قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والثلاثون

زمت مسك شفتيها و هي تراه يبتعد متجها الى المصعد، متجاهلا اياها، فنادت بصوت اعلى قليلا كي يصله
(هل تملي شروط بقائك على ادارة المكان؟، هذا يعد ابتزاز)
لم يرد عليها وهو يتجه يمينا و يختفي عن عينيها الغاضبتين المغرورتين، فزفرت بحنق و اتجهت خلفه تريد استخدام المصعد...
و ما ان وصلت اليه، وجدت أمجد واقفا، يوليها ظهره منتظرا وصول المصعد دون ان يشعر بوجودها بينما...
وكانت تصدر عنه بعض الهمهمات الغاضبة...

ضاقت عينا مسك و هي تقترب منه دون صوت مرهفة السمع، و التقطت أذناها بضع كلمات ساخرة كريهة صادرة عنه
(تريد ألقاب!، بالله عليها من تظن نفسها، والله حتى أن اسم ألمظ أكثر رقيا منها)
تسمرت مسك مكانها و فغرت شفتيها و هتفت فجأة دون أن تستطيع أن تمنع نفسها
(هل تلقبني ألمظ!)
استدار امجد ناظرا اليها، عاقدا حاجبيه، ثم نزل بنظراته الى قدميها المنتعلتين حذاءا أرضيا خفيفا لا يصدر صوت...
ثم نظر اليها و قال بلامبالاة.

(لا ترتدين كعبا عاليا اليوم!)
هتفت مسك بغضب
(و ما دخلك بحذائي؟، كيف تجرؤ على أن تسخر مني و تلقبني باسم آخر دون علمي؟)
أعاد أمجد عينيه الى لوحة المصعد ليتجاهلها مجددا وهو يقول ببرود
(و من قال أنه لك؟)
ضاقت عينا مسك و قالت بشراسة...
(و لمن هو اذن إن لم يكن لي؟)
قال أمجد باستهانة شديدة
(لا شأن لك).

فتح المصعد أبوابه في تلك اللحظة و دخل أمجد اليه، و ما أن استدار ناظرا اليها، كانت هي الأخرى تقترب لتدخل الا انه رفع كفه و قال ببرود جليدي
(عفوا، أنا لا استقل المصعد مع أحد)
ثم ضرب زر المصعد ليغلق أبوابه في وجهها المصدوم...
نظرت مسك حولها قليلا و هي غير مصدقة لما حدث!
تحركت خطوة يمينا، ثم خطوة أخرى يسارا بعدم تركيز و هي تحك جبهتها من شدة الغضب...
ثم وقفت مكانها و هي تغمض عينيها لتنظم أنفاسها كي تهدأ...

و اخذت تهمس بجنون
تبا له!، من يظن نفسه!، من يظن نفسه ذلك الكريه الفظ الوقح!، أما أمجد فقد كان واقفا في المصعد، و قد تخاذلت شفتاه و اظهرتا ابتسامة غادرة رغما عنه وهو يفكر
أنها تبدو أكثر جمالا و هي مصدومة، على الأقل زال عنها ذلك الإنكسار الحزين، فالإنكسار لا يليق بال، ألماس!،
كانت غدير قد دخلت الى غرفة السيدات في الشركة، و لحسن حظها وجدتها خالية...

و ما أن صلت الى احد الأحواض حتى أمسكت به بقوة، ثم فتحت صنبور الماء و اخذت تنهل من بكفيها و تضرب وجهها بالماء البارد كي تهدأ...
و ما أن سكنت قليلا حتى وقفت مكانها تلهث بتعب، قبل أن ترفع وجهها و شعرها المبللين تماما لتنظر الى صورتها في المرآة...
همست بصوت شرس متألم
(كيف فعلت هذا؟، كيف كشفت نفسك الى هذا الحد؟، هل تريدين خسارة كل شيء؟)
ارتجفت شفتيها فجأة قبل أن تعض عليهما بقوة و هي تهمس بعذاب مضني.

لقد أحببته، أحببته، انتفضت فجأة على صوت رنين هاتفها، فأخرجته من جيب بنطالها بأصابع ترتجف لكن ما أن رأت الأسم حتى رفعت عينيها لاعلى و هي تهمس باعياء و غضب
لا، لا، هذا ليس وقتك أبدا، لكن رنين الهاتف استمر و استمر حتى أوشكت أن تفقد أعصابها حتى بعد أن أخفت الصوت...
استمر اسم أمها يضيء و يطفىء بين أصابعها الى أن زفرت أخيرا بجنون ثم أجابتها بعصبية.

(ماذا؟، ماذا، ماذا تريدين مني؟، لماذا لا تكفين عن ملاحقتك لي؟)
ردت عليها أمها بصوت خافت
(غدير، اسمعيني فقط، أنا احتاج اليك، لا تكوني بمثل هذه القسوة)
فتحت غدير شفتيها تنوي الصراخ بجنون، الا انها عادت و أغلقت فمها، و هي تضرب الحائط الرخامي بقبضتها بكل قوتها ثم همست من بين أسنانها بغضب
(ألم يصلك مصروفك لهذا الشهر؟)
ردت أمها بصوت متخاذل
(نعم، وصل)
هتفت غدير بجنون.

(اذن ماذا تريدين مني؟، هل تريدين المزيد من المال؟، لأنك لن تحصلين مني على قرش واحد)
صدر صوت أمها ضعيفا و هي تقول
(أريد فقط أن أراك)
هتفت غدير و هي تدور حول نفسها
(الا تملين؟، الا تتعبين؟، هل تتخيلين أنني قد اصدقك؟ أنت تحتاجين الى شيء ما و الا ما كنت أتيت و حاصرتني باتصالاتك أبدا، اعترفي أتريدين شيئا؟)
ساد صمت متوتر قصير...

فرفعت غدير رأسها لتضحك بصوت أجش عال على الرغم من دموعها التي تغرق وجهها، ثم هتفت بقوة
(كنت أعلم، كنت متأكدة من ذلك، اسمعيني جيدا، أنا لست قابعة على تل من ذهب أغترف منه وأعطيك، يكفيني أنني أعيلك حتى الآن على الرغم من كل تصرفاتك المخزية)
صمتت قليلا تلتقط أنفاسها ثم قالت بقسوة و هي تلهث من بين أسنانها بينما عيناها تقدحان شررا و قد فقدتا آخر ذرة رقة و براءة فيهما و تحولتا الى عينين شديدتي الشر.

(لولا ذرة الضمير المتبقية لدي لكنت رميتك بعيدا عن حياتي بأكملها، لا أريد أن أعرفك، لا أريد)
هتفت أمها بصوت متوسل
(ارجوك يا غدير اسمعيني، أرجوك اخرجي و لاقيني و لن آخذ من وقتك أكثر من عشر دقائق فقط)
اتسعت عينا غدير بذعر و هي تهتف
(أخرج الى أين؟)
قالت أمها بصوت خائف
(أنا، أنا أقف خارج، مبنى عملك الآن)
فغرت غدير شفتيها بذعر أكبر...

(خارج ال، ياللهي، ماذا تفعلين هنا، أبتعدي عن هذا المكان حالا، أسمعت حالا، أقسم انني لو خرجت ووجدك فسوف أمنع عنك كل قرش تحصلين عليه مني)
و دون أن تنتظر الرد اغلقت الخط على صوت أمها و هي تنادي اسمها...
فتح باب الحمام و دخلت احدى الموظفات، الا ان غدير استدارت اليها و هي تصرخ بقوة باكية
(اريد البقاء وحدي، ارجوك اخرجي)
ذعرت الموظفة من شكل غدير المنهار، لكنها استدارت و خرجت مغلقة الباب خلفها...

بينما استندت غدير بظهرها الى أحد الجدران و انزلقت و هي تبكي و تشهق بقوة الى ان جلست أرضا و رفعت ساقيها الى صدرها، لتدفن وجهها بين ركبتيها و كأنها عادت مراهقة من جديد...
الى متى ستظل تتحمل رؤية هذه المرأة و سماع صوتها، الى متى...
رفعت غدير وجهها المتورم الباكي و هي تحدق أمامها باكية و جسدها كله يرتجف...
متذكرة البيت الذي كان يضمها كلما هربت من الجحر الذي تسكنه باكية...

كانت مسك دائما تنتظرها و تستبقيها معها لتنام في فراشها...
كانت دائما ما تصر على قلب الامر الى مزاح و جنون، لا تستسلم للكآبة أبدا...
لكنها لم تكن تعرف...
لم تكن تعرف و هي نائمة في آخر الليل أن غدير لا تزال مستيقظة، تنظر اليها في الظلام بغضب...
تكره عدم احساسها، و تكره تفضلها الدائم و ظهورها بمظهر المحسنة و البطلة التي تقهر الأحزان...

بينما هي لم تعرف الأحزان مطلقا في حياتها، كانت تكره ان تعظها مسك، و هي لم تعش مثل حياتها و لم تذق ما ذاقته هي من ذل و قلة حيلة...
أغمضت غدير عينيها على الدموع الحارقة بعينيها و همست بقهر و هي ترجع رأسها للخلف
(أريد أن أرتاح، لماذا لا أرتاح حتى الآن، أنا تعبت، تعبت جدا)
بعد عدة ساعات...
خرجت مسك من بناية الشركة زامة شفتيها باجهاد و غضب...
لقد خسرت معركة...

لقد تم عقد الإجتماع الموسع على وجه السرعة، و تم الإتفاق على التراجع عن قرار صرف العمال الزائدين عن الحاجة الفعلية للعمل، و كل هذا بسبب التهديد المباشر من أمجد الحسيني...
لقد حضرت الإجتماع و رأت بنفسها مدى أهميته و تقديره في هذا المكان، و أن المؤسسين للشركة رافضين للتخلي عنه...
و يبدو أنه كان يعلم قيمة نفسه جيدا لهذا قدم استقالته وهو مطمئن البال، واثقا أنهم لن يتنازلون عنه ابدا...
زفرت مسك بغضب...

كيف تتعامل في مكان بهذه الضخامة و مع ذلك قائم على العواطف و المحسوبيات؟
لكن في زوايا روحها، كانت تشعر بنوع من الراحة...
لا يمكنها إنكار ذلك...
منذ أن علمت باستقالته و هي تشعر بضيق و غضب...
لا تريد أن تكون السبب في رحيله، على الرغم من فظاظته ووقاحته، و قلة أدبه...
الا ان هذا لا يمنع أنه هنا قبلها و هي لا تريد أن تحل محل أحد...

نزلت السلالم القليلة خارج البناية و هي تتنهد بتعب، لكن ما أن رفعت وجهها حتى توفقت مكانها للحظة...
لقد ظهر أمامها ما ان فكرت به، المتغطرس القميء...
ماذا يفعل هنا؟، ألم يغادر منذ عدة ساعات؟، و ماذا يفعل هذا؟
كان أمجد منحنيا يكلم سيدة جالسة على الرصيف خارج بناية الشركة و بجواره حارس الامن...
تابعت مسك طريقها برشاقة و هي ترمقه شزرا الا أن عيناها توقفتا على السيدة التي يكلمها عدة لحظات!

اخذت مسك تقترب منهم ببطىء و هي متأكدة من انها تعرفها جيدا!، أليست هذه هي؟
اقتربت مسك أكثر الى أن وصلت اليهم فرآها أمجد و رفع وجهه اليها متسائلا عن سر مجيئها اليهم...
لكن اهتمام مسك كان منصبا على تلك المرأة الجالسة على الرصيف...
عقدت حاجبيها و انحنت اليها لتمس كتفها قائلة بهدوء و شك
(سيدة أنوار!، هل هذه أنت؟)
رفعت المرأة وجهها ببطىء تنظر الى مسك و هي تحاول التعرف اليها...
بينما قال أمجد بحيرة.

(هل تعرفينها؟)
نظرت اليه مسك و استقامت لتقول
(ما مشكلتها؟)
أشار أمجد الى حارس الامن وهو يقول بهدوء
(فرد الامن يقول أنها جالسة على هذا الوضع منذ الصباح و ترفض الرحيل، وهو مضطر الى ابعادها بالقوة، و كلما سألها احد تقول أنها تنتظر ابنتها لتخرج لكنها ترفض الإفصاح عن اسم ابنتها)
أومأت مسك بتفكير و هي تنظر الى بناية الشركة بشرود، فقال أمجد مجددا
(من هي؟، ألديك فكرة عمن تنتظرها؟)
نظرت مسك اليه و قالت.

(نعم أعرفها، أنا سأصطحبها معي)
عقد أمجد حاجبيه بحيرة و قال متشككا
(هل أنت متأكدة؟، يمكننا الحصول على مساعدة لها)
قالت مسك ترد عليه بإيجاز
(لا داعي أنا فعلا أعرفها)
انحنت مسك الى المرأة و قالت بهدوء
(سيدة أنوار، هل تتذكريني؟ أنا مسك)
نظرت اليها المرأة و لم تلبث أن ارتفع حاجبيها و قالت
(مسك، نعم اذكرك، شعرك أصبح قصيرا)
رفعت مسك يدها تلقائيا لتزيح شعرها الناعم خلف أذنها، ثم قالت بهدوء.

(ماذا تفعلين هنا و لماذا تجلسين بهذا الشكل؟)
ردت عليها المرأة بخفوت و هي تطرق بوجهها
(أنا انتظر ابنتي، و لا أريد أن أذكر اسمها)
عبس أمجد و قال بحزم
(لماذا؟، هل هي تعمل لدينا؟)
لم ترد المرأة عليه، لكن مسك قالت بهدوء خافت
(لو كانت تريد الخروج لكانت فعلت منذ الصباح، لا أظنها ستراك اليوم)
قالت المرأة بإصرار
(لن أغادر قبل رؤيتها، حتى لو بقيت للغد).

ظلت مسك مكانها تنظر اليها بصمت، ثم لم تلبث أن انحنت اليها و امسكت بذراعها تقول
(تعالي معي سيدة أنوار و انا سأساعدك، جلوسك هنا ليس سليما و قد يبعدك الامن بالقوة)
تخاذلت أنوار الا أن مسك تابعت بصوت أكثر حزما
(لا خيار آخر أمامك، و الا سأذهب و لن أكرر عرضي)
ظلت المرأة مكانها قليلا، قبل أن تتحرك و تنهض ببطء فقال أمجد بارتياب
(لا أظنها فكرة سديدة، أخبريني من ابنتها).

رفعت مسك اليه عينين حازمتين و قالت بلهجة مهينة
(لو كانت تريد اخبارك لفعلت، الآن بعد اذنك، نريد المغادرة)
ابتعدت مع المرأة خطوتين، الا أن صوت أمجد قال من خلفها
(الا تحتاجين الى من يقوم بايصالك هذه المرة أيضا؟)
قالت ببرود دون أن تستدير اليه
(معي سيارتي أخيرا و لن أحتاج الى خدماتك)
قال أمجد ببرود مماثل
(كم انت مهذبة!)
اجابته ببساطة
(لا فكرة لديك عن مدى تهذيبي، مع من يستحق).

راقبها امجد و هي تبتعد، الا أنها لم تلبث أن توقفت لتستدير اليه، نظرت اليه لحظتين ثم قالت بصيغة متعالية
(لماذا عدت؟)
ارتفع حاجبه باستهانة، ثم لم يلبث أن قال بلهجة منتظرة مستفزة
(لقد انتشر خبر التراجع في قرار الإدارة كالنار في الهشيم بين العمال، و لقد طلبوني للإحتفال)
ارتفع حاجبي مسك و هي تراقبه ببرود بينما تشعر بالرغبة في ضربه، الا انها قالت بلهجة سمجة.

(آها، كان هذا سبب الزغاريد اذن و كأننا في حفل زفاف شعبي!، ياللمأساة، فلتهنأ بالإحتفال اذن يا بطل المساكين)
ثم ابتعدت عنه دون أن تنتظر ردا، بينما وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو يراقبها بصمت و تعالي يليق بالتعامل مع من هم مثلها...
و في باله يدور سؤالين لا ثالث لهما...
من هي تلك السيدة التي تبدو رثة الهيئة و مع ذلك تعرف مسك سالم الرافعي؟..
و السؤال الثاني هو
هل كان هذا الشعر الحريري الجميل طويلا ذات يوم؟

و في السيارة نظرت مسك الى أنوار التي كانت تجلس بجوارها مخفضة الرأس متلاعبة بأصابعها في حجرها دون أن تجرؤ على مواجهة عيني مسك الصارمتين...
الا ان مسك قالت خيرا ببرود
(اذن ما هي المشكلة الجديدة التي أوقعت نفسك بها يا سيدة أنوار؟).

(أبدو فلكلورية المظهر!)
قالت تيماء بتذمر خافت و هي تجلس في المقعد الخلفي لسيارة جدها التي يقودها عبد الكريم...
و بجوارها سوار التي كانت تجلش شاردة الذهن، لكنها انتبهت ما أن نطقت تيماء بعبارتها الخافتة المتذمرة...
التفتت تنظر اليها و تقيم مظهرها الخارجي، ثم قالت مبتسمة بخفوت
(تبدين رائعة، العباءة السوداء تليق بك جدا)
لكنها صمتت و هي تعقد حاجبيها قليلا، ثم قالت باستياء
(أين ذهبك؟)
قالت تيماء بحيرة.

(أي ذهب؟، أنا لا أمتلك ذهبا، لا أحبه)
هتفت سوار بصدمة
(لا تمتلكين ذهبا؟، كيف لم ألاحظ قبل خروجنا؟، منظرك سيكون منتقدا أمام النساء)
ارتفع حاجب تيماء، و مدت ساعدها و هي تقول
(أنا أرتدي ساعة غالية الثمن، يمكنهن رؤيتها)
نظرت سوار الى الساعة الغالية ذات الاسم الشهير، لكنها كانت جلدية شبابية...
فأغمضت عينيها و هي تهز رأسها يأسا هامسة
(ياللمأساة)
فتحت عينيها ثم رفعت يديها الى خلف عنقها قائلة.

(الحمد لله أنني أرتدي سلسالي الضخم تحت عقد أمي الذهبي رحمها الله، عادة أنا لا ارتدي سوى شيئا واحدا بسبب ضخامته، لكن و كأن قلبي شعر بحاجتي لهذا السلسال)
ابعدت السلسال عن عنقها و ناولته الى تيماء و هي تقول
(خذي، ضعي هذه حول عنقك)
وضعت تيماء السلسال الذهبي الضخم حول عنقها، و كم كان احساسها به يختلف عن احساسها بسلسال قاصي الذي وضعته العمر كله، حياة كاملة...

زفرت تيماء و هي تعدل من وضع العباءة الحريرية التي تغطيها تماما و المطرزة بتطريز غاية في الروعة و الجمال، ذهبي اللون لكن قليل و دون افراط...
ثم رفعت وجهها الى سوار و قالت بصوت باهت
(أشعر أنها ليست أنا، و كأنني أرتدي شخصية أخرى غير شخصيتي. لا مجرد أن استعرت عبائتك)
قالت سوار مبتسمة
(لا يمكنك الخروج بملابسك دون عباءة فوقها، خاصة و أنت متجهة الى زفاف كبير هنا في بلدنا. )
قالت تيماء بتوتر...
(لكن).

الا أن سوار قاطعتها تقول بهدوء حازم
(لكن أنت لا تريدين الخروج، منذ الفطور الذي تناولناه مع جدي و انت لست كعادتك ابدا، صحيح انك متمردة منذ أن وصلت الى هنا، لكن هذا الفطور او الحوار الذي دار خلاله كان له وقعا مؤلما عليك، أتظنين أنني لا أستطيع رؤية انتفاخ عينيك و الذي يدل على بكائك طويلا...
عيب عينيك الفيروزيتين أنهما لا تجيدان اخفاء اثر البكاء مطلقا).

رفعت تيماء وجهها الباهت تنظر الى عيني سوار الصريحتين، ثم لم تلبث أن قالت و هي تدير وجهها...
(لقد انتهى زمن البكاء)
ردت عليها سوار لتقول
(ليس هذا ما رأيته قبل أن أكحل عينيك بيدي، لقد بكيت كثيرا و بحرقة آلمت قلبك)
لم ترد عليها تيماء و هي تنظر من نافذة السيارة الى الأراضي المترامية، فقالت سوار تسألها بلطف
(لقد صدمك خبر مرض مسك)
كان تقريرا واقعا، و ليس سؤال، لذا أعفت تيماء نفسها من الرد...

بداخلها طوفان من المشاعر المتناقضة لا يمكنها تفسيره
ما أصاب مسك صدمها فعلا...
لم تتخيل أبدا أن مسك، تلك الشابة المفعمة بالحيوية و الصحة و الجمال، من الممكن ان تمر بتلك المأساة و توابعها...
لقد كانت دائما تشع حياة و تشرق بالحب...
تبدو متعة لكل من ينظر اليها...
لكن هذا المرض لا يفرق بين شاب أو طفل أو حتى طاعن في السن...
و كان نصيب مسك أن تصاب به...
و من الطبيعي أن تنتاب تيماء الصدمة لمعرفتها بذلك...

لكن صدمتها الكبرى كانت في نفسها...
من ذلك الشعور الآخر المتخفي في أعمق أعماقها...
شعور دنىء جدا من الأنانية، يشعرها بالحقارة، و لا تملك الحيلة كي تبعده...
شعور عنيف بالغيرة، الغيرة بسبب المرض الذي كان سببا في قرب مسك من قاصي أكثر و أكثر...
هل يبدو من المنطقي أن تغار من أختها الوحيدة بسبب مرضها؟..
لكن هذا ما تشعر به و يشعرها بالتالي بالإحتقار لنفسها...
ربما لأن الرابط كان أكبر مما يمكن انكاره...

لقد جمع مسك و قاصي شعرة فاصلة بين الحياة و الموت، و قاصي كان هناك، متواجدا بجوارها...
لذا فهي الآن فهمت سبب تمسك كل منهما بالأخر...
أفاقت تيماء على صوت سوار تقول بهدوء محاولة التخفيف عنها
(مسك الآن في أحسن حال، لقد تم اعلان تخلصها من آخر آثار المرض قبل عودتها الى البلاد بما لا يقبل الشك)
صمتت للحظة ثم قالت بخفوت متابعة.

(لقد كانت مسك محظوظة جدا، اتعلمين ذلك، والدتها رحمها الله أصيبت بنفس المرض و توفت بسببه في النهاية، مما جعل عمي سالم كالمجنون، على الرغم من حزنه العنيف على والدة مسك، الا ان جنونه الأكبر كان خوفه من أن تصاب مسك بنفس المرض، لذا كان شديد الصرامة معها في الإصرار و الإلتزام بالكشف الدوري، و كأن قلبه كأب شعر قبلا بأنها ستصاب به...

و بالفعل بسبب الكشف المستمر تم اكتشاف المرض في اولى مراحله، و بدأت مسك العلاج سريعا...
و الآن هي في أحسن حال، لكن للأسف المرض أثر على قدرتها على الحمل و الإنجاب)
صدرت شهقة مرتجفة من بين شفتي تيماء و هي تخفض وجهها...
فصمتت سوار و هي تنظر اليها ثم مست كتفها و همست برقة
(أتبكين مجددا يا تيماء؟، توقفي و الا سال الكحل الاسود على وجهك و هذا فأل سيء و نحن متجهين الى حفل زفاف).

رفعت تيماء يدها و هي تمسح طارف عينيها محاولة التقاط نفسها كي لا تنفجر في البكاء...
ثم قالت بصوت لا حياة به فجأة
(هل كان أبي يحب زوجته لهذه الدرجة؟، والدة مسك)
أجابتها سوار مبتسمة بحزن
(كان يعشقها بجنون، كانت امرأة رائعة، و مسك تشبهها في كل شيء، الشكل و الطباع...
من كان يراهما يظن أنهما نسختين متطابقتين)
أظلمت عينا تيماء، و أثقل الحزن شفتيها...
فصمتت سوار فجأة، قبل أن تقول بندم.

(أنا آسفة، أسفة جدا يا تيماء، نسيت أن هذا الموضوع يؤلمك)
رفعت تيماء وجهها تنظر الى سوار و ابتسمت، ابتسامة قاسية باهتة، ثم قالت بخفوت
(لم يعد يؤلمني، لا أظن أن شيئا سيؤلمني أبدا بعد الآن)
صمتت سوار و هي تشعر بالتعاطف معها، بينما نظرت تيماء من نافذتها مجددا...
ربما لن يؤلمها شيء أكثر فيما يخص سالم الرافعي...
لكن هذا لا يمنع تذكرها للألم القديم...
و كأن ذكراه قد ماتت أصلا!، لم تمت و لن تموت...

لا تزال حتى الآن و هي ترتدي عباءة شبيهة بالتي ترتديها الآن...
لكنها كانت أصغر بخمس سنوات...
كانت قد نالت على يد والدها من الضرب و الإهانة ما جعلها تبدو متعبة، منكسرة الروح...
لم تكن تعلم أن انكسار الروح سيأتي لاحقا...
تتذكر حين كانت قد انتهت من لف وجهها بالوشاح الأسود، استعدادا للسفر عودة الى أمها...
لا تصدق أن جدها قد عفا عنها و أصدر أوامره الى والدها كي يعفو عنها هو الآخر...

و ما عرفته حينها أن أوامر سليمان الرافعي تسري على سالم الذي قبل صاغرا بعد صراخه المدوي و الذي كان يصلها حيث كانت محتجزة...
جدها لم يكن لينا في التعامل معها، كان قاسيا، الا أنها كانت تلمح بعض الحنان بعينيه...
كلما قسا عليها في القول، كان يتبعها بلمسة، أو ربما كلمة حانية...
مرت عدة أيام لم تعد خائفة منه، و اطمئنت نوعا ما...
حتى أصبح خوفها الوحيد منصبا على قاصي...

لم تسمع عنه شيئا و لم تره منذ أن سلمها الى جدها و، و أوشك على قتل والدها!
فقد جن جنون والدها ما أن عرف بتحرير قاصي لها...
وأوشك أن يبطش بها مجددا، الا أن قاصي هجم عليه فجأة و كاد أن يقتله لولا أن صرخت بجنون
لا تفعل يا قاصي، لا تفعل انه أبي، و امتزج صراخا بصوت جدها المزلزل.

ابتعد عنه يا قاصي، لكن قاصي كان في حال غير طبيعية، و تطلبت السيطرة عليه ثلاث رجال من رجال سليمان الرافعي كي يحكمون تقيده و ابعاده عن سالم...
و منذ تلك اللحظة المرعبة، لم تره...
تسائلت بجنون إن كان جدها يخدعها حين اوهمها أنه لن يؤذي قاصي...
لكنها عادت و استبعدت هذا الإحتمال، فجدها كان ذو سطوة و هيبة و لم يكن في حاجة للخداع و الكذب
لو اراد أذية قاصي لكان قال هذا بمنتهى الوضوح ودون خوف...

وقفت تيماء أمام المرآة تعدل من وشاحها الذي اجبرها جدها على ارتداءه...
كانت اوامره صارمة في ارتدائها للحجاب و التستر و كأنها مجرمة فرطت بنفسها...
يومها كرهت الحجاب، و صممت على أن تخلعه ما أن تصبح حرة نفسها
كان الحجاب مرتبطا لديها في ذلك الوقت بالخزي و نظرات التقزز لها و لما ارتكبته...
استدارت حين فتح باب الغرفة التي كانت محتجزة بها، فقالت بصوت خافت
(أنا جاهزة للسفر).

الا أنها لم تجد احدى الخادمات ممن كن يدخلن اليها الطعام، و لا حتى جدها...
بل كان والدها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة