رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وعشرة
اتسعت مُقلتيه في دهشةٍ، وفرحة أحاطت قلبه المكلوم، أخيه يذكره بأخر جملة كانت بينهما قبل سفره مباشرة، يعلن له أنه استرد كل ما فاته من ذكرياتٍ جمعتهما معًا.
نهض علي عن الأريكة وإتجه إليه بخطواته المتهدجة، الحاملة للدهشة، بينما مازال يقف عُمران في مواجهته، عينيه تغرقان بالدموع، الترقب، اللهفة لضم أخيه مجددًا، فبتلك اللحظة يشعر وكأنه تغرب عنه لأعوامٍ، فيود أن يدفنه داخل أضلعه ليعوض حنينه الهادر إليه.
يقف الآن قبالته، يبكي بفرحة، ومن أمامه نظرات عُمران التي تئن ألمًا على وجعه الناطق به رماديتاه، فلم يقوى أن يقف محله طويلًا، يشتاق لعناقه، غمرة من حنانه، فإذا به يهرع إليه ويديه تحيط ظهر أخيه بقوة، طابعًا قبلات على كتفه، فإذا ب علي يبتسم ويحاوطه بحبٍ، تحرر صوت عُمران المتحشرج أخيرًا: أنا عذبتك كتير يا علي، أنت بتدفع تمن أي اختبار صعب أنا بمر بيه.
شدد من لف ذراعيه من حوله، وقال وصوته إنغمس فيه البكاء رغمًا عنه: وأنا وإنت أيه يا عُمران، إنت متخيل إني ممكن أكون كويس لو إنت فيك حاجة، يا حبيبي إنت لو فيك خدش وجعه أنا اللي بحس بيه مش إنت، عمرك ما هتفهم كلامي ولا معزتك الكبيرة عندي الا لما ابنك يشرف، وتشوف إنت هتعمله أيه وهتتعامل معاه ازاي.
انهمرت دموعه على كتف أخيه، الذي شعر بها، فنهره رغم أنه يبكي هو الأخر: طول ما دموعك نازلة مش هبعدك عني لإني مش هتحمل أشوفها، وبعدين أيه جرالك مش كنت مبتحبش حد يشوفك ضعيف!
ابتسم عُمران من بين دموعه، وقال: إنت شوفتني في كل مراحل ضعفي تقريبًا، فمش فارقلي تشوفني وأنا بأي حالة، كل اللي عايزه إنك تكون جنبي ومعايا يا علي.
بعد رأسه للخلف، جابرًا إياه على الابتعاد عنه، قائلًا: وأنا عمري بعدت عنك؟ أي حرب أنت داخل فيها هتلاقيني جنبك في نفس الصف بحارب معاك، أنا أفديك بروحي يا عُمران!
ابتسم وهو يزيح دموعه، ليفاجئه حينما مال يطبع قبلة أعلى جبينه، احترامًا وتقديرًا له، هامسًا: أنا لو حربي فيها خسارة أو أذى ليك مش هدخلها!
واسترسل بمحبةٍ: بدعي ربنا إنه ميفرقش بينا أبدًا.
ربت على ظهره بحنانٍ، فإذا به يتركه ويتجه للأريكة، وعينيه تتطلع تجاهه بنظرة علم مغزاها، فضحك بصوتٍ مجلجل، وإتجه يتخذ من أخر موضع بالأريكة محلًا له، فمال عُمران على ساقه فور أن جلس على الفور.
مرر على يده على خصلات شعره النابت بغزارة، مداعبًا فروة رأسه بحركاتٍ مختصة لصنع مساج مريح، ساعده على الاسترخاء، فاذا به يغلق عينيه بتعبٍ جعله يندرج خلف نومه بسرعة فائقة.
قلق بمنامته على صوت بكاء صغيرته، فتح يوسف عينيه بانزعاجٍ، فوجد زوجته تحمل ابنته وتجلس بها على طرف الفراش، تحاول أن تخمدها للنوم ولكن دون جدوى، تميل من فوق الحامل الخشبي للفراش بتعبٍ واضح على ملامحها المجهدة، فاذا به ينهض عن محله، ويتجه إليها يحمل عنها الصغيرة، فمالت عليه تسند رأسها لصدره وتمتم بتعبٍ: مش عارفة مالها يا يوسف، بتعيط ومش راضية تنام أبدًا.
ضم مؤخرة رأسها بيده، ويده الآخرى تحمل صغيرته، وبحنانه الملموس قال: كل الاطفال بيبقوا كده في العمر ده يا حبيبتي، ارتاحي وأنا ههتم بيها.
أغلقت عينيها ومازال رأسها مسنود إليه: بس إنت عندك شغل الصبح بدري.
رد عليها بابتسامة روت فيها زرعة حبهما وهو يضم وجهها بيده: وفيها أيه، هعتبرني نزلت الشغل من دلوقتي، زي ما بيجيلي حالات طارئة بتخليني أنزل بأي وقت، ارتاحي ومتشليش همي يا لوليتا.
طبعت قبلة على كفه، وزحفت للفراش تتمدد من فوقه بإرهاق، ويده تتبعها بالغطاء، يداثرها بكل محبة، ومن ثم أغلق الضوء وخرج بالصغيرة للردهة حتى لا يزعجها بمنامتها.
حاول يوسف قدر الامكان تهدئتها، كان يمر بها ذهابًا وإيابًا، ولكنها لم تكف عن البكاء، حملها برفقٍ ومازال يحاول أن يسيطر على بكائها، حتى أتاه صوت جرس المنزل، تحرك بها يفتحه، فتفاجئ بأخيه من أمامه يتثاءب بنومٍ، وهو يسأله: مالها نوجة؟ صوت عياطها واصلني.
رد عليه يوسف، ومازال يضمها لصدره: مش عارف مالها يا سيف، بتعيط ومش راضية تسكت مع إنها لسه أكلة ومغيرة وكله تمام.
هز رأسه بخفة، ومال يحملها عنها، بحنانٍ زحف لأطرافه قبل أن يصل لجملته: روح قلبي إنتِ، مالك يا صغنن؟
إتجه بها لاريكة الصالون الخارجي، وضعها من فوقها، ثم شرع برفع ثيابها العلوية، كاشفًا منطقة البطن، وبدأ بيده يتفحصها، وما أن انتهى حتى قال مبتسمًا: الهانم مش بتتدلع عليك يا جو، هي فعلًا عندها سبب للازعاج اللي عاملاه، شوية انتفاخ بساط وهيروحوا لحال سبيلهم.
ورفعها يقبل وجنتها بحبٍ ولطف: ألف مليون سلامة عليكِ يا قلبي، بتعاني مع شخص مش فاهم إنتِ فيكِ أيه، وكل أدلته إنك أكلة ومغيرة البامبرز!
ربع يوسف يديه أمام صدره، والغيظ يتراقص على ملامحه المتهكمة: والشخص ده كان أيه الأدلة المعتمد عليها مع سيادتك؟ ولا كنت ماشي معاك ببركة ربنا أنا!
ضحك بصوتٍ مجلجل، وقال يجيبه بينما يرتب ملابس الصغيرة: الخبرة لوحدها متأكلش عيش حاف يا جو، يؤسفني أقولك إنك وللاسف هتحتاجني معاك في الطلعة دي، والطلعة مطولة أوي، فلازم نتمرن على الإحترام المتبادل بينا ديل؟
رفع أحد حاجبيه بامتعاضٍ من حديثه، وبخبثٍ أجابه: وماله يا سيفوو، الدنيا خد وهات، وبما إنك على وشك إنك تدخل دايرة اللفافة لما زينبو تشيل جنين سمج زيك عن قريب إن شاء الله، فأنا يؤسفني أقولك إنك وللأسف هتحتاجني معاك في الطلعة دي.
حمل سيف الصغيرة، ورفعها لكتفه، بينما يطعن يوسف بنظرة ازدراء جعلته يضحك بملء ما فيه، فتمتم سيف بسخرية: شكلك عندك كبت من ساعة ما مامتك قعدت معاك هنا، فأنا عذرك وهدعمك قلبًا وقالبًا تفك شوية بدل التكشيرة اللي خابطة في وشك ومساوياه بالأسفلت ده.
تلاشت ضحكته تدريجيًا، حينما ذكره بما يضيق به صدره، فتحرك بآليةٍ تامة يحضر الدواء المخصص لعلاج الانتفاخات، ثم جذب الصغيرة منه يلقمها الدواء بخفةٍ.
امتعضت ملامح سيف حزنًا حينما لمس انزعاج أخيه، وعلى الفور استشفى أن وجودها قد خلق هالة من الانزعاج له، وما كاد بالاقتراب منه حتى وجد والدته تخرج من احدى الغرف، هاتفة بحنقٍ: هو احنا مش هننام النهاردة ولا أيه؟ أيه صوت الازعاج ده!
قالتها بعدما خرجت تغلق باب الغرفة، وملامحها يحتلها الضيق والنفور، فتفاجئت بوجود سيف برفقته، يطالعها بغضبٍ من طريقتها، وحينما وجدها استدار يغادر من أمامها، حتى لا يشتبك معها بالحديث المنزعج، فاذا بها تهاتفه بنزقٍ: هي الهانم محرجة عليك تكلمني ولا أيه؟
وقف قبالة باب الخروج، يستدير لها ببطءٍ مستفز، حتى واجهها: أنا كنت مستغرب على صمتك الغريب ده، بس اتفسرلي دلوقتي، عدم وجودي أنا وزينب هنا امبارح مدكيش فرصة تبدأي الحرب!
تصنعت براءتها التامة من اتهاماته: حرب أيه اللي بتتكلم عنها، طبعًا أنا هتوقع أيه من واحدة تربية شوارع.
تنهد يوسف بقلة حيلة، مهما فعل لن ينجح بايقافها عما برأسها، وها هي تعلن لجام الحرب على شقيقه بتلك اللحظة، وقد قرر سيف أن يخوضها حتى وإن أنهكته هو الأخر، فنطق بعنفوان: مراتي مش تربية شوارع، ولو مصرة تشوفيها بالشكل ده هتبقي بتخسريني أكتر من كده.
ضحكت بتهكمٍ: هو أنا لسه هخسرك، ما خلاص الهانم خسرتك كل اللي حوليك، وأولهم أنا والله أعلم شكل علاقتك بأخوك بعد دخولها حياتك بقت عاملة ازاي.
حمل يوسف صغيرته للداخل، ثم عاد يقف قبالة والدته وأخيه، يحاول إنقاذ الموقف قبل أن يزداد بينهما: ماما من فضلك ممكن تهدي شوية، سيف مقالش حاجة تستدعي عصبيتك دي كلها.
تعالى صوتها بعنفوان: كل ده ومقالش حاجة، لسه منتظر يقول أيه تاني يا دكتور!
فتح يوسف باب شقته وجذب ذراع أخيه يحركه: سيف ارجع شقتك دلوقتي.
وقف محله يتطلع لوالدته بضيقٍ: لا يا يوسف مش راجع، أنا عايز أشوف أخرة اللي بيحصل ده أيه، ومش فاهم هي بأي حق واقفة وبتتكلم، وهي عمرها ما اتدخلت ولا ظهرت في حياتنا أصلًا، فجأة افتكرت إن ليها أولاد!
أصر يوسف على إخراجه، قائلًا بحزمٍ قاطع: سيف اخرج حالًا، مش هكرر كلامي مرة تانية.
سحب بصره عن والدته وتتطلع لأخيه بغيظٍ من اصراره الغريب، وانسحب على الفور حتى لا يحرجه أمام تلك التي تنتظر أي فرصة للشماتة، وبمجرد غلق الباب من خلفه، احتمل على ظهره بجبينه يحاول أن يصل لمرحلة من السلام النفسي قبل أن يخوض ما جبر عليه، فإذا به ينتزع نظارته الطبية ويستدير بطريقه تجاهها، وقف يتطلع لها بنظرة غائمة بالحزن والانكسار، وبصوته المتحشرج قال: عايزة توصلي لأيه باللي بتعمليه ده يا أمي؟
ربعت يديها أمام صدرها، وبفظاظة قالت: إنت غلطت لما قومت بدوري أنا وأبوك وجوزته من غير ما ترجعلنا، صحيح ليلى كانت اختيارك بس متجوزتهاش الا بموافقتنا، وأنا بقى مش موافقة على البنت دي يا يوسف.
ارتسمت ابتسامة غامضة على وجهه، ومعاها يلوح شعاع الألم القارص، بانتهائه تحررت كلماته الواثقة: وده مش هيحصل، مش لان سيف رافض لأ لاني مش هسمحلك تخربي حياته، لحظة ما رجعتي معايا الشقة فكرتك حنيتي تكوني قريبة مننا ومن حفيدتك، بس اللي عملتيه ومازالتي بتعمليه بيأكدلي أني كنت غلطان، كل اللي بتفكري فيه هو الشر لزينب، حتى لو هتكوني بتهدمي حياة ابنك، كل ده مش مهم المهم أنك ترضي غرورك.
صاحت بصوتٍ آمر: متنساش نفسك يا يوسف.
واجهها بشراسة لم يمتلكها يومًا في حضرتها: مش ناسي نفسي، أنا بحاول أفوقك من الدوامة اللي انتي فيها، أنتِ مش شايفه انك بالفعل خسرتينا!
رددت وهي تحل عقدة ذراعيها ببرود: يعني أيه؟
ابتلع ريقه ببطءٍ، وهو يتخذ قرارًا سيؤلم قلبه، ولكن حرصًا منه على حماية حياة أخيه: يعني حضرتك مش مهتمة بالقعدة هنا عشان حفيدتك ولا عشاني ولا عشان سيف، يبقى الافضل متبقيش هنا، لاني مش هسمحلك تخربي حياة سيف بعد ما وصل للاستقرار في حياته مع زينب.
واضاف بنبرة وضع فيها كل قوته: انا بانتظار حضرتك بعربيتي، هوصلك للفيلا أكيد بابا وحشك أو على الاقل هو حس بغيابك، ده لو مكنش الشغل سحله لدرجة إنه محسش بغيابك أصلًا.
قالها بسخرية ألمتها حينما أرشدها عقلها لتلك البقعة، لقد بقيت بمنزل يوسف ليلتين ولم يهاتفها ولو لمرة واحدة، شعرت بالضياع بتلك اللحظة، وكأن ما جنته وفعلته نهايته خسارة فاضحة لكل شيئًا حولها.
تحركت تبدل ملابسها، وهبطت تعتلي السيارة جواره بصمتٍ، وتقبل تام لحياتها التي صنعتها على قضبان شبيه بالقطار، يتوازيان ويمر من فوقهما بسرعة ثابتة، حتى اعتاد كلاهما على بعضهما البعض!
خرجت من جناحها، ترتدي بذلة سوداء اللون ومن أسفلها قميصًا أبيض اللون، عاقدة من فوقه حجابها الوردي يتماشى مع حذائها الوردي، وبيدها تحمل حقيبتها المخصصة لحاسوب عُمران الشخصي، الذي بات يخصها بالشهور الاخيرة.
خطت تجاه الدرج وقبل أن تندرج إليه، وجدته يتجه إليها مبتسمًا، وبتلك اللحظة يميل على حامل الدرج مستندًا عليه، ومتسائلًا بثباتٍ: على فين بدري كده؟
قوست فاطمة حاجبيها باستغرابٍ، لقد اعتادت على نسخته الغريبة، والتي كان يكتفي بمنحها بسمة مقتضبة من بعيدٍ، صعدت الدرج إليه مجددًا، وقالت: في اجتماع مهم جدًا متحددلنا من شهرين مع شركة فرنسية، المفروض كنت هتحضره مع بشمهندس جمال، فأنا هحضره بالنيابة عنك لإن تفاصيل المشروع كله كانت معايا من قبل فقدانك للذاكرة.
اتسعت ابتسامة عُمران، وقد تألقت نظرات الفخر بعينيه، وصمته الغامض بات يثير فضولها، وخاصة حينما هتف بتسليةٍ: مش دي الشركة اللي طلبت مننا ننشئ ليهم مقر جوه مصر، لمصانع الشوكولا الفرنسية الخام بتاعتهم.
اتسعت مُقلتي فاطمة بشكلٍ مبهر، بينما يأتي زوجها من خلف أخيه، يحيطها بنظراته الحنون، ونبرته الرخيمة: صباح الخير يا حبيبتي، معقولة نازلة من غير ما أوصلك، كده أكيد وراكي حاجة مستعجلة صح.
قالها وهو يرنو إليها، ومازالت تتطلع هي تجاه عُمران بصدمة تسيطر على حواسها، وقف على جوارها وسألها باهتمامٍ: مالك يا فطيمة؟
سحبت بصرها عن عُمران ومالت تهمس لعلي بخوفٍ: عُمران فاكر تفاصيل المشروع اللي كان ماسكه قبل الحادثة!
اتسعت ابتسامة على وقد تفهم الإن ما أصابها، فما كاد بأن يخبرها هذا الخبر السعيد، حتى أتاه صوت عُمران يشاكسها من جديد: كنت هزعل أوي لو على كان استغل فقدان الذاكرة ونجح باغراءاته المتواضغه يخليكي تشتغلي معاه بالمركز، حقيقي أبهرتيني بانجازاتك دي يا فاطمة، وخصوصًا اصرارك على تكملة المشروع حتى بعد اللي عملوه معايا.
تنحت عن صدمتها، بابتسامة مشرقة، بينما تهتف بسعادة معرفتها بعودة ذاكرته: حمدلله على سلامتك، وأخيرًا!
أشرقت ملامحها سعادة، والتفت تجاه على بفرحة لرؤية تأثير هذا الخبر عليه، فمال يضمها قائلًا: اتفاجئت بيه من شوية، حاسس بارتياح بعد فترة كبيرة من التعب.
رد عليه عُمران ووخذة الألم تصاحب صوته المحتقن: قولتلك إني مش بسببلك غير التعب والوجع مصدقتنيش.
ضحك قائلًا: على قلبي زي العسل يا وقح.
شاركتهما فاطمة بالضحك، وقالت: طيب والله فرحانه أن الذاكرة رجعتلك قبل الmeeting ده، كل التيم الفرنسي شايف نفسه ورافعين مناخيرهم فوق، وأنا والبشمهندس جمال مش عارفين نتعامل وشايلين هم المقابلة دي جدًا، فكده أنا هستناك تحت تدخلهم دخلتك اللي يستاهلوا يشوفوك بيها.
اتسعت بسمته، وانتصب بوقفته الغير مريحة قائلًا: ورايا مشوار مهم ممكن اخلصه بعد ساعتين تلاتة كده وبعده نبقى نروح نشوف حكايتهم أيه.
وأتجه لجناحه مستطردًا بخبث: بلغي توصياتي لحسام، خليه يكرم ضيوفنا لحد ما أوصل.
ضحكت بصوتٍ طرب أذني على الذي ابتهج لفرحتها، بل ورددت بفرحةٍ: يستاهلوا بصراحة، هسيبهم في قاعة الاحتماعات لأربع ساعات مش ساعتين.
لف على ذراعه من حولها، وقال وهو يداعب جبهتها بجبهته: بقيتي شريرة يا فطيمة، ولا أنا فاهم غلط وعُمران هو اللي عداكِ!
مالت إلى صدره ترتوي بأمان ضمته الحنونة، قائلة بمشاكسة: لا دي ولا دي يا دكتور، تقدر تقول إن كل ست بتخبي مخالبها لوقت تحتاج فيهم ظهورها، والظهور ده متوقف على دعم معين، والدعم المعين ده هو البشمهندس عُمران سالم الغرباوي، اتفهمت؟
تمايل رأسه للخلف من فرط الضحك، حتى كاد أن يسقط بها عن الدرج، ولكنه تحامل على الدرابزين الذهبي، بينما يهتف باستنكارٍ: إنتِ عندك شك إنك ممكن تكوني مش مفهومه لبابي يا فطوم؟
عبثت بمكرٍ ومالت تتطلع له بسخرية: بابي! هو إنت مش كنت بابا عُمران وشمس، بقيت بابي أنا كمان يا دكتور؟
لف يديه من حولها ومال يجيبها بابتسامة سحرتها: أنا أي مسمى هتحتاجيه في حياتك يا فاطمة، وبعدين أنا حابب أدلعك قبل ما ابننا أو بنتنا تشرف، عايز أتعود أسم حناني واهتمامي عليكم انتوا الاتنين، عشان كده هتلاقي نفس المعاملة مني ليكي عشان متغريش.
واستطرد حينما وجدها تهيم بعينيه: مقنع أنا صح؟
لا بكاش كبير أوي يا دكتور.
قالتها فريدة وهي تشرف عليهما، بعدم تصديق لخروج ابنها العاقل عن هدوئه لقمة مشاغبته على درج القصر الرئيسي مع زوجته التي كادت بالانصهار خجلًا، تراجع على للخلف يتأمل والدته بحرجٍ، تخلى عن حشرجة تخرج بين الحين والآخر، وقد أجزم أن الفرق بينه وبين أخيه فرق السماء والارض، فإن كان هو بنفس موقفه لعلم كيف يسيطر عليه بسرعة الرياح، ولكنه بتلك اللحظة يشعر وكأن وعاء من الثلج ينسكب من فوقه من شدة الحرج!
وقف أمام المرآة يتطلع للمرة الأخيرة لطلته الجذابة، عينيه شاردة بشعره القصير، ومظهره الجديد، استعاد جزء كبير من ثقته الهادرة بعد عودة ذاكرته، شعر وكأنه استرد شيئًا غاب عنه، وبعودته اكتمل!
سحب البرفيوم الخاص به، ينثر من فوق بذلته السوداء، وساعته الباهظة تلمع حول معصمه، بينما رماديتاه شاردة بانعكاس ظل زوجته، التي تراقبه من خلف باب الخزانة الضيق، لاح على وجهه ابتسامة صغيرة، وقال دون أن يستدير تجاهها: مش هتملي وإنتِ بتراقبيني؟
زارت ابتسامتها شفتيها، وقالت تجيبه: لا مش همل، ولو فضلت لساعات طويلة.
استدار بكامل جسده بمواجهتها، وبنظراته التي اعتادت عليها منه قال: متهونيش عليا يا بيبي.
وفرق ذراعيه يخبرها بحبٍ: أيه رأيك تقربي؟
رنت إليه بخطواتٍ متمهلة، وبقيت على بعدٍ منه تحذره حينما وجدته يهم على ضمها: شعري مبلول.
تجاهل حديثها وضمها إليه، فمالت على كتفه تستكين ودموعها تتلألأ بعينيها المختبئة عن أنظاره، ولكنه شعر بها، فحاوطها داخله وقال وهو يطبع قبلة أعلى جبينها: بتداري نفسك مني ليه يا مايا، وجعك في بعدي وصلني في كل لحظة كنت بعيد وقريب منك، أنا اتسببتلك في وجع كبير مهما أحاول أدويه مش هعرف.
أطبقت بأصابعها على جاكيته من الخلف، بينما تخبره بلهفةٍ: قربك هيداويني، خليك جنبي.
مرر يده على خصلاتها بحنانٍ، وبرفق أبعدها تقابل نظراته التي اخترقتها، فجعلته يسألها بشكٍ: أيه حصلك في غيابي، إحكيلي يا مايا، احكيلي وهوني عن نفسك.
انهمرت دموعها رغمًا عنها، فحاولت تصنع ابتسامة رقيقة: هيحصلي أيه يألم أكتر من فقدانك يعني! بعد الوجع اللي عشته لما جاني خبر موتك كل وجع بعده كان هين وقدرت أتحمله.
لمس ما تحاول تخبئه عنه، فضم وجنتها بيديه وقال: أيه اللي حصل تاني، احكيلي.
تزاحمت دموعها بعينيها، والخوف يغلب بحفاوته عليها، فمحت بكل تأكيد الجزء الخاص بوالدته، وقال ببكاء: انكشفت الوشوش على حقيقتها يا عُمران، وأولهم بابا، متوقعتش أنه يكون بالقسوة دي، مهمهوش اللي أنا بمر بيه ولا اللي بعيشه بعد فراقك، كل اللي همه هو إنه يستغلني في نسب يربطه بشخص مرموق يضمن بيه مركزه الآرستقراطي اللي ببسعى ليه!
احتقنت عينيه بجحيمٍ خانق، بينما تؤكد على صدق ما يجتاحه حينما استكملت: كان عايز يجوزني غصب عني، وأنا واثقة إنك عايش وراجعالي، ولولا على واقفله وحبسه كان نفذ اللي في دماغه.
اعتصر قبضته حتى كادت أوردته أن تنفجر بتلك اللحظة، ولولا أن شعر برأسها يرتكن على كتفه ما كانت إرتخت من أسفل رأسها، بينما تشكو له باكية: مكنتش حاسة بفرح ولا بحزن بعد حبسه، كل اللي حسيت بيه هو الراحة من شره، مش قادرة أتخيل إنه فقد مشاعره بسبب قسوته، لدرجة أنه مفرقلوش اللي بمر بيه.
وانفجرت باكية، وهي تشكو له: مهتمش حتى لحياتي أنا وابني، كل اللي همه أنه يخرجني من المركز بالغصب.
ورفعت عينيها تتطلع لشرارة الغضب التي استيقظت: كنت محتاجالك ومستنياك تيجي تقف في وشه، بس إنت اتاخرت أوي يا عُمران.
ابتلع ساتر الألم بمرارةٍ، وقال بوجومٍ: غصب عني يا عمري، كل اللي فات وعيشتيه منتهاش يا مايا، صفحته أنا اللي هطويه وبايديا.
ونظر بعمق عينيها ونطق بوعدٍ: أقسملك بالله العلي العظيم لأنتقملك وأردلك حقك من كل شخص وجعك في غيابي!
تلاشى وجعها وارتسمت ابتسامة عاشقة لحبه الكبير لها، بينما تميل تجاهه: مش عايزاك تأخد حق اللي فات، عايزاك تكون جنبي وتعوضني.
وأضافت بمرحٍ: وخصوصًا لما افتكرت الحربوقة الصفرا، فاكر ولا نسيت.
رفع عينيه يتطلع لسقف الغرفة، مرددًا: حاسس أني فقدت الذاكرة تاني، آه الحقيني يا مايا، بدوخ وهقع منك تاني.
تناثرت ضحكاتها، ولكزته بغيظٍ: عُمران!
ابتسم وانحنى يقربها إليه، مرددًا بصوته الدافئ: حبيب قلبه وروحه أنتِ يا مايا.
تلاشى حزنها ومالت تتعمق برماديتاه بعشق: وحشني كل حاجة فيك، حتى كلامك.
غمز لها بمشاغبة وهو يحملها عن الرخام الفخم: وأيه تاني وحشك فيا يا بيبي، احكي كلتا أذناي تستمع.
ردت مسرعة: وقاحتك موحشتنيش على فكرة!
عبث بعينيه بشكلٍ أضحكها: يعني الاقوال بس اللي وحشتك؟
ضحكت وهي تهز رأسها بكل تأكيد، فعاد يضعها أرضًا بتذمرٍ جعلها تكاد تسقط في نوبة من الضحكٍ، جعله يشاركها الضحك بينما يغمز لها مجددًا: عمومًا أنا كان ورايا مشوار مهم بقوا مشوارين، وورايا ميتنج ويوم طويل فلو اشتاقتيلي لاغيني، سلام يا بيبي.
قالها وانطلق للاسفل، وصوت ضحكاتها يصل لملامحه التي عادت تتجلد بقسوة فور ان استعاد حديثها عما فعله أبيها بغيابه عنها.
هبط مسرعًا يتجه للچراچ الخاص بالقصر، فإذا به يرى نعمان يهبط من سيارته، راكضًا صوبه بابتسامة واسعة، يناديه بكل لهفة: عُمران.
وقف محله يراقبه بنظراتٍ غامضة، يخفي من خلفها غضبه الجحيمي، بينما يسترعى هدوئه واتزانه لكشف الوجه الخفي خلف تلك البراءة التي وجدها مصطنعة.
دنى إليه نعمان حتى وقف أمامه، وقال بحبورٍ: عامل أيه يا حبيبي، طمني عليك؟
شمله بنظرة ساخرة، وبصعوبة حجب وقاحته، وقال بخبث: هو إنت مش كنت عندي في الشركة واتطمنت عليا! ولا لحقت أوحشك يا خال!
لم يلتقط أخر لقب قد يسترعى انتباهه لعودة الطاووس، بل ألقى ما بجعبته حينما قال بندمٍ: أنا كنت جاي أوضحلك سوء التفاهم اللي حصل بيني أنا وجمال صاحبك.
استرسل عُمران جملته الساخرة: سوء تفاهم! آه انت تقصد لما طردك من المكتب!
وأضاف بمكر واستمتاعًا: أنا معرفش أيه اللي بينك وبينه، هو رفض يتكلم فلو حابب تحكيلي إنت اتفضل أنا سامعك.
لعق شفتيه بتوترٍ، وقال: اللي حصل كان من الماضي يا ابني، ومش عايز أرجع افتح فيه تاني، كل اللي عايزه وبتمناه إنك تسامحني يا عُمران.
رمقه بسخطٍ وسخرية، يلف ويدور بالحديث ولا يملك الجرأة للحديث عما فعله، ومع ذلك حبذ عُمران استغلال ما يفعل، وأدعى البلاهة قائلًا: أسامحك على أيه؟ مش سوء التفاهم بينك وبين جمال، أنا داخلي أيه؟
تهرب من التطلع تجاهه، وقال بوجع: لا إنت فاهم غلط، أنا زمان وقعت بينك وبينه، وعملت حاجات كتيرة غلط، فدلوقتي طالب سامحك وعفوك.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي عُمران، ورد: وقعت بيني وبينه! يا شيخ هون عن نفسك وقول أن الغل ركبك وخلاك ترتكب اللي الشياطين نفسهم ميفكروش يعملوه، لا وفاكر أنك هتقدر عليا وأنا فاقد الذاكرة وهتخليني أسامحك، بس سبحان الله حظك طول عمره نحس زيك يا خال، حتى التوقيت اللي بتظهر فيه بيبقى شبه وشك بالظبط.
جحظت عينيه في صدمة، وبالرغم من ذلك ابتسم وهتف بتلعثمٍ: بجد الذاكرة رجعتلك؟
لوى شفتيه بتهكمٍ: تخيل!
واستطرد وهو يتخطاه: عن إذنك بقى ورايا مشاوير مهمه.
لحق يه يسد طريقه: سامحني عشان خاطر ربنا، وحياة أغلى حاجة في حياتك.
نزع نظارته الشمسية وزفر بضجر: وأنت تعرف ربنا! وبعدين مالك يا نعمان سبت طرق العوالم وقلبت فجأة كدليه! لو حواري مع الخنازير دول صحى الوطنية جواك فاركنها تاني أنا رجعت صالب طولي وقادر أرد الضربة بألف، ولو خايف من قلبتي فمتقلقش لو كنت ناويلك على الشر كنت عملته من زمان.
تدفقت دموعه على وجنتيه وردد: مش عايز منك غير إنك تسامحني، أنا غلطت في حقك كتير، وإنت مقدمتليش غير آ.
قاطعه عُمران بضيق: بلاش تسلك الطريق ده معايا لانه مقفول، مش هقدر أتعاطف معاك مهما عملت، ودلوقتي أوعى من طريقي أنا مش فاضيلك.
تشبث بكتفه كالغريق، وقال يترجاه: هي كلمة صغيرة مش هتعطلك عن مشوارك المهم، قولها وريحني بيها وحياة اغلى حاجة عندك.
استدار إليه يتفحصه عن كثب، وبصمت قطعه بعد فترة: اللي يسمعك يصدق إنك سبت طريق أبو لهب وسلكت طريق النجاة من النار، ما تجيب من الاخر وتقولي فيك أيه يا نعمان!
وأضاف باستهزاء: وبلاش ترسم دور قليل الحيلة ده لحسن مبياكلش معايا، أنا راسملك مشهد مبيرحش من بالي، مشهدك بين الغوازي والعوالم، فاكرهم يا خال؟
ابتسم بوجعٍ، ورد: وعمرهم ما يتنسوا ولا يروحوا من بالي، أنا عارف إني كنت وحش معاك، بس الحلو اللي شوفته منك وجهني للسواد اللي جوايا، وعرفني واصل جوايا لأي مدى.
وأضاف ودموعه تتدفق على وجنتيه: لحظة ما عرفت بالحادثة بتاعتك كنت هقع من طولي، اتمنيت تكون دي أخرتي أنا مش أنت.
حك لحيته النابته بحافة نظارته، بينما يتتطلع له ببرود: ده إنت حكايتك باينها حكاية عايزة ميزان وجهاز كشف كدب وحوارات، عمومًا ليك روقة، أفوق بس وهيبقالنا لقاء.
ابتهجت معالمه فرحة، ومد كفه برقم يقدمه له: ده رقم الاوتيل اللي أنا نازل فيه، كلمني بأي وقت وهجيلك.
وزع نظراته بينه وبين الورقة بذهول: وإنت نازل في أوتيل ليه؟
امتقع وجهه بحرجٍ، فضحك عمران والتقط الورقة متمتمًا بسخط: وهتكون نهايتك أيه يعني غير الطرد من بيت الزوجية، خلي العوالم وجوازتك الشمال تبقى تنفعك يا خال.
ابتسم وهو يجيبه: عقاب وقابل بيه، اللي مأثر فيا الاولاد وحشوني أوي.
وخز قلبه بعدما لمس صدق نبرته، فاستدار إليه بعدما تخطى أخر الدرج الخارجي، يخبره بتهكمٍ: وإنت بايدك تنهي العقاب ده، لو شغلت مخك الشمال ده واستغليته جوه بيتك مش بره مع العوالم، اتلحلح ببوكيه ورد، احفظلك كلمتين من اللي بتنقط بيهم الغوازي وخش بيهم على ملك هانم هتأكل بيهم دماغها، من الاخر انحرف جوه مش بره يا نعمان.
قالها وانصرف يتمتم بسخرية: أنا اللي هعلمك! ده أنت تربية عوالم يا خال!
تعالت ضحكاته حتى مال جالسًا على الدرج الخارجي، بينما يتجه عُمران صوب الچراچ، صعد لسيارته الرياضية وانطلق بها في نفس لحظة انطلاق صرخة العامل: الدكتور على منبه إن حضرتك ما ترك...
تقاطعت حروفه بنفس لحظة خروج عُمران بسيارته غير مباليًا بما يقُال!
صعدت فاطمة بسيارة علي، الذي دوام على إيصالها بالفترة الأخيرة، مالت بمقعدها تجاهه وقالت بفرحة منطوقة: انا فرحانه أوي إن عُمران رجعتله ذاكرته.
أدار مقبض القيادة، وقال يجيبها بابتسامته الرزينة: من ساعة ما عرفت وأنا حاسس إني طاير من السعادة، كنت حزين وأنا شايفه تايه ومكسور.
مدت كفها لكفه الممدود، ورددت بصوتها الرقيق: كل ده عدى وانتهى، اللي جاي هيعوضنا كلنا عن الفترة الصعبة اللي عشناها، صح يا علي؟
ثبت المقبض بيد وسحبها لأحضانه بينما يقبل اعلى جبهتها بامتنانٍ لوجودها جواره: صح يا قلب علي، اللي جاي هيطوي مرارة اللي عشناه.
اغلقت عينيها ومالت على صدره باسترخاء، فاذا بهاتفها يدق معلنًا عن رقم شقيقتها، فتحت الهاتف وما أن وضعته على أذنها حتى ابعدته بانزعاجٍ من صوت سيف وزينب، وما وصل لها صراخها: فطيمة هاتي على وتعالوا حالًا أنا خلاص هطلق من الشخص الأناني ده.
اغلقت زر الهاتف، وتطلعت لعلي المندهش، اعادت الهاتف لحقيبتها وقالت والصدمة مازالت تستحوذ عليها: زينب عايزانا نروح نطلقها من سيف.
توسعت حدقتيه في صدمةٍ: أيه؟
عكس علي طريقه، وإنطلق لشقة سيف، صعدوا بالمصعد للطابق المحدد، حتى وصل كلاهما لباب المنزل، فاستقبلهما صوتهما الصاخب، استدارت فاطمة لزوجها وقالت وهي تبتلع بتوتر: هما صوتهم عالي أوي كدليه يا علي؟
منع ضحكاته من الانبلاج لمظهرها، فلف ذراعه حولها وقال: متخافيش يا فطيمة، هيطلع موضوع بسيط إن شاء الله.
ومال يقرع الجرس مرة تلو الأخرى، حتى ظهرت زينب من امامهما تشير له باكية: كويس أنك جيت يا علي، إدخل بسرعة.
ولجوا معًا للداخل، فوجدوا الردهة ممتلئة بحقائب زينب، التي ملأتها بملابسها وأغراضها الشخصية، ويعيدها سيف لداخل غرفة النوم مجددًا وملامحه أنهتك من شدة الارهاق، وما أن لاحظ وجود علي، حتى أسرع يستنجد به: دكتور على ده أنا ربنا بيحبني حب!
وأضاف وهو يزيح عرقه المنهمر: النجدة يا دكتور، ضهري إتقطم من تحويل الشنط.
وتأكيدًا على حديثه عادت زينب من الغرفة تحمل الحقائب التي أدخلها للتو، فمنحه نظرة أن الادلة تكفي للبرهان، قطعت فاطمة صمتها وتساءلت باستغراب: في أيه يا زينب؟
ركض سيف للحقائب يعيدها للداخل مجددًا، بينما تجيب زينب شقيقتها: أنا خلاص مش عايزة اعيش معاه تاني، سيف اناني ومبيهموش غير نفسه وبس.
خرج سيف يستند على الحائط، حتى كاد بالسقوط، فاسرع على يساعده بالتوجه للمقعد القريب من الرخامة المطلة على المطبخ، بينما يهتف بانهاكٍ: انا عايزك تسألها يا دكتور على أنا عملت أيه بالظبط، عشان تعرف بس إنها هي اللي ظالمة مش أنا!
ربت علي على كتفه وقال: خد نفسك أنت بس الأول.
وتطلع لشقيقة زوجته، يسألها بهدوئه الرزين: زينب أيه اللي وصلك أنك تاخدي قرار تسيبي البيت، انا مش حابب أعرف سبب المشكلة اللي بينكم لأنها أمر يخصكم انتوا الاتنين، فمينفعش من أول عقبة تقابلك معاه تقرري تسيبي البيت وتطلبي الطلاق بالبساطة دي!
زمت شفتيها بعدم رضا، وقالت وهي تكتف ساعديها: الموضوع مش خاص يا علي، الحكاية كلها أن مامته ظهرت فجأة، ومكنتش طايقاني مع أنها ملحقتش حتى تعرفني، ومع ذلك انا تعاملت مع إهانتها بهدوء، وسبناها مع يوسف ورجعنا شقتنا، وسيف كان متعصب منها جدًا وقالي انه مش هيسكت على اللي عملته معايا، بس انا معجبنيش إنه يقف في وشها عشاني، أنا مش عيلة صغيرة عشان اتحامى فيه يجبلي حقي، بالنهاية دي والدته ولازم يحافظ على علاقته بيها، أنا بالأول وبالأخر مهما حاولت عمري ما هكون بنفس مكانتها.
وتابعت وهي تتطلع تجاه زوجها بغضب: امبارح وعدني إنه مش هيعمل حاجة تخالف اتفاقنا والنهاردة عرفت من ليلى إنها مشت نص الليل، بعد خناقتها معاه، يعني نفذ اللي في دماغه بردو ومهتمش لكلامي!
خرج سيف عن هدوئه، وصاح بعصبية بالغة: وعدتك إني مش هبدأ جدال معاها وهحاول أكون بعيد عنها، بس هي معملتش كده، وأكيد يعني مش هقف أسمعها وهي بتتكلم عنك بالطريقة دي، أنا راجل ومستحملش مخلوق يجيب سيرة مراتي مهما كان مين!
ردت عليه بحزنٍ شديد: انا مقدرة كل ده، بس مكنتش حابة أكون سبب ولو بسيط في بعدها عنك، أنا كنت قادرة ارد عن نفسي، وهعرف ازاي اتعامل معاها، كل اللي طلبته منك إنك تخرج نفسك بره الحوار ده.
ضحك بسخرية، لمست نبرته المتألمة: ومين قالك انك السبب، هي طول عمرها بعيدة أصلًا، وجودها المؤقت ده كان بسبب عدم رضاها عن جوازتي مش أكتر.
قطع على حديثهما العنيف، قائلًا بصرامة: نبرة النقاش دي متنفعش بينكم، اهدوا شوية عشان نقدر، نتفاهم.
تدخلت فاطمة هي الاخرى حينما وجدت شقيقتها تندفع بالحديث للغاية: زينب اتهدني شوية، سيف ما غلطش في حقك باش غتتعصبي بهاد الشكل.
(زينب اهدي شوية، سيف مغلطتش في حقك عشان تتنرفزي بالشكل ده).
التفتت تجاه شقيقتها، وقالت باستنكارٍ لدفاعها عنه: فطيمة انتي كدافعي عليه!
يعني انا خاصني نكون فرحانة فاش غيقولوا ادابز مع امه و خرجت من الدار بسبابي!
(فطيمة انتي بتدافعي عنه! يعني المفروض أكون مبسوطة لما يتقال إنه اتخانق مع والدته وسابت البيت عشاني! ).
ردت بنبرتها المغربية، التي باتت كالشفرة المتنقلة بينهما، ويجهلها على وسيف: لا بالطبع انا مافرحاناش بداكشي اللي وقع، و لكن مامزيانش من بعد داكشي كله اللي دارو على وديتك تهدديه بالانفصال و انك غتخويليه الدار،.
(لا طبعًا مش مبسوطة باللي حصل، بس مينفعش إنك بعد اللي عمله عشانك تهدديه بالانفصال وبانك تسيبي البيت! ).
سحب سيف مقعد وقدمه لعلي مبتسمًا، فجلس جواره يتابع حوارهما بصدمة، وكأنهما يلقيان تعاويذ سحرية، فعاد بصرهما إليهما بامعانٍ، وقد كان الدور ينتقل لزينب التي قالت بضيق: بزاف عليا انا ماغنقدرش نتحمل هاد الذنب، و زايدون انا حزينة لانها اتعاملات معايا بهاد الطريقة، تصوري كتقول عليا تربية د الزناقي! انا تربية الزناقي أفطيمة.
(غصب عني مش قادرة اتحمل الذنب ده، وكمان انا حزينة إنها اتعاملت معايا بالطريقة دي، تخيلي بتقول عني تربية شوارع! أنا تربية شوارع يا فاطمة! ).
وأضافت ودموعها تتلألأ بعينيها: انتي مالك مابغيتيش تفهميني، انا كانت عندي فرصة انني نكسبها ف صفي و نخليها تبغيني كيما كتبغي ليلى، و لكن هو ضيع عليا هاد الفرصة و خلاها كتكرهني اكتر من الاول.
(إنتي ليه مش قادرة تفهميني، أنا كان عندي فرصة أكسبها لصفي واخليها تحبني زي ما بتحب ليلى، بس هو ضيع عليا الفرصة دي وخلاها تكرهني أكتر من الاول).
مال سيف على كتف على الذي يراقبهما بامعانٍ: فهمت حاجة؟
هز كتفيه بقلة حيلة، وقال ضاحكًا: ربنا يصبرنا لحد ما الترجمة تنزل.
عاد صوت فاطمة يسود الاجواء المضطربة: سيف كيقول انها بعيدة من زمان، و انتي علاش مصرة تحملي نفسك مسؤولية داكشي اللي وقع؟
(سيف بيقول إنها بعيدة من الاول، فأنتي ليه مصرة تحملي نفسك مسؤولية اللي حصل؟ ).
ايوه يا فاطمة كلامك صح جدًا.
قالها سيف بسعادة بالغة، ولم تهتم كلتا الشقيقتين بحديثه، فجذبه على متسائلًا: قالت أيه فهمني معاك.
قال بنفس البسمة المبالغ بها: بتقولها سيف واد ابن حلال وبيحبك وشاريكي، اصيلة مراتك دي يا دكتور علي.
منحه على نظرة مشككة بترجمته البعيدة كل البعد عن الكلمات التي تلقفها، وعاد يتابع حوارهما مجددًا، فاذا بزينب تهتف بانزعاجٍ: واخا تكون هي بعيدة عليهم، انا منكونش السبب أفطيمة، انا اتعاملت معاها بالادب و قدرت ناخد حقي من غير ما نغلط فيها،.
(حتى لو هي بعيدة عنهم، أنا مبقاش سبب بردو يا فاطمة، انا اتعاملت معاها بذوق وقدرت أخد حقي من غير ما أغلط فيها! ).
وضع سيف كوب العصير قبالة علي، فاصدر عن احتكاك الكوب الزجاجي بالرخامة صوتًا، استرعى انتباه كلتاهما، فاستدورا إليهما، اشار لهما سيف وهو يعود لمقعده جوار علي: آسفين على الازعاج، كملوا كملوا.
وناول على كوب العصير، فتناوله منه بامتنانٍ، ثم عاد يتطلع لزوجته التي مالت لشقيقتها تخبرها بانزعاج: مهما كان اللي وقع، مابغيتكش تطلبي منه الطلاق، انتي كيفاش قدرتي ديريها، و كأنه هاد الزواج بينكم لعبة!
(مهما كان اللي حصل محبتش منك انك تقوليله طلقني، إزاي قدرتي تعملي كده، وكأن الجواز بينكم لعبة! ).
اتجهت زينب للاريكة، تجلس ودموعها لا تكف عن الانهمار، فجلست فاطمة جوارها تربت على ظهرها بشفقة: أ زينب انا خايفة عليك، انا فاهمة كاع داكشي اللي باغا تقوليه، ماكينش اللي غيحس بيك قدي، انتي نسيتي انه حتى انا ام على مكانتش متقبلاني كيفا انتي هكا تماما.
(يا زينب انا خايفة عليكِ، أنا فاهمه كل اللي بتحاولي تقوليه، مفيش حد هيحس بيكِ ادي، انتي نسيتي إن انا كمان والدة على مكنتش متقبلاني زيك تمامًا).
لكز سيف على قائلًا: بينادوك يا دكتور قوم شوف عايزين أيه؟
ضحك على وهدر باستهزاء: يعني اسمي بس اللي فهمته من بين كل اللي اتقال ده!
تجرع نصف كوبه، وقال ملوحًا بيده: الحمد لله إن نطق الاسماء عندهم زي ما هو، والا كنت حسيت أن التهزيق ده كله عليا انا شخصيًا.
وأضاف بمرحٍ: انا ميهنيش اللي بيتقال، أكتر ما يهمني اني مشلش شنط تاني أبدًا، أنا تعبت من الشيل يا دكتور علي.
ضحك على وتجرع كوبه متسائلًا باهتمام: امال فين يوسف؟
رد وهو يعود لتأمل زوجته التي تتبادل التعاويذ مع فاطمة: معرفش، بس تقريبًا في الشقة منزلش لسه المركز.
ومال يتطلع له بامعانٍ: عندي سؤال فضولي حابب أطرحه عليك بما اننا كده كده مش فاهمين أي حاجة من اللي بتحصل حولينا.
ابتسم على وأشار له بالحديث، فقال: بما إنك في نفس سن يوسف تقريبًا ليه مضربتوش صداقة من بعض.
ترك الكوب من يده واجابه: ما احنا اصدقاء بالفعل، ولا إنت الصداقة عندك مفهومها أيه يا سي?و!
خطف نظرة يطمئن بها أن زوجته مازال على قيد الحياة بحالتها المتعصبة تلك، ورد: الصداقة مفهومها عندي البشمهندس جمال وچو والطاووس الوقح، وهرجع أستغرب معاك إن يوسف أكبر منهم ومختلف عنهم ومع ذلك مندمج معاهم.
ابتسم على وأجابه بثقة: لإن عُمران طرف مهم، بيقدر يشكل أي علاقة يدخلها.
استند على ذراعه تجاهه وقال: نص نظرة الفخر والثقة دي من يوسف فيا وهخرب الدنيا انا.
ضحك على وقال: هتخربها أكتر من كده! خلينا نلم المشكلة دي الأول وبعدين نشوف.
قاطعهم قرع جرس الباب، فنهض سيف يشير لهما ببلاهة: نوطي الصوت شوية عشان الجيران ابتدوا ينزعجوا مننا بس متقلقوش هسربهم وأجي، كملوا كملوا.
وأضاف مشيرًا لمن خلفهما: ركز معاهم يا دكتور علي، لحد ما أرجع.
فتح سيف باب شقته، فوجد أخيه يندفع للداخل مرددًا بقلق: أيه الصوت ده يا سيف؟
واستطرد باستغراب: علي!
استدار لاخيه الذي يغلق الباب ويتبعه، فاذا به يجذبه من جاكيته الرياضي المفتوح: هببت أيه، أنطق؟
حملت سدن الأطباق رفقة آيوب وآدهم لطاولة الطعام، بينما تقف شمس على بعد من الطاولة تتطلع للطعام بنفورٍ شديد، رغم أن أغلب الاصناف من مفضلاتها.
جلس مصطفى على رأس الطاولة، ينتظر انضمام الجميع إليه، فجلس آيوب على يساره ولجواره زوجته، وكذلك جلس آدهم على يمينه ومازال ينتظر انضمام شمس إليه، ولكنها كلما تقدمت له خطوة عادت تركض صوب الشرفة وهي تتمتم بخجل: هيقولوا عليا أيه دلوقتي؟ دي أول مرة البنت تزورنا فيها، هتفكرني مغرورة أكيد؟
أفاقت على صوت آدهم يناديها للمرة الرابعة، فاستسلمت واتجهت تجاوره بالمقعد الآخر، وتجتهد برسم ابتسامة مشرقة لسدن التي ما أن تذوقت الطعام حتى هتفت بحماس لآدهم: الأكل جميل أوي، تسلم ايديكي.
جحظت عيني آيوب في ذعر، ولكن من حسن الحظ أن آدهم ظنها تتحدث مع زوجته، التي ردت بحياء: ألف هنا على قلبك يا حبيبتي، بس مش أنا اللي عاملة الأكل ده آدهم اللي واقف من الصبح يشوي على الفحم.
هزت رأسها وقالت: أنا عارف إنو آدهم عملت الأكل، تسلم ايدها الاكل جميل أوي.
سعل آيوب بقوةٍ، وهو يراقب غضب آدهم البارز بمقلتيه بينما يردد: ايدها!
أشار أبيه له أن يمرر الأمر، فعاد يتناول طعامه بهدوء، بينما تعود سدن لالتهام الطعام بتلذذٍ كبير، جذب آدهم قطعة من اللحم المشوي وقربها من طبق شمس الفارغ، قائلًا بحنان: مش بتأكلي ليه يا حبيبتي؟
أبعدت الطبق ومالت تتوسل له: مش طايقة ريحة الأكل إبعده عني الله يخليك من غير ما حد يأخد باله.
أبعد الطبق عنها ومال يشاكسها: عنيا أنا النهاردة تحت أمرك بابعاد أي حاجة تنفري منها، بس الخوف ليجي عليا الدور وتقوليلي خدلك مكان جنبهم.
حاولت اغرائه بابتسامة حتى ينتهي من حمل الطعام من أمامها: عيب يا حبيبي لما تظلمني الظلم ده، وحتى لو حصل ولقدر الله زهقت منك هبعد أنا وأروح عند مامي يومين تلاتة وبعدين أرجعلك، معنديش قلب أنا عشان أطردك كمان من بيتك!
سحب قطعة اللحم ووضعها قبالتها مجددًا، فمالت تخبره: مش هبعد ولا هبعدك، شيل بسرعة مش قادرة أجري على الحمام، هبطانة ودايخة!
أبعد الطبق والضحك يستحوذ عليه من مظهرها المضحك، فأتاه الرد العاجل، حينما تساءلت سدن: إنتِ بتشتغلي مع الشرطة من فترة كبيرة آدهم؟
رفع آيوب يديه للاعلى يسترعى انتباه أخيه قائلًا: والله العظيم ما هجيبها هنا تاني الا لما أعلمها تميز بين الذكر والأنثى، المهم بلاش تعصب نفسك يا سيادة المقدم، محتاجك تكون هادي وتتعامل وكأنها طفلة وغلطت.
تعالت ضحكات مصطفى، وقال يهدئ من روع آيوب: متخافش أنا ابني عاقل، ومستحيل يكون زعل من كلامها، مش صح يا عمر؟
كاد آدهم أن يقبل ما يحدث بصدر رحب، ولكن أتت سدن وأظلمت عليهم الستار حينما تساءلت: عمر مين دي؟ آيوب هي تقصد مين؟
لف يده حول فمها ومال يهمس لها من بين اصطكاك أسنانه: آدهم مش زي يونس وإيثان، بلاش تكلميه عربي نهائي والا آ.
واستكمل بالانجليزية: ما فشل عمك فعله بكِ سيفعله أخي الآن.
اتسعت عينيها في ذعرٍ، ويدها تلتف حول رقبتها بتلقائيةٍ، فاستدارت تجاه شمس تشير لها بارتباكٍ: أريد أن انظف يدي.
حركت رأسها بلطفٍ، وأرشدتها لحمام الطابق السفلي، فاتجهت إليه ونظراتها المرتعبة مازالت مسلطة على آدهم المندهش من طريقتها الغامضة بالتطلع تجاهه، مما جعل مصطفى يتساءل باسترابة: مالها يا آيوب، قولتلها أيه رعبها من أخوك كده؟
رفع كتفيه ببراءةٍ: ولا حاجة!
جلست شمس بالحديقة، تنتظر انضمام سدن إليها فور أن تنتهي من الاغتسال، وبينما هي شاردة بالحديقة إذا بذراع تحيطها من الخلف، بشكلٍ أخجلها من أن يباغتها زوجها بذلك الفعل في وجود عائلته، ولكن جسدها تخشب في جلسته حينما رأت آدهم على بعدٍ منها يحمل الاطباق برفقة آيوب.
مالت للخلف فلفحتها رائحة برفيوم مميزة، جعلت لسنها ينطق بتلقائيةٍ: عُمران!
منحها ابتسامة جذابة، ورماديتاه تراقب كل انفعالاتها بشوقٍ، استقامت بوقفتها تطالعه بفرحة وعدم استيعاب بقدومه إليها، فرددت بتلعثم: معقولة جيت تزورني!
دنى منها يشتملها بضمة رفعتها عن الخضرة التي تداعب قدميها العارية من الحذاء، بينما يهمس لها: وحشتيني يا شمس، وحشتيني أوي.
اعتلتها دهشة من رد فعله، فابعدت وجهها للخلف، تتعمق بعينيه وتسأله بدموعٍ وابتسامة تعاكسها: عُمران؟
مال برأسها على كتفه ومازال يحملها: رجعت وأول خروج ليا لعندك إنتي، أنا كنت غبي في تعاملي معاكِ، إنتِ عمري كله يا شمسي.
واضاف ضاحكًا: أوعي تفكري أن عشان هيجيلك بيبي هشوفك بشكل تاني، هتفضلي بالنسبالي بنتي المسؤولة مني يا صغنن!
تعلقت به وهي تبكي من فرط سعادتها، لقد استعادت أخيها وأخيرًا، مالت تحيط وجهه بيديها وتردد بصوتها المبحوح من فرط البكاء: انا كنت مفتقداك جدًا، وحاسة إنك بعيد أوي عني حتى وإنت قدامي.
مال بشفتيه يقبل يديها، قائلًا: حقك على قلبي يا شمس، صدقيني اللي حصل كله كان غصب عني وخارج عن إرادتي، أنا كنت شخص تاني معرفش عنه حاجة.
عادت تنزوي بين احضانه وهي تخبره برعشة: مش مهم، المهم إنك رجعت وبقيت كويس وبخير.
وابتعدت تزيح دموعها وتقفز بحماس: تعالى معايا، آدهم هيفرح أوي!
تلقفها بين ذراعيه، ومال يعنفها بطريقة أضحكتها: إعقلي يا حبيبتي، نسيتي أنك حامل ولا أيه؟
وأضاف وهو يمازحها بينما يتجه بها للداخل: شكل حضرة الظابط مش قايم بواجباته في النصح والارشاد، أعتقد أنه مشتاق لوقاحتي ومناقرتي معاه زي زمان.
لفت ذراعيها من حول رقبته، وقالت وهي تزيح دموعها: سابقًا كنت بزعل لما بتشدوا قصاد بعض بس حاليًا مشتاقة لدفاعك عني ووقفتكم في وش بعض.
ضحك بصوته الرجولي الجذاب، ومال يطرق جبينها برفق: عنيا هقلبهالك حلبة مصارعة حاضر.
عاونها على الوقوف، واتبعها للداخل، بينما هي تسبق خطواته بحماسٍ لاخبار زوجها، وقف عُمران يستند على باب المطبخ، يتابعها وهي تتجه حيثما يقف آدهم يصنع القهوة، ولجواره يرص آيوب الاطباق بالغسالة.
تفاجئ بها آدهم قبالته، تتمتم بكلماتٍ غير مفهومة، لم يفهم منها سوى نطقها الصريح: آدهم عُمران.
استدار تجاه محل اشارتها هو وآيوب، فوجدوه يقف قبالتهما، انتزع آيوب مريوله وركض تجاهه مبتسمًا بحرارةٍ: عُمران! نورت الدنيا كلها!
سحب آدهم المنشفة يجفف يديه، ويتجه لمقابلته ببسمة مرحبة به، بينما يقف الأخير قبالتهما ساكنًا، يستعيد كل ما مر عليه بالفترة الاخيرة على مهلٍ، مما دفع آيوب ليتساءل بقلق: أنت كويس؟
ضم شفتيه معًا، وهتف بتسلية وهو يرنو إليه: بتعمل أيه هنا يا آيوب؟
ظن أنه يتساءل فيما يخص الرابط الذي يجمعه بزوج شقيقته شمس، فأوضح له قائلًا: هو الموضوع ملخبط حبتين بس الخلاصة أن آدهم يبقى أخويا.
منحه نظرة ماكرة ختمت بقوله الساخر: الوسطة دي تستخدمها بره في أي شركة غير شركاتي، المفروض إنك في شغلك دلوقتي فمن مين اخدت الاجازة عشان تكون موجود هنا، ولا أنت استغليت إني فاقد الذاكرة ومش هسألك رايح فين وجاي منين؟
عبث باهدابه بعدم استيعاب، واستدار تجاه آدهم الذي اتسعت ابتسامته بعدما استوعب الصدمة التي مازال لا يستوعبها أخيه، فتابع عُمران وهو يمنحه نظرة باردة: مش أنا سبق وقولتلك إنك عيل نغة ما بتصدق تلاقي فرصة عشان تهرب من الشغل! وكان ما بينا اتفاق إنك لما هتلتزم في شغلك هأخدك معايا المؤتمر الجاي، وأهو انت زي ما أنت متغيرتش، يبقى مبقاش في بينا اتفاق يابن الشيخ مهران.
رفرف باهدابه بدهشة، واتسعت ابتسامته البشوشة: يا هلا بالطاووس!
قالها ومال يضمه بفرحةٍ، جعلته يبتسم وهو يبادله ضمته، وعينيه تراقب سعادة آدهم وفرحته المقروءة بنظراته، فقال ومازال يضم آيوب: مبروك رجوع بصرك وبصيرتك يا حضرة الظابط.
وغمز بمشاكسة: عجبني وإنت عاقل كده، حظك إن نوبة الجنون بتاعتك انتهت قبل ما أرجعلك.
قهقه عاليًا، ومال يلتقف ذراعه يضمه: لو زعلان إنها انتهت، نجددها لأجل عيونك يا وقح.
منحهما آيوب مسافة ليضم كلاهما الاخر، فمال عُمران يهمس له: هنجدد حاجات تانية وأولهم نقلي من بني سويف لسوهاج، وبالأخص عن صابر!
وأضاف وهو يبتعد ليقابله بنظرة غامضة: بس قبل كل ده هستغل منصبك لمصالحي الشخصية ولأول مرة!
ظهر الحق وزهق الباطل، شوفتي ازاي كنتي ظالماني يا زينبو، اهو طلع چو اللي مسربها من العمارة كلها مش أنا!
شق صوت سيف الجمع المنصت لحديث يوسف، عما فعله لينهي هذا الجدال الحتمي، وبنسبة كبيرة بدد غضب زينب، ولكنه وسع الأفق في نفس علي، الذي لمس بيوسف ما يحاول تخبئته خلف صورته الثابتة.
فاتبعه للشرفة ووقف يجاوره، فابتسم له يوسف، وقد لمس فيه شكوكه: عارف إنك شايف ولامس اللي بحاول أداريه، مهما كان اللي عملته قاسي فكنت مجبور اعمله عشان سيف.
واضاف وعينيه تتابع طريق المارة بوجعٍ: عمري ما شوفت حد بالأنانية دي، فأكيد مش هستنى لما تدمر حياته، أنا عملت الصح واللي كان لازم يتعمل يا علي.
مال يستند جواره على السور، يؤكد على حديثه قائلًا برزانته: لا أنا ولا غيري يملك الحق في إنه يحط أي غلط عليك يا يوسف، بالعكس أنت عملت اللي لو أي شخص في مكانك كان عمله، إديتها الفرصة وهي مستغلتهاش، مصيرها في يوم هتعرف غلطها وهترجع ندمانة، وأكيد هتشكرك انك مدتهاش الفرصة تخرب حياة سيف وزينب.
غمدت الراحة ملامحه المعذبة، وكأنه كان ينتظر أن يريح على قلبه، فاستدار جواره يتطلعان تجاه سيف وزينب الجالسان على الطاولة، يتهامسان بحبٍ، ومن خلفهما تعد فاطمة الغداء بعد اصرار سيف أن يتناولون جميعًا الطعام بشقته.
جلس على المقعد المعدني بانكسارٍ، وملامح الذل قد محى كبريائه، لم يتبقى منه الا وميضًا من الرفاهية التي ينالها بجلوسه على المقعد الذي يحمله، وكما اعتاد الانتقال من غرفة التحقيقات السرية لأخرى، بعد أن تم احتباسه بجهة سرية لفضاحة ما ارتكبه بحق نفسه وبحق بلاده.
وها هو يجلس منكس الرأس، ينتظر ما سيملي عليه من تهمٍ ظن انهم لن يكتشفوها عنه، والإن ينطلق صرير الباب العتيق، واتبعه دقات حذاء ثمينًا، يستطيع أن يستعلم عنها جيدًا، ولكن للغرابة ذلك الصوت المألوف الذي نطق بخشونة: ليك وحشة يا عثمان!
شعر بحاجز حديدي يعتصره بوحشية، وكأنه خرج من أعناق الجحيم لسفح جبلًا من الجليد، يرفع رأسه الهرم لذلك الذي يقابله بصلابة وشموخ، يمنحه نظرة تحمل بشائر من موته، فجمدت لسانه المهتز بنطق حروفه: عُمران!
رفع ساقه على المقعد المقابل للطاولة الفاصلة بينها، ومال يستند عليه بجمودٍ: أمال بيقولوا إنك كبرت وخرفت ليه؟ ده فكرت هاخد ساعتين أفكرك بيا يمكن النيولوك الجديد ميخلاكش تفتكرني كويس.
وتلاشت ابتسامته وهو يستطرد باحتقان حذر: ويا ترى ذاكرتك جايبالك لأخر مكالمة كانت بينا؟
ازدرد ريقه بصعوبة بالغة، وراح يحاول الحديث: أنا، آآ. أنا كنت عايز أمن مستقبل بنتي.
انفجر وابل من الضحك جعل جسده يهتز بصورة مقبضة لمن يراقبه، وخاصة حينما نصب رقبته قبالته وقال بصلابة: دخولها عيلة الغرباوي مأمنلهاش المستقبل اللي بتتكلم عنه! محاولتك لاقناعي عجبتني بصراحة.
انتصب بوقفته بشكل مفاجئ، فتراجع عثمان للخلف برهبةٍ من أن يطوله أي أذى جسدي منه، فإذا به يرفع يديه للاعلى بتسلية: اطمن أنا معملهاش وأمد إيدي عليك، غصب عني هشوف مايا بينا وده للأسف هيضعفني قدامك، بس اطمن واجبك هيوصلك وبالكامل يا حمايا.
وأضاف وهو يميل إليه، محتجزه بذراعه على طرف مقعده والذراع الآخر على الطاولة: أنا حذرتك وأنت معملتش بكلامي، قولتلك هقف ضدك لو كنت السبب في دموعها مسبتش حاجه توجعها الا وعملتها، مصدقتهاش لما قالتلك جوزي حي وراجع أديني جيتلك وبنفسي عشان تملي عينك مني، وتفكر ألف مرة في اللي هعمله فيك.
وضاق بذراعه لدرجة جعلت الاخير على وشك السقوط عن المقعد، بينما يتحرر وحشه القابع: قولي إنت ازاي قدرت تجمعها مع راجل غيري حتى لو في أحلامك!
شعر بضعفه أمامه، يواجه طوفان أكثر من قوته، فبرر له برعشة نخرت عظامه: أنا كنت بفكر في مصلحتها.
طالعه بكرهٍ شديد: قصدك مصالحك أنت وبس، ولا تكنش فاكرني بريالة معرفش النسب اللي كنت بتطالعها من ورا إسمي، كل ده كنت عارفه وبعدهولك بمزاجي عشانها، كنت بستحملك ومستعد أستحمل الابشع من كده عشان خاطر عيونها هي، بس أنت بغبائك رجعتني لساحة معركة الخسارة فيها مش هتكون مايا ولا حتى قلبها، الخسارة هتكون حياتك انت يا عثمان.
أحاط يده يتوسل له بخوفٍ: سامحني يا عُمران، سامحني وخلي مايسان تسامحني، أنا غلطت ومعترف بغلطي.
وأضاف بخبثٍ عساه يجد مخرج من مأزقه: انا كنت فاكر اني اللي بعمله ده الصح ليها، زي ما فريدة هانم كانت بتفكر بمصلحتها هي كمان بجوازها من علي.
توسعت رماديتاه بصدمة، وكأن عقله تعطل عن العمل فجأة، فردد بلسانٍ ثقيل: جواز مين!
تحشرجت انفاسه رعبًا: على ومايا.