قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وستة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وستة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وستة

شعر بغرابة ما يحدث أمامه، أعين الجميع تشاركها الدمع، وفرحة، عجزت الألسنه عن البوح عنها، يتطلعون لبعضهم البعض في عجزٍ وعدم استيعاب، كانوا ليركضون إليه يمطرونه بالأحضان والقبلات، ولكن ما حدث لهم جعلهم يلتصقون محلهم، يطالعونه في صدمة، الدموع تنهمر دون توقف، بينما تحاوطهم الدهشة والذهول.

نهض يوسف عن الاريكة، يتجه إليه ودموعه تنهمر على خديه، بينما يجاهد ليحرر صوته الهادر: عُمران!

سحب بصره الذي يجول بين الاشخاص، لمن يقف قبالته، كان يظن أن هؤلاء الاشخاص يخصون علي، ربما تربطه بهم صداقة، ولكن الأمر يتضح له الآن بعكس ذلك.

جذبه إليه دون أي حديثًا أخر، يتعلق به بقوة، بينما يهتف ببكاء: أنا مش مصدق نفسي! معقول!

وأبعده عنه يتطلع فيه بذهولٍ، بينما يرتاب عُمران من عدم تذكره أي شيئًا يخصه، وإذ فجأة يركض آيوب صوبه وهو يناديه بلهفة: عُمراااان!

تلقفه من ذراعي يوسف يضمه ويميل يقبل كتفه، بينما تحول أعين عُمران على أخيه، يحاول أن يفهم من هؤلاء، ولكنه لم يستطيع رؤيته فلقد وقف سيف ويونس على جانبه الآخر، يحاوطونه بفرحة مغموسة بدموعهم، بينما يخبره سيف بفرحة: دي معجزة وحصلت برجوعك يا طاووس، يوسف كان منهار من غيرك.

بينما ابتسم له يونس وقال: حمدلله على سلامتك يا بشمهندس، كنا كلنا مفتقدينك والله.

أحاطه إيثان بحبٍ شديد، ونطق من بين دموع فرحته بعدم استيعاب: خواجة!

رمش بتيهةٍ وتوتر من نطقه للاسم، فبات لا يعلم ما يجرى هنا؟ لقد تشابكت جميع الخيوط، والتقمت فوق بعضها البعض بشكلٍ جعله مشوش بالكامل.

نهض على يبعد جمعهم وهو يشير لهم بالابتعاد، وخز قلبه بألمٍ، حينما وجد أخيه ينازع شيئًا غامضًا، ومازالت رماديتاه تنعكسان على الأوجه بحيرة ودهشة، ارتاب الشباب لأمره فتنحوا جانبًا ليسمحوا لعلي بالمرور، فما أن تلاشى الجمع حتى برز محل جلوس جمال المنصدم بوضوحٍ.

اشتبكت عيني عُمران به، فازداد شعور الألم داخله، أحاطته غيمة كأن قطرات المياه أصمت أذنيه، فبات لا يستمع لحديث أخيه، ولا يرى أحدٌ سوى جمال، نظر إليه في تيهةٍ وارتباك، وجل ما يضربه بتلك اللحظة أصوات اصطدام سيارة بالرصيف، عبارات متفرقة، صراخ صوتًا رجوليًا غريبًا بإسمه، على ما يبدو بأنه نفسه صوت الشخص الماسد أمامه، ومن ثم احترق مسمع عُمران صوته هو، وهو يصرخ
«نط يا جمال، أنا هحصلك! ».

ازداد ألم رأسه بشكلٍ جعله لا يحتمله، وبالرغم من محاربة كل ما يحدث أمامه الا أنه لم ينزع عينيه من عيني رفيقه المقرب، بينما لجواره يحاول على السيطرة عليه، يحاول سحب كفيه عن أذنه، وفجأة يتلاشى عنه كل هذا الضجيج، ويعود يوزع نظراته بين الشباب بعجز تام.

تعلق بذراع أخيه، وقال بارهاقٍ وشحوب انتابه: أنا عايز أمشي من هنا يا علي.

وأضاف وهو يجاهد تعبه الشديد: خدني من هنا.

انصاع له علي، وسنده كليًا ليخرج من الشقة والعمارة بأكملها، عاونه على صعود سيارته وغادر به على الفور.

بينما بالأعلى.

ارتمى كلا منهم بمقعده باهمالٍ، فور أن أخبرهم آدهم بالحقيقة الصادمة، والتي تلخصت بفقدان عُمران للذاكرة.

إتجه يوسف لجمال، يربت على ظهره بابتسامة تزور وجهه الباكي: افرح يا جيمي، تؤام روحك رجعلك يا عم.

حرك رأسه أخيرًا عن موضع سكونه، يمنحه نظرة منطفئة، ويجلي أحباله: عُمران كان هنا صح؟

زوى يوسف حاجبيه بدهشةٍ من حالة جمال، لقد تعجب حينما بقى محله ولم يركض لعناقه، فتفسرت حالته الآن إليه، اتجه إليه آدهم والشفقة تكسو ملامحه: أيوه يا جمال، عُمران رجع، وكان هنا من شوية، إنت مش بتتوهم.

أزاح دموعه من وجهه واتسعت ابتسامته بشكلٍ غريبًا، بينما يهز رأسه: أيوه، عارف إني مش بتوهم، أنا أصلًا مكنتش مصدق إنه بالضعف ده، وفكرة انه يموت على ايدين الخنازير دول كانت قتلاني، أنا بس متأخد من الموقف، أصله مرجعنيش لحضنه من تاني، يعني رجع ومرجعش، فتلاقيني محستش بيه!

وأضاف وابتسامته تزداد بشكل أقلق الجميع: سمعتك وإنت بتقولهم إنه فقد الذاكرة!، ده كدب يا حضرة الظابط، عُمران بيعاقبنا كلنا إننا مقدرناش نوصل لمكانه، فعامل نفسه ميعرفناش، بس إنت عارف بمجرد ما يعدي يومين تلاتة هيجي جري، هو مبيقدرش يبعد عننا ولا عني أنا بالذات، هو ممكن يكون مستني إني أروحله بس أنا مش هروح هستناه هو يجيني، عشان أنا زعلان منه أوي ووجعي كبير منه، يمكن لو كان سبني معاه في العربية كنت أنا كمان فقدت الذاكرة وقدرت أنسى مرارة الايام من غيره، أو على الاقل أنسى إنه نسيني!

وأضاف ومازالت ابتسامته تعانق ثغره رغم بكاء عينيه: مكنتش أعرف ان لحظة ما رماني من العربية كان بيرميني برة حياته كلها، ده ظلم كان المفروض يعرفني اللي هيحصل بعد كده ويسيبني انا أختار، لو قالي إنه هيجي اليوم اللي هيقف قصادي وهو مش عارفني مكنتش سمحتله أنه يزقني أصلًا.

سقطت دموع آدهم في عجزًا تام أمام وجع جمال الذي أثر في الشباب جميعًا، جاوره يوسف وشدد من دعمه: جمال إنت هتموت نفسك باللي بتعمله ده، أنت المفروض تكون سعيد إنه بخير، هو إنت كنت متوقع إنه هيخرج من حادثة مميتة زي دي أصلًا؟ وحتى لو مفتكرناش مش هنقدر يعني نخليه يحبنا ويتعلق بينا من تاني؟ رد عليا، ساكت ليه؟

نهض عن محله اخيرًا وصرخ بوجع: أنا مش عايز أبدأ من تاني، أنا عايز أكمل على اللي فات لإنه أساس كل علاقتنا، أنا مش عايز أبدأ في صفحة بيضة ملانه بينا كلنا، أنا أناني وعايزه يحطني في المكانة اللي كنت فيها، أنا عايزه يعرف إني كنت أقرب شخص ليه، عايز أحضنه وهو يعرفني وفاكرني، أنا مش عايز أدخل سباق مش عادل يا يوسف.

اعتلت الدهشة الوجوه، والجميع ييقين أن جمال ليس في حالته الطبيعية بالمرة، دنى منه سيف والحزن يظلم مُقلتيه، ربت على كتفه وقال: القلوب بتحن يا بشمهندس، قلبه هيحنلك وهيحس بالصداقة والحب الكبير اللي كان بينكم، إنت أكتر حد اتوجع بغيابه وهو هيشوف ده.

بينما أضاف آيوب وهو يزيح دموع شفقته عليه: وفوق كل ده أمل رجوع ذاكرته كبير، آدهم قال إنه بيتحسن جدًا يعني المسألة مسألة وقت.

أكد أخيه الحديث مسترسلًا: دي حقيقة يا جمال، تعامله مع على وفريدة هانم ومراته كان فوق الممتاز، أعتقد إنه كان لازم يشوفكم واحد واحد، يمكن جمعتنا شتته.

أنكس رأسه للأسفل وكتم بكائه، بينما يتزلزل جسده من فرط كبته لصوت بكائه، ربت يوسف على ظهره وقال باكيًا: هيفتكرك والله، عارف أنا مش فارق معايا يفتكرني ولا لا المهم إنه رجع وعايش وكويس، أنا عارف إنك متعلق بيه وبتحبه أكتر من نفسك، فخليك واثق إنه هيحبك بنفس القدر، فقدان الذاكرة مش بببدل مشاعر الحب والكره للاشخاص يا جمال.

أضاف إيثان هو الأخر متعاطفًا معه: يا بشمهندس اكسبه لصفك وبعد كده احكيله اللي كان بينكم، المهم إنه يتقبلنا كلنا في حياته.

تحدث يونس برزانة: عندك حق، وهو بصراحه كان دايمًا واقف مع الكل، وعمره ما أتخلى عن حد أبدًا، فده أقل واجب له عليك أنت ويوسف يا جمال، لازم تحاولوا تساعدوه.

سحب جمال جاكيت بذلته البني، المركون على الطاولة، ومن ثم جذب مفاتيح سيارته، إتجه ليغادر فلحق به يوسف ومضى برفقته خشية من أن يصيبه سوءًا وهو بتلك الحالة.

قاد علي السيارة وهو يختطف النظرات لأخيه المستند بذراعه على النافذة، بينما يضم جبينه في تعبٍ شديد، وإذا به يخبره بصوتٍ ينازع عدم فقدان الوعي: اركن على جنب يا علي.

إنصاع إليه، وإنجرف بعيدًا عن مرور الطريق الأسفلتي، مختارًا محازاة النيل على أرضية ترابية، فتح عُمران باب السيارة، وخرج منها يسعى للاقتراب من المياه، عسى أن يهلك الهواء احتدام أنفاسه، بينما يموج صوت مرور الهواء لقصبته، مصدرًا صوتًا ينم عن عدم مقدرته على التنفس بشكلٍ صحيح.

خر أرضًا يجثو على ركبتيه، ويستند على ذراعه، بينما يغلق عينيه بارهاقٍ شديد، هرع إليه علي يميل على ركبتيه مثله، يناديه بخوفٍ: عُمران، مالك؟

أفرج عن جفونه الثقيلة، وراح يتطلع بأخيه في ضعفٍ: مش عارف، حاسس إني مخنوق، في صوت رهيب هيفجر رأسي من قوته!

وتابع وهو يحرر أزرار قميصه لنهايتها: مش قادر أتنفس يا علي!

راقب حالته عن كثبٍ، وسرعان ما تخلى عن محله، أحاطه من الخلف بينما يردد بقوةٍ: ده عرض نفسي، إنت كويس ومفيش فيك حاجة، خد نفسك وخرجه تاني بهدوء وعلى مراحل.

وأكد عليه وهو يضمه بتمكنٍ: أنا جنبك متخافش، اتنفس يا عُمران!

فعل كما طلب منه أخيه، وبدأ ينظم أنفاسه بينما يمرن علي يده على ضلوعه وجسده ليساعده بتمرير الهواء داخله، اخباره المتواصل بأنه على ما يرام ساهم في أن يتخطى عُمران تلك النوبة التي تزوره لمرتها الأولى.

استكان لصدر أخيه ومال بسكونٍ، فجلس علي بشكلٍ مريح وإلتقفه إليه، فإذا به يميل على ساقه مثلما كان يفعل، في كل مأزق يواجهه كان هو ملاذه وغوثه.

سند عُمران يده على ساق علي وأغلق عينيه بتعبٍ شديد، مستسلمًا للنوم أخيرًا، وكأنه لم يحظى به منذ شهورًا، أزاح علي دمعة سقطت من رماديتاه تأثرًا بما يخوضه أخيه، وانحنى يقبل جبينه، هامسًا بألمٍ: مكنش لازم أعرضك لكل ده في وقت واحد، حقك عليا يا حبيبي.

ومال برأسه لاطار السيارة بينما يستطرد في عجزٍ: الكل عانى من غيرك، ويستحقوا إنهم يعرفوا برجوعك.

لفحهما تيار من الهواء، فأبعدت قميص عُمران المفتوح للخلف، فاذا به يرتجف فجأة، رفع علي القميص على كتفيه في محاولةٍ لأن يغلقه عليه، ولكنه مال على بطنه من فوق ساق أخيه، ففشل على في إغلاقه، وعلى الفور إنتزع جاكيت بذلته الردمادي، وأحاط به ظهر أخيه، بينما يحرر أول أزرار قميصه حينما شعر بأن الاختناق انتقل من أخيه إليه هو!

سند رأسه للاعلى ثم مال يطالعه بآعين دامعة، متأثرة على حاله، لطالما كانت حياة علي مستقرة، لم يسبق له أن مرت عليه فاجعة حطمته داخليًا الا وكان أمرًا يتعلق بمن يحبهم، لقد أُبتلي في كلًا من وضع بخانة المحبوب داخل قلبه، زوجته، أخيه، والدته، شقيقته، لقد أُبتلي فيهم جميعًا، ليته هو الذي ابتلي في ذاته، فما أصعب أن يكون مكمن وجعك فيمن أحببت!

أخيه الذي مر بكل الصعاب، بداية من طفولته، ونهاية بمعارك الحياة التي تستدرجه لها، لقد تمزقت عيناه حزنًا على حاله، فاذا به يضمه ويميل فوق رأسه مستندًا به، بينما يهتف بحشرجة بددت حلقه: يا رب ناديتك بقلب يملؤه الأمل بالإجابة، فلا ترد قلبِي، اللهم اشفِ أخي، واغرس في نبضه الراحة، وفِي جسده عافية لا تفارقه أبدًا، اللهم اشف أخي شفاءً ليس بعده سقمًا أبدًا.

واضاف والضعف قد تغلب عليه: يا رب إنَّ أخي قطعه مني يؤلمني ألمه، ويبكيني تعبه، فاللهم طهر جسده من كل ما يعانيه، لا تدع يالله مكان ألم إلا وقد شفيته، واجعل الصحة والعافية تسري بجسده فلا تريني فيه مكروه يارب، استودعك يا الله أخي وقلبه وعافيته فاللهم أحفظه وعافاه.

فور أن استعاد الجميع ثباتهم الفعلي بعد مغادرة جمال ويوسف، هبطوا جميعًا للأسفل، ووقفوا يودعون بعضهم البعض، فإذا بسيف يراقب آيوب بنظرة منفعلة، فأغلق باب سيارته وأتجه إليه يشير باقترابه: هو إنت مش بيتك قريب من بيت إيثان؟

هز رأسه وملامح الدهشة تحيطه، فاذا به يستطرد بذهولٍ: أمال بسلامتك رايح تركب مع حضرة الظابط ليه؟ المسافة مش طويلة لدرجة إنك تحتاج عربية توصل جنابك، ولو عجزت بدري ولا رجلك اتكسرت فاتفضل عربيتي موجودة هوصلك أنا.

منع آيوب ضحكاته من السطوع، وقال بضيق: سيف ظهور عُمران وزعل بشمهندس جمال ملخبطنا كلنا، فبالله عليك ما هي ناقصة يا أخي، وبعدين أنا مش راجع البيت انا رايح لمصطفى الرشيدي باعتلي وقالي إنه عايزني، فمش وقتك خالص.

خرج عن توب صبره الذي يرتديه منذ أشهر، فاذا به يجذبه من تلباب قميصه إليه، ويصيح بعنفوان: أمال وقته أمته؟ طول الفترة اللي فاتت مش معبرني، ولازق في حضرة الظابط، أنا كنت شاكك فيك من لما كنا في لندن وكنت بتسرح بيا بكلمتين البكش بتوعك وحاليًا بقيت مكشوف ووشك الحقيقي باين وضوح الشمس، زي ما صدقت إنه طلع اخوك وعايشلي في الدور بسلامتك.

وأضاف بعد أن طرحه على مقدمة سيارته: كم مرة عزمتك إنت والجماعة ورفضت؟ كم مرة رنيت عليك وطنشت؟ كم مرة بعتلك تعدي عليا في المركز قبل ما تنزل شغلك؟ بقيت بقابلك بالصدفة وكل مرة تخلق أعذار وحجج سخيفة!

ابتلع آيوب ريقه برعبٍ من رؤية ملامح سيف تثور لتلك الدرجة الشرسة، بينما من خلفه يتابع إيثان حوار يونس و آدهم في مللٍ، أنهاه حينما قال وهو يلهو برمي الحجارة: جوز الزغاليل شبطوا في بعض!

فور نطقه لتلك الكلمات الصادرة عنه ببرود، حتى استدار وجوههم تجاه سيارة سيف التي تشهد على ما يجرى، اندفع آدهم و يُونس إليهما، كان أخيه أول من تساءل: في أيه يا سيف؟

أفلت يده عن عنق آيوب، وتركه يرتب قميصه الأسود وهو يراقبه بهلعٍ، بينما يستدير ليجيبه: عربيتي عطلت وبقوله خلي حضرة الظابط يوصلني، قل أدبه عليا ابن الشيخ مهران المتربي!

قطب يُونس حاجبيه بشكٍ: آيوب شتمك إنت!

رد وهو يشيعه بنظرة جامدة: تصور يا أستاذ يونس!

توسعت مُقلتي آيوب بصدمة، بينما ابتسم آدهم ولف يده حول سيف يلقنه بخبثٍ: عربيتي تحت أمرك يا سيف، هات المفتاح وأنا هكلم حد يرجعهالك للبيت، وإنت اتفضل معايا.

رمش بحرجٍ حينما كشف آدهم أمر سيارته التي لم تتعطل من الاساس، فمد يده بالمفتاح له وإتجه يجلس بالمقعد الامامي ليمنع آيوب من الجلوس بالامام، راقبه آيوب ومال لآدهم يتمسك بذراعه كالطفل الصغير: روح انت معاه يا آدهم وأنا هاجي وراك مواصلات، لو ركبت معاه وهو بالحالة دي ممكن يخلص عليا، سيف بقى عصبي أوي!

ضحك بصوته الرجولي، وقال يشاكسه: تحب أخدك على حجري وأنا بسوق عشان متخفش منه!

رد وفيروزته تتابع سيف الذي يرمقه من السيارة بغضبًا قاتلًا: روح إنت وبلغ صاصا إني هعدي عليكم بكره، أو أقولك بلاش بكره هأخد سدن وأروح لسيف بكره نتعزم عنده يمكن يهدى شوية!

ازدادت نوبة ضحك آدهم بشكل زاد من وسامته، بينما تتابعه فتيات الحارة الذين يمرون من جواره، باهتمام من كنايته ومن بحوازته، فاذا بيونس يربت على كتفه ويخبره باستنكارٍ: بلاش لعب العيال ده يا آيوب، وروح شوف الاستاذ مصطفى عايزك ليه، ولو خايف على نفسك فكده كده هو سابلك الكنبة اللي ورا كلها إقعد وخد راحتك فيها.

أكد له آدهم بإيماءة رأسه، فاتجه بهدوء للسيارة، بينما يطرق آدهم على كتف يونس وهو يخبره: سلام مؤقت يا يونس، ومتقلقش الضرايب أمورها سهل، طول ما انت وايثان ماشين في السليم محدش هيضرك، انا بنفسي هشوف الموضوع ده.

منحه ابتسامة رسمية، وقال: تسلم يا آدهم، في رعاية الله.

اقترب منهما إيثان وصاح لادهم الواشك على الوصول لسيارته: خد بالك من الزغاليل دي لتلبس على الرصيف يا باشا.

استدار يغمز له بضحكة شبابية مشاغبة: متقلقش يا كابتن أنا أسيطر على دولة بحالها.

وضع إيثان يديه بجيوب سرواله ووقف يتطلع له بابتسامةٍ هادئة، واستدار يتجه إلى رفيقه، فوجده يجلس على الأريكة القابعة بمدخل منزله، فلحق به وجاوره في صمتٍ، أرغم يونس على أن يلتفت له ويجاهد للحديث: هو إنت لسه زعلان مني؟

أحاطه بنظرة ثقيلة، وعاد يتطلع أمامه وهو يحرك ساقيه بضجرٍ، شعر يُونس بأنه قد تمادى في الأمر، فمال بجسده تجاهه ووضع يده على ساقه، هادرًا في خزي: طيب حقك عليا متزعلش، كنت متعصب ومش طايق نفسي، وإنت مصر تعرف أنا فيا أيه، وللاسف الموضوع خاص مش هقدر أكلمك فيه.

راقب إيثان ساعة يده، ثم نهض يشير له: قوم خليني أوصلك، قبل ما أروح الجيم.

جذبه بقوةٍ جعلته يرتطم بالاريكة الخشبية: هو ده ردك على كلامي يا إيثان؟

واجهه بعنفوان، ونبرة متعصبة: عايزني أقولك أيه يعني؟ من يوم ما إتجوزت وانت بوزك قدامك شبرين ومش طايق نفسك، سألتك مرة ومليون عشان أعرف مالك وإنت ساكت ومبتتكلمش وجاي دلوقتي تقولي الموضوع خاص ومش هينفع أتكلم فيه؟ من أمته وفي بينا حدود يا يونس، من أمته وإيثان بقى غريب عنك؟ أنا أي حاجة بتحصلي إنت أول واحد بجري عليه، ولما حصلت مشكلة تمس عرضي وشرفي لجئت ليك، عشان عارف إن اللي يمسني يمسك، وجاي إنت تبني حوليك حواجز وتقولي مالك؟

تزحزح بجلسته بعيدًا عنه وهتف بوجومٍ: مش أي حاجة ينفع إنها تتقال يا إيثان، وبعدين أيه يدخل علاقتنا باللي أنا بمر بيه!

تعلقت به نظراته الحزينة بدهشةٍ، ولوهلة شعر بأنه لم يعرفه جيدًا، ابتلع العلقم القابع بحلقه، وهتف: مين قالك إني عايز أعرف تفاصيل، أنا بس عايز أعرف مالك؟ مين زعلك ووصلك للحالة دي؟

زفر بضيق، ورغمًا عنه ارتفع نبرة صوته: مش عايز أتكلم يا إيثان، هو بالاجبار يا أخي؟

شق صدره بحديثه القاس، وإذا به لا يحتمل رؤيته، فسحب الحديث عن لسانه، وإتجه ليعبر من بوابة منزلة الحديدية ليغادر، اندفع يونس إليه يمسك بذراعه: أنا آسف يا إيثان، أنا بقيت متلخبط ومش عارف اعمل أيه؟ كنت فاكر إن كل مشاكلي هتتحل لما أتجوز أنا وخ. أم فارس.

حتى إسمها يخشى نطقه أمام رفيقه، فكيف سيخبره بما يضيق بصدره، رفق إيثان بحاله فور أن علم بما به وبمن يضيق صدره، فقال: خلاص يا يونس متكملش، إهدى أنا مش زعلان منك انا زعلان عليك وإنت عارف.

ثم أضاف بعد دقيقة من الصمت: لو كانت الظروف غير دي كنت قولتلك روح لدكتور علي، اتكلم معاه لو الموضوع مرتبط بحالتك النفسية، هو أكتر حد هيقدر يفيدك.

تركه ومال تجاه مدخل المنزل الخارجي: فكرت في الحل ده بس استبعدته لان الأمر يخصها هي مش أنا يا إيثان، إزاي عايزني أروح أتكلم عن مراتي في أمور خاصة بينا قدام راجل!

تأكدت شكوك إيثان بأن الأمر الذي يمر به يونس ليس هينًا بالمرة، شحذ همته ولحق به للخارج، يخبره بتريث: الراجل ده دكتور نفسي هيساعدها وهيساعدك، وكلامك عن أمورك الشخصية هيكون بهدف الوصول لحل، وبالنهاية الامر خارج عن ارداتك الا بقى لو عايز تفضل في المعاناة اللي انت فيها دي كتير.

وأضاف وهو يربت على كتفه بحزن: اسمع كلامي يا يونس، دكتور على فرق في علاجك أوي، وهيقدر يحل اللي بتمر بيه دلوقتي، بكره تتصل بيه وتأخد منه معاد، لازم تقابله وتتكلم معاه!

سيطر آدهم على ضحكاته بصعوبة، وهو يراقب النظرات الشرسة بين سيف من جواره وأخيه من خلفه، كأنهما طفلان صغيران بكل ما تحمله معنى الكلمة، فتنحنح بخشونة: أيه يا شباب، مالكم كده في أيه؟

كان أخيه أول من مزق رداء الصمت: إسأله هو، لو مبطلش يتعامل معايا بالهمجية دي أنا اللي هبلكه المرادي من حياتي كلها.

منحه آدهم نظرة محذرة من المرآة الأمامية للسيارة، وأشار باصبعه: آيوب عيب!

لكم المقعد من أمام وعاد يستند بظهره للخلف، فاستدار له سيف وقال بحدة: إنزل من دور الثقة الزايدة دي انت متعرفش تبلك حد أصلًا، وخصوصًا أنا، ومتقلقش أنا اللي هقطع علاقتي بيك تمامًا لانك متستهلش، إنت صاحبي بالاسم بس، مالكش وجود ولا دور في حياتي!

برقت فيروزته في صدمة: أنا صاحب بالاسم يا سيف!

أكد له بثقة: أيوه، لما متسألش عليا كل ده، ولازق في حضرة الظابط ليل نهار يبقى ده إسمه أيه؟

تبسم آدهم وهز رأسه بعدم تصديق، بينما يهمس بصوت غير مسموع: أيه شغل العيال ده؟ كان الله في عونك يا دكتور يوسف!

ورفع من صوته ليصبح مسموعًا: اهدوا كده انتوا الاتنين، واتكلموا بهدوء بحيث نقدر نحل المشكلة المطروحة!

صرخ آيوب بانفعال: نحل أيه يا آدهم، ده فضحنا في كل مكان تكونوا فيه، بقيتوا كلكم بتتعملوا معانا كأننا أطفال!

وأضاف بسخط: أنا بقيت بتحرج بسببه وبسبب طريقته معايا!

رد عليه سيف وقد استدار إليه: على فكرة بقى الكل عارف ان انت مقصر معايا ومحقوقلي جدًا كمان.

فتح آيوب النافذة من امامه وهو يهتف بضيق: استغفر الله العظيم واتوب اليه.

قالها وعاد يتطلع تجاهه، يخبره: يابني هو أنا كنت لاقي وقت لنفسي، مش كلنا اتسحلنا في حوار عُمران، ومن بعده كان آدهم بيعمل العملية وكنت جنبه، قصرت معاك آه، بس مقصر مع نفسي ومع كل اللي حوليا!

استدار إليه وأجابه: ده مش مبرر صدقني، ثم إنك كان معاك فرصة تراضيني بيها ونطلع نسهر في أي كافيه، ألقيك ببساطة طالع مع حضرة الظابط ومروح معاه، وإنت نايم طول الايام اللي فاتت معاه، أيه مش قادر تستغنى عنه!

مال آدهم إليه في دهشة فاذا به يستدير تجاهه ويخبره على مضض: لمواخذة يا باشا.

منحه ابتسامة يرسمها بالكد: خد راحتك يا سي?و.

أشار له بامتنان ومال للخلف يستعرض باقي حديثه: وبعدين أنا مش كلمتك أكتر من مرة تجيني المركز؟

انفجر فيه آيوب بحدة: أجيلك فين؟ عشان نتخانق وتفضحنا قدام دكتور علي، مش كفايا اللي عملته فوق! ولا همك اللي حصل مع بشمهندس جمال، وكله كووم وإنك شمت إيثان فينا ده كوم لوحده.

فصلهما آدهم حينما قال: آسف على المقاطعة بس عندي سؤال فضولي، شايفكم بتحترمونا كلنا، دكتور يوسف، بشمهندس جمال، معلم يونس، وأنا لحد اللحظة دي بردو حضرة الظابط! اشمعنا بقى إيثان!

رد عليه آيوب ومازالت نظراته تحتد بسيف: لازم نحترمهم يا آدهم لانهم أكبر مننا بكتير، فرق من 5 ل9 سنين.

منعه ضحكته من الانبلاج، واستمر بالمتابعة: ما إيثان الفرق بينكم نفس الرينج.

أجابه سيف بتلقائية: هنحترمه إزاي وهو بيتعمد يقلل من آيوب وبيضايقه في الطالعه والنازلة! والله لولا خايف من يوسف لكنت مطوحه مكانه.

تحررت ضحكة آدهم الرجولية بعدم تصديق من قوة علاقة سيف وآيوب، بالرغم من انهما دائمًا في مواجهة بعضهما البعض.

عاد سيف لآيوب يهدده: على فكرة يا آيوب أنا هشتكيك لباباك.

ابتسم ساخرًا منه: أي واحد فيهم بقى! وبعدين تعذب نفسك بزيارة واحد فيهم ليه وأخويا الكبير جنبك، اشتكيله يا عم اتفضل.

ضرم النيران إليه فاذا به يهدر بعنفوان: إنت مصر تخرجني عن شعوري، أنا مش عايز أعرفك تاني سااامع.

حاول آدهم تهدئة الامور بينهما وحينما فشل، أوقف سيارته بسرعةٍ جعلت سيارته تحتك بالرصيف بعنفوان، وبصرامة مخيفة هدر فيهما: انزلوا.

تطلعوا لبعضهما البعض في غرابة، وكان آيوب أول من استنكر فعلته: آدهم!

ردد بعصبية وهو يشير لهما بانذاره الاخير: انزلوا حالًا وألا...

قالها وسحب سلاحه الموضوع بتابلو السيارة، فاذا بهما يلوذان بالفرار من السيارة، سحب آدهم مفتاح سيارة سيف، فتح النافذة وألقاه بوجهه هادرًا بانزعاجٍ من كلاهما: وصل صاحبك في طريقك.

قالها وانطلق بسيارته كالذي يقود طائرة جوية، بينما يقفان كلًا منهما في مواجهة الاخر بنفور، ومن دون كلمة واحدة عاد كلاهما لحارة الشيخ مهران، قاصدين سيارة سيف المتروكة أمام عمارة إيثان، وتحركوا معًا ليوصل سيف رفيقه لمنزل آدهم الذي ألقاهما على الطريق بانزعاج منهما!

جذب هاتفه يحرر الاتصال بزوجته، ثم وضعه بعد أن فعل المكبر الصوتي، فاذا بصوتها الرقيق يأتيه: كابتن آدهم!

ابتسم وهمس بنبرته المغرية: شمس هانم! ها معاليكِ جاهزة، أنا قدامي عشر دقايق بالظبط وهكون عندك.

صمتت قليلًا، ثم رددت على استحياءٍ: بس أنا ملحقتش أشبع من عُمران، عشان خاطري يا آدهم خلينا هنا يومين كمان، أنا مش مصدقة إنه رجع، انا محتاجه أكون جنبه الفترة دي، تعالى إنت بس هنقعد ونتكلم هنا أحسن من الموبايل.

أجابها بصوته العميق وبتفهمه لما تقول: حبيبتي أنا مش معترض إننا نفضل معاه، بس أنا بقالي كام يوم ببات معاكِ في القصر وبابا لوحده في البيت، النهاردة بكلمه من الصبح مش بيرد عليا وزعلان من بعدي عنه، وهو حالته الصحية مش أفضل حاجة أرجوكِ قدري ده.

شعرت بالذنب لما تسببت بفعله بدون أي قصدًا منها، فتحلت بالصمت ومن ثم قالت: خلاص روحله إنت وسبني أنا مع عُمران، وبكره هروح لبابا مصطفى أطمن عليه وارجع تاني.

=طيب وأنا! أنا ممكن في أي لحظة يجيلي استدعاء لأي مهمة، والله أعلم سفري هيكون لمدة أد أيه؟ مش حابب إننا نبعد بالشكل ده، أنا عايز أشبع منك ومن وجودك جنبي يا شمس!

تنهدت بحزنٍ شديد، وقالت بعدما حسمت أمرها: هقوم أجهز شنطتي، على ما توصل.

أوقفها حينما قال برفقٍ منه: لا، هعدي عليكِ بكره بليل تكوني قضيتي اليوم كله مع عُمران.

ابتسمت بفرحةٍ لحقت نبرتها السعيدة: تمام يا حبيبي، ميرسي أوي على مشاعرك النبيلة دي.

مال على مقعد القيادة للخلف: حبيبي! إنتِ بتحاولي تغيري قراري صح؟

أسرعت بالرد، ضاحكة: أبدًا والله، أنا بس بشكرك مش أكتر.

سرد لها بخبث: إبقي اشكريني بكره براحة راحتك.

وأضاف وهو ينجرف لطريق منزل أبيه: بكره هعدي عليكِ بدري باذن الله، عشان هنعدي على دكتور يوسف في المركز قبل ما نروح، يمكن يكون على كلامه صح ويكون ولي العهد شرفنا يا شمس هانم.

تلاقاها الفرح وبرز في صوتها: يا رب يا آدهم، أنا نفسي في بيبي شبهك أوي.

ابتسم وقال: لو ولد بتمنى فعلًا إنه يجي شبهي لإني مش هيجي من قلبي أشد عليه وهو وارث منك شبه ولو بسيط، أكيد هضعف قدامه زي ما بضعف قدام جمال عيون مامته، ولو بنت فأكيد هدعي من كل قلبي إنها تورث جمالك ورقتك وطيبة قلبك يا شمس!

تعالى صوت أنفاسها المرتبكة عبر هاتفه، فرسمت أمامه صورة مصغرة عن احمرار وجهها خجلًا من حديثه، اتسعت ابتسامتع وقال بحنان: يلا يا حبيبي ارتاحي وبكره لينا مكالمة قبل ما أشوفك بليل، تصبحي على خير.

قالها وأغلق هاتفه، بينما جلست هي تمسد على بطنها بأملٍ زرع داخلها، وتمنت أن تكون شكوكهم صحيحة حيال أمر حملها، فكم تود أن تحمل ثمرة حبهما داخلها في أسرع وقتٍ.

فتح عينيه بانزعاجٍ، على صوت رنين هاتفه القابع بجيب سرواله، فوجد أنه مازال يتخذ من ساق أخيه وسادة له، وجاكيته يداثر جسده، استقام عُمران بجلسته، يراقب أخيه بحرجٍ: أنا فضلت كل ده نايم!

تبسم على وأجابه وهو يغلق أزرار قميص أخيه المتحرر: وفيها أيه؟ لو مرتاح هنا ممكن نفضل للصبح عادي.

رفرف بأهدابه الكثيفة وهو يتمعن بالفراغ بشرودٍ، جعل على يناديه بقلق: سرحان في أيه؟

عاد بوجهه للقاء عينيه المهتمة لسماع الاجابة، فهتف بحيرةٍ: حاسس آن قعدتنا دي اتكررت قبل كده.

اتسعت ابتسامة علي وقال بمزحٍ مضحك: لو قصدك قعدتنا على الارض جنب العربية فآه اتكررت مرة في لندن، لكن لو على استيلاءك على رجليا فده أنت متعود عليه يا حبيبي.

وأضاف ضاحكًا: بس كل مرة كنت بترشيني بفنجان قهوة وكتاب، المرادي القعدة ناشفة!

نجح برسم الضحكة على وجهه، فزحف حتى استقر جواره، يستند بظهره على السيارة مثلما يفعل علي، طال الصمت بينهما حتى عاد الهاتف يدق مجددًا، رفع عُمران الهاتف، فاذا بصورة مايا مرسومة على شاشته وأعلاها (My little sweetie)«حلوتي الصغيرة! ».

ترك الهاتف جانبًا ومال تجاه علي، الذي ردد بتخمينٍ: مشتت؟

هز رأسه بخفة، وشكى له ما يشعر به: حاسس إني تايه ومحتار يا علي، محتاج وقت أقدر أتعامل فيه معاهم، خصوصًا دلوقتي.

تنهد بقلة حيلة، وشعور الذنب يطارده، زفيره خرج على مرات متتالية، ولحق به: ده غلطي أنا، إنت مكنتش جاهز تقابل أصحابك بالتوقيت ده، بس صدقني كلهم كانوا مجروحين وزعلانين عليك.

قطع حديثه حينما ضم كفيه بين يديه قائلًا: لا يا علي، أنا اللي أصريت عليك بظهوري لكل اللي حواليا، أنا كنت حاسس نفسي جاهز ومستعد، بس لحد ما آ...

راقبه علي باهتمامٍ، وسأله بحيطةٍ: لحد أيه؟ قولي أيه اللي حصل معاك، اتكلم واحكيلي يا عُمران.

ارتابت معالمه في توجس، انتشل يديه من بين كفي علي، وقال: مش عايز أتكلم حاليًا يا علي، عايز أرتاح أنا تعبان.

ضم وجهه بلهفة وخوف، بينما يتفحصه بنظرة متفحصه: تعبان مالك؟ تحب نرجع تاني للدكتور؟

هز رأسه ينفي له، بينما يوضح ما به بالتحديد: قلبي وجعني، حاسس بقبضة وخوف غريب.

دفع رقبته إليه، ليتمكن من أن يحتويه بين ذراعيه، بينما يهمس بصوت قشعر جسد عُمران، الذي يشعر في حضرته وكأنه طفلًا صغيرًا: بسم الله على قلبك حتى يهدأ، حتى يطمئن، حتى يأخذ الأمان ويبتسم، بسم الله على خاطرك حتى يجبر، بسم الله على نفسك حتى تطيب، استودعك يا الله أخي وقلبه وعافيته فاللهم أحفظه وعافاه.

تعلق به وابتسامته تزداد فرحة بأنه يمتلك أخًا حنونًا مثله، ظل يمسد على ظهره بيده حتى هدأ كلاهما، فإذا بهاتف عُمران يعود للرنين مجددًا، أبتعد عنه على وأشار له بلطف: رد يا حبيبي، مايا زمانها قلقانه عليك.

وزع نظراته بينه وبين الهاتف بنظرة مشوشة، ومن ثم قدمه له، قائلًا بصوت مبحوح من فرط الألم العالق فيه: مش جاهز أتكلم مع حد وأنا في حالتي دي.

قدر على ما يجتازه، والاصعب عليه أنه يعلم جيدًا بما يعانيه أخيه، التقط منه الهاتف وابتعد عن محيطه يتحدث مع زوجه أخيه، يخبرها بأنهما عائدان للتو، وحينما استدار وجد أخيه قد اعتلى السيارة، فصعد جواره وعاد كلاهما لقصر الغرباوي.

وصل آدهم إلى المنزل، ولج للداخل ينزع جاكيته الجلد، ووضع مفاتيحه وأغراضه الشخصية، بينما يشمر عن قميصه الأسود، ليبرز عروق ذراعيه البارزة، اتجه للمطبخ باحثًا عن أبيه، فوجده يجهز السفرة وآيوب لجواره يساعده.

تابعهما بابتسامةٍ فرحة، يود لو أن يبقيان هكذا للأبد، تنحنح متعمدًا اصدار صوتًا لينتبه أبيه لوجوده، فما منه الا أنه طعنه بنظرة غاضبة، وحرك المقعد خاصته يستكمل ترتيب الطاولة متجاهله تمامًا، وآيوب يتابع رد فعله بذهولٍ.

تحرك آدهم إليه، ومال يقبل يده بحبٍ: عامل أيه يا حبيبي؟

سحب كفه منه وتحرك يجذب باقي الاطباق، بينما يتابعه آدهم باستغرابٍ، فأشار آيوب له بأن يتمهل، وإتجه إليه يشاكسه بابتسامته البشوشة: مالك يا صاصا، شادد حيلك على آدهم ليه؟

ترك ما بيده على طاولة الطعام، وفاه بغضب: والله فيه الخير إنه لسه فاكر أبوه، إسأله كان فين طول الفترة اللي فاتت دي؟ وعرفه أنه لو جاي يبص عليا فأنا كويس، خليه يرجع مكان مهو جاي.

تحرك آدهم إليه، وانحنى قبالته يعاتبه: ممكن تفهمني أيه المقابلة والكلام الغريب ده، أنت عارف أني كنت مشغول بحوار عُمران، ومكنش ينفع اسيب شمس ولا أهلها في ظروف زي دي!

جابهه بغضب وصرامة: لكن تسيب ابوك عادي! أساسًا شمس قاصدة كل اللي بيحصل ده، مش عاجبها عيشتنا فحنت لعيشة القصور بسرعة، وكل ده ما هو الا تلكيكة عشان تقعد معاها هناك وتسيبني.

اتسعت مُقلتي آدهم في صدمة من حديث أبيه، فلجم غضبه بصعوبة وقال بهدوء: بابا متنساش إن اللي بترمي عليها تهمك دي تبقى مراتي، وبعدين قصور أيه اللي بتتكلم عنها، شمس عمرها ما كانت بتفكر بالطريقة دي، ولو كانت زي ما بتقول مكنتش وافقت تتجوزني من الأول!

خشى آيوب أن يحتدم الأمر بينهما، فمال على آدهم يشير له: اهدى يا آدهم، هو ميقصدش أكيد.

أبعده آدهم جانبًا، ووقف في وجهة أبيه يتطلع له باستنكار لما حدث له فجأة: أنا مستغربك بجد، اللي توقعته منك إنك هتكون متفاهم، شمس خسرت أخوها وكانت بتمر بظروف صعبة، وحتى لما رجع رجع فاقد الذاكرة ومش فاكر حد، من يوم ما اتجوزنا وهي مشافتش يوم واحد حلو معايا، اللي اتعرضت ليه ده أنا كنت السبب فيه، ولما اتعميت كنت بطلع كل سلبياتي عليها ومع ذلك استحملت ووقفت جنبي، مستكتر عليا أكون جنبها في ظروف زي اللي بتمر بيها دي هي واهلها اللي مشفناش منهم غير كل خير، نسيت على وعُمران عملوا معانا ومعايا أنا بالاخص أيه؟ بلاش انا، عُمران أفضاله على آيوب لا تحصى، تحبه يقولك عمل معاه أيه بره وجوه مصر؟

تحلى عن صمته أخيرًا بحزنٍ عمق نبرته، وهو يوزع نظراته بينهما بالتساوي: يابني أنا مقصدتش ده، أنا عارف إن شمس وأهلها ناس محترمين وبيحبوك، بس أنا خوفت أنها تبعدك عني، هي أكيد مش سهل عليها تبعد عن أهلها، خوفت تستغلها فرصة وتفضل إنت معاها على طول هناك فأخسرك أنت التاني.

ترك آيوب آدهم واستدار يتطلع إليه، محاولًا فهم نهاية حديثه الغامض، فاذا به يبكي بانهيار: أنا ماليش حد من بعدك يا ابني، لما سبت البيت كنت حاسس أنه زي القبر اللي بيضيق عليا، أنا عاجز ولا قادر أجبرك ترجع ولا قادر أجبر أخوك يجيني، أنا خسرت ابني وعملت كل حاجة عشان يقبلني بس مازال بيعاملني كأني غريب عنه، تقوم انت كمان تسبني!

عُصف بقلب آدهم بدرجة جعلت جسده يهتز فجأة، فأجبر جسده يتحرك تجاهه، هاتفًا بمحبة وندم مرير: مفيش مخلوق يقدر يبعدني عنك، أنا كمان ماليش غيرك وآ.

تراجع بمقعده للخلف وألقى الاطباق من فوق ساقيه: أقف مكانك أنا مش عايز حد جنبي خلاص، لو عايز ترجع لمراتك وتكون معاها إرجع، ولو أنت كمان عايز ترجع لشيخ مهران أبوك إرجع، ومتقلقش مش هتصل بيك تاني ولا هجبرك تيجيني.

قالها وتحرك بالمقعد لغرفته، تاركًا كلًا منهما يحدقان بالفراغ، فاذا بآدهم يتجه لأقرب مقعد ويجلس عليه في عجزٍ تام، تكاثرت مسؤولياته بشكل جعله يكون أول المقصرين في حق أبيه.

بينما يتدفق دموع آيوب في خزي، كان يفعل ما بوسعه حتى لا تشعر الحاجة رقية والشيخ مهران بانتمائه لغيرهما، فأتى بظلمٍ بين على أبيه، أزاح دموعه وإتجه لاخيه يضع يده على كتفه ويناديه بخفوت: هنعمل أيه يا آدهم؟

استدار إليه وقال بعد تفكير: ادخله إنت يا آيوب، مش هيجيله قلب يطردك.

تحرك دون كلمة أخرى لغرفة مصطفى، وقف يستجمع نفسه أمام بابها الموصود، الارتباك والتوتر يحيلان به، بينما يجاهد لضبط انفعالاته الحزينة، طرق على الباب وولج دون أن يستمع لأذن الدخول، فإذا بأبيه يواريه ظهره، وجهه للشرفة الزجاجية الطويلة.

تنحنح مصدرًا صوتًا خشن حتى ينتبه له أبيه، فاذا به يزيح دموعه ويردد بضيق: اخرج يا آدهم، اخرج وسبني لوحدي، مش عايز حد.

انغمرت فيروزته الدموع تأثرًا بضعف أبيه البادي من صوته الهزيل، رأسه المنحني على مقعده، هيئته الدامية مزقت نياط قلبه، فإذا بلسانه يردد رغمًا عن قوته بالتحكم بألفاظه: بابا!

رفع مصطفى رأسه عن انحناءته، فورما استمع لصوت آيوب، والصدمة تتمحور فيه لنطقه الكلمة المحظورة عنه، ظل يتطلع أمامه مشدوهًا، وببطء استدار للخلف تجاه محل وقوف آيوب، فأسرع بلف مقعده ودموعه لا تتوقف عن التدفق: قولت أيه؟

لم يستطيع أن يتماسك وهو يرى أسمى امنيات أبيه أن يناديه بما يخصه، ركض آيوب إليه وانحنى يميل على ساقيه، يقبل يديه معًا وهو يخبره ببكاء: حقك عليا، أنا حرمتك من أبسط حقوقك، أنا كنت أناني.

ابعد يده عنه وضم فيها وجهه، بينما يشاركه البكاء: لا يا حبيبي أنا اللي غلطت وغلطتي متتغفرش، إنت عملت الصح، أنت مش أناني، لو كنت أناني كنت منعت نفسك من زيارتي، أنا كل ما ببعتلك بتجيني ودي بالدنيا عندي.

رفع نفسه يحتضنه وهو لا يسامح ذاته فيما فعل، بل ردد بايتسامة واسعة: يعني انت راضي عني يا بابا؟

قشعر بدنه لسماعه الكلمة مرة أخرى، فشدد عليه بحب وقال: راضي عنك وعمري ما زعلت منك ده انت حتة من قلبي يا آيوب.

طبع قبلة على جبينه، ومال يتطلع لعينيه فابتسم له مصطفى بحب، يينما يستغل آيوب فرصته ويقول بخبث: طيب قولي يا حاج هتسامح أخويا كمان ولا هتبقى ظالم تسامح واحد و تسيب التاني؟

ضيق عينيه بمشاكسة محببة لقلبه: فين أخوك ده مش شايفه يعني؟، هو بعتك محامي عنه ولا أيه؟

أنا لو اترافع في حقي مليون محامي مفيش حد فيهم هيقدر يرفع عني الذنب اللي عملته.
قالها آدهم وهو يميل على الحائط من خلفهما، يتابع ما يحدث بسعادة ودموع تتلألأ رغمًا عنه، انقبض قلب مصطفى بوحشية، لأول مرة يرى الدموع في عيني ابنه، بل كان هو سنده وداعمه الأول، فاذا به يردد بوجعٍ: عمر!

تحرك آدهم تجاهه وانحنى على ركبتيه يستقبل ذراعيه المفتوحان، مال على كتفه برأسه وعينيه تتطلع لارضية الغرفة في خزي، والصمت يلجمه عن الحديث، مما اقلق مصطفى على حالته، فربت على ظهره العريض، وقال: متزعلش مني يا عمر، أنت طول عمرك تحت رجليا يابني، عمرك ما قصرت معايا، بالرغم من شغلك وحياتك كنت دايمًا أنا من أهم أولوياتك، أنا بس خوفت تبعد عني، وتمشي من هنا، حقك عليا إنت وشمس، شمس اصيلة وبنت ناس، مشوفتش منها حاجة وحشة، ولو هي عايزة تستقر عند أهلها حقها يابني هي اتربت وسطهم وواخده عليهم فآ.

قاطعه آدهم حينما ابتعد يواجهه: شمس راجعه بكره بليل، مكانها جنبي ومرتاحة معايا، عايزة تكمل معايا أنا مش مع عيلتها، شمس حابة بس تعوض غياب عمران عنها مش أكتر.

وتابع بينما يتصل بعينيه ليصدق ما سيقول: أنا عمري ما هتخلى عنك لأي سبب من الاسباب، ولو كلامك ده كان صح وشمس حبت تعيش مع عيلتها فتأكد إنك هتكون انت اختياري، ووقتها هقولها كل شيء قسمة ونصيب.

صاح بفزعٍ: لا أوعى تقول كده، ربنا ما يجيب فيك ولا في أخوك أي شيء وحش يا حبيبي، ويفرحني باولادكم قبل ما أموت.

تلفظ كلاهما معًا: بعد الشر.

ابتسم مصطفى بفرحة وقال لادهم: آيوب قالي يا بابا من شوية يا آدهم سمعته؟

انهمر الدمع على وجه آدهم، تأثرًت بلهفة أبيه، فهز رأسه بالنفي مع أنه سبق واستمع لكل ما جرى بينهما، فاذا بآيوب يرنو منهما وهو يزيح دموع تأثره بهما، قائلًا بمرحٍ: لو بتسعدك كلمة بابا دي هصدعك بيها طول العمر، بس انا واقع من الجوع وإنت عامل أكل ريحته تجوع أصلًا، انتوا باعتين تجيبوني تمرمطوني هنا، ابنك يرميني على الطريق وانت تمنع عني الأكل!

توسعت مقلتيه في دهشة، ومال لادهم يسأله بدهشة: انت رميت أخوك على الطريق يا آدهم؟

ضحك وهو يخبره: ربنا ما يوقعك مخلص ليه هو وسيف صاحبه، مش بس هتطرده من البيت انت هتتبرى منه يا صاصا!

انفجر ثلاثتهم من الضحك، فاذا بمصطفى يشير لهم: طيب يلا نكمل كلامنا على السفرة، الاكل زمانه برد!

احترم علي رغبة عُمران بالبقاء بغرفة منعزلة بالطابق الخاص باستقبال الضيوف، شعر بأن شيئًا قد حطم تقدمه اللحظي بعد رؤيته للشباب ولجمال بالأخص، شك في أنه استرجع ذكريات يوم الحادث، وتلك النقطة ستظل مصدر اضطراب لأي شخص فقد الذاكرة.

وها هو يجلس الآن بغرفة تصغر جناحه بكثير، يقلب في الصور التي وجدها بهاتفه، وجميعها صور شخصية له ولزوجته، فلقد أخبره على بأنه هاتفه الشخصي، وأنه يمتلك هاتف أخر خاص بالعمل وبأصدقائه!

فتح القائمة واستخرج رقم موسى، ثم حرر زر الاتصال به، حتى استمع إلى صوته يجيب بنومٍ: ألو.

وحينما لم يأتيه الرد قال بضيق: . مين معايا؟

ابتسم عمران وقال يشاكسه: لسه بتنام بدري زي الاطفال اللي وراهم مدرسة الصبح بدري.

=خواجه!
عندك حق متنساش صوتي، أنا كلي على بعضي متنساش أصلًا!

=وحشتنا والله العظيم كلنا زعلانين، غيابك قطع فينا كلنا يا خواجة، انا لسه كنت بقول لصابر من شوية نكلمك تيجي تقعد معانا، بس قالي مينفعش نكلمه دلوقتي أكيد ملهي مع عيلته.

انت تكلمني في أي وقت يا موسى، أنا كنت هكلمك امبارح بس إنشغلت، المهم طمني عليك وعلى قمر.

=كلنا بخير يا خواجه، المهم انت عامل أيه؟ والذاكرة رجعتلك لما شوفت عيلتك ولا لسه؟

ضم زواية أنفه ببسمة حزينة وقال: لا لسه، الظاهر إني مكتوب عليا أكمل هنا وهناك وأنا مش فاكر عن نفسي حاجة.

=متقولش كده، ربنا شايلك الاحسن كل ده الخير ليك مش ده كلامك ولا أيه يا عم الشيخ! ده أنا بسببك معتش بفوت صلاة الفجر، وبصلي الفروض كلها بالجامع والله.

اتسعت ابتسامته فرحة به، وقال بصوتٍ عذب: ربنا يباركلك يا موسى، أنا عايزك تجيب صابر وقمر وأبلة صباح وتجي تقضي يومين معايا، ومتقوليش الورشة، أنا كلامي أمر عليك ونافذ ولا ناسي؟
استمع لصوت ضحكاته الرجولية بينما يجيبه: =طاووس وقح وقح يعني مفيش كلام، بس إنت اللي هتجيلي هنا الاول عشان كتب كتابي على الابله، وبعد كده هنجيلك احنا يا عم، وهجيلك مرة كمان بعد الفرح نقضي الهيرموني ده.

ضحك بملء ما فيه وصحح له: ال honeymoon، ركز يا أسطا بدل ما الأبلة تخلعك من قبل وصول المأذون!

شاركه الضحك وقال: متقدرش تعملها وقعت في حب الاسطى واللي كان كان يا بشمهندش عمران!

رد عليه عمران بضيق: خلينا في خواجة مؤقتًا لحد ما نتعود على الاسم.

واضاف باهتمام: تعرف إن في شخص هنا المفروض إنه من اصدقائي ناداني بخواجة! وشكله كان بيناديني بيها كتير.

أكد له موسى برزانة: يمكن عشان كده مستغربتش الاسم وقت ما ناديتك بيه.

تنهد بضجر وقال: يمكن.

طرح عليه موسى سؤالًا فضوليًا: طيب طمني لقيت صاحبة الخاتم؟

علي ذكرها ابتسم عُمران حينما تذكرها، ورد بإيجازٍ: لقيتها مستنياني وكان عندها ثقة إني راجعلها.

وأضاف حينما شعر بحاجته للراحة: يلا مش عايز أسهرك أكتر من كده، هكلمك بعدين، ورقمي معاك اتصل بيا من غير ما تستأذن حد.

رد عليه موسى بتأكيد: هكلمك مرة والتانية والتالتة هدوشك متقلقش، مع السلامة يا خواجة.

أغلق الهاتف بينما يلقيه على الفراش، وهو يستكين على المقعد بتعبٍ، فوقع بصره على الباب الزجاجي المؤدي للتراس، فرأى خيال لأحدٌ يقف بالخارج.

خرج يتجه إليه، فوجدها تقف قبالته، تتطلع له بحزنٍ شديد نقلته له بسؤالها: قررت تبعد عني من تاني يا عُمران؟

شعر بالخزي من قراره بالبقاء منفردًا، فخطى ليكون قبالتها بالخارج، وقال بتعب: حاسس إني تايه وحبيت أكون لوحدي، آسف لو ده ضايقك.

هزت رأسها بخفة وتركته واتجهت للاريكة البعيده عن نطاق الغرفة، بل كانت متصلة بشرفة الغرفة المجاورة له: ادخل ارتاح، أنا مش هتطفل عليك متقلقش.

بقى محله على بعدٍ منها، يقف أمام شرفة غرفته وهي تجلس أمام شرفة الغرفة المجاورة له، وحينما وجدته يتطلع لها، ظنت بأنه لن يتمكن من النوم بسلام إن كانت هي تجلس هكذا، فولجت للغرفة وأغلقت بابها الزجاجي، ثم انطلقت للفراش وجلست تبكي من فوقه.

لقد بات جناحها بردًا قاسيًا بفقدانه، والآن يريد منها أن تبقى فيه بمفردها لتعود لذلك المأزق من جديد، فضلت أن تعيش معه بطابق الضيوف، وبالغرفة التي تجاوره، عساها تشعر به.

مزق وابل دموعها صوت طرقاته على باب الشرفة، فاذا بها تزيح دموعها وتسيطر على نفسها مستدعية كل القوة التي فرت عنها، واتجهت بثبات تفتح الباب وتواجهه بصمت، ضم شفتيه معًا في حيرة لما سيبدأ به الحديث، فقال دون ترتيب منه: إنتِ مش في جناحك ليه؟

تعمقت في رماديتاه بقوةٍ: ما أنت كمان مش فيه!

تنهد بقلةٍ حيلة وقال: غصب عني.

ردت بنفس النبرة: وانا كمان غصب عني.

عاد بعينيه لاحتضان عينيها الدامعتان، المشاعر تتواصل مع بعضها البعض في لقاءٍ أضرم نيران قلبه بشكل أعجزه عن فهم ما أصابه!

سقطت دمعة من عينيها، بينما الصمت يختلج الغرفة الواسعة من حولهما، تنطق عينيها بمواجهة صريحه له أنه سيتعرف عليها على الفور، وإذا بها تمزق جموده قبالتها بسؤالها الذي وضعت فيه كل بؤسها وحزنها: في واحدة تانية دخلت في حياتك يا عُمران؟

تعجب مما قالته، بينما تندرج دموعها دون توقف وهي تستطرد: هي نفسها البنت اللي شوفتها معاك في العربية صح؟

الصمت يموج عليه من تأثير دهشته بحديثها، بينما يخرج عنها تهديدًا صارمًا: أقسم بالله لو كنت عملتها ما في مخلوق بالكون كله هيقدر يرجعني ليك تاني يا عُمران، أنا مش مستعدة أدخل في حرب مع واحدة تانية عشانك، الحرب الاولى كنت متوقعه نتيجتها، لكن المرادي بالشخص اللي قدامي ده مش متوقعه حاجة!

قالتها واستدارت لتغادر خشية من أن تتأذى حالته بحديثها الذي خرج منه دون ارادة، فإذا به يمنع رحيلها حينما أمسك ذراعها، وأعاد بها قبالته من جديدٍ، وتلك المرة يحكم بيديه من حول وجنتها، فيجبرها على الاقتراب والتطلع له، بينما تبعد يديه وهي تهدر بارتباك: إبعد عني!

تغاضى عما طلبت، ومال يستند بجبينه على جبينها بينما يهمس لها بهدوءٍ: مفيش حد دخل حياتي، أنا مش من طبعي الخيانة، أقسملك بالله إن عيني ملمحتش طرف واحدة ست طول ما دبلتك كانت في ايدي!

وأضاف وهو يعيد تأكيده لها: قلبي مكنش بيدق بالطريقة دي غير في قربك إنتِ يا مايا.

فتحت عينيها الآن تقابل عينيها، وبرعشة اكتسحت نبرتها تساءلت: بجد يا عُمران؟

منحها ابتسامة جذابة، بينما يختار ما تحب أن يقوله لها: بجد يا عمره وروحه وحياته كلها.

مالت تلك المرة إليه، تلجئ لضمته، فإذا به يطوقها بعاطفة تفوق عاطفتها الهاشة، بكائها كلما استمع لصوته يتلقى ضربة من سوطٍ قاسٍ، فاذا به يترجاها: كفايا عشان خاطري، بلاش تعذبيني بالشكل ده أنا مش متحمل يا مايا.

أزاحت دموعها، وتعلقت به مجددًا، تخبره بانهاكٍ وتعب: أنا تعبانه وعايزة أنام، بس خايفة أقوم مش ألقيك جنبي.

مرر يده على حجابها وقال بصوته الرخيم: أنا ماليش مكان غير جنبك يا مايا، اطمني.

ثم اتجه بها للفراش، فاعترضت وقالت باصرار: لا هننزل جناحنا وهتنام في سريرك.

منحها ابتسامة سلبت عنها عقلها، وقال: أوامرك كلها مجابه يا بيبي.

ابتسمت على كلمته واتجهوا معًا للمصعد، ومن ثم ولجوا للجناح، ليشاركها عُمران للمرة الاولى له الفراش بالجناح الذي صممه خصيصًا له، تمدد وهي لجواره بعدما نزعت حجابها.

راقب خصلات شعرها الموضوعة جوارها على الوسادة، تنساق بنعومة، بينما عينيها لا تترك خاصته حتى استسلمت للنوم.

ابتسم وهو يجذب الغطاء من عليها، وتجرأ لاول مرة وطبع قبلة صغيرة أعلى جبينها، ثم تمدد هو الآخر وما حدث له بشقة الشباب لا يترك مخيله، حتى غلبه النوم هو الآخر.

غفى ساعات قليلة ونهض يتسلل من جوارها، اغتسل وحمل سجادته والقرآن الموضوع جانبًا، ثم هبط للحديقة، مثلما كان يعتاد أن يفعل.

أقام ليله في ذكر الله، صلاة قيامه لطالما كانت وستظل النجاة من كل ما يمر به، يطول في سجدته ودموعه تلامس مكان سجوده، يدعو الله أن يزيح غمته، ويفرج كربه.

انتهى من اداء ثلاثة عشر ركعة، وجلس يفتح مصحفه ويرتل بصوته العذب، المسموع من حوله لمساحاتٍ تضج بالحياة، وهو يردد بكل خشوع: «وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى».

قالها ودموعه تنساق على وجهه دون توقف، وبينما هو ينسجم بين يدي الله، إذ يأتيه صوتًا باكيًا من خلفه، يعاتبه: كده يا عُمران، بتخلف بوعدك معايا، قولتلي هنصلي القيام مع بعض، وسحبت كلامك؟

نهض عن محله يسرع بمساعدة والدته بصعود الثلاث درجات الفاصلة بينهما، وهو يقول بابتسامة جميلة: كنت قاعد مستنيكِ يا حبيبتي، ومردتش أصحيكِ، خوفت تكوني تعبانه من الحمل وبتريحي!

وقفت قبالته تتشرب ملامح وجهه بشوق، تود أن يتحدث لأخر يومًا بعمرها، فاذا بها تزيح دموعها وتخبره بغضب مصطنع: ممنوع تحلق شعرك تاني، أنت جذاب بشعرك البني الطويل أكتر من كده.

ضحك وقال يشاكسها: مهو شعري البني الجذاب مكنش هيفيدني بشيء لو كانوا سابوا رأسي تنزف كنت هسافر سفر أبدي!

ردت بلوعة وهي تضمه إليها: بعد الشر عليك يا روح قلبي، الحمد لله إن ربنا ردك ليا سالم، ربنا رحم بيا وبقلبي المكسور من بعدك يا عُمران.

كانت هي من تحتويه ولكنها مالت من فوقه بتعب شعر به، فابتعد عنها وشملها هو بين جسده الضخم، تعلقت فيها مبتسمة بأنه يعود لطباعه وما اعتاد عليه، مثلما كان يحتويها ومثلما وصفته بالأب الروحي لها، كما تصف على بالصديق الرائع المستمع لها بصدرٍ رحب، وبالاعلى يتابعهما أحمد بفرحة، وأخيرًا غادرت زوجته الفراش وتشرب وجهها حب الحياة.

أبعدها عنه وسحبها برفق لمكانه الساحر، بوجود مصحفه وسجادته، أسندها للمسند الصغير الموضوع وقال: ثواني وراجع.

تركها ودخل للقصر، وعاد بعد قليل يحمل سجادة صلاة اضافية، ومقعد صغير، فرش سجادتها ووضع المقعد وهو يشير لها قائلًا: استريحي على الكرسي وقت الصلاة عشان متتعبيش.

اومأت برأسها ويدها تميل على وجهه، هاتفة برقة تليق بها: شكرًا يا حبيبي.

عاد يبتسم لها ووقف يقيم الصلاة مجددًا، رغم أنه انتهى منها للتو، ولكنها من أحب الأعمال لقلبه، وإن ظل يفعلها لاخر يومًا بحياته لن يمل أبدًا.

صلى بها عمران وهي تستكين بسماع صوته الخاشع، فلم يطول بها وهو يعمل تعبها بالشهور الاخيرة من الحمل، إكتفى بأربع ركعات، ونهض يلملم سجادتهما، بينما تراقبه فريدة بابتسامتها الساحرة، وقالت لتسحب معه الحديث: أنا مش بأكل دلوقتي بس حاسة أني جعانه أوي، تعالى نعمل أكل خفيف لحد ما الفجر يأذن.

زوى ذراعه لها وقال: تحت أمر معاليكِ فريدة هانم، نعمل أحلى فطار لأجمل برنسس بالدنيا كلها.

ضحك وجهها سعادة، ولم تشك للحظة بأنه فقد الذاكرة، تعامله مشابه لتعامله السابق، فإذا بهما يدخلان لمطبخ القصر، ويتناولان الطعام حتى صلاة الفجر، صلوا معًا ثم صعد كلاهما للغرف بعد أن اطمئن قلب فريدة لعودة محبوب قلبها!

فتح عينيه بانزعاجٍ مع اشراقة صباح اليوم التالي، مرر يده جواره باحثًا عنها، فاذا به خالي، أفرج عن رماديتاه يبحث بهما عنها، ولكنه لم يجدها.

نهض على يعيد خصلاته المتمردة على عينيه واتجه يبحث عنها بمكتبها الخاص، الذي خصصه لها أخيه، فوجدها قد بدأت العمل بجد لتكون محل عُمران لحين عودته.

دنى منها ومال يحتضنها متمتمًا بنعاس: صباح الجمال كله فطيمة هانم.

مالت على ذراعه وهي تهمس بتعبٍ: صباح الورد يا دكتور، أيه كل ده نوم!

جلس على سطح المكتب من أمامها، وقال ببسمة سرقت تركيزها المنسكب على اللوحات من أمامها: ما بخدش راحتي في النوم الا لما بكون مرتاح وسعيد، وأكيد بعد رجوع عمران من حقي أطول في النوم ولا أيه؟

راقبته بابتسامة مشرقة وقالت: من حقك طبعًا، إنت أكتر واحد عانيت في غيابه.

مال يقبل جبينها، ونهض يتجه للخروج قائلًا: هأخد شاور وهنزل المكتب تحت، بقالي فترة مبصتش على الحسابات طلبت منهم يبعتولي على اللاب.

وتركها وولج لحمام جناحه، استعد بارتدائه بنطال أسود وسترة بيضاء، ثم هبط يعد قهوته المفضلة وبدأ يتابع عمله، بعدما ترك كتابه المفضل جواره، عساه يقتبس بالقراءة صفحة أو صفحتان وقت عمله.

هبط من الأعلى يتآلق ببنطال من الجينز الأزرق، وتيشرت أبيض اللون، ومن فوقه قميص أسود من براند عالمي، مرتدي نظارته الشمسية السوداء، عاد لجاذبيته الخاطفة بانتقاء قطع ملابسه بعناية كالمعهود عنه.

هبط للاسفل، يتجه لغرفة مكتب أخيه بعدما أرشدته آحدى خدامات القصر، وقف ينزع نظارته ويراقب الباب بتردد.

رأه على فأبعد اللاب عنه، ونهض يستقبل أخيه بابتسامة جذابة، بينما يقف الآخر خارج باب المكتب بتردد من الدخول، فإذا ب علي يشير له بحنان: عُمران، تعالى يا حبيبي، إدخل.

ولج للداخل يتفحص الغرفة بنظرة دقيقة، حتى جلس على المقعد المقابل لمكتب علي، فإذا به ينهض ويتجه ليقابله بالمقعد المقابل له، يدرس التوتر والارتباك المختبئان بين رماديتاه، منذ لقاء الأمس وهو يمنحه مساحته الخاصة، حتى لا تنتكس حالته، بالرغم من أنه يملك الكثير من الاسئلة على مغادرته الغامضة لشقة رفقاته.

كسر صوته الواجم الصمت المخيم بينهما: في شخص شوفته امبارح وحابب أزوره، ينفع تاخدني ليه؟

ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيه، وسأله باهتمامٍ: شخص مين؟ تقصد من أصدقائك اللي شوفتهم عليهم؟

حرك رأسه بإشارة موافقة لحديثه، فتابع على بسؤالٍ أخر: مين فيهم؟

امتقعت معالمه بحزنٍ شديد، بينما يشير له في عجزٍ تام: مش عارف إسمه.

مال يربت على ساقه بقوةٍ: ولا يهمك.

ونهض يتجه لمقعد مكتبه الرئيسي، جاذبًا الحاسوب الشخصي، ثم وجهه له، فوجده يريه صورة تضمهما وباقي الشباب في حفل زفاف آدهم، راقبه على وسأله بفضولٍ: مين فيهم؟

رد عليه، وعينيه لا تفارق أول من لفت انتباهه: ده.

تطلع على لما يشير إليه، فتبسم وهو يعود للمقعد المقابل له: مشاعرك تجاه الأشخاص متغيرتش لسه زي ما هي.

وأضاف موضحًا له: ده أقرب شخص فيهم ليك، رفيق طفولتك وصديق الجامعة، وشريكك في شغلك، وأكتر واحد فيهم أتأثر بغيابك، إسمه جم...

جمال.
استكمل عُمران الاسم بتلقائية جعلته يبتسم وهو يهز رأسه بإجابته الصحيحة، دقق عُمران النظر في شاشة الحاسوب، ومال له يخبره بضيقٍ: أنا عايز أخرج وأشوفه لوحدي، ممكن تديني اللوكيشين بتاعه، وتسبني أروحله لوحدي؟

وخز قلبه خشية من أن يصيبه سوءًا، طال صمته حتى حل الأمر ببراعة: طيب هخلي معاك السواق، يوصلك ويرجعك.

انصاع إليه، وصعد بالمقعد الخلفي للسائق الذي علم الطريق جيدًا، وصل لمنزل جمال فيما يقرب الخمسة وعشرون دقيقة، أخبره السائق على الطابق الخاص بشقته، فصعد على الفور.

وقف قبالة باب شقته بتوترٍ يقتحمه، ولكنه لن يمنع رغبته لقوية في البقاء بجواره، ثمة شيئًا داخله مال إليه منذ أول لقاء. ، قرع الجرس وانتظر قليلًا، حتى انفتح الباب، ويطل من داخله عينان جحظتان في دهشة وذهول، وفرحة تزف بنطق كلماته الغير مصدقة: عُمراااان!

لم يصدق ببدأ الأمر أنه يقف قبالته، فخرج إليه يراقبه عن قرب، ودموعه لا تتوقف عن الانهمار، شعر عُمران بالعجز، فشل بتحديد خطوته الاولى، فاذا بجمال يسدد له لكمة تفاجئ بها عُمران وفشل في سدها من دهشته، بينما يجذبه جمال ليقف قبالته وهو يصرخ في وجهه بعنف: دي عشان زقتني من العربية وسبتني في العذاب اللي أنا فيه ده لحد النهاردة!

ودفعه للخلف وهو يبكي بجنون بينما يصرخ بوجعٍ: أنت دبحتني وأنا شايفهم بيضربوك وأنا عاجز ومش قادر أوصلك، كل مرة بتفكر في حياة اللي، حواليك وإنت أخر حد بتفكر فيه، شوفت نتيجة اللي انت عملته أيه؟ رجعت ومش فاكرني يا عُمران، مش فاكر جمال صاحبك اللي مات في نفس اليوم اللي اختفيت انت فيه.

أدمعت عينيه تأثرًا بحجم وجعه، شعر وكأنه يقابل نسخة أخيه علي، وتعجب من أن يكون قد جمعته علاقة متينة بأحد غريبًا عنه!

تطلع له جمال ومازال يبكي: كلهم بيقولولي حاول تكسب حبه وصداقته من تاني، بس أنا مش عارف أبدأ منين ولا أعمل أيه عشان أفكرك بيا!

يحاول التماسك قبالته ولكنه يفشل، وإذا بعمران يقترب منه ويقول بصوت محتقن من كبت دموعه: بس أنت الوحيد اللي أنا حسيت بيه من بينهم، والوحيد اللي جتله برجليا.

رفع رأسه تجاهه يتمعن بصدق ما قال، لقد أتى إليه وهذا أروع ما بالامر، ربما يضمد جرحه الغائر، وخاصة حينما أضاف عُمران: إنت الوحيد اللي افتكرت إسمه، وأول ما شوفتك حسيت بوجع رهيب مقدرتش أستحمله، وأديني اهو جيتلك النهاردة عشان حابب أكون معاك وأسمعك.

اعتصر جفونه هادرًا كل دمعة احتقنت داخله، فاستند على ذراعه وضمه إليه بينما يخبره ببكاء يلاحق حديثه: لو جاي عشان تسمعني فأسمع، انت كنت أقرب ليا من روحي، عمرنا ما افترقنا عن بعض ولما حصلت كانت كام يوم يتعدوا على الايد الواحدة، محدش نجح يفرقنا أبدًا، والكل كان مستكتر صداقتك بيا، لإني من أسرة متوسطة وانت من عيلة ثرية، بس بالرغم من كده عمرك ما حسستني بالفرق اللي بينا، إنت كنت سند وداعم ليا في حياتي كلها.

ابتسم عمران وشدد من ضمه بتلك اللحظة، يينما توافد عليها ذكريات سارية تخص رفيق بملامح مشوشة، وإذا به يبتعد عنه ويتطلع بوجهه عساه بربط ملامحهما ببعض.

أشار له جمال بابتسامة زرعت الفرحة على وجهه المنطفئ، وقال باصرار: إنت مش هتمشي من عندي النهاردة، هتبات معايا وهنا، لو روحنا شقتك اللي في حارة الشيخ مهران هيطلع يوسف وآيوب والباقي، ومش هعرف أقعد معاك.

زوى حاجبيه بذهول: الشيخ مهران!

ابتسم وهو يجيبه: ده يبقى أبو آيوب، وإمام المسجد اللي كنت بتحب تصلي فيه دايما.

نطق بلهفة وشوق غريب: خدني ليه!

أشار بحزم وعدم تراجع: بكره هوديك مكان ما تحب، النهاردة هتقضيه معايا هنا.

ودفعه بسعادة للداخل: تعالى ادخل.

إنصاع له عُمران وولج للداخل، يتبعه لغرفة الصالون وعينيه أرضًا، فقد تسلل له أن جمال متزوج ولا يعلم لما شعر بذلك فجأة!

ولجت إليهما صبا تحمل صغيرها وابتسامتها البشوشة تعلن دفن الماضي خلف قبرًا لا رجع فيه، بل تطلعت إليه وقالت بسعادة حقيقية: حمدلله على سلامتك يا بشمهندس عُمران، جمال كان هيجراله حاجة من غيرك، الحمد لله انك رجعت بخير.

أخفض عينيه أرضًا وقال ببسمة صغيرة: الله يسلم حضرتك من كل سوء، تسلمي.

مدت الصغير لجمال الذي حمله وقدمه لعمران قائلًا: عُمران موحشكش؟

وزع نظراته بينهما بذهول، والتقط الصغير منه يتفرس بملامحه بحنان، جعله يطبع قبلته على وجنتيه وهو يهمس بسعادة: عسول أوي تبارك الله.

وعاد يتطلع تجاه جمال متسائلًا بفضول: هو إسمه عُمران؟

اجابته صبا مبتسمة: مختار إسمه من أول ما عرف بخبر حملي، جمال معندوش أغلى منك يا بشمهندس، ربنا يديمكم لبعض يارب.

واستطردت وهي تتجه للخارج: أنا هنزل عند ماما أشرقت وهسيبكم على راحتكم.

رد عمران باحترام ومازالت نظراته أرضًا: اتفضلي.

خرجت وتركتهما بمفردهما، فتطلع عُمران تجاهه وابتسم قائلًا: وزعلان إني مسبتكش في العربية، طيب مين كان هيربي السكر ده؟

احتقنت ملامح جمال وهدر فيه بعنفوان: متفكرنيش عشان هقوم أخلص عليك فعلًا.

حمل الصغير يقبله ويستتشق خصلات شعره بحب، بينما يداعبه وهو يخبره بمكرٍ: شكل باباك عايز يتقل قيمته قدامك، أنا عشان خاطرك سامحته على اللكمة اللي إدهاني دي، بس للاسف لو زاد فيها مضطر أطلع أدبلك أمه وقتي!

جلجلت ضحكات جمال الذي افتقد المنزل صوتها، بينما يهتف بعدم تصديق: الطاووس الوقح لسه مسيطر عليك بردو مهما عملت.

وضع الصغير جانبًا وقال يجيبه ببسمة شيطانية أخافت جمال: هو أنا لسه بستكشف أمور عن نفسي جديدة، فأنت أدرى الناس بيا وتعرف أخري رايح فين، فلو حابب تكملها كده عارف نهايتك أيه؟

كاد أن يجيبه ولكن انفتح باب الشقة وولجت أشرقت تسرع تجاه غرفة الضيوف، تتطلع تجاه عمران، قائلة بعدم تصديق: مصدقتش صبا لما حكيتلي، الحمد لله على سلامتك يا غالي.

اتسعت ابتسامته فجأة، ورد عليها بحبورٍ: شوشو!

أبعدت ابنها وضمته بفرحة، وهي تشير بيدها: هو مين ده اللي فقد الذاكرة والنبي مانتوا عارفين حاجة.

ضحك عُمران وقال: لا أنا فقدها فعلا بس الاسم خرج تلقائي.

تلاشت ابتسامتها بحزن، ولكنها عادت تبتسم وتخبره: بكره ترجع وتفتكر الحاجة اشرقت، مش بعيد لما أعملك طبق ورق عنب بالكوارع من ايديا تفتكرها وش، هنزل حالًا اعملهولك انت كنت بتحبه دايما من ايديا.

قالتها وحملت الصغير ثم غادرت على الفور، بينما ظل جمال برفقته، فاذا بعمران ينهض فجأة ويتجه للصورة الضخمة الموضوعة على حائط الردهة، كانت صورة تخص جمال ويوسف وعمران.

غام بها قليلًا وصداع رأسه يزداد، بشكلٍ جعله يضم زواية رأسه، أمسكه جمال بقلق يزداد حد الرعب: مالك يا عمران؟ حاسس بأيه؟

ضغط على ذراعه وكأنه يحتمل شدة الألم، الذي مر بعد دقيقة، فاذا به يعود لما يتطلع إليه ويردد بتعجب: يوسف!

الفصل التالي
بعد 21 ساعة و 21 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة