قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة واثنا عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة واثنا عشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة واثنا عشر

هرولت للأسفل ما أن وصل إليها صوته، وتبقت على أخر الدرج مترددة في الخروج، كانت بالبداية ترفض الهبوط للجناح، لربما كانت تجلس فاطمة بحريتها، الأمر برمته يخجلها.

ومع ذلك طرقت على الباب الفاصل بين الدرج والجناح، فاذا بفاطمة ترنو من الخزانة، هاتفة بدهشةٍ: علي!

وحينما لم تستمع لأي صوت، أسرعت بفتح الباب، فتدرجت دهشتها ورددت: مايا!

زفرت بارتياح حينما وجدتها مازالت ترتدي بذلتها النسائية السوداء، يبدو أنها انتهت للتو من الاجتماع، مدت يدها تجاهها وقالت وهي تراقب الدرج من خلفها بذعرٍ: طلعيني بسرعة قبل ما يمسكني.

زوت حاجبيها بعدم فهم: هو مين؟

صرخت بارتياب: عُمران.

فور نطقها سحبتها فاطمة للداخل، وأسرعت بغلق الباب قائلة بخوفٍ: عملتي فيه أيه تاني يا مايا، أنتِ واخده حبيتين جراءة اليومين دول ولا أيه؟

تأكدت بأنها أغلقت المزلاج جيدًا، واستدارت تخبرها بغيظٍ: أنا معملتش حاجة جديدة، ده ماشي بيحاسب الخلق على اللي عملوه معاه، وجاي يحاسبني على القديم، تصوري يا فاطمة رافعلي الحزام وعايز يجلدني بيه زي أبطال الروايات التوكسيك.

وتابعت وهو تنزع جاكيت عُمران الكبير عن جسدها: أنا شاكة فيه من يوم ما اتجوزته أصلًا، يا خوفي ليكون فهد الفهود وأنا كنت غبية ومعرفش.

مالت فاطمة لطرف الخزانة من شدة سقوطها بالضحك، لدرجة أدمعت عينيها صدمة وتأثرًا بما قالته، فرمقتها مايا بغضب: بتضحكي على أيه؟ بقولك عايز يجلدني عشان يتكيف! يا صدمة صبري وحبي الكبير ليه، طلع سادي مريض!

ركضت فاطمة تكمم فمها، وتحذرها برعبٍ: هووش أسكتي يا ميسان إنتي عايزة تموتي النهاردة بجد ولا أيه؟

أبعدت كفها وهي تراقب باب الخزانة بخوف، ثم قالت: أنتِ مش هتتخلي عني أنتي وعلى صح يا فطوم؟

ضحكت وهي تخبرها مازحة: أنتِ بتجرينا لحرب مع الطاووس وعايزنا نكون معاكي!

لطمت على صدرها بطريقة درامية، أذهلت فاطمة: بعتيني من أولها يا صاحبتي!

وجذبتها من تلباب جاكيتها، تهزها بعنف: أغراكي بكام ابن الغرباوي، انطقي بعتني بكام؟

أذعنت خوفها منها، وهمست بهلعٍ: دولارات الدنيا كلها فداك يا باشا، من الصبح هعمله اضراب في الشركة، ولو عايزاني أقدم استقالتي همضيها وقتي وقدامك.

ابتسمت في رضا وهي تحررها: لا مش للدرجادي، لو استقالتي وبعدتي مين هيجبلي أخباره أول بأول.

وأضافت وهي تطرق كتفيها بفخرٍ، كأنما تحملها مسؤولية بلدها على عاتقها: إنتِ عنيا هناك يا فاطمة، ولاني للاسف ارتحت في الانتاخة بالبيت فمستحيل هرجع تاني، لذا مراقبتك للكائن ده مهمة ليا ولمعاهدة السلام والصداقة اللي بينا.

تعالت ضحكات فاطمة، وقالت في حبورٍ: أنا عنيا وسماعات أذني كلها تحت أمرك يا سلفتي.

مالت تضمها وهي تطبع قبلة على خدها: كده تبقي صاحبتي وحبيبة قلبي، وكفاءة!

واستطردت وعينيها تجوب الجناح بنظراتٍ فضولية: قوليلي بقى، عندك أيه يتأكل هنا؟

وبعدين؟

قالها عُمران بعصبية، وهو يرى أخه يتجاهله تمامًا، ويستكمل قراءة كتابه، محركًا مقعده الهزار ويرتشف من كوب قهوته ببرودٍ، بينما يجيبه ببراءةٍ: عُمران، هو أنت لسه قاعد هنا؟ فكرتك نزلت جناحك!

ضم شفتيه معًا بغيظٍ من طريقته، فاذا به ينحني ويخطو بالمقعد تجاه بقعة أخيه، حتى بات ينحني إليه، مرددًا بهدوءٍ خطير: عيب تصيع على واحد صايع يا دكتور، إستعيذ بالله من الشيطان كده واقوم نادي مايا من تحت، بمنتهى العقلانية والنضوج اللي اتربيت عليهم طول عمرك.

تحكم بضحكاته بصعوبة، وأغلق كتابه وهو يجيبه: مش أنا قولتلك من ساعة ما دخلت إني مش مانعك عن مراتك، ولا قافل عليها أبواب، أتصرف وكأنه مكانك يا حبيبي.

أدمى شفتيه السفلية من شدة غيظه الشديد، فهدر بخشونة: على يا غرباوي بلاش تلوي دراعي بالخبث ده، انت مش قدي صدقني، انت عارف أني مستحيل هنزل للجناح فلزمتها أيه اللفة الصايعة دي.

دفعه للخلف فسقط على مقعده، بينما يصيح بحزمٍ وصرامه: في واحد محترم يكلم أخوه الكبير كده؟ لو فاكر إني هديك الفرصة تحرر البلطجي اللي جواك ده قدامي تبقى بتحلم.

وقبل أن يتحدث عُمران بحرفٍ أشار يحذره: أنا مش عايز ضوضاء جنبي من أي نوع، محتاج هدوء لحد ما أخلص الكتاب اللي في ايدي، هتقعد اقعد بأدبك، مش قادر تسيطر على البلطجي اللي جواك خده وامشي.

عاد يجلس والابتسامة الخبيثة تتسلل لمعالمه الوسيمة: هكتفلك أمه دلوقتي، كمل استجمام في جوك الممل ده، أنا صايع وموريش أي حاجة.

قالها ومشى تجاهه، يختطف كوب قهوته، ويتجرعه مرة واحدة كأنه يبتلع دواء مر الطعم، غير مباليًا بشرارة على المقتادة، بينما يتجه متبخترًا للشازلونج المتطرف بزواية المكتبة، تمدد من فوقه واضعًا كف يده فوق عينيه ومال يصفر باستمتاعٍ.

ابتسم علي وهو يتابع مشاكسات أخيه، التي تحاول استدراجه خارج نطاق بروده، ليصب جم غضبه عليه، لذا لم يحقق مراده، ونهض يتجه لماكينة القهوة الحديثة، يعد كوبًا أخر، ثم عاد يهز مقعده بانتظامٍ، وهو يتابع قراءته، حتى استمع لصوت ينذره بنضج القهوة، فنهض يحملها ويعود لمقعده يستكمل قراءته.

نهض عُمران عن الشازلونج، واقترب منه يميل متلصصًا على ما يقرأه، فجلس على حافة المقعد وهو يتابع الصفحة من أمامه بتركيزٍ أضحك علي، وبعد خمسة دقائق، انزعجت معالم وجهه وعبر: إقلب الصفحة بقى، خلاص قريناهم!

رد عليه ومازال يتمعن بالكتاب: أنا لسه! وبعدين إنت بتسمي قراءة الأرانب دي قراية!

أدلى شفتيه ساخطًا: وقراية السلاحف دي هي المعترف بيها ولا أيه مش فاهم!

مال الكتاب جانبًا وزفر بانزعاجٍ: ما ترجع جناحك يا عُمران.

رد بنفس الانزعاج: اديني مراتي وهمشي، أنا مش غاوي فراهدة كلام أكيد، يمكن تقتنع إن حبالي طويلة.

منحه نظرة مستهزأة، وعاد يستكمل قراءته، فنهض عُمران في نية العودة لمحله، وقبل أن يخطو خطوة واحده، كان يرتشف كوب قهوته الثانية بعنادٍ، جر علي لساحة الحرب: أنا لو قومتلك هربيك من أول وجديد يا عديم التربية.

استكمل طريقه، وتمدد مرددًا بسخرية: مستنيك، بس متتأخرش لحسن بنام بدري.

ردد باستنكارٍ: بعد كمية القهوة اللي ضربتها دي مش هتنام الا على الاسبوع اللي جاي.

مال على جانبه، ليكون مقابله: طيب كويس، هسليك بدل ما أنت قاعد في هدوء الاشباح والموتى ده!

وأضاف وابتسامته تتسع بغرورٍ: أنا حظك الطيب في الدنيا، من غيري كنت هتتحرم من التسلية ومن رفاهية الحياة كلها يا علي، أعترف إن كل ده متحققلك لاني أخوك.

ضحك باستهزاءٍ: غامرني بكرمك وأفضالك إنت، ممتن لوجودك المستفز يا قلب أخوك.

مال برأسه ضاحكًا، وحاول أن يستغرق بالنوم، بينما يمضي على بقراءته، فمرت به ساعة كاملة ظن بها أن بهدوئه قد استسلم لنومه، فأغلق كتابه، ونهض يتجه للشازلونج الضخم، ينزع عنه نظارته الطبية ويتمدد جوار أخيه، وعينيه تراقب سقف الغرفة، الذي حفر فيه صفحات فارغة، بشكلٍ أبهر تصميمه، وما كاد بأن يغلق عينيه ليحظى بنومٍ مريح، حتى أتاه صوتًا مناديًا: علي.

فتح رماديتاه مبتسمًا: القهوة جابتلك أرق!

نزع يده عن وجهه، فاذا به شاردًا ببقعة بعيدة، وبهدوئه الذي أقلق أخيه قال: تفتكر أني أستحق الكرم الكبير اللي ربنا سبحانه وتعالى من بيه عليا؟

عبث على واستدار تجاهه، متسائلًا: مش فاهم سؤالك؟

وضح له ومازال يشرد بعيدًا عنه: هل أنا أستحق حب مايا، وتضحية جمال، ووجعك اللي كنت أكبر سبب فيه، انكسار فريدة هانم، عذاب كل اللي حواليا لفراقي، كل ده مخليني متلخبط وحاسس إني مستحقش كل ده، أنا مقدمتش ليكم كلكم الا الوجع، حتى بعد موتي الزائف، ويمكن لو كنت ميت بجد كنت هتتحمل مسؤولية مايا وابني فوق كتافك العمر كله، زي ما كنت شايل مسؤوليتي أنا وشمس!

ارتطم الألم بمُقلتيه، فاذا به يتقلب باتجاهه، وبانقباضة قلبه قال: أيه التخاريف اللي بتقولها دي يا عُمران! لو انت مستحقتش حبنا ليك وانت بالطيبة والحنان ده، بالله عليك مين اللي هيستحق؟

وأضاف والشك يتمختر برماديتاه، وقد نهض جالسًا على الشاذلونج: وبعدين أيه اللي يخليك تتكلم الكلام الغريب ده؟ عُمران إنت مخبي عني أيه؟

تنهد بقلة حيلة من فشله بإخفاء أي أمرًا عن أخيه، فاستند على جذعيه واستقام بجلسته قبالته، وبارتباكِ قال: صفيت حسابي مع عثمان، أنت عارف إني مستحيل هسيب حقي.

توترت معالمه قبالة أخيه، فتجاهل ما قاله، وسأله بامعانٍ: قالك أيه يخليك تقولي الكلام ده؟

لفظ نفسه على مراحل، وقال: قولتله إن مفيش ست تعاشر عُمران سالم الغرباوي وتقدر تعيش مع راجل تاني من بعده، قالي حتى لو الراجل ده كان على الغرباوي!

اتقبض قلب على بخوفٍ، وترقب لما سيقول، فاستطرد بغضب: ابن العالمة بيحاول يخرجني عن شعوري بس أخوك راجل ويسد في أي خانة، سدتها عليه شرق وغرب، وزمانه دلوقتي مقضيها مرش في الهدوم وغسيل حلل.

تحلى عن صمته أخيرًا، وقال برزانة: عُمران أنا عمري مكنت هسمح لده إنه يحصل، أنا قادر أحمي مايا واللي في بطنها من غير ما ده يحصل وآ.

بتر حديثه حينما ضم كفيه: متكملش يا علي، أنا لو شكيت في نفسي بيوم من الايام إنت أخر شخص ممكن أرفع عنيا فيه.

وابتسم يشاكسه بابتسامته: زمان لما اتحطينا في نفس الموقف، قولتلي أنا أتعمي قبل ما أرميك بنظرة باطنها الشك وأتهام الخيانة، ودلوقتي الزمن دار وجيه عليا الدور أقولك إني أخون نفسي ألف مرة والا إن إسمك يتذكر في جملة فيها خيانة أو أي صفة كريهة.

وأضاف وهو يمازحه بغمزة: ده أقومها حرب تتطربق على نفوخ أم اللي يجيب سيرتك أو يرمشلك بجفن بس، ده أنا أصفهاله وأخليه ماشي يحسي في طريق كله عراقيل ومطبات.

تخلت عنه كل كلماته، فقط ضمه إليه مبتسمًا، وهمس ضاحكًا: هو أنا ليه مبسوط بالبلطجي اللي جواك!

أجابه وهو يربت على ظهره: عشان جاي على هواك وكل بعقلك حلاوة يا علوة!

وأضاف وهو يرفع يده يمررها على شعر على الطويل: حبيب قلبي الطيوب هيسمع كلامي وهينزل يجيبلي مايا، شيطاني فاجر بعد عنك مش هيهدى الا لما يسترد حقه ووقتي.

دفع ذراعه عنه، وعاد يتمدد جواره، هاتفًا ببرودٍ وهو يرفع قدمًا فوق الاخرى: بعينك يا طاووس، البنت استنجد بيا ومستحيل أخذلها، هل انت ممكن تعملها لو فطيمة اللي كانت مكانها؟

مزق شفتيه السفلي بغيظٍ، ومال يتمدد جواره قائلًا بوعيد: وهي هتروح مني فين، مصيرها هتقع في ايدي بنت عثمان!

قهقه على ضاحكًا، وتكلم بسخط: دلوقتي بنت عثمان! أمال حبيب قلبه وروحه وبسكوتة النواعم والالقاب الملزقة بتاعتك دي راحت فين؟

قلد نومته، ووضع ساقًا فوق الاخرى وهو يجيبه: كله موجود وحياتك، بس هي اللي ضغطت الزرار الغلط في الوقت الغلط، وبعد ما نتصافى تعرف ترجعني عاشق عيونها، معاها مفتاح الصندوق كله، بس هنقول أيه ستات على الله حكايتها؟

واستدار تجاهه يراقب شعره الطويل بضيقٍ، لم ينجح باخفائه: بقولك أيه يا علي، من بكره تقص شعرك ده تضامنًا مع قرعة أخوك.

وأضاف بحزنٍ مضحك: عيب تفكرني بخسايري الفاضحة وتتباهى بشعرك، أمال فين التضحية والشعور بالغير يا دكتور يا محترم!

مال على كتفه ساقطًا بنوبة من الضحك، وبصعوبة نطق: وهو شعري مضايقك في أيه يا وقح؟

ضحك هو الاخر وقال: بيفكرني بالذي مضى!

رد على يحمسه والضحك يحمر وجهه وعينيه: متقلقش الأرض زرعت خالص وإخضرت، شهرين كمان وهيقع على عينك ورقبتك.

زفر بضجرٍ وهو يهتف: أتمنى.

وولاه ظهره وهو يشير له بانزعاج: نام بقى إنت أخدت عليا بزيادة، ورايا اجتماع تأديبي بكره مع فرنسا والجتت اللي حدفاها علينا، وأنت قاعد فاضي ومفيش وراك الا الكتب والقهوة ورغي المرضى النفسيين بتوعك.

أغلق على عينيه بارهاق، وهمس له: حاضر يا حبيبي، تحب تيجي في حضن بابي عشان تنام بشكل أسرع، ولا خلاص كبرت وبقى يعتمد عليك.

استدار إليه يمشطه بنظرة غاضبة، واتجه يميل على كتفه ويضع ساقه من فوقه كأنه وسادة مريحة، وبمكر قال: مستغناش عنك يا بابي.

ضحك وهو يحاول دفعه بعيدًا عنه، قائلًا: لا استغنى وغني بعيد عني.

تجاهل حديثه وأغلق عينيه، فاستسلم للنوم سريعًا، وقد لحق على به، فنام كلاهما بين بقعة الكتب، يجسدان أسمى المفردات وعمق العلاقات، التي تفشل ملايين الكتب بوصمها بين ورقاتها!

القمر يموج في سماه بأخر الليل، وبذلك الوقت يتمشى كلاهما بطريق عودتهما لحارة الشيخ مهران، بعد أن نجح آيوب بأقناعه أن يبيت ليلته برفقته اليوم، فعاد كلاهما للحارة، وبينما كانوا بطريق المنزل فاذا بصوتٍ غليظ يوقفهما.

مساءك لذيذ يا بوب عامل أيه؟
حذرته نظرة آيوب العابثة، ولكنه لم يعنيه، بل سأله إيثان باسترابة: مالك قافش كده ليه؟

لاحظ إيثان من يجاور آيوب، فانفجر ضاحكًا وهو يشير بيده: أيه ده إنتوا رجعتوا لبعض تاني؟

احتقنت عيني سيف بنظرة قاتمة، بل هدر ساخطًا: حد قالك إننا إفترقنا!

ازدادت ضحكاته وقال ساخرًا: أصلك بقالك فترة كبيرة مبتظهرش معاه هنا، فقولت أكيد فشكلوا!

زفر آيوب بنفورٍ، بينما دنا سيف يعدل ياقة قميص إيثان وتحدث بنبرة منخفضة حملت تهديد صريح: بقولك أيه يا كابتن، خف تعوم!

أبعد ايثان يديه عنه، وعدل من ياقته بذاته قائلًا: إنت واخد بالك من فرق السن بينا يا شاطر! إنت بكتيرك إنت والكتكوت اللي جنبك ده أجبلكم اتنين كاجو وأقفلكم على باب الحضانه أعرفكم طريق البيت!

ظهر يونس من خلفه، يدفعه للخلف، وهو يعنفه بانزعاج: وقتك ده يا إيثان!

مال سيف من خلف يونس، وهدر بانفعالٍ: شكلك محتاج إعادة تربية وأنا جيتلك وفاضيلك، تحب تشوف المرحلة الأولى ولا تأخد الناهية ونبقى خلصناها بدري بدري.

ربت يونس على ظهره بخفة وقال: فكك منه يا دكتور سيف ده مريض عقليًا.

أجابه باستهزاءٍ: مريض يتعالج، أنا أعرف دكتور شاطر أوي إسمه على سالم الغرباوي تأخد رقمه ولا معاك؟

احتقنت أوردة إيثان غضبًا، فحاول دفع يونس وهو يصيح بانفعال: خده إنت محتاجله أكتر مني، محتاج يعالجك من غيرتك الغريبة دي، مهو مفيش منطق بيقول أن راجل يغير على راجل الا لو لمواخذة شمال.

جحظت عين آيوب صدمة وحذره: إنت كده بتخبط في الحلل يا إيثان، بلاش تستفز آآ.

ابتلع باقي كلماته حينما لكم سيف إيثان بكل قوته، ومال إليه يعيد الكرة حتى سقط أرضًا، فاستطرد آيوب ببسمة شامتة: ابن حلال وتستاهل.

حاول يونس الفصل بينهم، وهو يصيح بغضب: آنت موركش الا صحاب آيوب، عمران مرة وسيف مرة، والله أعلم الدور على مين تاني!

هدر سيف بانفعال، ومازال يحاول لكمه من جديد: المرادي هتوبه يا معلم يونس، وقسمًا بالله لو مبطلت تضايق آيوب أو تضايقني لأكون جايبها سواد عليك، أنا هسيبك الوقتي احترامًا للمعلم هو هيرجعلك عقلك.

وتابع وهو يشير إلى يونس: بس وإنت بتعقله قوله إني غشيم.

نجح إيثان بابعاده عنه، بل دفعه أرضًا وبات المتحكم الكلي به، وما كاد بلكمه حتى سقط آيوب فوق ذراعه يصيح به: إيدك لو اترفعت عليه هكسرهالك، سيبه حالًا.

دفعه إيثان ونهض يتابع يونس، وهو يساعده بدهشة، دفعته للصراخ بوجهه: إنت بتساعده! مش شايف ابن عمك بيدافع عن صاحبه الغبي ده ازاي، وإنت بتكتفني له!

كز على أسنانه وهدر بغيظ: إنت اللي اتجننت، عامل عقلك بعقلهم، دول أصغر منك بتسع سنين يا إيثان، مالك بيهم!

مال يتفحص آيوب الذي يعاون سيف بتنظيف ملابسه من الغبار ثم عاد يهمس مبتسمًا: عجباني صداقتهم أوي جوز الزغاليل دول، ومش راجع الا لما أخليهم يشبطوا في بعض!

احتقنت عيني يونس بسخط: إنت جبت الحقد ده منين يالا.

رد عليه بجدية مضحكة: لما تحبني وتغير عليا زي الدكتور سيفوو حقنه وقتها مش هفكر أرخم على العيال دي تاني، توعدني يا معلم؟

منحه نظرة محتقرة، ومضى بطريقه، فحك إيثان جبهته وقال: واطي من يومك!

ومن بين سكون الليل، كان ينزوي بأحد أركان المسجد، يؤدي صلاة قيامه، ومن جواره مصحفه الموضوع جواره، والذي يستعين به بالقراءة في كل ركعة، حيث مصرح لمن أراد قيام الليل أن يحمل المصحف الشريف ويتلو منه في صلاة القيام، فكان يستعين به عُمران في كل ركعة.

انتهى من صلاته، وجلس جانبًا يسبح ويتلو بعض الأزكار، ولم يكن أحدٌ غيره بالمسجد، لقد سبق للشيخ مهران أن قدم له نسخة من مفتاح المسجد، حينما كان يصل مبكرًا عن موعد وصوله، فكان يجده يقيم صلاته بباحة المسجد الخارجية، لحين وصول الشيخ مهران، فقدم له نسخه من المسجد، وإعتاد من يومها أن يجد باب المسجد مفتوحًا، وأرجاء المسجد أنمق نظافة وترتيب مما تركه بالامس بعد صلاة العشاء، ورائحة البخور والعطور الثمينة بالمسك تعبق أجواء المسجد، فكان يدعو له ويزداد تعلقًا به، وها هو يصل الإن ليجده بالمكان الذي يجده به كل يومٍ، فرسم ابتسامة مشرقة وقال: السلام عليكم ورحمة الله.

صدق عُمران، ورفع رأسه إليه مبتسمًا باحترامٍ: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته شيخنا الفاضل.

جلس الشيخ مهران قبالته مستربعًا، ويتابعه بنظراتٍ حنونة: كيف حالك يا ابني، عساكِ في أحسن حال.

تعمق بالتطلع إليه، وصمته المطول جعل الشيخ يتابعه بقلقٍ، تضخم حينما قال بغموضٍ: هكون في أحسن حال لو حضرتك ساعدتني في اللي سبق وطلبته منك.

علم ما يقصده، فابتسم ومرر يده على مسبحته، وهتف برزانة: فاكر اتفاقنا يا ابني، ومش هخل بيه أبدًا، بس إنت كمان فاكر نصوص اتفاقنا صح؟

سحب نفسًا مطولًا وهو يخبره: الذاكرة رجعتلي بالفعل، فتأكد إن القرار اللي أخدته متغيرش.

رد عليه بحكمته العقلانية: بس لسه النص التاني، إنت لم تشفى اصاباتك بالكامل، وأنا بفضل إنك تخليها بعد أن تضع زوجتك وتطمن على ابنك، ووقتها هروح معاك.

واستكمل بحبٍ ودعوات خالصة: أسأل الله أن يريح قلبك، ويتقبل توبتك، ويرزقك طفلًا سليمًا، معافى، وأن يجعله بارًا بك وينشئه على دينه وطاعته.

بردت دعواته قلبه الذي يئن لذكرى ذنبه الفاحش، فاذا به يبتسم ويردد بكل إيمان: اللهم آمين.

منحه الشيخ ابتسامة كبيرةٍ، وربت على ساقه يذكره: يلا قوم ذكر الناس باقتراب موعد صلاة الفجر، الناس بتحبك وصوتك بيريح قلوبهم، قوم يا بشمهندس.

هز رأسه في طاعةٍ، ونهض يتجه للميكرفون، يتطلع للفراغ وما ارتكبه فيما مضى، وبكل احساسه ردد
« يا رب وإن عظمت ذنوبي كثرة.
فلقد علمت بأن عفوك أعظم.

إن كان لا يرجوك الا محسنٌ.
فمن الذي يدعو ويرجو الآثم.

أدعوك ربي كما أمرت تضرعًا.
فلإن رددت يدي فمن ذا يرحم.
يا رب.

أدعوك ربي.
أدعوك ربي كما أمرت تضرعًا.
فلإن رددت يدي فمن ذا يرحمٌ.

ما لي إليك وسيلة الإ الرجا.
وجميلٌ عفوك ثم إني مسلمٌ. ».

وإنتهى ودموعه كالعادة تنهار من خشوع صوته، بدنه اهتزت فيه كل خلية، وكأن الكلمات سوط يجلده ويطهره من ذنبه، استدار بعدما استعاد كامل ثباته، فإذا به يرى آيوب يدخل لباب المسجد، برفقة سيف ويونس، وكعادته حينما رأه، هرول إليه راكضًا، وابتسامته تتسع لتكشف عن نواجذه، ويناديه بلهفةٍ محببة لقلب عُمران: عُمران!

وقبل أن يستقبله، كان يلف يديه حول رقبة عُمران المبتسم، والابتسامة تحتل وجه يونس ووجه الشيخ مهران، الذي يلتمس مدى حب واحترام ابنه لعُمران.

ربت على ظهره، وقال مبتسمًا: جاي متأخر ليه النهارده يابن الشيخ مهران؟

ابتعد يجيبه وهو يشير برأسه لسيف القابل إليهما: عما سيفو صحى وفاق.

اندهش عُمران لتواجد سيف برفقة آيوب، ولكنه عانقه هو الآخر، هاتفًا: دكتور سيفو أيه سر التواجد الغامض ده!

تعلق به سيف وشعوره بتلك اللحظة، كمن تتبخر همومه، بينما يقول بحزنٍ: آيوب أصر أبات معاه، وسبحان الله كأن ليا نصيب أسمعك النهاردة، إنت كنت حاسس باللي بمر بيه ولا أيه يا بشمهندس!

ابتعد يطالعه في قلقٍ واهتمام: بتمر بأيه؟ إنت أمورك تمام؟

ابتسم بوجعٍ، وقال: أمي مش حابة تكون أموري بخير.

تملق إليه الضيق والنفور: هي رجعت تاني؟

اكتفى باشارة رأسه، وابتعد للخلف حينما وجد يُونس يشرف إليهما، ليصافح عُمران، وغادر ليقف جوار الشيخ مهران، بينما يعود عُمران لسؤاله: طيب ويوسف إتأثر بظهورها؟

العلقم يقذف مرارته على طرف لسانه: معرفش، إنت عارف يوسف مش بيبين وجعه لحد، أنا بعتلك رسايل امبارح بليل عشان تكون جنبه، يوسف بيرتاح بوجودك.

تذكر أمر هاتفه الموثوق بالشحن، وحينما يخرج لصلاة قيامه لا يحمله برفقته، الا بعودته، فطرق بخفة على كتفه وقال: هعدي عليه في المركز بعد الظهر بإذن الله، متقلقش يا سيف.

استقبل حديثه بابتسامة عرفان، وحب لشخصه، واتجه ليجاور آيوب في جلسته، وبعد دقائق انطلق آذان الفجر يجلجل بزقاق الحي الشعبي، ومن ثم اصطفوا من خلف الشيخ مهران الذي صلى بهم إمام.

وما أن انتهت صلاة الفجر، غادر الجميع البعض لمنازلهم لاستكمال نومهم، والأغلب إلى أشغالهم، وقد عاد سيف برفقة آيوب لمنزل الشيخ مهران، فصعد برفقته بطريق الطابق الأول، وما كاد باجتياز الطابق الثاني، حتى أوقفته نداء أضحك سيف: آيوب، إنزلي عايزاكي.

احتقنت نظراته المحذرة لسيف الذي رفع يديه، وهو يدعي براءته: بتبصلي كدليه أنا اللي ربطتك بتاء التأنيث، استهدى بالله وإنزلي أقصد إنزل شوفها عايزة أيه، واديني المفتاح أطلع أكمل نومي، وإياك تصحيني الا على الساعه 11.

منحه المفتاح فحمله سيف، وصعد للاعلى، بينما هبط إليها آيوب، يطالعها بغيظٍ، وخاصة حينما وجدها تكتف ساعديها أمام صدرها والغضب شراره يتقاذف من عينيها، فهمس بصوتٍ متذمر: خير، أيه اللي موقفك كده؟

تحرر صمتها، بعتابٍ مغتاظ: أنت قعد صاحبك فوق في شقة سدن الجديدة، أنا وخديجا تعبوا واحنا بنحط الفرشات الجديدة والسجادة وتطلعي صاحبك فوق قبل سدن!

اتسعت مُقلتيه في دهشته من حديثها، فابتسم على نبرتها المسكرة لقلبه العاشق، والتي أجادت بها لفت نظره لفعلته دون الاستئذان منها، كونها تمتلك الحق لذلك، فمال يقبل رأسها بعشقٍ تدفق لها فأخجلها وأربكها، وخاصة حينما قال: حقك عليا أنا معرفش ازاي تاهت عني أني أستأذنك، بس سيف كان نفسيته وحشة أوي، وأنا كنت عايز أكون معاه عشان أهون عليه.

ارتبكت من قربه وقبلته أعلى خمارها، جعلت شبحها الغاضب ينصرف، وببلاهة قالت وهي تتعمق بفيروزته: أنا مش زعلان خلاص آيوب، لو عاوز تقعده فوق كمان يوم ويوم سدن مش عنده مشكلة، أنا كمان هخلي الحاجة ركيا يعمل محشي كتير ليكم، عشان أنتي بتحبيه كتير آيوب.

جلجلت ضحكته وهو يرى اجتهادها لنطق الجملة باتقانٍ تفتقر له، فهمس لها بعشقٍ يقطر من نبرته: يا عيني على آيوب المسكين قصاد جمال عنيكِ وقلبك الكبير يا سدن، ومش مهون عليا الا اقتراب المعاد، بكره الحنة وبعده الفرح، يعني مبقاش في بعد تاني.

وأضاف غامزًا بخبث: هسرب سيف أكيد، وبعد دخولك للشقة مفيش حد من بعدك ينفع يدخلها يا جميل.

رفرفت بأهدابها بعدم فهم، ورددت بحزنٍ: أنت عاوز تحبس سدن فوق وتخليه مش يشوف خديجا والحاجة ركيا! لا آيوب كده مش هاجي معاكي، أنا بيحفظ عند الشيخ مهران إنتي مش بتهتمي إن سدن يحفظ ويختم القرآن، الشيخ مهران بتحب سدن وعاوز يخليه يحفظ كله عشان ربنا يحبه ويدخله الجنه.

عادت نوبة الضحك تعتليه، ومال يطالعها بهيامٍ: مين قال كده بس، أنا بنفسي ههتم بحفظك بعد كده، أنا بحب سدن وعايزها أحسن الناس، إنتي معقول عندك شك في آيوب يا سدن؟

نجح باللعب على أوتارها الحساسة، فابتسمت له وقالت بعشق: أنا بحبك آيوب، ومش عندي شك ليكي، أنا مش بيثق في حد غير فيكي وفي الشيخ مهران، وفي الحاجة ركيا، وخديجا، ويونس وفارس وإيثان الوحشة.

قالتها وهي تعد له على أصابعها، فتوالت ضحكاته وهو يؤكد لها بصدرٍ رحب: وحش وبارد وسقيل بس للاسف يتوثق فيه.

هو ده اللي بتعلمه ليها يابن الشيخ مهران!
جحظت فيروزته بصدمة، فاستدار للخلف وهو يرسم ابتسامة واسعة، وقال: أنا! أنا كنت بقولها إن مهما كانت عيوبه فهو شخص أمين ويتوثق فيه.

أسرعت سدن تبرر لاستاذها: لا آيوب بتكذب شيخ مهران، كانت بتقول إن إيثان وحش باردة وآآ، مش عارف الاخيرة.

منحها نظرة مشتعلة وهو يشير بيده تجاه ذقنه متوعدًا لها، فتساءلت بذهول: إنت بتعمل كده ليه آيوب، إنتي تعبانه؟

حك جبهته واستدار تجاه أبيه الذي يراقبه بنظرات الصقور، ثم قال: طيب هروح أنا اجيب طعمية وعيش سخن عشان نفطر، مش عايز حاجة يا والدي؟

طرق بعصاه أرضًا وهو يخبره: مش عايز أشوف وشك هنا الا يوم الفرح بليل، سمعت يابن الشيخ مهران؟

أحاطها بنظرة متوعدة، وعاد يجيبه مزعنًا طاعته: مفهوم يا عم الشيخ!

فتحت مايا عينيها بانزعاجٍ، ففردت ذراعيها بدلالٍ وهي تهمس: عُمران.

تلاشت حروفها حينما سقطت عينيها على فاطمة الغافلة جوارها، فاحتل الوجع معالمها، حينما تسرب لها ذكريات تلك الايام التي كانت تستيقظ بها دون أن تراه، نبع ألمًا قويًا اخترق قلبها كالسهم الحارق، لقد بدأ الأمر بمزحةٍ طريفة بينهم وانتهى بمرارة ما طل عليها.

أبعدت الغطاء وانحنت بساقيها ترتدي حذائها، ثم جذبت جاكيته ترتديه، وهرولت لجناحها، كان يغوص بالظلام والفراش كما تركته بليلة الأمس، جف حلقها وبدون سيطرة منها راحت تنادي بصوتٍ مذعور: عُمران، عُمران، عُمران!

ارتعش جسدها برجفة ضربتها كالعاصفة، فركضت صوب الكومود المجاور لمحل منامتها، تبحث عن هاتفها، فاذا بها تستمع لصوت صرير باب الخزانة، ومن خلفه يطل حاملًا التيشرت الخاص به بين يده، وشعره يقطر بالمياه التي كان يغتسل بها، يطالعها بقلقٍ وهلعًا على طريقة صراخها المريبة بإسمه.

سقط الهاتف من يدها، ومالت جالسة على الفراش، تستند بكفها على الكومود وتفجر بكائها المنهار، فور أن اطمئنت لوجوده!

هرع إليها والقلق ينهش وجهه دون رحمة، انحنى على قدميه يتوازى بطول جلستها، بينما يرفع ذقنها حتى ترفع وجهها المغموس بين كفيها، وهو يناديها بخوف: مايا! في أيه؟

رفعت أهدابها المبتلة بدموعها إليه، تتشرب كل ملامحه وتدفن بها فترة فراقه، فانحنت تجلس أرضًا قبالته، وتعلقت بضمة تلقفتها بصدرٍ رحب، بينما يمرر يده من فوقها بقلقٍ مما أصابها، وإذا بصوته العذب يصل لها وهو يحصنها بالقرآن، فاغلقت عينيها باستكانةٍ تامة، حتى هدأت كليًا فزحف بها يسند ظهره للحائط، ويمنحها وقتًا تجمع فيه شتات نفسها.

مرر يده على شعرها المفرود على ساقه بحنان، فمرت عليهما ثلاثون دقيقة هدأت فيهم مايا كليًا، وما أن اطمئن لانتظام أنفاسها، حتى ردد يمازحها: حبيب قلبه بيحور على جوزه عشان يخلع من عقابه، فيؤسفني أقولك سوري يا بيبي متثبتش.

أغلقت عينيها تستلذ سماع صوته، بعد نوبة هلعها تتمنى أن يتحدث وتستمع هي إليه للأبد، ظن أنها ستجيبه وسينجح باخراجها عن صمتها، ولكنها بقيت صامتة.

فتابع وهو يمرر يده على شعرها وقد انتابه نغزة قاتلة، حينما تسرب له أن حالة ذعرها تعود لحالة الرعب التي جعلها تعيش بها، لما بدر عنه بالمساء، فقال: مايا حبيبتي اللي حصل إمبارح ده كان هزار، أنا عمري ما أمد إيدي عليكِ، معقول بتخلطي الهزار بشكل يخليكي قايمة من نومك مفزوعة بالشكل ده!

انتفض جسدها لشدةٍ بكائها، فسحبها بقوة جسده، يجعلها تستقيم بجلستها أمامه، يحاوط وجهها بيديه، وبحزمٍ يناديها: مايا، قوليلي مالك؟

تمعنت برماديتاه ووجعها تترجمه دموعًا صامتة، ارتاب لأمرها وترجاها بخوف: أنتي بتقلقيني عليكي بسكوتك ده، عشان خاطري اتكلمي، حصل حاجة؟

هزت رأسها تؤكد له، فأبعد خصلاتها لخلف أذنيها، وقال يحمسها على الحديث: اتخانقتوا أنتي وفاطيما؟

نفت ذلك، فعاد يهتف: طيب حصل أيه؟

حررت صوتها الشاحب تخبره ببكاء: صحيت ملقتكش جنبي.

رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ، فعاد ينصت وكأنه يتوهم سماع ما قالت، هل تبالغ برد فعلها لتلك الدرجة لأنها فارقته يومًا واحدًا، فاذا بها تدمي قلبه حينما استرسلت ببكاءٍ منكسر: كانت أبشع أيامي اللي بقوم ألاقي نفسي لوحدي على سريري من غيرك، كل يوم كنت بحاول أطمن نفسي إنك راجع، بس الوحدة اللي كانت محاوطني كانت بتحاول تخليني استسلم انك مش راجع تاني.

قالتها واحنت رأسها تبكي، فسحبها إليه مجددًا وهو يهدهدها: أيه يرجعك للي قفلاناه مع بعض يا مايا، أنا أهو جنبك ومستحيل هفارقك تاني، قولتلك ألف مرة دموعك دي متنزلش تاني، دموعك ضعف ومرات عُمران سالم الغرباوي عمرها ما كانت ضعيفة!

وأضاف مبتسمًا والمكر يحتل رماديتاه: إنتِ مش حبيب قلبه اللي ربيتها على ايدي، حبيبة حبيبها هي اللي وقفت في وش فريدة هانم الغرباوي بشجاعة خلت العيلة فخورة بتربية عُمران سالم الغرباوي!

رفعت رأسها إليه، تطالعه بصدمة، فضحك وقال: أبوكي وجب معايا بس على مين مهزش فيا شعرة.

واستطرد وهو يضمها بخبث: وبعدين يا بيبي مش قولتلك طول ما انتي مشتاقالي قربي، أنتي اللي فارقتيني وجريتي تتحامي في على مني!

لكزته بعصبية لحقت نبرتها الغير مرتبة: مش إنت اللي بتجري ورايا بالحزام وعاملي فيها فهد الفهود بروح أم...

لطمت فمها وعينيها جاحظتان في صدمة لما كادت بالتفوه به، بينما تظلمان رماديتاه بشكلٍ مقبض، فزحفت تتراجع للخلف وهو يتابعها بنصف أعين، ودنى يزحف إليها هاتفًا بهدوءٍ خطير: فهد الفهود! بقى أنا برومانسيتي وحناني معاكِ وشايفاني فهد الفهود!

تنفست بعمقٍ حينما وجدته لم يلاحظ مصيبتها الاخيرة، فتنهدت وقالت: مش شايلي حزام وعايز تجلدني بيه!

ضيق رماديتاه وعقله يبحر بعيدًا، وفجأة ردد: ويا ترى بقى قولتي أيه تاني لفاطمة عني!

ردت بتلقائية قاتلة: قولتلها انك سادي ومريض!

مزق شفتيه من فرط ضغطه عليها، فواصل زحفه وهو يصيح بعنفوان: عنيا حاضر، إنتي مشتاقة لنسخة روايات البير سلم دي وأنا رقبتي سدادة يا بيبي.

لفت جسدها وحاولت النهوض لتنجو بنفسها، ولكنه سقطت محلها تلهث، بينما يجذبها من تلباب بيجامتها الستان: بقى أنتي بتسوقي سمعتي على أخر الزمن، وآ، استني استني إنتي قولتيلي من شوية بروح أمك!

هزت رأسها نافية تلك التهمه الباطلة: لا لاااا ده صوت الطاووس الوقح اللي جواك مش أنا لأ.

ومالت تمسد على صدره وهي تستعطفه بملامحها التي زرعت فيها البراءة: بالله عليك تأجل أي عقوبات عندك، أنا راجعه ميتة من الجوع، وتلاجة فاطمة مفيش فيها الا الفاكهة والاكل الصحي اللي يصد النفس ده، ولولا كيس المكسرات اللي لاقيته عندهم كنت وقعت من طولي، انا كان أقصى أمنياتي ألقى شوكولاته تايهة هناك، بس للاسف الجناح كله Healthy food (طعام صحي).

منع ضحكاته بصعوبة، وخاصة حينما مالت تلف ذراعيها من حوله، وهي تهتف بارهاق: أنا وابنك واقعين من الجوع، إحنا من بعدك اتبهدلنا وجوعنا يا عُمران.

تحررت ضحكاته الرجولية بصخب، فانحنى يحملها لاقرب أريكة، ثم اتجه لبراده الصغير، يحمل العصائر والشطائر المعلبة، والشوكولا، وعاد لها يضعهم من أمامها، فاعتدلت وبدأت تتناول طعامها بشراهةٍ، وهو يتابعها بعشقٍ وحبٍ يصعب ان تنقله كلماته لها.

أغلق باب شقته من خلفه، وترك الطعام على طاولة السفرة، ثم ركض للغرفة المخصصة للاطفال، يقفز فوق الفراش وهو يصيح بحماسٍ: سيف، سيفوووو.

عبث بعينيه بنعاسٍ، وجذب الغطاء فوق رأسه بانزعاجٍ منها، فسحبه آيوب وهو يخبره بفرحة مضحكة: قوم يالا، حفظت كلمات مهمة وعايز أقولهالك، قوم اسمعني قبل ما أنساهم.

كور قبضته غيظًا وود لو أطاح بعنقه، أو لربما يبرحه ضربًا ولكن بعد الغد زفافه، وبالتأكيد سيشوه وجهه لا محالة، فكظم غيظه ونهض يطالعه بدخان يخرج من أذنيه، وبجمودٍ قال: اتفضل، إرمي الكلمتين قبل ما يتحشروا في زورك.

ازدادت بسمته حد الهلاك، وردد وهو يحك بينه: أنت اللي شبهي، إنت آآآ، ناس...

تمعن به بدهشة وقال ساخرًا: السلوك لمست ولا أيه؟

لكزه بغضب وعنف صدم سيف: اخرس وسبني أفتكر كلمات الاغنية!

برق في صدمة، وهتف: أغنية! من أمته وبتسمع أغاني يابن الشيخ مهران؟

اجابه بحماس: دي اغنية جميلة أوي سمعتها من توكتوك كان معدي وأنا بجيب الطعمية، استنا بس افتكرها.

وصفق بيديه بفرحة، وهو يردد: صاحبي يا صاحبي، إنت اللي لوحدك شبهي
ده في ناس في كروش بتعبي، وفي ناس بتنسى تربي
صاحبي يا صاحبي، إنت اللي مقوي لي قلبي
إنت اللي ساندني وجنبي وطول ما إنت كتف في كتفي!

تضاعفت صدمة سيف، ورؤية سعادة آيوب بالكلمات وترقبه لرد فعله، جعله يبتسم ويردد بحبور: اشمعنا الكلمات دي اللي علقت معاك وأنت عمرك ما حبيت تسمع أغاني!

رد بتلقائية شديدة: عشان شوفتك في الكلمات.

منحه نصف نظرة من عينيه مشككة: حاسس انك من أمبارح متغير سيكا، أنت بتخطط لحاجة يا آيوب؟

هز رأسه بكل براءة، وقال: هخطط لأيه يا عم، أنا بس بعرفك أنك حاجة كبيرة بالنسبالي.

ضحك ومازحه قائلًا: مهو واضح، أول ما إنحرفت للاغاني انحرفت عشاني، في ذنوب أفضل من كده.

لكزه بقوة، ومال يسقط من فوقه: بقى أنا بحفظ الاغنية عشان أفرحك وبالنهاية تقفلها عليا، قوم نفطر بدل ما أقلبها عليك.

أشار مستسلمًا، فتركه ونهض يشير له: يلا عشان بعد ما تفطر هوصلك بعربيتي للمركز، عشان تعرف معزتك بس.

ابتلع ريقه برعب، وهمس بصوتٍ خافت: يبقى مش هنوصل، هنطير مع بعض زيارة مريحة للمقابر!

إتبع الخادمة التي أرشدته للصالون، وجلس مثلما أشارت له، وابتسامته الساخرة تحيطه كونها لم تتعرف عليه، فكيف ستعرف هويته وهو الغائب عن اصحاب هذا المنزل، كغيابهم عن مضمون الأسم والعلاقات.

دقائق وخرجت إليه مروة، لترى من الزائر الذي أتى بوقتٍ باكرًا هكذا، وقد كانت مستعدة بالفعل للذهاب إلى عملها.

يوسف!
نطقتها بدهشةٍ، وعدم تصديق لوجوده بالمنزل، ولوهلة ظنته قد أتى ليعتذر لها عما فعله، وخاصة حينما أعادها لمنزلها بتهذب وجدته وقاحة، فتحركت للمقعد تجلس واضعة ساقًا فوق الاخرى، وببرودٍ قالت: نعم، جاي ليه؟

اختزل الوجع والألم طريقين مختلفين، التحموا بمنبع وجهه المعبر عما يحدث داخله، وقال باستهزاءٍ: هو مش ده المفروض إنه بيتي، ولا إتبريتي مننا خلاص.

ردت ببرود: يبقى بيتك لما تعقل وترجع بأخوك هنا، بس وهو بطوله، من غير البت دي، جوازته لازم تكون بموافقتي أنا وباباك غير كده فده مش بيتك وأنت غريب فيه.

أخفض وجهه تنزف دمعاته من خلف نظارته الطبية، وأصابعه تمر فوق بعضها، كأنه يكسر عظامه، حتى تمكن من تحرير كلماته: الحمد لله أني غريب عن البيت وعنك أنتي وهو، أنا ربنا نجاني أنا وأخويا ببعدنا عنكم انتوا الاتنين، كانت هتكون كارثة لو طلعنا شبهكم في حاجة.

أخفضت ساقيها وصرخت بغضب: يوسف!

انتصب بوقفته قبالتها، وقال بشجاعة: أنا جايلك مرة تانية أحذرك تبعدي عن سيف، لان الظاهر في المرة الاولى فكرتيني بهرتل، المرادي جاي ومعايا الخلاص من العلاقة المقززة اللي إتلوثت بغرورك وأنانيتك.

واضاف بعصبية وقد تدفقت عروقه: المرادي حذرتك المرة اللي هتفكري تقربي فيها من سيف مرة تانية هجيلك في مكان شغلك اللي بتتباهي بنجاحك فيه، وهحكيلهم عن فشلك في اهم دور المفروض تكوني فيه مع أولادك، هفضحك قدامهم كلهم ومش هيهمني حد، فبهدوء كده تنسحبي من حياتنا وللأبد.

قالها وغادر من أمامها بعنف عاصفة اجتاحت الاخضر واليابس، فتح باب سيارته وهو يقاوم صداع رأسه الذي هاجمه فجأة، ومع ذلك سيطر على تعبه واستكمل قيادته للمركز.

صعد سيف لمكتب أخيه فور وصوله للمركز، فوجد عدد مهول من النساء يجلسون بالخارج، والممرضة تخبرهم أنه على وصول، اتجه للشرفة المنحازة بنهاية الطابق، يرفع هاتفه وهو يعيد رنينه للمرة الثانية، والقلق يحاربه، فلم يسبق يومًا له أن يتأخر عن عمله.

راسل ليلى على حسابها الخاص، يسألها عنه، فأخبرته بأنه غادر مبكرًا، تلصص للشرفة يتحقق حينما وجد سيارته تصطف أمام المبنى، فطمن زوجة أخيه بأنه وصل، وهبط مسرعًا يقابله عند المصعد.

خرج يوسف مهمومًا، وهو يحارب صداع رأسه الذي ازداد بحدةٍ مبالغ بها، فوجد سيف يرنو إليه متسائلًا باسترابةٍ: كنت فين يا يوسف؟ أول مرة تتأخر بالشكل ده!

رفع عينيه إليه وقد اعتراه دوار يلازم حدة الصداع القاتل، فجاهد لأن ينطق بأي كلمة، ولكنه فقد القدرة لفعل أي شيء، فمال تجاه الحائط بشكلٍ جعل أخيه يسرع لمساندته، وهو يصرخ بهلعٍ: يوسف مااالك؟

رد بشحوبٍ، وأنفاسه تنهدر: أنا آ...

بترت كلمته حينما سقط على ذراع أخيه فاقدًا لوعي، فسقط به سيف وهو لا يستوعب ما يراه، فشقت صرخته الطابق بأكمله: يوسف!

لطم وجهه بقوةٍ، وانفاسه تغيب عن وعيها هو الأخر، وكأنه يختنق خلف كيسًا بلاستيكًا لا يوصله أي هواء، فإذا بأحد الاطباء يميل إليه ويحمله برفقة طبيبًا أخر للسرير النقال.

حملوه وركضوا به صوب غرفة الكشف لأحد الاطباء المتخصصون، بينما بقى سيف جالسًا محله يتطلع للفراغ من أمامه، والطبيبة تجاوره وقد شخصت حالته بسرعة الرياح، فاذا بها تخبره: اهدى وخد نفسك يا دكتور سيف، إنت قادر تقف؟

رفرف بأهدابه بدهشة، وكأنها تلاقي عليه كلمات عبرية غير مفهومة، وفجأة تخلى عنه ذلك الصفار المزعج، وسقط معه تبلد جسده، فاذا به ينهض راكضًا صوب الغرفة التي دخل إليها أخيه، وصراخه يمزق الآذان: يوسف.

ولج للداخل يدفع عدد الاطباء المحاوطون إليه، وأذنه تلتقط حديث الطبيب: ضغطه عالي جدًا، الممرضة بتجيب المحلول، وبمجرد ما هينتهي هيفوق بإذن الله.

لف رأسه تلقائيًا للممرضة التي هرولت للداخل تحمل المطلوب، فدفع سيف الطبيب وجذب ما بيدها، ثم إتجه لاخيه ينتزع كم القميص عن ذراعه، ثم جذب إبرة المحلول، وقربها لعروقه بتوتر، وإرتباك أسقطها عن يده، فانحنى أحد الاطباء يجذبها ومشفقًا على حاله: أنا هوصله، استريح أنت يا دكتور سيف.

جذبها منه وكأنه لم يحتمل المخاطرة بأخيه، كأن الطبيب سيتخذ آلأف الاعوام ليدث الأبرة المنقذة بوريد أخيه.

عاد يقترب من ذراع أخيه، ونظراته تحيط شحوب وجهه، فتساقطت دموعه وهو يتذكر كل وقتٍ كان به لجواره يستحوذ دور الأب، كل مرضٍ هاجمه وكان يتلبس دور الأم الذي يفتقدها سيف، وحينما يحتاجه صديقًا أو شقيقًا كان لجواره، هو عالمه بأكمله، جميع العلاقات تتلخص في يوسف.

ازاح دموعه وإختار عرقًا بارزًا، فقتل عقدة طفولته حينما دث الأبرة بوريده بمنتهى البراعة، وسحب الآبر يحقنها بكيس المحلول، والاطباء يباشرون قياس النبضات وتفحصه.

وبعد ما يقرب الأربعين دقيقة، سقط سيف على المقعد الملتصق بفراشه بانهاكٍ من انتظاره يسترد وعيه، فتهاوت دموعه تباعًا، وسأل الطبيب الوحيد المتبقي بالغرفة: المحلول قرب يخلص، مفاقش ليه يا دكتور؟

ربت على كتفه ببسمةٍ هادئة: وضع دكتور يوسف ممتاز دلوقتي، متقلقش شوية وهيفوق.

وما أن انتهى حديثه، بدأ يوسف بفتح عينيه تدريجيًا، فاسرع إليه سيف ينحني قربه، هدأت الصورة المشوشة أمامه، وبرز وجه أخيه واضحًا فردد بخفوتٍ حينما قرأ اللهفة والقلق القاتل بعينيه: سيف. أنا كويس.

قالها واستسلم للنوم، فمال يضمه باكيًا بشكل مزق قلب الطبيب، فربت على كتفه وقال: اجمد يا دكتور، الحمد لله هو بخير وطمنك بنفسه.

واستأذن بتهذب: عن إذنك هروح أشوف شغلي، وهبلغهم يكلموا دكتورة نهلة تمسك مكان دكتور يوسف.

إكتفى سيف بهز رأسه، وعاد يميل على كتف أخيه الذي غرق بدموعه، ومازال يضمه بخوفٍ من أن يفقده أو يخوض نفس الشعور المقبض مجددًا.

ترك عُمران زوجته تغفو بسلامٍ، بعدما تناولت طعامها وشعرت بحاجتها للاسترخاء، فخرج من الجناح يرتدي ملابسه الرياضية حتى يركض صباحًا بالحديقة مثلما إعتاد.

هبط للطابق الأول، يتجه للبراد الضخم بالمطبخ المخصص للطابق الأول، يجذب زجاجة من المياه الباردة لترافقه برحلته، فإذا به يتسلل له صوت صراخ قادمًا من جناح والدته!

سقط قلبه عن محله، فألقى الزجاجة وركض تجاه الباب المفتوح على مصرعيه، لذا تدفق له الصوت، فطرق من فوقه وقال بصوتٍ مرتفع: فريدة هانم، حضرتك جوه؟

أتاه صوت صراخها القادم من حمام الجناح، وقف مرتبكًا وحائرًا، ولكنه واصل الطرق يناديها: فريدة هانم، أنتي كويسة؟

وصل لها صوته فرددت ببكاءٍ، تستنجد به: إلحقني يا عُمران.

دمس قلبه وتوترت معالمه، فتحول هدوئه لطاقة هائلة أسقطت باب الحمام، بعد ان دفعه للمرة الخامسة، فاذا به يراها ملقاة أرضًا، وتحتضن بطنها ببكاء مزقه، فركض صوبها وهو يهتف بهلعٍ: ماما!

تعلقت برقبته المنحني إليها، وبتعبٍ هتفت: أنا تعبانه أوي.

قالتها ومالت على صدره تبكي، فحملها وخرج بها لفراشها، فضمت ساقيها لبطنها وأخذت تصرخ وتبكي بشكل وتر أعصابه، وجعله يفقد كل معدلات الذكاء خاصته، وجعها ألمه بشكلٍ لم يسبق ابدًا، عجزه قبالتها، رؤيتها بتلك الحالة التي يشهدها لاول مرة جعلته كالابله.

فأفاق من غفلته حينما هرول صاعدًا للمكتبة حيث ترك أخيه، ولكنه لم يجده فعلم بأنه عاد لجناحه، هبط عُمران مجددًا، واتجه يطرق باب جناح أخيه بهمجيةٍ كادت بأن تسقطه هو الأخر، وبصراخ جنوني قال: علي، اطلع حالًا يا على والا هكسر عليك الباب ولا هيهمني أنت في أنهي وضع!

صراخ عمران جعل على يقع عن فراشه، وهو يحاول الوصول لقميصه الملقي أرضًا بإهمالٍ، بينما تحاول فاطيما السيطرة على ضحكاتها لرؤية زوجها يتدحرج للأسفل بفزعٍ من صراخ أخيه، ولوهلة ظن أنه قتل زوجته!

ارتدى قميصه باهمالٍ وهرع يفتح باب جناحه، فوجد أخيه يجوب الطرقة ذهابًا وإيابًا، وهو يطرق كفًا بالأخر ويثرثر بصوتٍ منخفض لم يكن مفهوم إليه، فصاح بانفعال: في أيه يالا!

انتبه لخروجه فأسرع إليه راكضًا يردد: إلحق!
سأله باستغراب: ألحق أيه؟

ببسمة واسعة بلهاء قال بعدما تسرب لعقله تفسير ما يحدث لفريدة: أمك باينها بتولد!

وأضاف وهو يحك جبينه: وأنا مش عارف اتصرف ازاي أوديها المركز عندك نتفضح هناك بيها ولا نطلع على المستشفى اللي على رأس الشارع والصحافة تنشر الخبر وتبقى فضيحة جماعية، إنت رأيك أيه؟

تسلل لعلي صوت صراخ والدته المرتفع، فجذبه من تلباب ملابسه بعصبية: انت سايبها بتصرخ، وواقف تفكر في الفضايح هترف علينا من أنهي باب! إنت متخلف يا عُمران!

حرر ذاته منه هاتفًا بانزعاجٍ: وأنا إيش عرفني بالحاجات دي أنا مهندس معماري مش دكتور أمراض نسا! اتصرف إنت بقى يا دكتور ومتقوليش كلم يوسف لإني قطعت علاقتي بيه من كتر الاحراج!

دفعه بحدة: اجري جهزها عما أغير هدومي وأجيب مفاتيح عربيتي، بسرعة اتحرك!

هز رأسه في طاعةٍ، وهرول لجناح فريدة، يميل للفراش وهو يتفحصها بحزن: هاخدك حالًا المركز، متخافيش يا حبيبتي، أنا جانبك ومش هسيبك أبدًا.

تمسكت بيده ورددت بوجعٍ: إلحقني يا عُمران، أنا بولد!

هز رأسه مجددًا وقال: آه عارف، حالًا هخدك ليوسف، اتحملي بس.

وركض صوب الجناح، يبحث عن اسدال مناسب لها، بينما يتمتم بغضب جحيمي كلما استمع لصوت بكاء والدته: منك لله يا أحمد يا غرباوي، وربي لأدخلك محكمة الاسرة قبل ما تفكر تلعب بديلك تاني!

انتزع أقرب اسدال إليه، وخرج يعاونها على ارتدائه، وببكائها وجد نفسه يضمها ويبكي هو الاخر، قائلًا بوجع: معلشي يا حبيبتي، اتحملي، شوية وهنكون في المركز.

أتاه صوت على الجهوري من خلفه: كل ده بتلبسها الاسدال، إنت بتنيل أيه يا متخلف انت!

أبعده عن والدته التي تحاول السيطرة على وجعها واستعادت قوتها فور أن رأت علي، ورددت بصراخ: متتخانقوش، أيه أول مرة تشوفوا ست بتولد!

هز عمران رأسه يؤكد لها: أول مرة فعلًا، وأنت يا على مرتك الاولى بردو؟

أدمى شفتيه من صدمة ما يتلاقاه من أخيه الذي فقد عقله فجأة، فمال يحمل والدته وركض بها على الدرج، فاحاطت عنقه وصرخت باعتراض: لااااااا، عُمران هو اللي يشيلني.

تعجب على مما تقول، فصاحت بصرامة مضحكة: رجعني لاخوك حالًا، ساااامع.

تلقفها منه عُمران وهو يتطلع لاخيه بدهشة، رفرف على باهدابه وتحدث مع ذاته: حاسس إني ولأول مرة هفقد أعصابي حقيقي!

واستدار، يتابع: يلا مستني أيه جنابك عشان تجري!

هز كتفيه وقال بقلة حيلة أضحكت علي: معنديش أي خبرة في الامور دي! كل حاجة ليها حد أدنى والحد الادنى عندي في الوقاحة موصلتش لpoint دي!

جذبه للدرج قائلًا: انزل وخلصني!

وقفت مايا وفاطمة تتابعان ما يحدث بصدمة وعدم فهم لما يحدث هنا، ولكن الصراخ ومشهد ركض كلاهما فسر ما يحدث بوضوح، فركصت كلتهما تستعدان بارتداء ملابسهن ليتجه خلفهما للمركو، بينما صعد بها عُمران للخلف، بينما قاد على السيارة، كان رأس فريدة موضع على ساق عُمران، الذي يجفف عرقها بين لحظة وأخرى، وكلما صدر عنها تأويهة أو بكت بكى لاجلها، وحينما تمادى أمر الصراخ قال بغضب: اطلقي منه متكمليش مع الانسان ده!

رمقه على من المرآة الامامية، يحذره: إنت بتحاول تخليها تسترخي ولا بتعصبها.

رد بحنق: بشجعها تأخد قرار مهم في حياتها، لو اللحظة دي عدت مش هتفكر بالقرار ده ابدًا.

أوقف على السيارة، وهبط يجذب أخيه من تلباب ملابسه، ثم دفعه لمقعد القيادة صارخًا فيه: مكانك هنا، سووق واخرس.

وصعد هو جوار والدته يحاول أن يهدئها، ولكن الآلآم تزايدت عليها، وبكائها لا يتوقف، حتى وصلت للمشفى، فتجمع من حولها الممرضات يصطحبونها لغرفة العمليات.

وبقى عُمران واقفًا محله بضياعٍ، فاذا به يستدير تجاه محل اخيه، وببكاء ناداه: علي!

اتجه إليه وقال بثبات: إنت عيل صغير! إسترجل شوية والله عيب اقولك كده!

رد بصوتٍ محتقن: اللي بتنازع جوه دي أمي، عايزني أكون عامل ازاي!

ضمه إليه ورد مبتسمًا: مش بتنازع ولا حاجة، دي حالة ولادة عادية يا عمران، امسك نفسك شوية.

وبينما كان على يحاول تهدئة عمران، فاذا بالممرض الذي استلم العمل بالمركز حديثًا، يتساءل وهو يحمل استمارة بيانات: مين فيكم زوج الحالة اللي جوه دي؟

احتقنت رماديتي عمران، فدفع أخيه بقوة، بينما يجذب ذلك المتحاذق من تلباب قميصه، هادرًا بعنفوان شرس: بتقول أيه بروح أمك؟

الفصل التالي
لم يكتب بعد...
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة