قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

تسمرت تيماء مكانها و هي ترى نظرات الكره واضحة في عينيه، وهو يرمقها من قمة رأسها و حتى أخمص قدميها...
ابتلعت تيماء ريقها و تراجعت الى ان ارتطم ظهرها بالمرآة، بينما منظر والدها كان مرعبا...
كان اقل هيبة من جدها، لكن نظرات الكره في عينيه كانت تجعل نواياه مخيفة، شريرة...
استطاعت تيماء الهمس بصوت مرتجف و هي تنظر اليه بعينين متسعتين
(لقد أمرك جدي الا تضربني مجددا).

توقف سالم مكانه، برقت عيناه بحقد أعمى...
كانت كفتاة في التاسعة عشر من عمرها قد أذلت والدها أكثر من مرة و حطت من قدره...
و آخرها ما نطقت به للتو...
الا أن الكره كان بينهما متبادل في تلك اللحظة، لذا أدركت أنه لن يتورع عن فعل أي شيء متهور...
فكان عليها أن تحمي نفسها و تحتمي خلف أمر جدها...
عاد سالم للإقتراب منها ببطىء، ثم قال بصوت غريب
(لا تقلقي، لن أضربك)
لم يرحها هذا، و لم يبدد خوفها...

بل على العكس، زادها رعبا فوق رعب...
ففغرت شفتيها المرتجفتين و همست
(ماذا تنوي اذا؟)
لم يرد سالم على الفور، بل توقف مكانه، ينظر اليها نظرات أشعرها أنها أدنى من دود الأرض في عينيه...
أكثر دنسا من الوحل الملوث...
حاولت التراجع اكثر لكنها لم تجد مكانا لتهرب اليه، فوقفت تنظر اليها و قلبها يخفق بين أضلعها بعنف
الى أن تكلم سالم أخيرا و قال بهدوء غامض
(أنوي ضمان الا تستسلمين لشهواتك مجددا).

شعرت تيماء بقلبها يهوى بين قدميها، ففغرت شفتيها و امتقع وجهها و همست باختناق
(ماذا تقصد؟)
ضيق سالم عينيه و قال بخفوت
(أقصد ما كان على فعله منذ سنوات)
شعرت أنها على وشك البكاء خوفا من شيء مجهول، قاتم، شديد القتامة...
فهمست بصوت اكثر ارتجافا
(لم أفهم، يجب أن أسافر الآن، جدي أمر بذلك)
قال سالم بصوت قاسي، وقع على صدرها مثل السوط اللاسع
(و لوالدك أوامر أخرى).

قبل أن تسأله عما يقصده كان قد استدار و خرج، لكنه ترك الباب مفتوحا، لم يغلقه خلفه...
جرت تيماء سريعا الى الباب تنوي الهرب...
الا أنها تسمرت مكانها حين وجدت امرأة تدخل الى الغرفة...
امرأة تعرفها جيدا، انها نفس المرأة التي كانت تحرسها و هي مقيدة، مهانة و معذبة...
أخذت نفسا مرتجفا، قبل أن تهتف برعب
(ابتعدي عن طريقي).

لكن المرأة لم ترد عليها، بل أشارت الى اثنتين آخرتين، دخلتا الى الغرفة و أغلقتا الباب خلفهما...
شعرت تيماء بأنها قد وقعت في فخ قذر، خاصة و أن أعين الثلاث نساء لا تعرف اللين أو الرأفة...
و أنهن على وشك ذبحها، لا تعلم كيف...
لكن لاحقا عرفت، فقد فعلن ذلك فعلا...
و حتى الآن لا تزال تتذكر لون الدم الذي أغرق عينيها، و صراخها الذي أصم أذنيها من شدة الألم وهي مقيدة للمرة الثانية...

صراخها باسمه قبل أن تفقد الوعي...
قااااااااااااصي،
(تيماء)
انتفضت تيماء مكانها مذعورة على صوت سوار رغم هدوءه...
عقدت سوار حاجبيها و قالت بقلق
(اسم الله عليك يا تيماء، لماذا ارتعبت هكذا؟، لقد اردت اخبارك اننا وصلنا لا غير)
نظرت تيماء حولها و هي تنتفض من صوت اطلاق الاعيرة النارية في كل مكان، ثم همست بصوت واهي مرتجف
(نعم، نعم، يبدو أننا وصلنا).

كان صوت الطبل و المزمار و لعب العصي يملأ المكان...
صهيل الخيول و غناء المواويل...
العالم كله بدا ككتلة ملونة متوهجة و صاخبة، و تيماء ترفع عينيها تراقب الزينة المبهرجة، الى أن دخلت مع سوار الى مجلس النساء، و أغلقت الأبواب خلفهما...
نظرت تيماء الى سوار التي بدأت تفك عبائتها الحريرية، فقالت على أمل
(هل يمكننا أن نخلع العباءة الآن؟)
قالت سوار مبتسمة بدلال.

(بل أفضل، يمكنك خلع الحجاب، هذا المجلس محرم على الرجال لا تطاله عين متلصصة أبدا، و الآن سيبدأ الإحتفال الحقيقي)
استدارت عنها تيماء و خلعت العباءة المطرزة، و فكت الحجاب عن شعرها...
سمعت تيماء الشهقات الخافتة و الهمهمات الصادرة من كل مكان...
فرفعت وجهها و هي ترى النساء ينظرن اليهما بانبهار...

ظنت تيماء في لحظة غباء أنهن منبهرات بها، بشعرها الزغبي الطويل الشبيه بشعر المطربات و النجمات، الا انها لاحظت تركيز المعظم منهن مركز خلفها...
التفتت تنظر خلفها، وما كان منها الا أن فغرت شفتيها هي الأخرى هامسة بذهول
بسم الله ماشاء الله، إنها المرة الأولى التي ترى بها سوار بدون حجاب...

كانت ترتدي فستانا من المخمل الأخضر الداكن جدا، شديد التفصيل على جسدها المفلت للنظر باكتنازه المثير، و قوة بنيتها الأنثوية...
لا يزين صدره سوى العقد الذهبي المكون من عدة طبقات و حلقات...
و زينة وجهها اقتصرت على التكحل فقط مثل تيماء...
لكن شعرها المفكوك!
كان كليل أسود طويل، لا نهاية له...
امتد كثيفا و سميكا، على ظهرها حتى تعدى وركيها!

لم ترى تيماء في مثل جماله من قبل، حتى شعر مسك في أكثر أيامه طولا لم يصل الى مثل جمال شعر سوار...
و الكحل المحيط بعينيها العسليتين جعل من وجهها قبلة للنظر...
نظرت سوار اليها و ابتسمت قائلة
(هيا بنا، اتبعيني)
لاحقتها تيماء بعينيها و قالت بذهول
(حاضر، أنت تأمرين أمر بشعرك هذا!)
تبعتها تيماء و هي ترى جميع النساء ينظرن اليها، الى أن بدأت كل منهن تنهض للسلام على سوار بعد طول غياب...

اقتربت فتاة جذابة ذات شعر بني جميل أصغر من سوار و تيماء، تهتف بسعادة
(سوار!، ياللهي انك تزدادين جمالا كلما كبرت)
استدارت سوار اليها ثم لم تلبث أن ضحكت بسعادة مماثلة و هي تهتف
(هريرة!، أهذه أنت حقا؟)
جرت اليها هريرة فعانقتها سوار بقوة و هي تهتف من قلبها
(مضى وقت طويل جدا منذ رأيتك آخر مرة، دعيني أنظر اليك)
أبعدتها عنها لتنظر اليها ثم لم تلبث أن هتفت
(لا أصدق عيني!، كم كبرت و اصبحت عروس!).

نظرت اليها هريرة بعتاب، و قالت
(سبق و كنت عروس بالفعل و لم تحضري زفافي يا سوار)
طال الحزن عيني سوار و قالت متوترة قليلا
(غصب عني يا هريرة، ظروف منعتني، لكن لا تتخيلي سعادتي بمعرفتي بزواجك، كنت أظنك ستبقين طفلة للأبد)
قالت هريرة و هي تضحك
(و لى زمن الطفولة و كبرنا، و انتهى الأمر)
قالت سوار بابتسامة حزينة
(نعم، ولى زمن الطفولة و كبرنا)
أخذت نفسا عميقا و قالت بحماس.

(تعالي اجلسي بجواري و اخبريني بكل تفاصيل زواجك)
فتح باب مجلس النساء، و دخلت ميسرة...
وقفت سوار مكانها تنظر اليها الى أن اصطدمت عيناهما، حينها تسمرت ميسرة مكانها و تحولت عيناها الى شيطانين...
لم تستطع حتى الإبتسام...
شعرت سوار بشيء ما يقبض صدرها من تلك النظرات التي لا تعرف الخجل او المداراة...
كانت تتفحصها بحقد و حاجباها يرتفعان مع نظرات عينيها شديدتي البريق، الا أنه بريق مخيف، حاسد...

اخذت سوار نفسا عميقا و هي تقرأ المعوذتين في سرها...
لم تخاف الحسد مطلقا، لكن نظرات ميسرة كانت لا تقبل الشك و هي تجري على شعرها و جسدها دون ترك اي تفصيلة...
و الكره البادي في نظراتها لا يمكن اغفاله ابدا...
ميسرة كانت ابنة خالها، الا أن العلاقة بينهما تقريبا منقطعة منذ الطفولة...
كانت تتبع الجانب الذي يعامل وهدة و ابنتها و كأنهما الفرع الأقل في العائلة لأنها تزوجت من أحد ابناء الرافعية...

علي الرغم من أن لا دخل لها بموضوع الثأر القديم، الا أنها قررت أن تنحاز للجانب المعادي...
الجانب الذي يرمق سوار بنظرات شبيهة كلما اتت الى زيارة عائلة الهلالي...
خلعت ميسرة عبائتها و رمتها الى الخادمة، و تبعتها بوشاح رأسها...
كانت ترتدي فستانا من الحرير الأحمر، ذو تطريز ذهبي من قمته و حتى حوافه...
و عليه استقرت عدة عقود ذهبية و سلاسل...
أما زينة وجهها فكانت لوحة متقنة من الألوان الداكنة...

و شعرها قد التف في أمواج لامست مرفقيها بالكاد...
كانت ميسرة تقترب ببطىء و عيناها لا تبارحان سوار، الى أن وصلت اليها، ثم قالت بصوت هادىء
الا أنه يبعث قشعريرة في النفس...
(سوار غانم الرافعي، ياللهذه المفاجأة، و بعد كل تلك السنوات تأتين للزيارة أخيرا)
رمقتها سوار بعينيها الواثقتين و قالت بصوت رخيم قوي
(أنا هنا في بيت أهلي يا ميسرة، و لست ضيفة)
ضحكت ميسرة ضحكة باردة، نشرت الصقيع من حولها، ثم قالت.

(لقد كدنا أن ننسى ملامحك، ثم أن المرأة تتبع عائلة والدها، اسمك سوار غانم الرافعي، و زوجك هو راجح عمران الرافعي)
علت الكثير من الهمهمات، و هتفت هريرة بذعر
(ميسرة!)
بينما اتسعت عينا سوار بقسوة و هي تهدر مسكتة الجميع
(أنا زوجة سليم الرافعي، و هذا خطأ لا يغتفر يا ميسرة)
رفعت ميسرة حاجبيها و قالت متظاهرة بالذهول.

(اعذريني، لقد تداخلت أسماء ابناء عائلتكم في ذهني، لكن ما أعرفه أن راجح كان يتشدق دائما بخطبته لك)
اقتربت من سوار فجأة و تابعت هامسة في اذنها
(و لا زال، لقد جاء الى بيتنا و أخذ يصرخ باسمك كالمجنون أمام ليث زوجي، و كانت فضيحة تحاكى عنها الجميع، لكن عائلتنا تجيد الكتمان، بعكس عائلتكم)
ثم ابتعدت و هي تلامس شعر سوار بقوة، و اصابعها تتخلله كالمشط نزولا الى أطرافه...

الا أن سوار جذبت رأسها بقوة فعلقت خصلاته بين أصابع ميسرة التي بدت و كأنها قد اكتفت و هي تقول بابتسامة قاسية
(الآن اعذريني، لدي واجب أقدمه لنساء عائلتي)
ابتعدت عن سوار بخيلاء و تمايل، بينما ظلت سوار واقفة مكانها و هي محط أنظار الجميع...
و الهمهات تتزايد من حولها...
فأمسكت تيماء بذراعها و قالت هامسة بغضب
(تعالي لنغادر هذا المكان)
الا أن سوار رفعت وجهها و تدبرت ابتسامة واثقة و هي تقول.

(أنا هنا في بيت أمي يا تيماء، لا يمكن لأحد أن يتسبب في اخراجي دون ارادتي)
قالت هريرة مبتسمة بارتجاف
(أحسنت يا سوار، دعك منها، فزوجة أخي عادة ما يتعبها عقلها و يختل مسببا لنا المشاكل)
ابتسمت سوار لها ابتسامة واثقة على الرغم من الغضب الحارق الذي يشتعل بداخلها...
الا أنها لن تسمح لأحد بأن ينال منها مطلقا، اكراما لذكرى أمها في هذا المكان...

أمسكت سوار بكف تيماء و جذبتها خلفها حتى كادت أن توقعها، فسوار تتميز بقوة بدنية تحسدها عليها النساء...
و جلست رافعة ذقنها، متحدية أن يمس مخلوق كرامتها أو كرامة زوجها...
بينما في داخلها كانت هناك نار غاضبة لا تهدا و هي تهمس بقوة
لعنة الله عليك يا راجح، لن تتغير أبدا، شعرت تيماء بالتوتر و هي تشعر بالأعين كلها عليهما، فدلكت ذراعها و مالت الى سوار تهمس في أذنها.

(لماذا يعاملك الجميع هنا و كأنك من البرمائيات؟، تملكين رئتين لكن مع وجود بعض الخياشيم؟)
ابتسمت سوار بثقة، ثم همست
(ربما لأن هذه هي الحقيقة فعلا، ما بين عائلة الهلالي و عائلة الرافعي، امتلك رئتين و خياشيم)
تنهدت تيماء و هي تقول
(كنت أظن أن حالتي هي الأصعب، لكن منذ أن اتيت الى هنا و انا أتعرض الى صدمة حضارية تلو الأخرى، أشعر أن الاسبوع الذي قضيته هنا كان تجربة قاسية فاقت كل دراساتي).

نظرت اليها سوار مبتسمة ثم قالت
(على الأقل أعادت ميسرة بعض اللون الى وجهك الباهت، و الحياة الى عينيك الزرقاوين، أنت فعلا جميلة يا تيماء)
ابتسمت تيماء بتوتر، و قالت بفتور
(شكرا، بعض ما عندكم، في الواقع ذرة مما عندكم، الحقيقة بشعرك هذا لا مجال للمقارنة فلا داعي للمجاملة)
ضحكت سوار بصوت قوي عالي، و التفتت اليها الرؤوس و من بينها رأس ميسرة التي نظرت إلى سوار كطلقة من نار، و عينين كالجحيم...

ثم استدارت جانبا و هي تنظر الى كفها الذي يحتوي على شعرات من شعر سوار محتجزة...
فأغلقت قبضتها عليها و رفعتها الى فمها قبل ان تغمض عينيها و تهمس، من اعماق روحها القاتمة...
أما سوار فقد نجحت خلال ساعة واحدة في استمالة جميع النساء اليها، بضحكها و مزاحها و ذكرياتها عن أمها وهدة الهلالي...
ربما كانت هذه هي المرة الأخيرة التي تعيش بها حياة أمها، قبل استقرارها في المدينة...

لذا ستعيش كل لحظة منها مرفوعة الرأس، قاهرة كل من يمس اسمها بسوء...
الا أن هذا لم يمنعها من أن تنظر الى ميسرة كل فترة، تتحداها بنظرة صاعقة...
لكن في داخلها كان الفضول المذهول يهمس
أهذه هي زوجتك يا ليث؟، يا ويلي، ماذا ينفصها كي تكون سعيدة واثقة النفس؟، أما ميسرة فكانت تبادلها النظرات بأخرى تحترق غلا...
و كيانها كله يهمس بشراسة.

لن ترتاحي يوما يا ابنة وهدة، أقسم أن أجعل جسدك يتقلب ليلا على جمر من الألم و تحترق روحك بفقدك لسحرك للرجال، نظرت تيماء الى العروس نظرات شاردة، باهتة...
جميع النساء كانت ترقص و تغني، أما هي فلم تملك سوى النظر...
فهل من كان مذبوح القلب بإمكانه الرقص!
أخفضت عينيها تنظرالى هاتفها الصامت...
بداخلها نقمة عنيفة عليه...
و نقمة أكبر على نفسها، نفسها الخائنة...

ألم يكن من المفترض الآن أن تشعر بالراحة بسبب ابتعاده عنها أخيرا؟
لكن الحقيقة مخالفة تماما لما هو مفترض...
فتحت تيماء رقمه على الهاتف، و تحرك اصبعها ليكتب رسالة...
أين أنت؟، الا أنها سارعت بمسحها ورفعت وجهها الباهت تنظر بشرود الى العروس السعيدة التي كانت تجلس مكانها بوقار بينما تتراقص النساء أمامها...
و بعد فترة طويلة اخفضت وجهها لتكتب مجددا بأصبع مرتجف...

أردت فقط، الإطمئنان عليك، لكنها عادت و مسحت الرسالة سريعا، و هي تزفر بألم...
رفعت تيماء وجهها تنظر الى رقص النساء مجددا...
بالنسبة لها كان الرقص كلمة مترافقة دائما مع اسم قاصي...
ابتسمت بحزن و هي تتذكر الفترة الرائعة من حياتها و التي أصبح فيها قاصي فردا من أسرتها الصغيرة...
لم تكن ثريا تأنف من دعوته للطعام بين الحين و الآخر، خاصة بعد أن أصبح محور حياتهما...
و القائم الوحيد بشؤونهما...

تلك السهرات كانت حافلة بالضحك و الموسيقى، و احيانا كان يحضر معه جيتاره و يتحفهما بعزفه المنفرد...
تذكرت مرة مجنونة...
كان يجلس أرضا وهو ينظر اليها تضع اسطوانة أغاني غربية اشترتها حديثا...
ثم استدارت اليه و أمسكت بكفيه. تجذبه هاتفة بسعادة و تألق
(تعال لترقص معي)
نظر قاصي اليها بعينين وهاجتين، بينما ثقله كصخرة جبل وهو يقول بجدية مشيرا الى وجود أمها
(تعقلي يا تيماء)
لكنها جذبته مجددا بكل قوتها صارخة بمرح.

(انهض و راقصني و الا رقصت وحدي أمامك)
و بالفعل بدأت تتمايل أمامه بسعادة، تدور و يدور معها فستانها...
الى أن شعرت بنفسها تنجذب بقوة هائلة، الى رجل يراقصها بمرح ظاهر...
و الكثير من الشوق الجائع الخفي، هامسا في أذنها بصوت ثقيل جعل ساقيها ترتجفان
(هل أنت مجنونة؟، أنت تثيرين شك والدتك بتلك الطريقة)
الا أنها ضحكت و تابعت الرقص تدور معه بسعادة و قلبها ينبض بحبه ثم ارتفعت على أصابع قدميها لتهمس في أذنه بشوق.

(دعها تشك، فأنا أريدها تعرف عن علاقتنا، أريد للعالم كله أن يعرف)
توقف قاصي عن الرقص و نظر اليها بعينين قاتمتين و همس بصوت أجش
(لا تمزحي في هذا الأمر يا تيماء)
الا أنها أحاطت عنقه بذراعيها و هي تتأفف هامسة
(كنت أمزح يا قاصي، لا تكون جافا بهذا الشكل و راقصني)
الا أنه أبعد ذراعيها عن عنقه وهو يقول بصوت أجش خافت بينما صدره يتضخم و نفسه يتسارع
(هذا يكفي، كفى).

قالها بجدية و خشونة كي تكف عن التلوي بين ذراعيه، و بالفعل زمت شفتيها و هي تتركه لتبتعد عنه متذمرة، لكن ما ان استدارت اليه حتى وجدت عينيه تنظران اليها بنظرة مشتعلة جعلتها تدرك جيدا خطورة ما كانت تفعله...
في تلك اللحظة كانت أمها قد وصلت اليهما و قالت بلهجتها الساحلية الملفتة
(ألن تكفا عن سماع تلك الأغاني الغربية السخيفة، لما لا تضعين أغان شرقية و ترقصين عليها يا تيماء).

نظرت تيماء الى قاصي الذي كان يراقبها بطرف عينيه و قالت بخفوت
(لم أنجح يوما في الرقص الشرقي، فشلت به تماما)
قال قاصي مرتاحا
(هذا أفضل، فأنت حين تتقين شيئا لا يكون هناك سبيل لإيقافك)
احمرت وجنتيها قليلا، الا ان أمها قالت ضاحكة
(أنا راقصة ماهرة، أتريد أن تحكم بنفسك؟)
بهتت ابتسامة تيماء، و شعرت بالحرج من أمها، فقالت بخشونة
(لن ترقصي يا أمي)
نظرت اليها ثريا مقطبة و هي تقول.

(لماذا يا أنانية، أنت ترقصين منذ الصباح و لم يمنعك أحد)
عضت تيماء على شفتيها بينما كانت تشعر بالإستياء، و على ما يبدو أن قاصي قد لمح شحوب وجهها فقال بهدوء
(أتسمحين لي بهذه الرقصة سيدتي؟)
ظنت تيماء أنه يخاطبها، الا انها ما أن رفعت وجهها حتى رأته يمسك بكفي ثريا و يراقصها بحركات واسعة على لحن أبطأ...
أخذ ثريا تضحك و هي تقول
(أنا لا أفهم في هذا الرقص السخيف)
الا أن قاصي قال ضاحكا
(سأعلمك، فقط اتبعي خطواتي).

تراجعت تيماء الى الخلف حتى استندت الى الحائط و هي تنظر اليهما، يتراقصان و يضحكان...
فحكت جبهتها و هي تشعر بالحرج من تصرفات أمها، و بالغيرة من جمالها...
كانت ثريا مثال للجمال الأنثوي الرقيق، و لا تزال و كانت تحتفظ بشبابها حتى ذلك الوقت...
و كان اعجاب قاصي بها واضحا...
أخفضت يومها وجهها و قد بدت كطفلة يتيمة منبوذة، و لا تعلم كم بقيت بهذا الشكل، الى أن شعرت فجأة بكفه تمسك بذقنها و ترفع وجهها اليه...

كانت نظراته شديدة العمق، لدرجة أنها كانت تغرق بهما و بالجمر المتوهج فيهما...
و لا تزال تتذكر صوته الدافىء حتى الآن وهو يهمس لها
(ماذا بك؟)
نظرت بطرف عينيها الى حيث كانت أمها و قالت بجفاء
(أين أمي؟)
ابتسم قاصي و قال
(انتهت الأغنية و ذهبت أمك جريا الى المطبخ هاتفة أن اللحم قد احترق كالعادة، بينما أنت في عالم آخر غير عالمنا)
زمت شفتيها و تهربت من عينيه المتفحصتين لها، و حاولت تجاوزه...

الا أنه أحاط وجهها بكفيه اللتين اسندهما على الحائط بجوارها، فباتت محتجزة تماما بين ذراعيه...
و قال بثقة مستفزة
(لن تتحركي من هنا الا بعد أن تخبريني عما أصابك للتو)
بقت واقفة مكانها بعناد، فمال اليها قاصي ليهمس في أذنها
(قد تأتي أمك في أي لحظة و ترانا في هذا الوضع، حينها ستطردني و لن ترينني أبدا مجددا)
رفعت تيماء عينيها الجريئتين اليه و قالت بتحدي
(سأتبعك العمر كله، اعتمد على ذلك).

ضحك قاصي ضحكة لا تزال تتذكرها حتى الآن، ضحكة أحرقت كيانها كله...
ثم قال بهدوء خافت
(اذن أخبريني يا قدري، ماذا أصابك فجأة)
ترددت قليلا، و أخفضت وجهها ثم قالت بخفوت شاعرة بتأنيب ضمير و هي تنطق
(تصرفات أمي تخجلني)
ساد صمت قصير، ثم لم يلبث أن رفع وجهها اليه و قال بخفوت
(تخجلين مني أنا؟)
زفرت تيماء بارتجاف و همست
(إنها تتصرف بطريقة لا تناسب سنها، لا تتصرف كالأمهات مطلقا).

صمتت قليلا ثم رفعت وجهها اليه و همست بلهجة أقرب الى التوسل
(قاصي، هل ترى أمي جميلة؟، يقتلني نظرك اليها)
حينها انتفضت بقوة على ضحكته العالية لدرجة أن امها جاءت جريا من المطبخ على صوت ضحكه العالي و منظر تيماء و هي تضربه بوسائد الأريكة بكل الغضب المستعر بداخلها.

عادت تيماء من ذكرياتها البعيدة الى الزفاف الذي تراقبه بعينين زجاجيتين، بينما اصابعها على شفتيها المبتسمتين رغما عنها و كأن الذكرى كانت أمس...
أخفضت تيماء وجهها لتجد نفسها قد كتبت في الرسالة
أحتاجك، تندهت و هي تنظر حولها بيأس، ثم مدت اصبعها كي تمسحها الا أن اصبعها ضغط على زر الارسال!
قفزت تيماء من مكانها و هي تهتف
(لا لا، لااااااااا، لم أقصد ذلك).

لكن صوتها ضاع وسط الزغاريد و صوت اطلاق الأعيرة النارية...

وقف ليث على باب الدار وهو ينظر إلى السماء السوداء و قد التمعت بها النجوم الذهبية...
و كأنما كانت السماء ترتدي حلة البهاء و الجمال مشاركة في حفل الزفاف...
أخذ نفسا عميقا من هواء تلك الليلة الصافية، أملا في أن يهدىء نسيمها من حريق قلبه...
فسوار هنا...
سوار على بعد عدة خطوات منه...
علم ذلك من الهمس الدائر في المكان بأسره...
و كأنها نجمة من نجوم السماء تجذب الأنظار اليها أينما ذهبت...

كان عليه الإبتعاد عن هنا الى أن ترحل...
لولا الواجب لكان رحل دون تردد...
تنهد تنهيدة مثقلة وهو يستدير ينتوي الدخول طلبا لميسرة كي يغادرا...
الا أنه تسمر مكانه فجأة وجها لوجه...
للحظات ظن أنه يحلم، أو أن خياله صورها له كحورية الليل، و التي لا تظهر الا في ليلة مقمرة صافية كتلك...
كانت تقف أمامه بكل جمالها
ترتدي الحرير الأسود الذي يغطيها من قمة رأسها حتى قدميها...
لكنها كانت تكشف وجهها أمامه...

وجهها الذي لم يره منذ، منذ متى؟
لا يستطيع حتى التذكر، فهو يراها في أحلامه باستمرار...
لكن في الواقع كانت يتهرب منها منذ الأزل، حتى نسي متى كانت آخر مرة نظر فيها الى وجهها كاملا...
وجهها كامل البهاء، و قد زادها العمر جمالا...
ابتسمت سوار و قالت برقة
(اشتقنا والله يا ابن خالي).

كان صوتها القوي الناعم، هو ما جعله يستفيق لحاله، فتمالك نفسه و استدار يوليها ظهره وهو يرد بهدوء أبعد ما يكون عما يعانيه في تلك اللحظة
(أنرت الدار بوجودك يا س، سوار)
ساد صمت قصير، ثم قالت بهدوء
(أنارت بأصحابها يا ليث، ما أنا الا ضيفة بالنسبة لك)
عقد حاجبيه قليلا وهو يميل بوجهه ناحيتها دون أن يستدير لها، و قال بخفوت
(ماذا تقصدين؟، هذا بيت و هنا عائلتك)
عاد الصمت مجددا، الا أنها قالت من خلفه.

(لم يكن العشم يا ابن خالي)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو لا يصدق ما يسمعه، فاضطر صاغرا الى الاستدارة اليها...
و النظر الى وجهها البهي، والله أعلم بحاله...
لكن عتابها له كان أكبر من احتماله، خاصة بعد هذا الفراق الطويل...
و تلك المفاجأة برؤيتها أمامه، الا ترأف بحاله و تتمهل عليه!
قال أخيرا بصوت هادىء، ظهرت به قوة ارادته في اخفاء كل ما يعتمل بنفسه...
(أهذا عتاب يا سوار؟، لماذا؟)
ظلت تنظر اليه طويلا ثم قالت أخيرا.

(و تسأل يا ابن خالي؟، العتاب كلمة أقل من كسرة خاطري بسببك)
التاع قلبه و اختلج...
كان غير مصدقا، سوار أمامه و تعاتبه...
فقال أخيرا بقلق عاقدا حاجبيه
(ما عاش من كسر خاطرك و أنا حي يا سوار)
كان وجهها هادىء، مرسوما، حتى ابتسامتها الرزينة لم تفقدها، لكنها قالت بنفس الصوت الجميل
(أنت كسرت خاطري يا ليث، بعقابك القاسي و الذي لم أتوقعه منك أنت تحديدا)
كان و كأنه يعيش حلما، بل كابوس، لا حلم...

ما بين جمال رؤيتها. و كابوس عتابها ظل معلقا و قلبه يصرخ باسمها...
قال أخيرا بخفوت مذهول
(أنا عاقبتك يا سوار؟)
تابع بصمت دون أن تعلو الكلمات الى شفتيه
و هل يعاقب الرجل روحه؟، الا أن سوار قالت بتأكيد دون أن يجفل صوتها ولو للحظة
(أتعلم ماذا كنت لي يا ليث؟، كنت شيء كبير جدا، كنت معلمي الأول منذ وعيت الى هذه الدنيا، كسرت خاطري بطردي من حياتك بهذا الشكل).

تلجم لسان ليث تماما وهو ينظر اليها، بينما تابعت سوار بصوت أكثر هدوءا
(الزواج قسمة و نصيب، لكن العائلة أبقى، أما أنت فعاقبتني و طردتني فجأة)
فغر ليث شفتيه غير مصدقا لصراحتها المريعة، فقالت سوار متابعة بهدوء.

(هل صدمك كلامي؟، لكن ليست أكبر من صدمتي في تجنبك لي بهذه الصورة القاسية، كثيرة هي طلبات الزواج التي أخفقت في بلدنا لأسباب كثيرة، لكن هذا لم يكن معناه الهجر و المقاطعة، بعد أن أوصتك أمي بمراعاتي، خالفت الوصية يا ليث، يا ابن خالي)
تنهد ليث وهو يبعد عينيه الجائرتين عنها، ثم قال بخفوت
(أنت تظلميني يا سوار)
ردت سوار بهدوء.

(لا، أنا لا أظلمك يا ليث، قد أتفهم سفرك و انشغالك و عملك و كل ظروف الحياة العادية، بل و ادعو لك بالتوفيق من كل قلبي، لكني حتى هذه اللحظة لا أصدق أنك تعاقبني لأنني رفض عرضك ذات يوم، أنت تزوجت و تقدمت في حياتك، لكنك لا تزال تعاقبني)
قال ليث بصوت خافت متعب
(لطالما كانت صراحتك كارثية)
ردت سوار مبتسمة.

(ما دامت صراحتي في الحق فأنا لا أخشى لومة لائم، عامة أنا لن أغضب منك أبدا، يكفي أنك أنت من علمتني مسك السلاح)
رفع ليث عينيه اليها و قال بهدوء حزين
(ليتني ما علمتك يا سوار)
اتسعت ابتسامتها و قالت
(بل ستظل الذكرى الأروع من شبابي، عامة أنا سعيدة أنني أجبرتك على رؤيتي الليلة، فقد يمضي وقت طويل قبل أن ألقاك مجددا).

هل يمكن للقلب أن يسقط صريعا بينما يظل صاحبه واقفا مكانه بشموخ و ثبات، يرفض للإنهزام أن يظهر على ملامحه...
و حين استطاع الكلام، قال بخفوت
(هل أنت، مسافرة؟)
ردت سوار مبتسمة برقة
(نعم، سنستقر أنا و سليم في المدينة أخيرا، لكنني سأعود كلما استطعت، تمنى لي التوفيق)
أغمض ليث عينيه دون أن يجيب، فهمست سوار بقلق
(ليث!، هل أنت بخير؟)
فتح ليث عينيه و تمكن من الإبتسام قائلا بصوت أجوف
(أتمنى لك السعادة).

ابتسمت سوار بارتجاف و هي تشعر بأنها آلمته بشدة، لم تكن ترغب في هذا، الا أن ابتعادها لفترة طويلة جعلها راغبة في أن تلقي بعتابها اليه، و تسافر بنفس صافية...
سمعت صوت تيماء من خلفها
(سوار يجب أن نغادر الآن، أرجوك)
التفتت اليها سوار و قالت
(حسنا هيا بنا لننتظر عبد الكريم، أمامه بضعة دقائق فحسب)
قال ليث بحزم
(أنا سأوصلكما)
ابتسمت سوار و قالت
(شكرا يا ليث، عبد الكريم على وصول)
أمسكت سوار بيد تيماء و قالت.

(الى اللقاء يا ابن خالي، أراك بخير دائما)
قال ليث فجأة دون تفكير
(سوار، غطي وجهك قبل أن تخرجي)
أجفلت سوار و توقفت مكانها تنظر اليه، و في تلك اللحظة هالتها المشاعر الدفينة التي رأتها في عينيه الحزينتين...
ارتجفت شفتيها و قد ألجمتها صدمة مختلفة تماما، لكنها قالت بخفوت
(أنا لا أغطي وجهي، لا أغطي وجهي الا أمام من لا أثق به)
نظر اليها طويلا قبل أن يقول.

(لطالما كنت عنيدة، و ستبقين، غطي وجهك فهناك عشرات الرجال في الخارج)
أطرقت بوجهها، و هي تدرك فجأة أنه لم يكن مجرد عرض زواج و انتهى!
ياللهي!، معقول؟، بعد كل تلك السنوات؟
قالت سوار بهدوء
(سليم لم يجبرني يوما على تغطية وجهي، الى اللقاء يا ليث)
تحركت خطوة و هي تجر تيماء التي كانت تنظر اليهما بحيرة، و ما أن مرت به حتى قالت
(لماذا لم تطلب مني تغطية وجههي؟).

أجفل ليث و تراجع رأسه وهو ينظر الى تيماء للمرة الأولى قائلا بارتباك
(عذرا!، )
الا أن تيماء لم ترحمه بل قالت مكررة
(طلبت منها أن تغطي وجهي و تجاهلتني تماما، ألست أنثى؟)
فغر ليث شفتيه و هو لا يعلم ما يقول، و زاد ارتباكه على الرغم من سنوات عمره التي تقارب الأربعين...
الا أن سوار جذبت تيماء بقوة و هي تقول صارمة
(توقفي عن ذلك و هيا بنا)
نزلتا السلالم جريا، و ما أن ابتعدتا حتى قالت تيماء.

(هل رأيت كيف أحرجته؟، من هو ليأمرك بتغطية وجهك!)
لم ترد عليها سوار، فقد كان ذهنها شاردا و نادما على عتابها الأحمق...
أما ليث، فقد وقف مكانه ينظر الى اختفائهما السريع بين الجموع...
و ملامحه الهادئة كانت تخفي خلف واجهتها الرصينة، قلبا ينزف...
فهمس أخيرا
(لم أكن أعاقبك يا سوار، لم أكن أعاقبك أبدا).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة