الآن من فضلك)
أومأت النادلة برأسها تهذيبا ثم غادرت فقالت تيماء بشراسة و هي تميل الى سطح الطاولة
(توقف عن هذه التصرفات يا قاصي، عيناك تلتهمانها)
ارتد اليها مجفلا وهو يقول مصدوما.

(عيناي ماذا؟، تلتهمان من؟)
قالت تيماء بقسوة
(النادلة، لم أكن أعلم أنك ممن يسيل لعابهم لمرآى الفتيات المثيرات)
ارتفع حاجبي قاصي بذهول، قبل أن تندفع حمم الغضب في عينيه ليقول هادرا رغم صوته الخافت
(اخرسي)
ارتبكت أمام عنفه الخافت الا انها لم تستسلم فتابعت بقوة
(لا تتكلم معي بهذا الشكل، كنت تأكلها بعينيك)
هذه المرة كان صوته أكثر سطوة على الرغم من عدم ارتفاعه وهو يهدر قائلا بصوت خافت.

(اخرسي يا قليلة الأدب، و أقسم، كلمة وقحة أخرى منك وسوف أرحل من هنا على الفور، لكن ليس قبل أن أصفعك)
ارتجفت شفتيها كالأطفال، و ظهرت دموع حارقة في عينيها. فتراجعت و هي ترمش بعينيها كي لا تبكي...
لقد فشلت الليلة فشلا ذريعا قبل أن تبدأ...
شعرت بوخز الدموع التي تحاول منع تساقطها يلسع عينيها، و ذعرت حين أحست بأول حباتها تتساقط
فأسرعت بمسحها بظاهر كفها بحرص كي لا تفسد زينة وجهها...

ساد صمت غريب، و هي تنظر بعيدا بقلب مثقل، قبل أن تسمع صوته القوي عميق النبرة يقول آمرا بخفوت حنون
(لا تبكي يا تيماء)
ارتجفت بقوة و هي تسمع منه تلك النبرة التي احتوت كيانها كله، قبل أن ترفع وجهها اليه...
تلك النبرة كانت كفيلة بجعل دموعها تنفجر دون أن تستطيع السيطرة عليها، فأفلتت منها شهقة باكية و هي ترفع ظاهر كفها الى فمها مغمضة عينيها بقوة، حينها تأوه قاصي بعنف وهو ينهض من مكانه...

ليجلس على الكرسي بجوارها، واضعا ذراعه على ظهر مقعدها بينما هي منحنية الكتفين...
تبكي بخفوت و بصوت مكتوم...
أخرج قاصي منديلا من جيبه ليمسك بذقنها يرفع وجهها اليه، فوجد زينة عينيها السواء قد سالت و رسمت خطوطا سوداء على وجنتيها...
فأفلتت منه صيحة استنكار خافتة، ليمد يده و يمسح وجنتيها بحنان قبل أن يهمس قائلا بخشونة
(لما كل هذا؟، كل هذا البكاء و هذه الوقاحة، لماذا يا تيماء الصغيرة؟).

نظرت اليه بعينيها الغارقتين في بركتين من الإحمرار مختلطا بخضرة عينيها، فقالت بخفوت بائس
(لم يتذكر أحد يوم مولدي، و رغبت أن تكون هذه الليلة مميزة)
شتم قاصي بصوت هامس و هو يبعد عينيه عنها، لو يستطيع لدار على بيوت أصدقائها واحدا تلو الآخر و لسحقهم ضربا على عدم اهتمامهم بالحضور الى حفلها الذي أعدت له...
نظر اليها مجددا حين همست بصوت ضائع
(كل عام كنت أنتظر أن يتذكر أبي، أو مسك، أو أمي).

صمتت قليلا و هي تشعر باختناق مريع، قبل أن ترفع عينيها الى عينيه لتهمس
(أو حتى أنت)
تراجع وجهه قليلا و ازداد انعقاد حاجبيه بشدة، قبل أن يقول بخفوت شديد
(هل تلومينني الآن؟)
أغمضت عينيها يأسا و ي تهز رأسها قائلة
(لا، لا، لا ألومك، انا فقط)
صمتت حين أعجزها الكلام، فهمست محنية رأسها بالقرب من عنقه
(أنت قاسي معي جدا يا قاصي، جدا)
كان قربها منه يهلكه، يريمه في الصحاري المفقرة عطشا...

لكنه همس بصوت أجش ساخر، وهو يحني شفتيه بالقرب من أذنها
(أنا قاسي معك يا تيماء؟، لم أعرف الرفق الا في تعاملي معك)
هزت رأسها نفيا بقوة دون أن ترفع وجهها اليه، و همست بصوت باكي
(أنت تبتعد عني، تتهرب مني)
كانت ملامحه متعقدة ألما من قربها، يستنشق عطرها، بشرة فكه الخشن تخدشها أسلاك شعرها النحاسي، فتثير به زوابع من الجنون...

رفعت تيماء وجهها اليه، فتسمر لمرآى عينيها الباكيتين بتعبيرهما الصادم، تعبير يذيب أعتى القلوب تحجرا...
فقالت بخفوت أخيرا...
(كم مرة أحببت يا قاصي؟)
اتسعت عيناه لسؤالها المفاجىء، لكنه قال بخفوت جاف و أصابعه على ظهر مقعدها تتحركان بتوتر. تريدان ملامسة كتفيها...
(لم أحب من قبل)
لكن تيماء كانت مصرة، فقالت بعناد يائس
(هل عرفت فتيات من قبل؟، هل كانت لك علاقات بأي منهن؟).

ضاقت عيناه و شعر أنه يخوض منطقة خطرة، و هي لا ترحمه بقربها و أسئلتها المجنونة...
لكنه قال بإيجاز متوتر
(طبيعي)
كلمة واحدة كانت كفيلة بأن تضرب صدرها بعنف، ضربة موجعة...
لا ليس طبيعي، ليس طبيعي أبدا، ليس عدلا...
فهتفت بصوت خافت حارق
(الى أين وصلت حدود علاقتك بهن؟)
اتسعت عيناه بذعر وهو يهتف بذهول
(رباه)
ابعد ذراعه عن ظهر مقعدها و كأنها لسعته، بينما أرجع شعره للخلف بقوة و عنف...

ثم لم يلبث أن استدار اليها بكامل جسده وهو يقول بصوت خافت شرس
(ما بالك اليوم؟، ما تلك الوقاحة فيك؟، هل جننت؟)
التخيلات و الصور كانت تقتلها...
حين تسمعه خلسة يهاتف احداهن، حين تسمع صوت ضحكته الرجولية الغير مبالية في الهاتف لفتاة على الجانب الآخر، يضرب معها موعدا دون اهتمام حقيقي...
تحسدها، تمقتها لأنها تنال منه هذا الإهتمام الرجولي...

و تتخيل كيف يكون شعورها لو منحها نفس الإهتمام، لو ضحك لها ضحكة مغوية أو حتى لامسها...
كيف سيكون شعورها؟، و كانت تشعر بالجنون في داخلها...
همست تيماء بقسوة و اختناق في آن واحد...
(تعبت، تعبت يا قاصي)
هز رأسه بقوة وهو يهتف قائلا
(مما تعبت؟، ما الذي أصابك و بدل تهذيبك الى تلك الوقاحة؟)
هتفت بقوة
(تعبت من تخيلك مع صديقاتك، كل الفتيات اللاتي تعرفهن و تخرج معهن، كيف تنظر لكل واحدة و كيف تلامس).

قاطعها هادرا بقوة منتفضة...
(اخرسي، اخرسي، تبا لك)
صمتت تيماء مبتلعة ذهولها من نفسها، لقد انفجر كل شيء، انفجر كل كبتها خلال العام الماضي...
كان مظهر قاصي في تلك الحظة مخيفا، يتنفس بقوة و عنف وهو يحاول السيطرة على غضبه...
عيناه بديتا كحريق مستعر أسود اللون...
و حين تكلم، قال أخيرا بصوت مرتجف
(أنت تحتاجين لرجل يصفعك يا تيماء)
ابتلعت قسوة كلماته قبل أن تقول بخفوت
(كاذب، لقد هددت أمي ذات يوم من أن تعيدها).

الا أن نظرته لعينيها في تلك اللحظة بدت صادقة وهو يقول بقوة هادرة
(ليست أمك لا، أنت تحتاجين لصفعة رجل بحياتك، كي تهذب من تهورك ووقاحة أخلاقك)
رمشت بعينيها الباكيتين و همست بضعف غريب عليها
(لا أصدقك، لو كنت تريد أن تستخدم العنف معي لفعلت)
عقد حاجبيه بذهول وهو يقول بصوت جامد لا حياة به
(أنت ابنة الرجل الذي أعمل لديه، سبق و اخبرتك، أنا اتقاضى أجرا)
كانت هي من هتفت هذه المرة بقوة تقاطعه...
(كاااااااذب).

تسمر مكانه وهو ينظر الى ثورة غضبها و شراسة عينيها، فأجفل متشنجا بكل عضلة في جسده المتحفز...
كاذب؟، نعم كاذب، متى تحول العمل الى علاقة شخصية؟
متى أدركت كذبه؟، و متى كبرت لتلك الدرجة؟
همست تيماء مجددا بضعف
(لماذا لم تحضر لي هدية يوما؟، أرفض تصديق أنك بخيل الى هذا الحد)
توترت ملامحه ألما، لكنه قال بصوت ساخر أوجعها
(أنا لا اتقاضى من والدك أجرا كي أنفقه في شراء الهدايا لك).

هذه المرة قالتها همسا و الدموع تنساب من عينيها الرائعتين فتزيد من جمالهما
(كاذب، كاذب يا قاصي، سأظل أرددها ولو لمئة عام)
هذه المرة لم يستطع الرد...
كان تواصل أعينهما أقوى من أن يحاول الرد و كسر تلك اللغة الآسرة...
أغمضت تيماء عينيها بأسى، لقد سلمت، سلمت بالهزيمة...
ثم همست بخفوت
(أرجوك أعدني الى البيت، لقد فشل الحفل و انتهى قبل أن يبدأ)
ساد صمت طويل مرير، لم تجرؤ فيه على النظر الى عيني قاصي...

الى أن تكلم أخيرا قائلا بخفوت وهو يلمس ذقنها باصبعه...
(لا، لم ينتهي، لا زلت هنا معك، لا حاجة بك للآخرين)
الآخرين!
ألم تخبره بعد أنها لم تدعو غيره؟
أنها أعدت هذا الحفل لأجل عينيه المشتعلتين دون غيرهما...
لم تخبره، و لن تفعل، فقد فسد كل شيء، هو لا يريدها، و لم يرى بها يوما سوى مجرد طفلة مرهقة، القيت على عاتقه مسؤوليتها هي و أمها...
همست بصوت ضائع
(لن أعطلك أكثر، لقد أذللت نفسي بما فيه الكفاية).

شعرت به يتحرك من مكانه، فرفعت وجهها اليه، لتجده يرفع كفيه خلف عنقه...
يخلع السلسال الفضي الذي يضعه حول عنقه دائما منذ اليوم الأول الذي رأته به...
كان سلسالا به بطاقة من الفضة، كتلك التي يضعها الجنود لحفظ هوياتهم...
سبيكة فضية، عليها اسمه محفورا على واجهتها...
قاصي الحكيم...
تكلم بخفوت قائلا بصوت غريب
(خذي هذا السلسال هدية لك، لم أخلعه منذ سنوات، أريدك أن تضعيه حول عنقك دائما، و لا تخلعيه أبدا).

كانت تنظر اليه بصمت و هو يمد لها بالسلسال البراق، لكنها كانت صامتة، فاغرة الشفتين قليلا...
قوة غريبة جعلتها تمد كلتا يديها، لا لأن تأخذ منه السلسال، بل لتمسك قبضته برفق و رقة...
و امام عينيه المستعرتين، وجدها تفتح أصابعه بنعومة أثارت به الرجفة...
لتمسك بسبيكته الفضية، و تنظر اليها بذهول قبل أن ترفعها و تضمها الى صدرها، تراقب عينيه، ملامح وجهه...
فماتت الكلمات، و ذابت كل الشكوك من ذهنها المشتت...

و لم تصدر عنها سوى تنهيدة مبتسمة بعد تعب مضني، قبل أن ترفع وجهها اليه...
عيناها مختلفتان، ترسمان للنجوم دروبا...
و همست بصدق يراه الأعمى، و يسمعه الأصم...
(أحبك، أنا أحبك يا قاصي)
فعلى وجه السبيكة الآخر، كانت هناك عبارة أخرى محفورة بخط زغرفي
لم يخدعها قلبها، و لم يضل دليلها
تيمائي المهلكة، أرض أينعت جمالا، فأهلكت الأعين بسحرها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة