قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وأحد عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وأحد عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وأحد عشر

أضرم النيران بكومة من القش، وانتظر أن تشتعل فيها اللهب، ولكن أصابته الحسرة حينما وجده يطالعه ببرودٍ، وثباتًا يُدرس للأجيال، وكأنه فقد حاسة السمع للتو، ازدرد عُثمان ريقه بتوترٍ من جمود ملامح الطاووس، الذي كسرت ثباته الفعلي ابتسامة ويا لها من بسمة مقبضة للأخير.

راقبه من نفس محل قربه، ومازال ساقه يستند به على المقعد الحديدي، وبصوتٍ خرج رزينًا، هامسًا: لو كان على إختيارك إنت كمان كنت عفيت عنك يا عثمان.

توسعت مُقلتيه في صدمةٍ، بينما تتسع ابتسامة عُمران بانتشاء لرؤية الرعب يكاد أن يقبض روحه: يا ريتك كنت ذكي كفايا، واستوعبت إن خروج بنتك من قصر الغرباوي عمره ما هيتم وموجود فيه دكتور على الغرباوي.

وتابع بشماتة ضاحكة: عيني عليك وإنت بتاخد الصدمة من رد فعل علي، صدم أمك صح؟

كاد أن يسقط بالمقعد من فرط التصاقه بأخره، والخوف يجلجل بدنه، بينما يستكمل عُمران حديثه: كنت فاكر إني الصايع الوحيد اللي بيعرف يلاعبك، بابا على المثقف ختم قفاك بقلم هيفضل معلم على قفا أمك العمر كله.

قبض أسنانه ببعضهما، ودفع المقعد بساقه، فسقط أرضًا بمقعده متألمًا، والهلع يقتحمه بلا هوادة، مما سيفعله به عُمران.

إنحنى إليه يقابله بنظرة غمسها بالقسوة والكره، قبل أن يحرر كلماته: الست اللي تعاشر عُمران سالم الغرباوي، عمرها ما هتشوف راجل تاني من بعده.

ابتلع ريقه بصوتٍ مسموع، وقال باضطرابٍ من خوض تلك المعركة التي سيكون أول خسائرها روحه: حتى لو كان الراجل ده هو على الغرباوي نفسه؟

سيطر على بوابة جحيمه الساطعة من رماديتاه التي فقدت كل جاذبيته وتوارت خلف تلك العاصفة خوفًا وطمعًا بمسكنٍ آمن، ومال إليه يفاجئه بلف يده حول عنقه، يرفعه تجاهه بجمودٍ بينما الاخير يسعل ويحاول تحرير ذاته من قبضة كانت كالفولاذ، ليصم أذنيه بخشونته المهددة: بتلعب مع مين يا عثمان، إعرف مقامك وشوف مين اللي قدامك، وقبل ما عقلك يصورلك إنك هتكرهني في أحب الناس على قلبي، افتكر أنك متملكش القوة إنك تقف في تحدي وإنت بعمرك وسنك ده، هتفرفر مني من أول جولة!

وأضاف قبل أن يطرق عنقه: وعشان فضولك ميقتلش أمك، خليني أكرمك مرة أخيرة لأجل عيون بنتك، لو كان ربنا كاتبلي الموت ورزق بنتك وكان ليها فرصة مع علي، فصدقني ده الشخص الوحيد اللي هأمن على مراتي وابني معاه، وعندي كل الثقة إنها لو فضلت معاه مليون سنة عمر عينه ما هتترفع في عينها.

وختم بقوله وابتسامة فخر تحتله: كل أخلاقي الكويسة اللي جوايا راجعه للي زرعه على الغرباوي جوايا، والبلطجي اللي بيتصرف معاك دلوقتي ده إتربى على إيدي أنا، ودلوقتي وقت حسابك جيه.

قالها ودفعه أرضًا، بينما الاخير يزحف للخلف برعبٍ من سماع كلماته الاخيرة، ماذا ينتوي إليه؟ تراجع لأخر الغرفة، وترجاه بتعبٍ: هتعمل أيه يا عُمران، ده أنا في مقام أبوك يابني.

تمردت ضحكة رجولية منه، وصاح بتهكمٍ: هو إنت كنت أب لبنتك عشان تكونلي أب، إنت عندك عجز في سد الخانات يا حمايا العزيز.

ومال إليه يصوبه بنظرة حارقة، قبل أن يخبره: واجبي هيوصلك جوه الزنزانة، كل الرفاهية اللي أخدتها جوه السجن بسبب مركزك الآرستقراطي العبيط أنا هجردك منه، من اللحظة دي هتتنقل زنزانة جماعية، وخدمتهم كلهم هتكون عليك.

هز رأسه بصدمة، وقال: حرام عليك، أنا مش آ.

قاطعه حينما هدر بسخطٍ: معرفتش تقوم بدورك كأب هتحاول تكون أم مثالية، طبيخ وغسيل ومسح والذي منه.

واضاف بابتسامة ساخرة: مش عايز حد من العيال يشتكيلي منك يا عثمان، عايزك تشرفني باختيار المثالي ليك.

وربت على كتفه ببرود ضاحك: طولت عليك و وراك غسيل، أسيبك تشوف أشغالك، وكل ما نار اشتياقك ليا تزيد طفيها وإنت بتمرش الغسيل، وكتر الإريل متبقاش بخيل يا عثمان!

ولف ذراعه من حوله، فبدى وكأنه يضمه ولكنه كان يخنقه من فرط قوته الجسمانية: مش عارف أقولهالك إزاي، بس مضطر أنصحك تحافظ على نفسك وسط الاوباش دول، أصلهم بيتعاطوا، فحاول متظهرش بليل قدامهم ليتلخبطوا فيك!

وتركه ونهض واقفًا بشموخٍ، ونظرة تشيعه بكرهٍ وحقد، يلتمعان برماديتاه، وهو يتذكر بكاء زوجته بين ذراعيه في صباح هذا اليوم، فبرع بالحفاظ على أعصابه، وقمع كل الافكار الشيطانية التي تطالبه بقتله، أو بزيادة أنواع العذاب الذي يملك سلطان لها، ولكنه ولاجلها اختار أبسط الاشياء، بالاتفاق مع هؤلاء المجرمين الذي سيرافقهم بالحبس، حسنًا لقد كذب بجزئية أنهم يتعاطون المخدرات ولكن ليجعله يموت في جلده كل يومٍ، مثلما كتب الخوف والترقب مما كان سيفعل لزوجته، قرة عينه وقلبه!

أتجه ليغادر من الغرفة، تاركًا الاخير يتخيل نهايته البشعة بوقوعه بهذا المستنقع، وقبل أن ينجرف عن الباب الذي يحده اثنان من العساكر، استدار يخبره بنبرة واثقة لا تليق سوى بطاووس وقح مثله: خليك عارف إن نيتي معاك كانت الاحترام، وأنت اللي قليت بأدبك وخلتني أحط عليك وبالجامد، من غير سلام لإن اللي زيك ميستهلهوش!

سئم جمال من المماطلة أمام الوفد الفرنسي، وكل لحظة والاخرى كان يتفقد هاتفه، عسى أن يتلقى رسالة صريحة من عُمران أو فاطمة، ولكن الأمر ينتهي دون أي جدوى، ومع بلوغ الثلاث ساعات بالانتظار، وقف إحدهما يهتف بضيقٍ: ما يحدث هنا إهانة صريحة لنا سيد جمال، لقد انتظرنا قرابة الأربع ساعات ولم يأتي بعد، لم نعتاد على عدم التقدير منكم، ولأكن صريح سيكون هذا أول وأخر تعامل لنا رفقتكم.

ومن قال بأنه سيكون هناك تعامل بيننا بالاساس!
قالها الطاووس وهو يدلف لصالة الاجتماعات، بخطاه الواثق، فإذا بالجميع يقفون في أماكنهم بدهشةٍ وقلقًا من تصريحه، بينما يتطلع له جمال بذهولٍ من حدة نبرته المندفعة، وطريقته الغريبة بالحديث.

استكمل عُمران طريقه للمقعد الخاص برئيس مجلس الإدارة، اعتلاه وهو يصوب نظراته للوفد الفرنسي المكون من ثلاث رجال، نطق أحدهم بلطف اصطنعه لتلطيف الأجواء: العفو والسماح منك سيد عُمران، ألبرت لم يقصد التقليل من احترامك.

لف مقعده المهتز تجاه محل وقوفه، ويده تطرق بقلمه الثمين من فوق الطاولة البيضاوية: ومن سيترك له الفرصة لتقليل من شأني أندريه!
قبل أن يفكر بفعلها كان ليفكر ألف مرة.

وأضاف ومازالت عينيه تجوب من يقف أمامه مستاء: يظن نفسه ذكيًا، يتحاشى التقليل مني ويفعل عكس ذلك لشريكي!

ذم ذراعه رفقة الاخير وهمس له: اعتذر للسيد جمال على الفور، والا لن يتمم السيد عُمران عملنا.

أزعن لمطلب رفيقه، واستدار تجاه جمال المدهوش لما يحدث قبالة عينيه، وأبدى اعتذاره أكثر من مرةٍ، ثم نظر تجاه عُمران ينتظر سماع رأيه فيما فعله، فقال ومازال يحرك مقعده بثبات: بامكانكم الرحيل والعودة غدًا، سيخبركم سكرتيري الخاص بالموعد الجديد.

تطلعوا لبعضهم البعض، وانسحبوا بهدوء تاركين الغرفة الواسعة تحوي الرفيقين، وبمجرد خلو القاعة تحرك جمال من محله، وإتجه إليه يحرر دهشته بسؤالٍ حائر: ممكن تفهمني أيه اللي بيحصل ده، وطريقتك بالتعامل مالها؟

وأخيرًا سمح لنفسه التفرس بملامحه، فاحتل الحزن مُقلتيه حينما لاحظ انتقاص وزنه الملحوظ، لقد أدماه فراقه عنه، وجسده الهزيل يقص كل المعاناة التي حكاها، وبينما هو غارق بتأمله هز جمال المقعد وهو يناديه بقلق: عُمران جاوبني!

رفع عُمران يده، يفك ازرار قميصه الأسود، بعدما نزع عنه جاكيته ببطءٍ أثار فضول جمال وريبته حول ما أصاب رفيقه الذي يتصرف بغرابة، أشمر عن ساعديه وإنتزع ساعته الباهظة، بينما يعود جمال لهزه مجددًا: فهمني بتعمل أيه؟

رد بهمسٍ خافت وهو ينحني ليضع خاتمه جوار الساعه: خايف تتعور.

عقد حاجبيه بعدم فهم: أتعور من أيه؟

أجابته لكمته التي أصابت أنفه، فطرحته أعلى الطاولة الزجاجية الضخمة، وعينيه تتسع في صدمة، بينما يرنو إليه عُمران بخطواتٍ متهدجة، جعلته يردد بقلق: عُمران إنت جرالك أيه، اهدى كده وإعقل، انا هتصل على دكتور على حالًا يجي يشوف جرالك أيه؟

طرحه بعنف على الطاولة مجددًا حينما كان بطريقه ليجذب هاتفه من جاكيت بذلته المعلق على مقعده، بينما يميل تجاهه وهو يصيح بغيظٍ: إنت الوحيد اللي حسيت ليه بالارتياح ويوم ما أجيلك بيتك تقابلني بلكمة يا حيوان!

وتابع ومازال يده تجذب قميصه بغضب: بتستغل إني ناسي كل حاجة!

اتسعت عينيه بذهولٍ، بينما يسترسل عُمران: ثم إنك عامل في نفسك كدا ليه! وأيه القرف اللي إنت لبسه ده! حارم نفسك من متاع الدنيا بسبب موتي وإنت السبب فيه، لو كنت سمعت كلامي ونطيت من غير ما تعيش دور سي روميو العاشق كان زماني نفدت من اصابتي وكنت على الاقل ربيت الكلاب دول، بس انت كالعادة مخلوق عشان تعاندني وبس.

أدمعت عيني جمال بعدم تصديق، بينما يستطرد الطاووس بعنجهيةٍ: اديني رجعتلك أهو وهنصفي القديم والجديد يابن أشرقت!

تهاوت دمعته دون أي قيد، وهمس بعدم تصديق: عُمران!

خيم الحزن عليه وانشق قلبه لما حدث له، وكأن تلك اللحظة هي الاولى لرؤياه، فسانده ليستقيم بجلسته، ثم عدل من قميصه الغير مرتب بشكلٍ لائق، وانحنى يجذب جاكيته، وساعده بارتدائه، وجسد جمال ينساق خلفه دون أي تحكم منه، فقط نظراته المندهشة تتابعه بعدم تصديق، وما أن انتهى حتى استدار يجذب من جيب جاكيته الخاص مشط صغير، ومال يرفع به شعر جمال، قائلًا بضيقٍ: مصمم على تسريحة عبحليم بردو، الظاهر أنك كسرت كل تعليماتي في غيابي، بس وحياة أمك هترجع تسف كل اللي فاتك عشان تتلاشى غضبي، وأولهم إنك ترجع لوزنك تاني.

وتابع ساخطًا: فكرك إنك كده هتصعب عليا يعني ومش هنزلك معايا الجيم، بعينك يابن أشرقت، هتنزل معايا يعني هتنزل.

وأضاف مازحًا: بفكر أعملك إنت وعلى مختوم من صنع ايدي، هتجيب معاكم من الأخر.

تمعن به حينما وجده يتابعه بصمت، فقال مبتسمًا: أيه يا جيمي مش مبسوط أني رجعت ولا إنت كنت حابب تبدأ المنافسه على مكانتك من أول وجديد؟

تحرك إليه جمال باكيًا، وارتمى إليه محاوطًا عنقه ببكاءٍ بدد من ثبات عُمران، فضمه وهو يردد بصوتٍ محتقن بالبكاء: عملت في نفسك كدليه يا جمال؟ أنا معرفتكش!

شرع بتحرير صوته الباكي هاتفًا: ولو كنت إتاخرت في ظهورك كنت هموت وراك، أنا حياتي كلها وقفت على مشهد موتك!

ربت على ظهره وقال وهو يجاهد لزرع المرح بينهما: وأديني رجعتلك أنظملك حياتك البائسة دي من تاني، بس على الله متزهقش مني، بس ناويت والنية لله أعملك عملية ترميم من تاني، هبدأ من البدروم وسقف الدور الأول، هتستحملني ولا هتنخ من أولها!

ضحك وهو يبتعد عنه، ويدفعه بمزح: لا ارجع مكان ما كنت، أنا كنت عايش مرتاح وبنط في أول لبس يقابلني، مش عايز أرجع اقف قدام المرايا ساعتين أنظم في نفسي عشان خوفي منك.

شاركه الضحك وهو يخبره: ياض لازم تبقى شيك وجنتل مان، أنت بمنظرك ده مش محصل حتى صبي جزارة، والله حمص في الرمق عنك.

زوى حاجبيه باستغرابٍ: مين حمص ده؟

مال يلتقط جاكيته وقال وهو يلف ذراعه حوله ليحركه تجاه الخارج: هحكيلك بس ننزل أي مطعم أزغطك الأول، لحسن أنا حاسس إنك هتقع مني.

وأضاف وهو يضغط على زر المصعد: اللي يشوفك يقول أن انت اللي داسك قطر الموت مش أنا! ده أنا صالب طولي عنك! هموت وأعرف شوشو سكتت عليك بالوضع ده ازاي!

أجابه ببسمة ساخطة: محدش يقدر عليا، دماغي ناشف وحجر صوان ولا نسيت!

زم شفتيه بتهكمٍ صرح عنه: ده على أمك يالا مش عليا، خف شوية عشان خلقي ضايق ودراعي سابقني، وإنت أصلًا مفيش فيك نفخة.

واستطرد بشفقة مضحكة: ده انا كنت ناويلك على نية، بس خوفت لتتقطم في ايدي، بقيت شبه خلة السنان يا جمال!

وربت على كتفه وهو يطمئنه مازحًا: بس متقلقش يالا ولا يكون عندك أي خوف، أنا مش هتخلى عنك أبدًا، وهعالجك بعون الله، هخليهم يتوصوا بالسمنة البلدي وكل الأكل الدسم، لازم ترجع و بأقصى سرعة، عشان احساس الذنب اللي عندي ده يختفي، المهم أي حاجة تنزل على التربيزة تأكلها وانت ساكت.

وأضاف وهو يعتصر رأسه بالمأكولات التي ستعاونه برفع وزن جمال بأيام معدودة: هنكتر من الكوارع والحمام المحشي، وكمان الفطير البلدي والمحاشي والذي منه.

واستدار يشمله بنظرة تقيمية: أنت محتاج لكل حاجة فيها دهون، بفكر أخليهم يعملولك خروف بحاله، أيه رأيك؟

رد عليه وقد غلب نوبة ضحكه: لو هتأكل معايا معنديش مانع.

أجابه عُمران بجدية جعلت كلاهما يسقطان من فرط الضحك: أمال هسيبك تتدلع لوحدك بروح أمك!

انتهى من مهمته حينما ساعد عُمران بالوصول لأهدافه داخل المعتقل، وها هو يتجول بلا وجهة بسيارته، ليقطعه صوت رسالة هاتفه على الواتساب، فتحها ليجد أخيه يستنجد به: «آدهم إلحقني بسرعة، أنا واقع في مشكلة، بعتلك اللوكيشين، تعالى بسرعة! ».

ارتعب فور أن انتهى من سماع الرسالة، وعلى الفور انعرج بسيارته تجاه الموقع المرسل، ولحظه أنه كان على بعد عشر دقائق منه.

كونه ظابطًا محترفًا، إعتاد التصرف بحكمة وذكاء، فلم يشغل عقله بالاتصال، حتى لا يربك عقله عن القيادة، فيطول طريقه عن العشرة دقائق.

وصل أدهم للموقع المنشود، فإذا به يتجمد على مقعده من دهشته، المشهد برمته كان غريبًا، سيارة أخيه موضوعة اعلى الحاجز الإسمنتي الصغير، المصفوف لمحاذاة الرصيف، ومن أعلاه يجلس آيوب داخل السيارة، ويلتف من حوله مجموعه من الرجال يحاولون أن يجعلوه يقفز من السيارة ولكنه يرفض بإصرارٍ عنيف.

هبط أدهم من السيارة واستطاع ان يفض الجمع، بينما يطرق على أسفل باب السيارة، مشيرًا له بأن يفتح الباب، ففتحه وهو يخبره بحزن: شوفت يا ادهم اللي حصل؟

منع ابتسامة ساخرة من الانفلات: مش انا لوحدي اللي شايف يا آيوب.

وتابع بسؤالٍ هام: قولي أيه اللي طلعك الطلعه دي؟

توترت معالمه وكأنه طفلًا سيتعرض للعقوبة: شوفت الطلعه اللي قبل الحاجز.

استدار آدهم للخلف يتمعن بما ذكر، وعاد يتفرس بأخيه الذي قال بحرج: شوفت عُمران طلعها قبل كده ونزل منها عادي، بس معرفش لما عدتها أيه اللي حصل معايا، ملمستش بعدها الرصيف، العربية طارت وكملت على الحاجز اللي في نص الطريق، زي ما انت شايف كده!

تحررت ضحكته الرجولية، وهز رأسه هاتفًا: شايف، وحاسس ان سقف طموحاتك عليت أوي، كنت لسه بتتعلم تطلع بالعربية، دخلت في الطيران من غير ما تضيع وقت، طموح انت أوي!

ذم أيوب شفتيه ضيقًا: انت بتضحك!

رد عليه وهو يتفرس باصابة السيارة، التي استهدفت اسفلها: مش عارف أهنيك على النطة ولا أواسيك على الخبطة!

منحه نظرة غاضبة، فكبت ضحكاته بصعوبة وهو يفرد ذراعيه له: تعالى يا حبيبي، انزل.

لف رأسه باصرار: مش نازل قبل ما عربيتي تنزل.

فشل في السيطرة على ضحكاته مجددًا، وادعى الرزانة والتعقل بحديثه: الواقعة الحريفة دي عايزة ونش ينتشل العربية من فوق الحاجز، مينفعش معاها كتل بشرية يا بوب.

لف رأسه له مجددًا، واقترح ببلاهة اسقطت أدهم ضحكًا: ما تزق من ورا لحد ما نوصل لنهاية الحاجز تقوم العربية نازلة طوالي، كده كده الحاجز مش عالي اوي.

أتاه الرد من بين سيل ضحكاته: حد قالك إني هركليز عصرك، إنزل يا آيوب إنزل الله يسترك دنيا وأخرة.

احتقنت نظراته الاندفاعية تجاه أخيه، وباصرار طفلًا صغيرًا قال: طيب خلاصة الليلة دي يا أدهم إني مش نازل طول ما عربيتي متشعلقة الشعلاقة دي، اتصرف هات الونش ينزلها وأنا فيها، واعتبره تهديد بقى!

عقد حاجبيه بدهشة من أفعاله الطفولية: الناس هتتلم علينا تاني يا آيوب، انزل وبطل لعب العيال ده.

ردد بتحدٍ وضيق: هننزل مع بعض، مش هسبها كده.

منع ذاته من أن يشتبك معه لفظيًا، وسحب هاتفه يحرر اتصالًا بأحد الظباط، وما ان أنهاه حتى أعاد الهاتف متمتمًا بانزعاج وهو يدس يده بجيب بنطاله: لما أشوف أخرتها معاك أيه؟

طرقت باب الغرفة مرارًا، وانتظرت أن يفتح بابه، فإذا بصوته الهادئ يأتيها: تعالي يا خديجة.

ولجت للداخل تبحث عنه، فوجدته يجلس على سجادة الصلاة، ومن خلفه يغفو صغيرها على الفراش، انتظرت حتى انتهى من التسبيح وقراءة آية الاخلاص والفلق والناس والكرسي ثلاث مرات، تعلم جيدًا قيمة تلك الايات خلف كل صلاة، مثلما علمهم الشيخ مهران.

انتهى عما يردد ونهض يحمل سجادة الصلاة، يضعها على ذراع المقعد، ودنا يتساءل: قولي اللي مترددة تقوليه وباين في عيونك.

سحبت نفسًا عميقًا من أنفها، ورددت بكل عزيمة: انا أخدت قراري يا يونس، وهعمل العملية.

ترقبت رد فعله بارتباكٍ، رغم أنه بالاوقات الماضية شرع له موافقته المبدئية بما تريد، فاذا به ينتهد بحزنٍ بدى بفيروزته، وانتقل عكسه بصوته الهادئ: اللي يريحك أنا معاكي فيه يا خديجة، معانا رقم الدكتورة اللي دكتور على ادهوني، هنحجز ونروحلها، واللي فيه الخير ربنا يقدمه.

حُلت عقدة وجهها المترقب لردة فعله، ومالت إليه تلجئ لضمة صدره، فأحاطها بكل ترحابٍ، فرددت على استحياءٍ: أنا عارفة إنك كنت معارضني في قراري ده، وقبولك بيه دلوقتي عشاني، شكرًا يا يُونس.

قوى ضمته لها، وقال بعشقٍ صادق: ميهمنيش غير راحتك إنتِ يا ست البنات.

اتسعت ابتسامتها والراحة تتسلل لها، لتمنحها شعوى الأمان كلما كان هو لجوارها، وفجأة انتفضت بين ذراعيه حينما اندفع فارس عليهما، فتمردت الضحكات بينهم، وقد التقفه يونس بين ذراعيه هو الآخر.

وصلت سيارة علي في نفس لحظة وصول سيارة أحمد، هبطت فريدة برفقته، وما أن رأت على يخرج من سيارته برفقة فاطمة حتى اتجهت اليهما مبتسمة: عديت على فاطيما في الشغل ولا اتقابلتوا برة يا دكتور؟

ردت فاطمة بابتسامتها الرقيقة: مرحتش النهاردة يا فريدة هانم، روحنا لزينب وبعدها اتمشينا شوية بالعربية.

تعجبت من سماعها لما قالت، وتساءلت باسترابة: غريبة إنك منزلتيش الشركة النهاردة، طمنيني أنتي كويسة؟

اتخذ على محلها بالاجابة حينما حاوط والدته بحنان: اتطمني حبيبتي، فاطمة كويسة، بس زينب كانت عازمانا عندها وعُمران كده كده نزل الشركة مع جمال النهاردة.

وأضاف وهو يتابع عمه الذي اقترب إليهم بعدما صف السيارة: طمنوني يومكم كان عامل ازاي؟

اجابه أحمد مبتسمًا: ممتاز يا علي، كويس انك اقترحت عليا أخذ فريدة معايا تغير جو، خلصت الmeeting بعد ساعتين من وصولنا، وبعدها اتمشينا على البلاج، المنظر ساحر حقيقي.

أضافت فريدة لحديثه: فعلًا يا على الاجواء هناك ممتازة، وقررت اشتري شاليه هناك عشان نبقى نغير جو من فترة للتانية.

رفع يدها يقبلها برفقٍ، وقال: طلبات فريدة هانم كلها أوامر وتتتفذ.

مررت يدها على خصلات شعره الطويل، بفرحةٍ: متحرمش منك يا حبيبي.

وتابعت بلهفةٍ: طمني على أخوك، حالته احسن دلوقتي؟

ارتسمت بسمة ماكرة على شفتيه، وأجابها: أحسن الحمد لله، وهتشوفي ده بنفسك لما يرجع بإذن الله.

رددت في راحةٍ وارتياح: ربنا يطمن قلبي بيكم دايمًا يا حبيبي.

وأضافت وهي تشير لهما: هطلع أخد شاور وأريح شوية، لفينا كتير ورجليا تعبتني.

وتركتهما وصعدت للأعلى، فحمل أحمد الحقيبة، ونطق بنعاسٍ: وأنا كمان هطلع أنام قبل معاد الطيارة.

تساءلت فاطمة بدهشة: هو حضرتك مسافر؟

رد عليها بينما يميل بجسده الرياضي لحمل الحقيبة الصغيرة الخاصة بزوجته: عندي اجتماع مهم بكره في لندن، مش هتأخر هناك، يومين تلاتة وراجع بإذن الله.

منحته ابتسامة صافية، وهتفت برقة: تروح وترجع بألف سلامه يا عمي.

ابتسم لها بجاذبية تليق بعمره، وردد بامتنان: تسلمي يا حبيبتي، لو عايزة حاجة من هناك بلغيني بيها وأنا تحت أمرك.

انحنى على يحمل عنه الحقيبة، ويجيبه بتهذب: عايزين سلامتك يا عمي، هنفتقدك اليومين دول.

منحه بسمة ممتنة لحمله الحقيبة، وقد أرهقته القيادة طوال الطريق، فمسح على ظهره بحب: متحرمش منك يا علي.

صعد ثلاثتهم بالمصعد، وكان أول من وصل لجناحه أحمد، وتابعوا معًا للطابق العلوي، فلف على ذراعه حول فاطمة، واتجهوا لجناحهما، فسألته بفضول: مقولتش لفريدة هانم ليه أن عُمران رجعتله الذاكرة.

رد عليها ببساطة وهو يفتح الباب: خليه يفاجئها ويشوف بعيونه فرحتها، أكيد هيتخزن في عقله ردود أفعال كل الاشخاص المقربين ليه في لحظة زي دي.

ابتسمت ونطقت: دايمًا عندك حق وبعد نظر يا دكتور علي.

بابتسامتها الساحرة رد: قلب دكتور علي!

وأخيرًا تمت مهمة إنقاذ سيارة آيوب في سلام، وها هو يتفحصها بكل لهفة، وأخيه من خلفه يراقبه، فاذا به يستقيم بوقفته بفرحة: ما اتبهدلتش يا أدهم، ده جرح بسيط جدًا.

رسم بسمة صغيرة، يخفي ضحكاته الساخرة من خلفها وقال: الحمد لله ربنا نجدها نوسة من مغامراتك المتهورة.

جذب المنشفة المبللة يمسحها برفقٍ، وكأنه يملس على حيوانٍ أليف، ومن خلفه يحك آدهم أنفه عدة مرات حتى لا يبرز ضحكاته بالعلن، فتنحنح بخشونة: أيوب، العربية نضيفة ومعلهاش نقطة تراب واحدة، سيب اللي بتعمله وقولي كنت رايح فين؟

ترك ما يفعله واستدار ينفض ثيابه: حسيت بتقصير رهيب مع سيفو، فهحقق حلمه وهعدي عليه بالمركز بالعربية، نروح نأكل درة مشوي، تيجي معانا؟

اكتسحت بسمته الجذابة وجهه، وقال برزانة: لا مش هينفع أنط معاك في كل خروجه، احنا من الصبح مع بعض، من حق صاحبك يكونلكم وقت خاص بيكم.

واسترسل وهو يتجه لسيارته: يلا اتحرك قدامي عشان اطمن عليك من السواقة المتهورة دي، قبل ما ارجع البيت.

حرك رأسه بابتسامة هادئة، وأسرع لسيارته يقودها بسرعة متوسطة حتى إطمئن آدهم عليه، وغادر كلا منهما بطريقه.

وصل آيوب إلى المركز الطبي الخاص ب علي سالم الغرباوي، صف سيارته بالأسفل، وصعد بالمصعد للطابق المخصص لعلاج الاطفال، واصل البحث بين غرف الكشف الحاملة لاسماء عدة أطباء، وقد علم من الاستقبال أن سيف يستلم الوردية المسائية اليوم، وقد وصل منذ نصف ساعة.

توقف عند لافتة تحمل«الدكتور سيف آيوب»، طرق على الباب وولج دون أن يرى الممرضة الجالسة على مكتب بنهاية الطابق، ولج يهتف بابتسامة واسعة: سيفو!

تفاجئ من ينحني فوق الطفل الصغير، يتفحص بكشافه الصغير حلق الطفل البالغ من العمر الثماني سنوات، ولجواره يقف أبيه المندهش من اقتحام ذلك الغريب لغرفة الفحوصات.

تنحنح آيوب حرجًا، وحك رقبته بتوتر: إنت معاك حد، طيب أنا بره، لما تخلص ناديلي.

قالها وغادر للخارج، بينما انتهى سيف من تدوين الادوية الخاصة بالصغير، ورفع السماعه يشدد على الممرضة بأن تمنع آيوب من الدخول نهائيًا.

انتظر آيوب بالخارج قرابة الساعتين، جلس يكتف ساعديه أمام صدره، ويطرق بساقيه بغيظٍ، جعله يندفع تجاه الممرضة للمرة الرابعة: هو في أيه يا انسة، قولتيلي انتظر لما الكشوفات اللي عنده تخلص، احترمت ده وقعدت لأخر كشف، ودلوقتي القاعة فاضية ومفهاش ولا مريض، مستنية تدخليني أمته حضرتك؟

ضمت شفتيها بحرجٍ، لقد نفذت كل الحجج التي ستقدمها إليه، لذا نطقت بصدقٍ: أنا أسفه ليك والله، بس دي تعليمات الدكتور وآ.

قاطعها بغضبٍ وعصبية بالغة: تعليمات مين؟

قالها واندفع عائدًا، يقتحم مكتبه بهمجية لم يسبق له التحلى بها، فاذا بسيف يترك حاسوبه ويستدير تجاهه بجمودٍ تام، يقابل عنفوان حديثه: بقى أنت ترميني بره الرمية دي، عايش دور الدكتور المهم، أمال لو مكنتش دكتور أطفال يلا كنت عملت أيه؟

منحه نظرة باردة، وقال: عايز أيه يابن الشيخ مهران، ويا ريت تنجز عشان مش طايق أشوف خلقتك؟

زوى حاجبيه بدهشةٍ من اسلوبه الفظ: مش طايق تشوفني أنا!

سحب الحاسوب وعاد يسجل حالات اليوم بعدم مبالاة به: مش كنت بتتحرج من أفعالي الطفولية، أديني بعدت وسبتلك الطريق مفتوح، مش كده أروق ليك؟

جلس على سطح مكتبه الفخم، وردد بحيرة: معقول تكون زعلت من هزاري يا سيف؟

نبع ألمًا غامضًا بين مُقلتيه، فتوقف عن الكتابة، واستدار يخبره في لينٍ: لا مزعلتش يا آيوب، بس إنت فعلًا معاك حق في كل كلمة قولتها، أنا صاحب سييء وأناني، عشان كده مش لازم أتسببلك في احراج من أي نوع مرة تانية.

واستطرد بنبرة يلتمسها منه آيوب للمرة الاولى: أنا طول عمري كنت لوحدي، مكنش حوليا غير يوسف أخويا، الكل كانوا بيشوفوني غريب، وبيبعدوا عني، يمكن عشان مكنتش بحب الاختلاط، وكنت بميل للعزلة أكتر، لحد ما أنت ظهرتلي.

تحولت نظراته إليه، وقد قرأ آيوب في عينيه كسرة وحزن أوجعه للغاية: من اول ما شوفتك وأنا مرتاح ليك، حتى بعد ما عرفت اسمك، كرهي لابويا خلاني كاره أي حد بنفس الاسم، الا إنت معرفتش أكرهك ولا أعزلك عن العالم اللي أنا فيه بطولي، وبردو مش قابل أكون متحكم في حياتك بالشكل المرضي ده، إنت ليك حياتك ومن حقك يدخلها أكتر من صديق.

ونهض عن مكتبه ينزع البلطو الطبي، ويتجه لغرفته الجانبية قائلًا: العيب فيا أنا يا آيوب، أنا اللي وحش مش إنت، اخرج من هنا وانساني، خلي علاقتنا محدودة زي ما علاقتي مختصرة مع كل اللي حواليا.

قالها وولج يغلق الغرفة الصغيرة من خلفه، بينما مازال آيوب يجلس محله، في محاولات لاستيعاب ما لفظه بوجهه وهرب للداخل، تحرك بعد دقيقة اتخذها مهلة يتمعن بها لما قيل، ونهض يطرق على الغرفة بغضبٍ: سيف افتح وبطل هبل، إنت أكيد مش طبيعي، علاقة أيه اللي عايز تقطعها، هو احنا اللي بينا بيتمحي بالبساطة دي، اخرج هنا واجهني متبقاش جبان!

عاد يطرق مجددًا، لدرجة جعلته يركل الباب بعنفوان: سيف اخرج حالًا والا هكسر الباب على رأسك، افتح!

لم يأتيه أي ردًا منه، فخرج يتجه لقسم النساء والتوليد والعصبية تستوحش معالمه، استعلم عن مكتب يوسف وطرق بيده، ثم ولج دون أن يستمع لاذن الدخول.

رأى يوسف يجلس مهمومًا على مكتبه، مستندًا بوجهه على يديه، وما أن رأه حتى ردد بابتسامة عذباء: آيوب! إنت بتعمل أيه هنا؟

وقف قبالة مكتبه يخبره بنغزة حاملة لوجعه الشديد: أخوك بيقولي علاقة الصداقة اللي بينا انتهت، وقافل على نفسه ومش راضي يفتح ليا، من فضلك يا دكتور يوسف تتصرف معاه، عشان أنا هضربه صدقني.

تعجب مما استمع إليه، واستقام بوقفته بذهولٍ: معقول!

أكد له آيوب، والغضب يتضاعف بفيروزته: هتتصرف معاه ولا أكسر الباب وأدشملهولك في بعضه!

تهدلت شفتيه ضحكًا على حديثه، فنهض ينزع البلطو الطبي وهو يقول: لا هتصرف متقلقش.

وهمس بسخط: يعملوها الصغار ويقعوا فيها الكبار!

اتبعه يوسف للقسم الخاص بالاطفال، فولج لغرفة أخيه، ووجد غرفة تبدل الملابس مغلقة مثلما أخبره آيوب، طرق يوسف على الباب ونادى أخيه برفقٍ: سيف إفتح الباب.

أتاه صوت أخيه يردد بوجومٍ: إمشي إنت وهو يا يوسف، أنا مش هخرج طول ما هو بره.

كور آيوب قبضته بغضبٍ، بينما يربت يوسف على ظهره ليهدئه: اصبر وأنا هحل الدنيا.

وعاد يخبر أخيه: طيب فهمني أيه اللي حصل؟

بحزنٍ شديد قال: أنا شخص أناني يا يوسف، وعمري ما فكرت غير في نفسي، طول عمرك بتضحي عشاني وأنا عمري ما عملت شيء عشانك، حتى علاقتي بآيوب بنيتها على هذا الاساس، أنا مستحقش يكون ليا أخ زيك ولا صديق زيه، هي معاها حق في كلامها، اتخلت عني عشان أنا وحش وأناني.

طعن قلب يوسف في الصميم، وقد تسرب له شكوك ما يمر به أخيه، فمال على الباب يسأل برعبٍ: مين اللي قالك كده يا سيف؟

أتاه صوته مكبوتًا ببكاءٍ مختبئ خلف وجومه: أمك! كانت مستيناني قدام المركز، جت مخصوص تقولي أنها عمرها ما حبتني لاني أناني، حتى بعد كل اللي انت قدمتهولي كنت أناني معاك يا يوسف، هي صح أنا وحش واستحق أكون لوحدي من غيرك ومن غير آيوب ومن غير زينب كمان، أنا عايز أكون لوحدي زي ما كنت.

سقط يوسف أرضًا جوار الباب من الخارج، فهلع إليه آيوب قلقًا، وقد اخترقت كلمات سيف صدره كالحمم النارية: دكتور يوسف إنت كويس؟

أزاح نظارته الطبية عن عينيه، ليزيح دموعه، واستمد نفسًا يزيح به وجع حلقه، بينما يميل برأسه على باب الغرفة يخبره: سيف أوعى تقول على نفسك أناني تاني، إنت عمرك ما كنت أناني، إنت اتجبرت تكون وحيد جوه البيت بعد سفري، وبعدها اخترت تكون في الوحدة دي لانها حققتلك السلام، إنك كنت خايف تصاحب أو تخرج من عزلتك دي مش أنانية، حبك لآيوب واكتفائك بيه رغم ان حوليك أكتر من حد دي مش أنانية، إنت عمرك ما كنت أناني يا سيف، هي اللي وحشة وعايزة تنقل سواد قلبها ليك، عايزة تدمرك وترجعك للحالة اللي كنت فيها بغيابي عنك.

وبوجعٍ وكسرة، ودمعة تنهمر على وجهه قال: فلو فارقلك وجعي وكل اللي عملته عشانك، هتخرج حالًا وهتنسى كل اللي اتقالك، أنا مش متحمل أشوفك انت بالذات بالحالة دي، ولو أنا هونت عليك فعلًا هتكون أناني بجد يا سيف.

وسأله ودموعه تنهمر بمرارةٍ على امتلاكه أمًا قلبها كقبضة من حديدٍ قاس: هيهون عليك وجعي يا سيف؟

طرق آيوب على بابه وردد باحتقانٍ، من شدة تماسك دموعه فور أن علم بما أصاب رفيقه: افتح يا سيف بالله عليك.

حرر المزلاج أخيرًا، وخرج بعيني متورمتان من أثر البكاء، بعدما أزاح منهما الدموع، احتمل يوسف على ذراع آيوب، ونهض يقف قبالته، يعاتبه بضيق: انت عارف هي بتعمل كده ليه، تقوم تسهلها عليها؟

اختلج فيه الألم وتحرر: أنا مش عايز أكمل هنا يا يوسف، خلينا نرجع للندن، أنا مش عايز أفضل هنا تاني.

التقفه بين ذراعيه يضمه، فتعلق به سيف وتحرر بكائه بشكلٍ أبكى آيوب، وجعله ينسحب بالخارج، لا يقوى على رؤيته بتلك الحالة، بل انفرد بزواية بعيدة وأعاد الرنين بأخيه الذي هتف بقلق: خير يا آيوب لبست في أيه المرادي؟

أتاه صوته المحتقن، يشكو له: أنا في المركز عند سيف، تعالى يا آدهم!

قالها وأغلق الهاتف، وهو يجفف دموعه بحسرة على وجع رفيقه، لم يلمس فيه يومًا أي عقد، ربما لم يقص له سيف يومًا عن مشكلته مع والدته، وعما فعلته به ليصل لتلك الحالة.

خمسة وعشرون دقيقة أستغرقها آدهم بالعودة لمكان أخيه، صعد راكضًا للطابق العلوي، وصوت أخيه الباكي لا يفارقه، كان الطابق فارغًا، وبنهايته يجلس آيوب بين المقاعد المعدنية، أسرع بخطاه وهو يناديه بلهفة: آيوب!

نهض عن مقعده يقابله بنظرة وجع، وحينما اقترب قال شاكيًا: سيف عايز يقطع علاقته بيا يا آدهم، أنا السبب في اللي وصله ده، أخر مرة ركبنا معاك كنت بايخ في هزاري معاه، مكنتش اعرف أنه هياخدها بالحساسية دي، طلع الموضوع خاص بطفولته وهو عمره ما كلمني عن حاجه تخصه ولا تخص والدته، أنا مكنتش أعرف حاجة يا آدهم والله ما كنت أعرف.

ربت على كتفه بحنان، وهدأ من روعه قائلًا: اهدى بس عشان أفهم منك، هو فين سيف؟

أشار بيده للغرفة: جوه مع دكتور يوسف.

هز رأسه برزانة، وقال: طيب تعالى.

وتخطاه آدهم واتجه للغرفة، طرق الباب ثلاث مرات ولم يدخل الا حينما فتح يوسف الباب، واستقبله بذوقه المعتاد مرحبًا: المركز نور بيك يا حضرة الظابط، اتفضل.

أجابه ببسمة جذابة، وقد تملق للاحترام: منور بيك يا يوسف.

ولج للداخل ومن خلفه يتبعه آيوب، كالطفل الصغير الذي يحتمي بأبيه ليصلح ما أفسده دون قصدًا منه، بحثت عيني آدهم عن سيف، فوجده يتمدد على سرير الكشف وقد ضم يده فوق عينيه ليخبئ تورمهما، فمنحه شيئًا من الخصوصية، حينما استدار يقابل يوسف بحنكةٍ: طمني عن أخبارك يا يوسف، وعن القمراية الصغيرة.

رد عليه ومازال يحافظ على ابتسامته: انا زي الفل ونوجه بخير والله، هجبها معايا حنة آيوب بعد بكره باذن الله، أنا حتى اشترتلها فستان قد كف ايدي.

ضحك آدهم ورد عليه: ما شاء الله ربنا يباركلك فيها يا ررب.

أجابه يوسف بمحبة: تسلم يا آدهم، وعقبال ما أناولك الباشا أو الهانم اللي هيشرفونا على التاسع باذن الله.

مازحه وهو يتابع أخيه الذي يتطلع لسيف بحزن: لا من الناحية دي فهيشرفنا على ايدك بشوات عيلة الغرباوي والشلة كلها تقريبًا.

واتجه إليه يخبره في حركة ذكية اعتاداها بعمله؛
بالمناسبة في موضوع خاص عايزك فيه، تسمح.

فهم يوسف اشارته المبطنة، وخطى برفقته للخارج تاركًا لايوب المساحة: أكيد طبعًا اتفضل يا حضرة الظابط.

خرجوا معًا تاركين آيوب برفقة سيف، فدنى يجلس على المقعد المخصص لسيف حينما يفحص الاطفال على الفراش، جلس قبالته وردد بحشرجة أصابت حلقه: بقى كده يا سيف، عايز تقطع الصداقة اللي بينا بالسهولة دي، طيب على فكرة بقى أنا مش فارقلي كلامك كله، وهتنضرب يعني هتنضرب، عشان بعد كده متقولش اللي قولته.

حافظ على يده الموضوعه فوق عينيه، فردد آيوب بسئم: عكننت مودي وأنا اللي، جاي أخدك بالعربية الجديدة نأكل دره مشوي!

وأضاف بعندٍ: وأنا مصر بقى اننا نخرج ونروح نأكل الدرة، نفسي رايحاله هتكسفني ولا هتقوم معايا!

ولكزه وهو يناديه: سيفوووووو، سيفو قوووم نأكل دره سخن وننسى اللي فات، أنا لسه واخد طالعه على الرصيف معتبرة، فعشان نضمن اننا هنوصل بسلام سوق انت.

ضحك سيف رغمًا عنه، وأبعد يده، فتابع آيوب ضاحكًا: شالوني بالونش وأنا جوه العربية، وكل ده عشان أستسلم ومجيش ليك بس جيت ولا همني، حتى لو لبست في الرصيف مرة وعشرة ومليون، عشان تعرف معزتك بس!

تعالت ضحكاته على حديثه، واستقام بجلسته قبالته يخرج صوته الهادر بسخرية: إنت جايب أخوك الكبير يسلكلك الحوار!

شاركه الضحك وقال بقلة حيلة: هعملك ايه ما أنت انزويت جوه انت ودكتور يوسف، وأنا بره مش عارف أدخل ولا أمشي، فكلمت آدهم يتصرف، هو عاقل وبيعرف يواكب الموج صح.

وأضاف ضاحكًا: أنا حاسس أصلًا اننا قالبنا على أطفال في كيجي تو، هو الفرق بينا وبينهم 9سنين بس بردو شكلنا قدامهم أيه؟

رد عليه سيف ضاحكًا: أصلًا! مش شايفني وأنا مستخبي من ساعتها وعامل نفس مغمي عليا عشان آدهم ميشوفنيش هو كمان.

رد عليه آيوب بحماس وابتسامة مشرقة: أيه رأيك نغفلهم ونهرب من نحية السلالم اللي ورا، ونروح نحققلك الامنية بتاعتك ونأكل الدرة.

أجابه في لهفة وقد سُر بأنه خرج عن حالته: يلا.

نهض سيف يتسلل لباب الغرفة، ومن خلفه آيوب، فتحوا الباب معًا ومدت رأس سيف للخارج ومن فوقه رأس آيوب، يتفحصان موضع آدهم ويوسف، فوجدهما يجلسان بنهاية الطابق، جوار المصاعد، على احدى الطاولات، يرتشفان القهوة، همس له آيوب: دي اللحظة المناسبة، افتح ونجري على طول.

رفع سيف رأسه عاليًا له وقال: بالذمة ده كلام عريس حنته بعد بكره! مش همك منظري قدام الممرضات وهما شايفين دكتور بمركزي بيجري زي الاهبل كده!

لكزه باستنكار مضحك: ولا إنت هتشوف نفسك ولا أيه، ده انت دكتور أطفال، أمال لو كنت دكتور جراحه كان غرورك وصل لفين؟ لخص يا سيفوو بدل ما اعترفلهم بالسر ورا اللقب النبيل سيفو حقنة.

فور أن نطقها فتح سيف الباب وهرول راكضًا، ومن خلفه ركض آيوب وهو يردد بضيق: معدتش من واحد لتلاته ليه، انا مكنتش لسه مستعد يا غبي!

ركضوا معًا للاسفل، ويوسف وآدهم يتابعان ما يحدث بصدمة، وكان أول من نطق يوسف المتساءل باستغراب: هما بيجروا كدليه؟

ضحك آدهم وأجابه بسخرية: محروجين من لعب العيال اللي عملوه قدامنا، وهو فعلا لعب العيال.

جلس يوسف مجددًا يحتسي كوبه: والله لسه قايل من شوية يعملوها الصغار ويقعوا فيها الكبار، إدينا قاعدين نحلل ونصالح وفي الاخر سابونا خلعوا.

قهقه آدهم بصوته الرجولي، وقال وهو يرتشف كوبه: أديها فرصة نقعد مع بعض في جو هادي، وهما يحلوا مشاكلهم النوتي دي مع بعض.

شاركه يوسف الضحك، وقال يستعرض له ما حدث: آيوب الشاب المتدين الطيب خرج عن شعوره، بيقولي هتتصرف مع أخوك ولا أدشملهولك! أنا اتصدمت وشبهت عليه، حسيت وكأن نسخة عُمران واقفة قدامي.

ترك كوبه وقال يؤكد له: الطاووس الوقح أسس مدرسة وضمنا كلنا ليها بالاجبار، فخد بالك من نفسك يا دكتور!

عدل من نظارته الطبية بعنجهية مضحكة: لا انا انضميت لمدرسة على باشا الغرباوي، ماليش أنا في جو المراجيح دي، بتعلي الضغط عندي، أوعى بعد القعدة الروشة دي تنقل الكلام ليه، ربنا يجعل كلامنا خفيف عليه، وخصوصًا بعد ما قولتلي ان الذاكرة رجعتله.

واستكمل بخوفٍ اضحك آدهم: بفكر أتلاشاه شهرين تلاته لحد ما اعصابه تروق وتهدى، الانسان ده إتخلق عشان كل اللي حوليه يتلاشاه ويتقي غضبه!

صف سيارته ببقعة منعزلة بالقصر، وبهدوءٍ مخيف نزع عنه جاكيته وجرفاته، وحل أزرار قميصه ببطءٍ، بينما تموج عينيه المساحات الخضراء، وحديث ذلك الأرعن يترك علاماته داخل أعماقه.

لم يكن بمخيلاته أن يوصل ألم زوجته لتلك الدرجة، لم يكن الأمر مقتصرًا على غيابه فحسب، بل كان للأغلب دورًا فيما خاضته بدونه، وما يُولم قلبه أن تكون والدته ممن تسببن بوجعٍ لها، لقد أقسم لها على أن يستعيد حقها كاملًا ممن تسببن لها بالأذى، فماذا سيفعل بوالدته بحق الله؟

خرج عُمران من سيارته مهمومًا، بعد أن تمكن من معاونة جمال بالخروج من تلك الحالة التي كان سببًا بها، وفور أن انعزل ببقعته المعتمة، خنقه الألم وجعله يشعر بعدم مقدرته على التنفس بشكلٍ طبيعًا.

رطمه الهواء ففرق قميصه المفتوح، ضاربًا صدره بتياراتٍ باردة، تمنى لو نفذ من جلده السميك لنيران قلبه المستعيرة، مضى بطريقه قاصدًا مدخل الحديقة الخلفية، المطعم بالرخام الثمين، وإذا به يكاد أن يمر للداخل فوقعت رماديتاه عليها تغفو على أرجيحة القصر الخارجية، بين الورود، أتجه إلى محيطها والعتاب يقتنص من عينيه، ويزيد من وابلها.

وجدها تحني ساقيها وقد وضعت حولهما قربة من المياه الباردة، رفعها عُمران عنها، فلاحظ احمرار أصابعها، فعلم أنها تؤلمها، جذب المقعد الخشبي الخاص بالطاولات الخارجية، وقربه منها، وبلمساته الخبيرة بفك تشنجات الساقين وقتما يمارس التمارين الرياضية، استطاع أن يجفف من حدة ألمها، فاسترخت معالمها وبابتسامةٍ رددت: علي!

فتحت عينيها لتتفاجئ بصغيرها، الذي يضع عينيه نصب الوجع تهربًا من أن يتطلع لها، فابتسمت بسعادة ولهفتها تنطق بما فيها: عُمران! رجعت أمته يا حبيبي، أنا بستناك من ساعتها!

ازدرد غصته وأجابها: من شوية.

وقال ومازال يفرك ساقيها برقة: مالها رجلك؟

أجابته بوجعٍ وهي تمدد ساقيها: كنت مع أحمد في العين السخنه، كان عنده اجتماع مهم هناك وروحت معاه، اتمشينا كتير ولما رجعت محستش برجليا.

ردد بحشرجة عميقة: ألف سلامة على حضرتك.

انتظرت أن يرفع رأسه ولكنه لم يفعل، فسحبت ساقيها من يده وجلست قبالته، تسحب ذقنه وتجبره ليقابلها، وهي تناديه: عُمران!

توسعت زُرقتها في صدمة، حينما رأت احمرار عينيه بشكلٍ نقل لها غضبه الشديد، فرددت بفزعٍ: مالك يا حبيبي؟

تهرب منها بابتسامة زائفة: مفيش، راجع مصدع شوية، هأخد مسكن وهرتاح.

لمست كذبته من قبل خروجها، وأصرت بقولها: أيه اللي مضايقك ومخليك بالشكل ده، اتكلم يا عُمران!

تعمق بعينيها وعتابه يجلدها دون حديث، وبشجاعة حرر ما ابتلعه بارادته: مايا اتوجعت في بعدي، وزاد عثمان وجعها باصراره إنه يجوزها غصب عنها، فازاي جالك قلب تزيدي من وجعها لما قررتي تجوزيها من علي! إزاي قدرتي تعملي كده؟

جحظت عينيها في صدمة، ورعب مما سيحدث بينها وبين صغيرها، انسحب كفها عن وجهه، وبالرغم من التماع الدموع بعينيها الا أنها ابتسمت فرحة نطقتها بحديثها: اللي قدامي ده عُمران ابني، متتخيلش أنا ارتاحت ازاي أنك رجعت لقوتك ومبقاش في مجال لحيرتك بين شخصيتك اللي كنت وبقيت عليها.

رد بهدوءٍ والاحترام يلحق نبرته: مش دي اجابة سؤالي، سؤالي واضح يا فريدة هانم.

تطلعت له بارتباكٍ، وتساءلت بتلعثم: مين اللي قالك؟ عثمان أكيد لان مايا عمرها ما تعمل كده، تربيتي وأنا واثقة فيها.

ابتسم بألمٍ، وقال يعاتبها: ولما هي تربيتك، إزاي قدرتي تكوني قاسية عليها بالشكل ده، مفكرتيش في علي، ازاي قبلتي تحطيه في موقف زي ده هو وفاطيما، ازاي أخدتي قرار قاسي ومتهور زي ده قوليلي يا أمي!

وأضاف والوجع يحشرج صوته المبحوح: كان هيجيلك قلب تقدمي حياة ليها ولابني على حساب حياة على وفاطمة؟

وبابتسامة ختم فيها وجعه المتضخم: للدرجادي كنتِ مصدقة إني مش راجع، محطتيش أمل صغير أني عايش طالما مشوفتيش بعنيكي جثتي!

أخفضت وجهها أرضًا عسى أن تخفي تلك الدمعة الزاحفة على وجهها، فما أن رأها عُمران حتى نهض يزيحها عنها وهو يهتف: تعالي معايا أطلعك الجناح، إنتي محتاجة ترتاحي.

مالت على كفه الموضوع على وجنتها، قبلته وبكت بصوتٍ مزقه، لم يشهد بكائها الا مرات قليلة معدودة، ولم يأتي من قلبه أن يكون سبب بكائها، انحنى على ركبتيه قبالتها يهاتفها بألم: أنا مش هتحمل أشوفك كده، وغصب عني موجوع منك، قوليلي طيب المفروض أعمل ايه؟

أبصرت عن زُرقتها تتعمق في رماديتاه، ومزقت صمتها قائلة: كنت خايفة، من بعدك حسيت اني مبقاش ليا حماية، إنت اللي كنت بتحامى فيه، شخصيتك غير أحمد وعلي، عشان كده كنت بخاف عليك طول الوقت، لإنك عمرك ما سبت حقك وده خلى عيلة الغرباوي كلها تعملنا ألف حساب، ومن بعدك محدش كان هيعملهم راجع، مهما على عمل هو وأحمد عمرهم ما كانوا هيسدوا قبالهم.

واستدارت وبكائها يتعالى وجعًا: عثمان اتخرس طول السنين اللي فاتت دي عشان كان عاملك ألف حساب، ولما قرر يجوز مايا كنت عارفة ان مفيش حد هيقدر يوقفه عن قراره، خوفت يخطفها و يجبرها على اللي في دماغه، وقتها مش هنقدر نعمل حاجه لو جوازها، العيشة اللي كانت هتنجبر تعيشها محدش هيقدر يحس بيها غيرها، أنا الوحيدة اللي تقدر عيشة واحدة مع واحد مغصوبة تكون معاه.

استرقت نفسًا طويلًا واستكملت: وفكرت في حفيدي، أنا استنيتك ترجع يا عُمران بس لما طولت في رجوعك عرفت انك مش راجع، لانك عمرك ما هتكون عايش وهتقبل بوجعي ولا بوجع مايا وعلى في فراقك، عشان كده اتقبلت بالحقيقة دي، مش بمزاجي غصب عني، عشان كده مكنش عندي اي اختيارات تانية غير اني اتمسك بابنك، هو ده كان هيكونلي العوض الوحيد. كنت هشم ريحتك فيه، وأنا واثقة إن على هو الوحيد الأمين على بنتي، وعارفة انه عمره ما هيكونلها زوج بالمعنى الحرفي، بس كفايا انه يمنع عثمان يجوزها من أي حد.

أزاحت دموعها وقالت بانكسارٍ: ولما على حبسه صرفت نظري عن الموضوع، ومبقتش افكر غير في لحظة خروجه، وكل لحظة بتمر بفتكرك وانت واقف بطولك قدامه وقدام نعمان وقدام كل شخص حاول يتعدى علينا، أنا كنت بتحامى ورا ضهرك، من قدامك بتنرفز عليك من تصرفاتك ومن وراك فرحانه وفخورة بيك، ويمكن كل ده كان بيزيد قلقي وخوفي عليك.

وضمت وجهه بين يديها وهي تخبره باكية: أنا أسفة لو جرحتك من غير ما أقصد، أنا كنت خايفة من لحظة ما تعرف وأديها جيت، أنا مش هستحمل انك دي تزعل مني أو تبعد عني يا عُمران، أنا عايزاك جنبي، تعوضني عن وجع غيابك.

واضافت ببكاء: سامحني كنت مجبورة، وعاجزة من غيرك.

استقام بوقفته يضمها لصدره بقوةٍ، فبكت وهي تتعلق به ومازالت تهتف: حقك عليا يا حبيبي، أنا آسفة.

قبل رأسها وقال بحشرجة مؤلمة: أنا اللي آسف إني اتكلمت معاكي في الموضوع ده، اللي فات خلاص اتردم من اللحظة دي.

ومال يقبلها هامسًا بمزحٍ: وبعدين طالما انتي فخورة بيا وبوقاحتي مع الاشكال اللي متسواش دي بتصدريلي الوش الخشب ليه يا فيري! ما تسبيني أتعامل وشجعيني بواحدة عفارم عليك اللي مبتطلعش غير لدكتور علي!

انتزعت نفسها منه تطالعه بصدمة: أيه الالفاظ السوقي دي يا ولد!

ضحك وهو يخبرها: ده أرقى حوار أنا خوضته أساسًا، بالك إنتي لو تعرفي عملت أيه في عثمان الكلب ده، خليته بيكلم نفسه في الحبس، كان فاكر إنه سلم مني بروح أمه! بس على مين، ده أنا مبدئي ثابت، تحترمني أحترمك، هتقل مني هحط عليك، وأنا حطيت عليه حاطة هتقسم وسط أمه نصين وهتعمله تروما.

وتنهد بحزن مصطنع: يلا هو ابن حرام ويستاهل الطالعه دي.

ازداد اتساع بصرها في صدمات تتلاقاها بعدم استيعاب، فاذا بها تقف قبالته فهتف بتشجيع: المساج جاب نتيجة عظيمة أهي!

هزت رأسها بثبات مخيف، ورددت مشيرة على حذائها الموضوع أرضًا بتنساق: هات الشوز مش قادرة أوطي.

انحنى يحمل الزوجين، ويقربهما من ساقيها ليعاونها بارتدائه، ففاجئته حينما جذبتهما، تلقيهما عليه صارخة بجنون: آه يا وقح يا عديم الرباية، أنت ازاي وصلت للمستوى المتدني ده، ومش مكسوف وانت بتتكلم قدامي، قدام فريدة هانم الغرباوي!

ركض للمصعد وصوت ضحكاته أرغمتها على التبسم وخاصة وهو يخبرها قبل انغلاق باب المصعد: كان نفسي أشيلك لجناحك وأقوم بدور جوزك المُقصر ده، اخلعيه في محكمة الاسره يا فيري.

وفور أن وصل للطابق العلوي، مد رأسه من السور يتطلع لمحلها بالاسفل: لو هديتي أنزل أطلعك جناحك، لو لسه غضبانه هضطر اقولك تصبحي على خير برنسس فريدة.

قالها وأسرع لجناحه، والابتسامة والفرحة مازالت على وجهها، فتنهدت وشعور الراحة يجتاحها، وصعدت لجناحها على الفور، تغدو بنومٍ مريح بعد أن أراحها التدليك الذي صنعه لها الطاووس.

ولج لجناحه والابتسامة تحتل ثغره، فوقع بصره على زوجته الغافلة بفراشها، دنى منها مبتسمًا، وصعد جوارها، يزيح خصلاتها المتمردة، وفجأة عاد مشهد والدته يتردد إليه، فسقط من أمامه ذكرى ما فعلته به مايا حينما كان فاقدًا للذاكرة، وهو ذاك الذي لم يتنازل عن حقه قط، فماذا سيفعل الآن!

تململت في فراشها، حينما شعرت بأصابعه الباردة فوق وجهها، فتحت عينيها وابتسمت تناديه بصوتٍ رقيق: عُمران!

ابتسم رغمًا عن أنفه، ورد عليها بنفس رقة صوتها: حبيب قلبه وروحه إنتِ.

اتسعت ابتسامتها وعادت تهمس: اتاخرت أوي!

اجابها وهو ينزع حذائه بمكرٍ: اشتاقتلي يا بيبي! أمال ملمحتش رنة ولا حتى مسدج منك ليه؟

تابعت ما يفعل بدهشة، وخاصة وهي تراه ينزع حزامه الجلد بتأني: كنت مرهقة ونمت، لسه فايقة من شوية.

وتساءلت باستغراب: عُمران انت بتعمل أيه؟

قرب الحزام منها وهو يلهو به: أبدًا يا بيبي، ده انا ماشي من الصبح بصفي حساباتي كلها مع كل اللي غلطوا فيا نفر نفر، حتى جيمي كان عليه ليا لكماية روحت مخصوص وادتهوله، وبينما كنت بصفي عقلي استرجعت مشهد ليكي، وإنتي رافعه عليا الشوز مرتين، فقولت نصفي أمورنا مع بعض عشان ميبقاش في حساسية تعامل بينا ممكن لا قدر الله تؤدي إلى الكره، يرضيكِ نكره بعض يا بيبي؟

ابتلعت ريقها برعبٍ، وبصعوبة هتفت: عُ م، ر، ان!

أغلق عينيه محركًا رأسه كالراقص على أوتار الجيتار: متحاوليش، مفيش أي اغراءات منك هتنفعني، الحق حق يا بيبي!

فور نطقه لتلك الكلمة، هرولت راكضت لخزانتها، وأسرعت بغلق الباب وهي تصرخ: فريدة هانم، يا أنكل احمد، على الحقووووني بليز.

ضحك من خلف الباب ومال يهمس لها: احبالك الصوتية يا بيبي، الجناح كاتم للصوت، أفتحي كده وخليكي عاقله، الباب مش هيأخد في ايدي غلوة!

ابتلعت ريقها برعبٍ، واذا بها تتذكر الباب السري للصالة الرياضية الخاصة به، فتحته وهرولت للاعلى، تبحث عن مكان تختبئ فيه منه، فتفاجئت بالحائط الحجري بنهاية الجناح، يتحول لشكل زجاج شفاف، ومن خلفه رأت علي يجلس على الاريكة منشغلًا بقراءة كتابًا وقهوته لجواره.

مشطت الصالة بنظرة متفحصة، فوجدت جاكيت عُمران الرياضي موضوع على المشجب، جذبته تريه فوق منامتها المحتشمة، صانعة من قبعته حجابًا لها، وهرولت تطرق على الزجاج بكل ما فيها، ولحسن حظها أن الصالة الرياضية والمكتبة لا تحوي على كاتم للصوت.

انتبه على لصوت الطرق، تعجب بشدة حينما رأى مايا تطرق الباب وتستغيث به: علي، الحقني يا علي، حاول تكسر الازاز بسرعة، أخوك اتجنن وهيقتلني!

اتجه لها بينما تعيد شرح ما تود قوله: اكسره بس.

ابتلعت كلماتها في صدمة حينما فتح احد الابواب، فولجت تردد بصدمة: انتوا عاملين معدية لبعضكم! اتاريكم بتختفوا بالساعاااات.

واردفت وهي تركض للداخل راكضة: يالا مش مهم، المهم ألقى مخبئ ليا قبل ما يلاقيني.

اتبعها على وتساءل بشك؛
عملتي أيه المرادي يا مايا، انتي مفيش وراكي غير فريدة هانم وعُمران! اختيارات كلها عوق ومهالك.

استدارت ترمقه بغضب: هما اللي قلبهم قاسي وبيجرجروني لسكة ماليش فيها، المهم خبيني بسرعة يا علي.

ضحك وهو يخبرها: هخبيكي فين وهو اللي مصمم المكتبة وعارف مخبئاها ومداخلها.

منحته نظرة غاضبة وصاحت بعصبية: هو انت شمتان فيا، ميبقاش قلبك حجر زيهم على الاقل فكر في ابن اخوك مش فيا!

قهقه ضاحكًا، وهو يقترح عليها: خلاص أنزلي تحت عند فطيمة، ده المكان الوحيد اللي مش ممكن يدخله.

زفرت بحنق: انا لسه هنزل تحت أنا ضهري اتقطم من الجري!

كاد أن يسقط من فرط الضحك وهو يقول لها: طيب اعمل أيه طيب!

ردت بقلة حيلة: هنزل وأمري لله، هي فين طيب؟

قال وهو يتلصص لصعود أخيه المسموع: بتشتغل في أوضة مكتبها، عندها اجتماع أون لاين.

أشارت له وهي تهبط مسرعة: يعني لابسه حجابها وكله تمام، فل كده، خليك في حضن أخوك بقى تصبح على خير.

وتركته مصدومًا من حديثها عن أمر الحجاب، بينما يتلقف سماع صوت أخيه المتساءل بغضب: خبتها فين انطق يا علي؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة