رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وسبعة
توافد إليه مشاهد متفرقة، تجمعه بالمقربين منه، رأى فيها لمحات من السعادة تجمعه بجمال، وبهذا الشاب الذي سبق ونطق إسمه.
استدار عُمران تجاه جمال يترقب أن يؤكد له صحة ما قال، فإذا به يبتسم ويؤكد له بلهفة أب تجتاحه سعادة لنطق صغيره أولى كلماته: أيوه ده يوسف صاحبنا، أنا وإنت متصاحبين من وأنا في الثانوي تقريبًا، وبعد ما سافرت لندن كنت بدور على شقة بسعر كويس عشان الجامعة، فقابلت يوسف صدفة في الاوتيل اللي كنت نازل فيه، ووقتها اقترحت عليه نشترك في شقة بدل بهدالة أسعار الفنادق، بس أنت اعترضت إن يكون معايا شريك، وأصريت تشتريلي الشقة، أنا كنت عنيد ورفضت، فدخلت معايا أنا ويوسف شريك واشترينا احنا التلاته الشقة.
وأضاف بأعين دامعة من فرط مشاعر الحنين والفخر: كان ليك أوضة زينا، بتيجي تبات فيها من فترة للتانية عشان تكون جنبي، مع إننا كنا في جامعة واحدة ومكناش تقريبًا بنسيب بعض.
قالها ودمعة تختزل عينيه، فيما يجاهد ليخبره بنصيب صديقهما الأخر من القرابة والمكانة بقلب عُمران: يوسف بقى ضلع المثلث التالت، واللي بيه كان ناقص، حبناه وسمحناله يكون مقرب لينا، وفعلًا كان بيكملنا، أنا غشيم ومندفع، وإنت مغرور ووقح، وهو بصراحه أخلاقه عالية فكان بيقدر يحتويني ويحتويك بنفس الوقت.
خيم الحزن بجناحيه على ردمايتاه، لقد نسى كل شيئًا مرتبط به وبعائلته حتى أصدقائه، قلبه يتألم من ألمهم، استدار جمال يزيح دموعه سريعًا، ويرسم ابتسامة خافتة، يحاول بها أن يكسب صبرًا ليقص له عن ذكرياتهم، عساه أن يتذكر كل شيءٍ.
استدار إليه يجذب انتباهه للحديث: على فكرة مدام ليلى مرات يوسف ولدت إمبارح وجابت بنوتة زي القمر، تحب لما نتغدى نروح نباركله، هو أكيد لما هيشوفك هيفرح أوي.
لم يخسر الطاووس قناعته بتحليلاته المنمقة، يرى بآعين جمال وجعًا ومع ذلك يبتسم، ويقترح عليه أن يذهبان للقاء صديقهما الثالث، دنى عُمران منه وبدون أي كلمة أحاط يديه حوله، إندهش جمال من فعلته ولكنه لم يتردد عن ضمه بحبٍ أخوي، بل ولصدمته أنه انهار باكيًا بين ذراعيه، وبات يشكو له: قتلوك ورموك قدام عنيا يا عُمران، رجلي اتكسرت ومكنتش قادر أوصلك بسرعة ولا قادر أخلصك منهم.
وتابع وهو يحتبس شهقات وجعه الغائر: دورت في كل مكان في المية على أمل إني أنقذك، ولولا إنهم اتكتروا عليا وطلعوني كنت غرقت وارتاحت من العذاب اللي عشت فيه.
وأضاف وهو يقبض على جاكيته: فراقك كسر ضهري وخلاني عايش محني يا صاحبي.
تساقطت دموع عُمران رغمًا عنه، ومضى يبتلع غصته المؤلمة عن حلقه، تركه يبكي ويخبره بكل ما يحزن قلبه، وما أن انتهى حتى أبعده ومنحه نظرة جعلها مشاكسة قدر ما تمكن: ما خلاص بقى يا جيمي، هنفضل طول اليوم نعيط على الفراق، ما أنا رجعلتك تاني أهو، يعني أنا جيت برجليا للنكد! لأ بقولك أيه أنا ماليش في الاجواء دي، فك كده بدل ما أفارقك وأمشي ومش هتعرفلي طريق.
أزاح دموعه بينما يلتقط أخر كلماته، فصاح بعصبية هادرة: مش هتتنقل لمكان، إنت هتبات معايا النهارده سامع.
أحاطه عُمران بنظرة شرسة، بينما يجيبه بهدوء مخيف: مبخدش أوامر من حد أنا!
وأضاف مبتسمًا بمرحٍ: متقلقش مش هعرف أمشي لأني ببساطة معرفش طريق الرجوع، الا لو على إفتكرني وبعتلي السواق يأخدني، فأنا معاك معاك متقلقش يا عبحليم!
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، وردد بدهشةٍ: عبحليم!
علم بسعادته البادية على ملامحه، بأنه لمس بكلمته الاخيرة احياء الذكريات بينهما، فابتسم وقال: متركزش معايا، الكلام بيخرج تلقائي صدقني!
ضحك جمال ورد عليه: خليه يخرج زي ما بحب، كده كده لسانك الوقح ده مفيش أي قوة عظمى هتعرف تسيطر عليه.
اعتصر أسنانه بغضبٍ من حديثه، فرسم ابتسامة خبيثة وقال: روح إستعجل ماما في الغدا يا جمال، زمان سحنتك دي وحشتها وعايزة تشيك عليها وتطمن إنك خالي من أي تشويه!
صعدت جواره بالسيارة والانزعاج يغرد فوق معالمها، حتى صوتها نطق بكل ما اعتمر داخلها: صباح الخير يا حبيبي.
نزع آدهم نظارته السوداء، ومال لها باهتمامٍ: صباح الخير يا روحي، إنتِ كويسة؟ حاسس إنك متضايقة من حاجة!
أجابت بكلماتٍ مختصرة: أنا كويسة الحمد لله، المهم كلمت آيوب وبعتله لوكيشن المكان زي ما فهمتك؟
تغاضى عن سؤالها، وسحب ذراعها لتستدير تجاهه: مالك يا حبيبتي فيكِ أيه؟
لفظت زفيرًا قويًا، عساها تخفف من احتقان أنفاسها، ورغمًا عنها انهمرت دموعها: معرفش يا آدهم، حاسة إن عُمران مش متقبلني، أنا عارفة إنه فاقد الذاكرة وأكيد بيحاول يفتكرنا كلنا، وطبيعي تكون معاملته مختلفة معانا، بس أنا حاسة إنه قريب من على أكتر مني، مقابلته ليا كانت فاترة، وأغلب الوقت مع علي، كنت حابة أقضي معاه اليوم زي ما اتفقت معاك سبني وخرج، عشان كده كلمتك وأصريت أجي معاك.
حل آدهم حزام مقعد القيادة، وجذبها إليه، يتركها تبكي على صدره قدر ما شاءت، وحينما بدأت تستكين همس لها بصوته العذب: مش أنا قولتلك قبل كده إني مبحبش أشوفك بتعيطي، ولا إنتي مبتعرفيش غير إنك تكسري تعليماتي دايمًا يا شمس هانم!
ابتسمت رغمًا عنها، ومالت تخطتف المنديل الورقي، وتزيح دموعها قائلة: لا مقدرش أكسر كلامك يا آدهم، أنا آسف إني بدأتها نكد في يوم مميز ليك ولآيوب، أنا بس آ.
قاطعها حينما قال: مفيش حاجة هتكون مميزة عليا وحبيبة قلبي زعلانه ودموعها سبقاها.
ومال يزيح دمعاتها بإبهاميه، بينما يتعمق في زُرقة عينيها التي يعشقهما: حبيبتي أنا عارف مدى قربك وتعلقك من عُمران، وأي كلام ممكن أقوله مش هيهون وجعك أبدًا، بس اللي عايزك تقتنعي بيه إن عُمران تايه ومش مركز في أي حاجة، ولو متعلق بعلي فده لاسباب كتيرة يا شمس، أولهم أن على مش مجرد أخ لعُمران ولا ليكِ يا شمس، على أب بحنيته وطيبة قلبه، يمكن عشان كده عُمران قلبه مال ليه، لكن ده مش معناه إنه مش متقبلك والكلام الأهبل ده.
وأضاف حينما رأها تتابعه باهتمامٍ واقتناع: إنتِ نفسك لما بيمر عليكي مشكلة في حياتك بتختاري الشخص اللي هيكون جنبك مننا، مرة بتلجئي لعلي ومرة لعُمران ومرة ليا، لإنك أكتر واحدة بتعرف تحدد هي محتاجة لمين جانبها، وده مبيرجعش لمدى حبك للشخص ده.
وتابع مبتسمًا بسخرية: والا بقى من عدد المرات اللي لجئتي فيها لدكتور على والطاووس الوقح هتأكد إنك مش بتحبيني بنفس قدرهم.
هزت رأسها تنفي تهمته، بينما تسرع بالحديث: لا طبعًا، أنا بحبك يا آدهم وإنت عارف كده كويس.
اتسعت ابتسامته ومال تجاهها يهمس ومُقلتيه غارقة بزُرقتها: عارف يا شمس، عارف كل اللي جوه قلبك ونطقاه عنيكي، من أول نظرة إعجاب بيا في أول لقاء، عارف وقاري كل أسرارك، عارف إمته عيونك الجميلة دي نطقت بعشقك ليا، حتى إجابة سؤالي كانت مقروءة فيهم قبل ما تنطق شفايفك بالاجابة، واللي بسببها بقيتي حرم عمر باشا الرشيدي!
أحمر وجهها تأثرًا بحديثه، ومازالت تنساق لحصاره المُحكم من حولها، تتمنى أن تبقى جوارها يحيطها هالته، بينما يتشبع هو من عينيها الدافئة، فاذا بهاتفه يمزق سُبل النظرات العاشقة.
اعتدل بمقعده يمرر زر الاجابة، ويعود لتفعيل محرك السيارة، فأتاه صوت آيوب المنزعج: آدهم إنت فين؟ أنا وصلت المكان اللي بعته من عشر دقايق.
خرج من حدود قصر الغرباوي، وقال: أنا في الطريق يا آيوب، ربع ساعة وهكون عندك بإذن الله.
قالها وأغلق الهاتف، فاذا بشمس تخبره بحماس: إن شاء الله تعجبه هديته، متتصورش فرحت أد أيه لما كلمتني إمبارح وفضلنا نفكر مع بعض نهادي البشمهندس بأيه؟
منحها نظرة عاشقة، وقال وهو يميل طابعًا قبلة على كفها الناعم المسنود على كتفه: هتعجبه أكيد لانها من اختيار شمس هانم.
مالت برأسها فوق كفها على كتفه وقالت بنعومة: اختياري، بس مين القمر الكيوت اللي ضحى بمكافآة أخر مهمة طلعها!
تلاشت ابتسامة آدهم، وانحنى يتلصص لها بنظرة حازمة: مين ده اللي قمر وكيوت يا شمس! حبيبتي إنتِ الذاكرة خانتك ونسيتي أنا خلصت على خطيبك السابق إزاي ولا أيه؟
رفعت رأسها للاعلى تتطلع له بغضب، فانفلتت ضحكاته الرجولية باستمتاعٍ من رؤية الرعب يتمختر داخل مُقلتيها، فتابع ليثير أعصابها: ولو صادف وطلعتي معايا مهمة تانية، أعتقد أنك هتتعاملي معايا بحذر بعد كده.
رددت وهي تلكزه بعصبية: على فكرة أنا كنت بدلعك.
زم شفتيه باستنكارٍ: في واحدة تدلع ظابط في المخابرات، بقمر وكيوت! لو حد من القادة وصله الدلع ده هبقى مسخرة في الجهاز كله يا حبيبتي.
وأضاف مبتسمًا بمكر: لو عايزة تدلعيني بعد كده دلعيني باشياء تليق بيا، قوليلي مثلا بحبك يا رجولة، حبيبي يا حضرة الظابط، ومتاح ليكِ تناديني بكابتن زي ما بتحبي.
لكزته بعنفٍ، وتوعدت له بتلقائية: شايف نفسك عليا يا آدهم، طيب والله لأقول لعمران عليك.
تلاشت بسمة الانتصار عن وجهها، ومر وابل معتم عليها، فاذا به يضحك بصوتٍ يجذبها إليه، ثم قال: لا مش عايزين ننفش ريش الطاووس ونجره للوقاحه وهو في فترة نقاهة.
نجح باضحكها وسحبها بعيدًا عن تفكيرها المعتم، واستطرد بلهفة وفرحة: بعد ما نخلص مشوار آيوب، هنطلع على المركز، دكتور يوسف مستنينا.
تنحنحت وهي تجيبه على استحياءٍ: احنا المفروض نعمل اختبار حمل الأول.
منحها نظرة حنونة متلهفة لرؤية عينيها التي تتهرب بها عنه: هنعمله هناك لو يوسف طلبه.
هزت رأسها بخفة، ومالت على كتفه مجددًا.
إتجه على لسيارته القابعة على مسافة معقولة من القصر الداخلي، فاذا بصوت ضحكات والدته تصل لمسمعه، أغلق باب السيارة واستدار صوب الحديقة، فرآها تجلس برفقة زوجته فاطمة، تلك التي تملك من السحر ما يطيب القلوب، وقبلهم قلبه الذي غرق منها وفيها حد النخاع.
أتجه إليهما، ليطرب سمعه صوت فريدة وهي تخبرها: أنا فخورة بيكِ أوي يا فاطمة، وحقيقي مش قادرة أصدق ولا أستوعب انك قدرتي تعملي كل ده في غياب عُمران، أثبتيلي إنك فعلًا أدها، وإن الست تقدر تعمل أي حاجة.
وأضافت والحزن يتغمدها بوضوحٍ: فكرتيني بنفسي، بعد وفاة سالم الله يرحمه، كنت صيدة مغرية لعيلة الغرباوي، خصوصًا بعد الثروة اللي سابها لعلي وعُمران وشمس، الكل كان فاكرني هقع في عرض من العروض اللي اتقدمتلي للزواج، بس أنا بالرغم من أني كنت صغيرة، الا أني وقفت في وشهم بقوة أنا نفسي اندهشت منها، حتى في وش أحمد نفسه.
وازاحت القبعة السوداء عن حجابها المعقود للخلف، ثم مالت على الطاولة تخبرها ببسمة جذابة، تجعل من ملامحها الغربية لوحة فنية للتأمل: تعرفي إن على شال معايا المسؤولية بدري، ومع ذلك عمره ما أشتكى، كنت بحس أنه سابق سنه بكتير أوي، أنا فاكره إن وهو عنده 15 سنة طلب مني موقفش حياتي، وأوافق على الشخص اللي أكمل معاه عن قناعة، بس أنا اختارت أولادي ومندمتش أبدًا.
اتسعت ابتسامة فاطمة، خاصة وهي ترى زوجها يقترب من والدته، فأحاطها بذراعيه ومال يقبل يدها ثم رأسها بحبٍ شديد: فريدة هانم نست تقولك إنها أعظم وأجمل أم بالكون كله.
مالت بوجنتها تجاهه، بينما تغلق عينيها بعاطفة: الدكتور البكاش، محدش قالك إن عيب تتصنت على حد!
ابتسم وهو يخبرها بعقلانية: ده لو حضرتك واخدة فطيمة وحبساها فوق وبتديها أسرار حربية، مش قعدة في الحديقة وبتتكلمي بمتتهى الأريحية عن شيء كلنا عارفينه الا هي.
ضمته لها وقالت برقةٍ: محدش هيغلب دكتور على حتى فريدة هانم الغرباوي مش هتقدر تغلبه.
ضحك بصوتٍ مسموع، وقال بحب: أنا مش داخل ساحة قتال، أنا رافعالك رأية السلام!
تابعتهما فاطمة بحبٍ، دققت النظر فيهما بانبهارٍ، جعلها تردد دون مبالغة: أنا كده محتارة ومش عارفة أنا عايزة البيبي يجي شكل على ولا شكل فريدة هانم!
ضحكت فريدة ونهضت تاركة على من خلفها، بينما تضم فاطمة بلطف: أنا عايزاه يجي شبه مامته القمراية، فطيمة إنتِ جميلة من بره زي مانتِ جميلة من جوه، على عنده ذوق في اختيار كل حاجة.
رفعت فاطمة يديها تحيط بها فريدة وعينيها تدمعان بتأثرٍ، بينما تحدق في زوجها الذي يتابعهما بابتسامة جذابة، ومن ثم غادر لسيارته والبهجة تغمر روحه وقلبه، بتطور العلاقة بين زوجته ووالدته رويدًا رويدًا.
راقب شكل السفرة الصغيرة ببسمةٍ هادئة، يشعر وكأنها ليست مرته الأولى بالجلوس بشقة أشرقت، وبتلك الغرفة بالتحديد، ولجت أشرقت للداخل حاملة الصواني، رصتها على الطاولة المستديرة وقالت بابتسامتها البشوشة: نورت الدنيا كلها يا غالي، مد إيدك قبل ما الأكل يبرد.
نهض عُمران يعاونها في وضع ما بيدها، هادرًا برقي: تسلم إيدك، الأكل شكله يجوع.
ربتت على ظهره في حبٍ منطوق: ألف هنا على قلبك يا نين عيني.
وجذبت الدجاج تقطعه وتضعه أمامه، فابتسم عُمران وبدأ بسكب بعض الأرز المعمر بطبقه، وما كاد بتناوله حتى مال عليه جمال يخبره: إنت مبتحبش المعمر، أنا عارف طلبك.
قالها وسحب الملعقة الكبيرة، يجذب قطعة من المعكرونة الشهية، ومد الطبق له بحنان لم يجده عُمران الا في أخيه.
وزع نظراته بين يده الممدودة والطبق الذي أمامه، وبدون أي تردد شرع بتناول الأرز، مستمتعًا برؤية الدهشة تستحوذ وجه جمال، وقبل أن يسحب يده بما يحمله، جذبه عُمران ووضعه جانبًا، وما أن انتهى من تناول كمية الأرز القليلة، حتى وضع الطبق أمامه وشرع بتناوله بتلذذٍ لحق نبرته: عندك حق، حبيت طعمها أوي.
عبر أخيرًا عن دهشته: أكلت ليه المعمر وأنت مبتحبهوش، ومتقولش حبيته كان باين على ملامحك إنك مش حابب طعمه!
منحه ابتسامة هادئة، وقال وهو يترك الملعقة من يده: لإني وببساطة مبقتش نفس الشخص يا جمال.
قوس حاجبيه بعدم فهم، فاستطرد عُمران بنبرة حملت رغم عنه وجعه: أنا لما رجعت هنا حسيت بالنعمة اللي كنت عايش فيها، أنا كنت عايش في أوضة بسيطة فوق السطوح، مع ناس بسيطة جدًا، كل همها في الدنيا الستر والصحة، الفلوس والعربيات والبرفيوم الفرنسي، ساعاتي اللي ملهاش عدد، كل دول حاجات ملهاش أي لزمة، أنا بقيت خايف من رجوع الذاكرة ليا، هتصدم لو اتواجهت مع نسخة بعيدة كل البعد عن تفكيري الحالي.
وأضاف ببسمة ساخرة: عشان كده أي حاجه مكنتش بحب اعملها هعملها.
حديثه بدد الانزعاج على ملامحه، بل دافع عن رفيقه باستماتة: مش معنى إنك كنت مهتم بنفسك وبشياكتك ده معناه إنك كنت ناسي أخرتك يا عُمران، إنت طول عمرك بتدي أكتر ما بتأخد، فأوعى تفكر إنك كنت سييء، انت مكنش في جمال قلبك وطيبتك ورحمتك بالضعيف قبل الفقير.
عاد يجذب الملعقة، يتناول بها المعكرونة بشهيةٍ: كل يا جمال، شوشو هتزعل لو رجعت لاقت الأكل زي مهو.
واستطرد بوقاحة أضحكت جمال حد البكاء: ولا تحب أكلك بايدي يا حبيبي!
شاركه الضحك بينما يضع قبالته جزء من الدجاج هامسًا له: مامتك متوصية بيا أوي، كل وحافظ على شكلي قدامها، ولا إنت ناوي تبيع صاحبك؟
تناول ما وضعه أمامه، وهتف بخبث: فاكرني هتخلى عنك زي ما زقتني من العربية!
تصاعدت ضحكاته الرجولية بشكل أبداه بأكثر جاذبية: ما خلاص يا جيمي هو أنا رميتك بالنار! وبعدين هو أنا كنت رايح أتفسح وإتخليت عنك، على حسب القصة اللي حكتهالي فأنا أتروقت ترويقة بنت ناس وشياكة.
وتابع برماديتاه الغائمة: أكتر حاجة مضايقاني أني معلمتش على ولاد ال دول.
ترك عُمران ما بيده وأردف بغضب: لو كنت سمعت كلامي ونطيت من الأول، مكنتش أخدت الوقت لحد ما وصول العربية لنص الجسر، ولا كان السيخ دخل في كتفي، والاهم بقى كنت روقت انا على الكلاب دول، بس ملحوقة تتعوض.
إلتهم جمال قطعة اللحم وهو يجيبه بجمود: أنا علمت عليهم، ومفيش بينا فرق.
رفع احد حاجبيه بذهول، فاذا به يخبره ضاحكًا: كله راجع لدروسك يا وقح.
ومد يده يجذب منديلًا ورقيًا، جفف يده وجذب من جيب سرواله، السكين الصغير يقدمه لعمران، الذي التقطه منه وسأله بصدمة: ماشي بمطوة يا جمال! مطوة!
تطلع له بدهشةٍ ومن ثم انفجر ضاحكًا، بينما يخبره بصعوبة: دي بتاعتك وإنت كنت ناسيها معايا يا حبيبي.
هتف باستنكار: إنت بتهرج!
اعترض بإشارته وقال: عربياتك كلها مبتخلاش منها يا حبيبي، ولو مش مصدقني إسال يوسف لما نروحله.
وأكد له جمال ضاحكًا: إنت كنت طاووس وقح، وبلطجي في نفس ذات الوقت.
احتقن الغضب ملامح وجهه، فاذا به يجذب المنشفة الورقية، يجفف يديه ببطء ونظرات مخيفة تحتد تجاهه، تساءل جمال باستغراب: أنت لسه مأكلتش!
رد بنفس الهدوء وهو يتوانى بتنظيف أصابعه: هأكل بس بعد ما أدبك.
قالها وسحب للسكين ثم مال بالمقعد الخشبي الذي يحمل جمال للخلف، بينما يحاوطه سكينه، صعق جمال من سرعته بفعل ذلك، بينما يمنحه عُمران بنبرته الخشنة إنذارًا صريحًا: هتحترمني هحترمك، هتقل مني هحط عليك، وصلت؟
قالها وتركه يسقط بالمقعد، بينما يقهقه الاخير بعدم تصديق، وفور ان اعتدل بمقعده وجد عُمران يتناول طعامه ببرود والثقة تتوج رماديتاه مثل عهده السابق، دنى بمقعده للطاولة وهو يقول بحفاوة: الطاووس احتل ساحة الحرب، هتعامل معاك بحذر ماشي.
اتاه رده اللازع وعينيه منصوبة على ما يتناوله بتركيزٍ: غصب عنك مجبور تتعامل بحذر.
وتابع وهو يتطلع إليه بنظرة ساخرة: هو مش أنت الحيلة بردو يا جيمي، ولا شوشو عندها غيرك؟
منذ صعوده رفقتهما بالسيارة ولم يكف عن سؤال أخيه عن الوجهة التي يسلكونها، فاذا بشمس تجيبه: هو إحنا خاطفينك يا بشمهندس ولا أيه؟
أخفض عينيه عنها، وقال مبتسمًا: ورايا مشوار مهم عايز ألحقه، وبعدها اخطفوني زي ما تحبوا.
صف آدهم السيارة، واستدار يخبره: وصلنا.
أضافت شمس بابتسامة حماس: مش هنأخرك كتير على سدن، قالتلي المشوار المهم اللي مستعجلين عليه، وعلى فكرة انا جاية معاك لأنها حابة اختار معاها فستان الفرح.
رد عليها بنبرة لطيفة: انتوا بقيتوا فريق واحد ولا أيه؟
ضحك آدهم وأشار له: الستات طول عمرها فريق واحد يا آيوب، انزل.
هبطوا معًا في تلك البقعة المنعزلة، كانت تنجرف على شاطئ البحر، وبالمنتصف وضعت حوائط ضخمة من الكرتون الأسود، يحيطه قطعة من قماش الدنتل الأزرق.
راقب آيوب تلك العُلبة الضخمه التي احتجزت مساحة أربعة مترات في الطول والعرض، وجذب آدهم إليه هامسًا بغرابةٍ: آدهم إنت عامل لشمس مفاجأة لزمتي أنا أيه في الحوار ده؟
ضم شفتيه معًا بمكر: هحتاج مصور مثلًا.
ضحك باستهزاء: اختيارك غلط يا حبيب قلب أخوك، أنا ماليش في الكلام ده.
نادتهما شمس حينما لم تجدهما خلفها، فاتجهوا معًا إليها، اندهش آيوب من جمود تعابير شمس، فلم تبدو اهتمامها لتلك الهدية الضخمة، بينما تراقبه هو بفضول، وقد اكتمل الحدث فور أن ناداه آدهم قائلًا: قرب يا آيوب.
دنى إليه فاذا به يمنحه شفرة حادة، ويشير إليه مبتسمًا: دي هديتك إنت مش هدية شمس.
تقابل حاجييه بذهولٍ، بينما يحمسه آدهم ليقطع الحبل، ففعل ووقف منصعق بمحله، فور أن رآى سيارة سوداء بموديل حديث فخم، وأخيه يؤكد له: كنت حابب أهاديك بحاجة بعد المكافأة اللي اخدتها من الشغل، فشمس اقترحت عليا أجبلك عربية أحدث موديل، وبصراحه اقتراحها في محله وعجبني جدًا.
واقترب يضع بيده المفتاح قائلًا ببسمته الجذابة: مبروك عليك يا حبيبي.
أعاده آيوب إليه في نفس ذات اللحظة، وقال بارتباكٍ: لا يا آدهم، مقدرش أقبل الهدية دي، أكيد غالية جدًا، وبعدين إنت ازاي تعمل كده، دي فلوس شغلك وتعبك، مكنش المفروض تعمل كده أبدًا.
أوقفه بصرامته الشديدة: متقولش كده، مفيش فرق بيني وبينك، وبعدين أنا مش جايبك هنا تنتاقش هتقبل الهدية ولا لا، أنا بسلمك مفتاحها وإنت هتأخده وبدون كلام كتير.
وزع نظراته بين السيارة تارة وبين يد أخيه الممدودة بالمفتاح، ثم هتف بتوتر: آدهم أنا خايف من زعل الشيخ مهران، هو عمره ما قصر معايا، مش عايز لا أزعله ولا أزعلك.
تدخلت شمس بالحديث، حينما قالت بعقلانية تحسب لها: وأيه اللي هيزعل الشيخ مهران يا آيوب، آدهم أخوك الكبير وأنت ليك حقوق عليه زي ما ليك حقوق عند بابا مصطفى، الشيخ مهران عاقل ومستحيل يتضايق من الصح.
أضاف آدهم بينما يشير له بضيق: ها هتجرب العربية ولا هتنشف دماغك وتزعلني منك.
التقط المفتاح بابتسامة واسعة، وضمه بقوة وفرحة: مش عارف أشكرك إزاي يا آدهم.
ربت على ظهره بحب وقال: بطل كلام الاولاد ده ويلا اركب وإطلع على الحارة، خد سدن واتغدوا في أي حتة وأنا على بليل هقابلك أنا وشمس في البوتيك.
وأضاف وهو يشدد من ضمه مجددًا: مبرووك يا عريس.
قابله بابتسامة واسعة: لسه أسبوعين عن الفرح، بس عمومًا الله يبارك فيك يا باشا.
ضم آدهم وجهه بين يديه بينما يطبع القبل على جبينه، حتى صعد للسيارة وقادها متجهًا لحبيبته.
صعد علي لمكتبه، حيث كان يونس بانتظاره منذ ما يقرب الثلاثون دقيقة، ولج من الباب يستقبله بابتسامته البشوشة، ويده تصافح كفه بخشونة: إتاخرت عليك أنا آسف.
قبل اعتذاره الراقي بقوله: ولا يهمك يا دكتور.
أشار له على الأريكة المريحة بعيدًا عن المكتب قائلًا: اتفضل يا يُونس، نورت المكتب والمركز كله.
جلس بمحل اشارته بالتحديد، بينما يتجه على للبراد، يسكب العصير بالكوب بتواضعه المعتاد، ثم قدمه له، حمل يُونس الكوب منه ثم أخذ يتطلع له بارتباكٍ خشية من التطلع إليه.
لاحظ على ارتباكه الملموس إليه منذ لحظة وصوله، فتنحنح قائلًا بلين: متردد تقولي أيه يا يُونس، ده مش أول لقاء ولا حوار يجمعنا!
كاد أن يمزق شفتيه السفلية من فرط بث غضبه وتوتره بها بينما يتمتم في حرجٍ: لان الموضوع ميخصنيش أنا.
لمس فيه امرًا خاصًا، وسبق له دراسة شخصية يُونس جيدًا، فتنحنح ناطقًا بهدوء: يُونس مقابلتك ليا النهاردة بتأكد ثقتك فيا، فمش محتاج أمهدلك بمقدمات عشان تتكلم وتحكيلي المشكلة.
رفع كوب العصير إلى ريقه القاحل، تجرعه على مرتين كأنه يهدأ من نيران استعارت داخله، فكادت أن تلتهمه، ثم ترك الكوب مصدرًا على اللوح الزجاجي صوتًا صاخبًا، ثم تطلع له وقال: قبل جوازنا كانت لمحت ليا أن الحقير ده شوهها، وإنها عايزة تعمل عملية تجميل الأول، أنا رفضت ده، كنت فاكر إن الموضوع بسيط وآ.
قاطعه علي ونظراته لا تحيد عن آعين يُونس: كنت عايز تقتل غيرتك وتشفي غليلك إنها كانت مع راجل غيرك، صح؟
أخفض وجهه أرضًا في حرجٍ، وكأنه تجرد من الستر العازل للعلن، شجعه على لاستكمال حديثه: كمل يا يُونس، أنا سامعك.
تلفظ نفسًا طويلًا، وقال بحزن: مكنتش اعرف إنها متشوهة بالشكل ده، الحقير كان بيستغل ضعفها، كان بيعتدي عليها!
صوت أنفاسها المرتفعة جعل على ينتقل ليكون على قربٍ منه: اهدى وخد نفس عميق، أنا عارف وفاهم وجعك.
رفع فيروزته القاتمة إليه، وصاح منفعلًا: عمرك ما هتفهم وجعي ولا أي حد هيقدر يفهمه.
أبقى على ابتسامته الثابتة، وقال برزانة نبرته: وأيه اللي ممكن يكون صعب عليا فهمه يا يُونس، الاغتصاب والتعدي على الست ملوش مسمى ولا وصف تاني غير إنها جريمة حتى لو كان الشخص ده جوزها، بل بالعكس أنا أكتر حد ممكن يحس بيك وبوجعك وبدون ما أتطرف لتفاصيل، خد بالك انك مش الطرف المجروح الوحيد في العلاقة دي، هي بتعاني أكتر منك، هي اتقتلت كل مرة انجبرت تكون فيها مع الحقير ده، وإنت كمان كملت عليها لما مسبتهاش تتخلص من آثار الماضي عشان تعرف تبدأ معاك من الأول.
انسال الضيق والحسرة على ملامحه المكتئبة، وبات يردد في ندمٍ: مكنتش أعرف إن الموضوع واصل معاها لكده، أنا حاولت أبينلها أن كل ده مش فارق معايا، بس زعلها باين في عنيها حتى لو كانت بتضحك في وشي.
رد عليه علي، وهو يستريح بجلسته: الخطوة اللي عملتها مهمة وكنت محتاج ليها أكتر منها، دلوقتي الدور على الخطوة الجاية، وهي إنك تعملها اللي هي عايزاه وتساعدها تمحي الآثار دي، لانها رابطة وجودها باستمرار عذابها وذكرياتها اللي بتحاول تناسها، وقبل كل ده لازم توديها لدكتورة نفسية تعالجها من اللي الكلب ده سببه ليها.
واستطرد بعقلانية: بس لازم تفهمها إنك معندكش مشكلة تتعايش معاها بالتشويهات دي، لكن لو هي مصرة على ده عشان نفسها فأنت جاهز تدعمها في الخطوة دي.
لاحت ابتسامة راحة على وجه يُونس، وكأنه حصل على الخلاص أخيرًا، ولكنه منحه سؤالًا فضوليًا: ليه اقترحت عليا دكتورة مع إن كان ممكن تقولي أجبهالك، بما إنك على علم بقصتنا من البداية.
ارتسمت ابتسامة جذابة على وجهه الهادئ، فنهض يعدل من نظارته الطبية وهو يمازحه: التردد اللي باين عليك بيبين إنك أخدت الخطوة دي بعد معاناة، عشان تيجي وتتكلم عن الموضوع، فأكيد مش هتحب إني أكون الدكتور المعالج ليها، وده شيء ميزعلنيش يا يونس، انت راجل ومن حقك تحكم أهل بيتك بالطريقة اللي تناسبك، وبعدين انا يعتبر كونت فكرة عن شخصيتك.
انتصب يُونس قبالته، يقابله ببسمة فخورة وممتنة له: أنا مش عارف أشكرك ازاي بجد.
ربت على كتفه وقال: مفيش داعي لكل ده صدقني، إحنا بينا صداقة ولا نسيت؟
هز رأسه ضاحكًا: لا طبعًا مش ناسي، أنا ربنا عوضني بصداقة حضرتك إنت وحضرة الظابط، انتوا أكتر اتنين ساعدتوني أمر بأذمتي، فأنا مديون لربنا سبحانه وتعالى ثم ليكم انتوا.
تبسم له وقال بلطف: ولا دين ولا حاجة، بتمنى تكون أمورك كلها بخير، ووقت ما تحتاجني مش محتاج تطلب مقابلتي بمكالمة، أنت تجيني البيت أو المركز في أي وقت يا يُونس.
صافحه بكل محبة، وغادر من عنده باسمًا، بعدما كان مكفهر الملامح، لقد امتلك إيثان كل الحق حينما رشح له الذهاب له.
استقبل يُوسف آدهم وشمس بترحابٍ، وأخبرهما بأن يهبطان لسحب عينة دم للتأكد من حملها، الاجراء برمته لن يتخذ سوى أقل من ثلاثون دقيقة.
انتهت الممرضة من سحب عينة الدماء، ونهضت شمس تتجه برفقة زوجها للكافيه الخاص بالمركز لحين الحصول على نتيجة الفحص، وبينما هي بطريقها، فاذا بها تلمح عُمران وهي يخطو جوار جمال والابتسامة تشرق وجهه الوسيم.
انتبه لهما عُمران، فاقترب منهما يهتف باستغراب: شمس! بتعملوا أيه هنا؟
تجمعت تكتلات الدموع بعينيها، يتعامل بشكلٍ طبيعي مع أخيها، والآن مع صديقه، ولكن ثمة حاجز يضعه بينهما، انتظر عُمران سماع الاجابة منها بينما يتبادل آدهم السلام مع جمال، ويراقب بزوجته بدهشة من صمتها ونظراتها المُصوبة تجاه أخيها، وإذا بها تغادر من أمامه من دون اضافة كلمة واحدة، متجهة للكافيه.
اتجهت نظرات عُمران لآدهم الذي قال ببسمة يحاول أن يطمنه بها: عملنا من شوية اختبار حمل وبنستنى نتيجته، فممكن تكون أعصابها متوترة من النتيجة.
لطالما كان ذكيًا، وخاصة إن تعلق الامر بالنساء، فلم تقنعه حجة زوج شقيقته، تابعها بنظراته حتى حدد الطاولة التي اعتلاتها، فاندفع صوبها مصدرًا أمره الحازم: مش عايز حد يجي ورايا.
رفع آدهم احد حاجبيه بتجهم: وكأنه بيأمرني، أنا جوزها يا وقح!
ضحك جمال ومال يربت على كتفه، مصبرًا إياه: معلش يا حضرة الظابط، نوبة فقدان ذاكرة وهتعدي.
ابتسم ونطق بصدق: ولو طولت نستحمل عشان خاطر، عيون الطاووس.
وأشار له على اقرب طاولة: تعالى نشرب قهوة لحد ما يرجع.
وافقه ولحق به للطاولة التي اختارها، بينما على بعدٍ منهما سحب عُمران المقعد المقابل لشقيقته وجلس يتطلع لها بتفحصٍ، يحاول معرفة ما بها؟
حدجته شمس بنظرة معاتبة، ومن ثم قالت: جاي ليه؟ انت مش مرتاح مع على ومع جمال صاحبك، روحلهم، إنت تقريبًا ارتاحت لكل اللي شوفتهم الا أنا! مع إني كنت اقرب ليك من روحك، إنت كنت بتحسسني إنك صديقي واخويا وكل حاجة في حياتي، فجأة بتعاملني ببرود غريب، رغم انك بتحاول تندمج معاهم كلهم الا أنا!
وخز قلبه لرؤية دموعها، لقد مزقته بسوطٍ استهدف فقط موضع قلبه، فإذا به يسحب مقعده ليجاور محلها، هاتفًا بنبرة عميقة: يعني أنا كنت فاكر أن آدهم اللي مزعلك وكنت عايز أروح أصفي دمه، أقوم أطلع أنا اللي زعلتك! طيب قوليلي طيب أجبلك حقك مني إزاي يا شمس؟
جذبت المنديل الورقي تجفف دموعها، بينما يزداد صوت شهقاتها المسموع: لو هتتعامل معايا بالجفى ده فأنا محتاجة حقي منك فعلًا.
وأضافت وهي تشكو له منه: أنا رفضت أرجع مع آدهم عشان أفضل معاك بس أنت سبتني وخرجت ومهتمتش بوجودي أصلًا.
ازداد عمق ألمه، وكأنه يختبر شعور الأب لأول مرة، شعر وكأنه نسخة على الآخرى في ذلك الوقت، فإذا به ينهض ويجذبها إليه، يضمها بين ذراعيه الضخم، بينما يردد بضجر: مفيش بني آدم عاقل يبكي عيون بالجمال ده، أنا أكيد غبي ومبفهمش، أوعدك أني هأخدلك حقك مني وهلعب 30مرة ضغط عشان زعلك يخف عني!
رفعت رأسها إليه تخبره وهي تجفف دموعها كالصغيرة: إنت شخص رياضي والرقم ده بالنسبالك مش حاجه يعني!
ضحك بصوته الرجولي ومال يطرق جبينها بخفة: يا قلبك الاسود يا شمس، عايزة تنتقمي مني بجد بقى!
عادت تندث بين أحضانه بقوة، هامسة بابتسامة: لو هتفضل جنبي مش عايزة ليك عقاب.
ضم رقبتها إليه وقال بحب: وأنا هفضل جنبك ومعاكٍ دايمًا يا حبيبتي.
أنا ماليش مكان في الحضن القمر ده ولا أيه؟
قالها على بعدما ابتعد عن مقعده، فقد كان يجلس يراقبهما بفرحة وسعادة، استدارت شمس إليه وإتجهت تجاور جلوسه مرددة بفرحة: على إنت جيت امته؟
مال يقبل جبينها وهو يجيبها: لسه واصل من ساعة تقريبًا، وجيت عشان ابلغك بنتيجة الاختبار، ألف مبرووك يا روح قلبي.
توسعت مُقلتيها في دهشة، وأخذت تتساءل بفرحة: بجد يا علي؟
أكد لها بجدية تامة: بجد يا شمس، قريب هتيجي بنوتة أو ولد تورث جمال عيونك.
ضحك عمران ومال يمازحهما: لو بنت أنا حاجزها لعلي من دلوقتي، عشان تبقوا عارفين، ويا سلام لو عيونها زرقة، كده هنجدد النسل بأشباه متقاربة لفريدة هانم.
انطلقات الضحكات المجلجلة بينهم، فمال عمران لها وقال مبتسمًا: يلا روحي فرحي آدهم، أكيد متوتر هو كمان.
هزت رأسها بكل تأكيد، وغادرت تاركة إياهما بمفردهما، سحب عُمران المقعد المقابل لعلي، وقال بضجر: وبعدين يا علي، أنا كل ما بقابل حد بواجه عتاب أكبر على معاملتي معاه، صدقني أنا مش قاصد ده، غضب عني.
استند على الطاولة الفاصلة بينهما وقال برزانة: فاهمك ومقدر كل اللي حاسس بيه، عُمران إنت كان ليك طابع خاص في حياة كل واحد من عيلتك ومن اصدقائك، عشان كده كل اللي حواليك مستنين منك رد فعل معين.
رد عليه عُمران بتعبٍ: هو أنا ليه حاسس إن كل واحد بيوصفني بشخصية مختلفة عن التاني، انا مبقتش عارف انا مين يا علي! أنا تايه ومش عارف أنا مين!
ارتاب على من أمره المقلق، وقال بنبرته الرخيمة: إنت شخص واحد، قادر تتشكل وتكمل أي طرف علاقة دخلتها، سواء في حياتك مع مايا أو معانا أو مع أصحابك، فأوعى تضعف ولا تتهز، كل دي فترة توتر واضطراب هتعدي بيها وهنتنهي.
هز رأسه بخفوتٍ، وهو يجاهد لرسم ابتسامة صغيرة، وقد لاح له كلمة زوجته التي مازالت تتردد له، فقال بتذكرٍ: علي، إمبارح مايا لمحتلي بحاجة غريبة، محبتش أسألها فيها لانها مكنتش في حالة طبيعية.
انصت له على باهتمام: . حاجة أيه؟
كاد بأن يتساءل عن جملة زوجته التي قالتها حينما شكت أنه على علاقة بامرأة أخرى، وأنه سبق له ذلك، ولكنه تفاجئ بجمال يشير له، استأذن من أخيه واتجه إليه، فوجده يخبره: لسه قافل مع يوسف بيقول مدام ليلى هتخرج بعد عشر دقايق، تعالى نسلم عليهم قبل ما تخرج.
انصاع له ولحق به للمصعد، بينما عيني على الحزينة منصوبة عليه، أخيه يمر بأصعب تجربة قد يخوضها بحياته، وأكثر ما يخشاه نوبات الاضطراب التي قد تهاجمه بضراوة، وخاصة حينما يصبح أمام مقارنة شرسة بين شخصيته الآن وشخصيته فيما مضى!
ولج برفقتها للمصعد، وهو يحاول فهم ما تفعله، وما ان إنغلق الباب عليهما حتى سألها بريبة: ممكن تفهميني إحنا رايحين فين يا شمس؟ وبعدين أيه الطريقة اللي اتعاملتي بيها مع عُمران دي؟
استدارت إليه بابتسامة واسعة رغم انهمار دموعها: آدهم أنا حامل!
تبلد أي حديث على لسانه، بينما يخطو تجاهها بلهفة: بجد؟ بجد يا شمس؟
هزت رأسها وأكدت له: على استلم نتيجة الفحص وأكدلي ده، هبقى مامي يا آدهم!
شملها بين ذراعيه بفرحة أدمعت عينيه بسعادة، بينما يخبرها: هيبقى عندي بنتين، انا بحسك بنتي الصغيرة أصلًا.
وتابع بحماس أضاء وجهه: مصطفى الرشيدي هيعمل فرح، متتخيليش هو مستني الخبر ده ازاي.
ردت عليه بفرحة: خلاص يلا نروح ونبلغه، ونبقى نعدي على دكتور يوسف في يوم تاني.
أخذه الحماس بفكرتها، فحملها بين يديه وخرج بها لسيارته قائلًا بنبرة مغرية: طلبات شمس هانم أوامر تتنفذ وقتي.
أحاطت عنقه ومالت تضع رقبتها بكتفه: مش خايف على هيبتك يا باشا.
مال يضعها بسيارته وهمس قبالتها: فداكِ كل حاجة، منصبي وهيبتي وشكلي كل حاجة فداكِ يا قلب الباشا!
طرق جمال على باب الغرفة الخاصة بزوجة يوسف، فإذا به يتجه لاستقباله بعد المكالمة التي حدثت بيهما، فأشار له مبتسمًا: ادخل يا جمال، سيف ومراته جوه.
قال بابتسامة مشرقة: بس انا مش جاي لوحدي يا يوسف، معايا ضيف.
زوى حاجبيه بدهشة، أي ضيفًا هذا الذي يأتي به جمال لغرفة زوجته: ضيف مين؟
ظهر عُمران قبالته مبتسمًا، وقال وهو يراقب ملامحه بتوترٍ: مبارك ما جالك يا يوسف، تتربى في عزك.
توسعت حدقتيه بشكلٍ ملحوظ، لقد تحققت أمنيته بحضور رفيقه وتجسدت قبالته، ابتسم ودموعه تعكس ملامح سعادته: عُمران!
تخطى جمال وإلتقفه بين أحضانه، فتعلق به يوسف كالغريق، لقد بات الأمر واضحًا لعمران، بأن من حوله يقبع حبه داخل قلوبهم دون شك، الجميع بحاجة لوجوده، بحاجة أن يسبق هو لتلك الضمة التي تعتبر اعتذارًا صريحًا منه على غيابه المفروض عليه قبل أن يُفرض عليهم، لذا أقل شيئًا يمتلكه هي تلك الضمة الحنونة.
تشبث به يوسف، ودموعه تنساق على كتفه، بينما يخبره ببسمة غير مصدقة: كنت لسه بقول لجمال في نفس المكان أني محتاج لوجودك جنبي في وقت زي ده.
ربت على كتفه وقال بحنان: وأنا جانبك ومعاك دايمًا.
وابتعد يتطلع لوجهه بتدقيق، عساه يتهافت عليه أي ذكرى مرتبطة به، بينما يمازحه: وبعدين أنا جيت عشان أشوف القمراية بتاعتنا، هي فين العروسة؟
ضحك يوسف بملء ما فيه، وفتح الباب يشير له: ادخل يا عُمران، تعالى!
تفاجئ الجميع بوجوده، فاذا بسيف يتجه إليه ويحيه بفرحة: عُمران إزيك!
توترت نظراته ومال تجاه جمال، الذي حل محل علي: ده سيف اخو يوسف الصغير، ويعتبر أنه تربية ايد يوسف، بس انت ختمتها وربيته تربية نفعته بدل الدلع اللي يوسف رباه عليه.
ضحك رغمًا عنه على تلميح جمال له، ودنى يصافحه بلطفٍ: أهلًا بيك يا سيف، سعيد إني شوفتك.
ضيق عينيه في صدمة، من هذا الملاك البريء الذي احتل جسد الطاووس الوقح، بينما دنت منه زينب وقالت في سعادة: حمدلله على السلامة يا بشمهندس، وقبل ما تسأل البشمهندس جمال فأنا زينب اخت فطيمة مرات دكتور علي، ومرات سيف.
منحها ابتسامة صغيرة بينما عينيه تعانق الارضية الرخامية: الله يسلمك، اتشرفت بيكِ.
بينما هتفت ليلى بفرحة: الحمد لله انك بخير، ربنا سبحانه وتعالى نجاك من مكائد الكلاب دول لانك ماشي بما يرضي الله.
ومالت تضع الصغيرة بين يدي زوجها، قائلة: يوسف كان بيتمنى يجيلي ولد بعد اللي حصل معاك عشان يسميه عُمران.
اتسعت ابتسامته وهو يوزع نظراته بين جمال ويوسف: هو عُمران ده أحمد زويل، كل اللي أقابله عايز يسمي الأسم؟
ضحك يوسف ووضعها بين يديه، بينما يهتف جمال في حنقٍ: لو هتتكلم عليه كأنه شخص مخالف ليك فبأكدلك بعد التثبيته اللي ثبتهالي في البيت دي إنك هو بشحمه ولحمه ووقاحته.
انفجر يوسف وسيف من الضحك حينما ترسخ لهما فهم ما يرمي به جمال، بينما يتجاهلهما عُمران وينسجم بتأمل الصغيرة، واضعًا كف يده بين أصابعها، مرددًا بانبهارٍ: ما شاء الله زي القمر يا يوسف، هي صغننه أوي بس عسولة أوي تبارك الله.
اتسعت ابتسامة يوسف، وود لو ظلت ابنته بين يدي عُمران هكذا، بينما يغمر قلب عُمران حنين مفاجئ وحماس لحمل ابنه بين يديه ذات مرةٍ، بل تفاقم حنينه تجاه زوجته بالأخص.
مضى بالصغيرة للفراش المخصص لها، بينما يشير لجمال ونفس اشارته ليوسف، فخرجوا من خلفه.
وقف قبالتهما وقال بتوتر: أنا كنت حابب أقضي بقية اليوم معاك يا يوسف، وأبات معاك يا جمال زي مانت مصر، بس أنا حابب أرجع البيت ارتاح شوية، وأوعدكم إني بكره هنتجمع في الشقة اللي في الحارة اللي قولتلي عنها يا جمال، فبتمنى متزعلوش مني!
أشار له يوسف بعقلانية وتفهم لما يمر به: زيارتك ليا النهاردة بالدنيا وما فيها يا عُمران، أنا عارف ومقدر اللي انت حاسس بيه، عشان كده مش عايزك تضغط على نفسك أكتر، من كده يا حبيبي وجمال أكيد متفهم، مش كده يا جيمي.
زفر بقلة حيلة وقال: لو هيجي بكره فتمام سماح ليك.
تنهد في راحة بأنه سيرحل دون أن يضايق أحد منهما، تلقفه يوسف بعناق أخر وقال: متوترش نفسك باللي حوليك يا عُمران، وارجع اعمل أكتر، حاجة كنت بتحبها.
زوى حاجبيه بتيهةٍ: أيه هي؟
اجابه بصوته الرخيم: الرياضة، أنت بنحب تلعب رياضة جدًا، ومخصص صالة كاملة ليك في قصر الغرباوي، هون على نفسك وارجع للي بتحب تصفي بيه ذهنك.
منحه ابتسامة ممتنة، وغادر برفقة جمال، الذي أوصله للقصر بسيارته وغادر بعد أن أكد عليه مجددًا ضرورة حضوره بالغد.
ولج عُمران لجناحه الخاص، فوجد مايا تغط في نومها، إتجه لحمام الجناح، ينتعش بحمام سريع، ثم اتجه للخزانة يرتدي ملابسه، فاذا ببصره ينجرف تجاه الزر الجانبي الخاص بالباب السري للصالة الرياضية، صعد الدرج للاعلى، ووقف مشدوهًا أمام عدد الاجهزة الحديثة.
كانت مجهزة على أعلى مستوى، وكأنها تخص تمرين احد أبطال كمال الأجسام، تحسس الاجهزة بروحٍ تنبض داخله كالجنين الملتصق برحم أمه، وإذا به يبدأ أول دورات تدريبه، حيث كان الأمر بالبداية أكثر مشقة حتى اعتاد الأمر، وكأنه كان شيئًا معتادًا في حياته.
تلاحقت أنفاسه بشراسةٍ على الأجهزة، فكان يتنقل من جهازٍ إلى أخر بسرعة مهولة، بينما ينسال العرق على جسده بغزارةٍ، وكأنه يعوض غيابه الطويل عن ممارسة رياضته المفضلة.
هبط عُمران عن الجهاز، وإتجه يجذب المنشفة، بينما يستريح على أحد المقاعد، ينظم أنفاسه اللاهثة ببطء وتحكم، حتى هدأ تمامًا.
رفع المنشفة يمسح خلف رأسه، وعينيه تغوص بشرودٍ على الحائل الزجاجي الضخم، كان معتمًا بشكلٍ يوحي وكأنه حائط، ولكنه أثار اهتمامه بشكلٍ كبير، فاذا به يتجه إليه، يمرر يده عليه وكأنه يستكشفه، حتى ضغط على زر جانبي فيه، فإذا به يمر للجهة الاخرى من الحائل الزجاجي.
تفاجئ عُمران بوجود مكتبة هائلة من الكتب، وكأنه انتقل بالزمان للمكتبات الكلاسيكة القديمة، مع دمج عتيق باللمسة الحديثة، وقبل أن يستوعب شيئًا داعب أنفه رائحة قهوة مميزة، جعلته يهتف بتلقائية منه: علي!
ابتسم ذلك الذي يراقبه من محل جلوسه على الاريكة المريحه، يرتشف من كوب قهوته، ويتابع قراءته، مرددًا بصوته الرخيم: كنت هزعل أوي لو مكننش اكتشفت الباب السري ده وجيتلي!
اتسعت ابتسامته وكأنه وجد ضلته بين غياهب الجب، فاذا به يتجه إليه بخطوات متهدجة، حتى جلس جواره، أغلق على الكتاب وجلس باستقامة أمامه، يتفحصه ببسمة جذابة: رجعت للرياضة تاني؟
نزع القفازات الرياضية عن بديه وقال بفخرٍ: كنت حاسس إن ناقصني حاجة ومش عارف أيه هي، لحد ما يوسف لمحلي بحبي ليها، ومن أول ما دخلت الصالة وأنا اندمجت مع الاجهزه.
حبس ابتسامته، وقال مصطنعًا الضيق: وضحلي حجم الاندماج اللي كنت فيه مع الاجهزه، بقالك ساعتين جوه!
لف جسده تجاهه وسأله بفضوله: هو انت كنت قاعد القعدة دي من ساعتين يا علي!
سحب الكتاب الذي عرق فيه للتو، ورد عليه: زي ما ليك مفضلاتك ليا مفضلاتي أنا كمان.
قالها ونهض من محله يعيد الكتاب بالخزانة، وحينما استدار ليعود لمحله، فوجد عُمران يخطف كوب قهوته ويرتشفه بأكمله، تحررت ضحكات على وهتف بعدم تصديق: إنت عمرك ما هتتغير أبدًا.
ترك الكوب الفارغ جانبًا، وقال يمازحه: ولما انت عارف كده مبتعملش حسابي في فنجان زيادة ليه؟
ربع يديه أمام صدره ورد برزانة: أخدت ساعتين عشان تلاقي الباب السري، تفتكر قهوتك كانت هتستناك المدة دي؟
هز رأسه بالنفي، فابتسم وهدر بمشاكسة: حبيب قلب بابا الشاطر، يلا إرجع لجناحك وأنا هنزل أغير هدومي وارتاح شوية.
اتجه للدرج المبطن لبهبط للاسفل، فاذا بعمران يوقفه قائلًا: على استنى.
وقف محله يستدير إليه باستغراب، وخاصة حينما وجده يسرع للخزانة العملاقة، سحب أحد الكتب وعاد إليه يجذبه برفقٍ للاريكة مرة أخرى، وما أن انصاع له وجلس، حتى تمدد عليها ومال يستند برأسه فوق ساقيه، ويعدل من وضعيته بوضعية مريحة، أسفل عيني على المندهشة مما يفعله.
سند رأسه لساقيه، ثم رفع يده بالكتاب يضعه بين يدي أخيه وهو يشير له: اقرأ الكتاب ده هيفيدك، شكله ملفت ومهم.
وترك الكتاب بين يديه، ثم أغلق عينيه في راحة وابتسامة سعيدة، وزع على نظراته بين أخيه والكتاب المحمول بين يده، ثم انفجر ضاحكًا بعدم تصديق: ما تقول إنك عايز تستولى على رجليا بدل ما تلف وتدور على بابا!
ابتسم عمران وقال يحمسه: غلاف الكتاب مغري، اندمج معاه وسبني أندمج أنا كمان.
ترك الكتاب عن يده ووضع كفه على جسد أخيه، بينما يغلق الاخير عينيه حتى ظنه على يغفو بسلام، فاذا به يحطم الصمت: علي، جمال لما نادني كان عندي سؤال ملحقتش أقوله ليك.
قال وهو يصغي إليه: إسال.
تساءل بما صدم به علي: هو أنا كان في حد في حياتي قبل مايا؟
تحجرت الكلمات على لسان علي، وقال وهو يدعي انشغاله بقراءة الكتاب: ليه بتقول كده؟
اجابه ومازال يسترخي على قدميه: مايا لمحتلي بحاجة زي كده.
طال صمت علي، بما دفع عُمران يستند على جزعيه ويجذب الكتاب منه: ساكت ليه؟
تنهد وهو يجيبه: هتعمل أيه بالماضي يا عُمران، كل ده عدي وأنتهى من حياتك.
استقام بجلسته جواره، وقال بنظرات ترتاب لسماع الاجابة: عدى وانتهى تمام، بس حابب أعرف العلاقة دي كانت بشكل أيه، يعني كنت خاطب قبل مايا أو متجوز؟
لعق شفتيه الجافة ونهض يعيد الكتاب محله: علاقة عابرة وانت نهيتها بدون أي مجازفات، فالموضوع منتهي، يلا قوم انزل ريح شوية، بكره انت وراك يوم طويل مع جمال ويوسف، عايزك تقرب منهم وتقضي وقت طويل معاهم، ده هيساعدك جدًا، أنت كنت بتحب تنزل مصر في اجازات الدراسة عشان تقابل جمال ومايا، ويوسف شخص عظيم اتعرفت عليه في لندن وبقى قريب منك جدًا.
ترك كل ما يقول وسأله بدهشة: ولما أنا بحب مايا من أيام دراستي زي ما بتقول أيه خلاني أسمح بدخول العلاقة العابرة دي؟
ضم شفيته معًا بضيق، ودنى إليه يخبره: عُمران الماضي راح بكل الوحش اللي فيه، متحاولش توصل لأي حاجة ممكن تزود من حيرتك، انت في الاساس مشتت من غير حاجة، اسمع كلامي وانزل ارتاح، الوقت اتاخر.
حرك رأسه باستسلامٍ، وغادر من الصالة لجناحه الخاص، فوجد مايا تجلس على الفراش والقلق ينتقم من ملامحها الجميلة، فباتت باهتة، وما أن رأته حتى نهضت تركض صوبه: أنت كنت فين يا عُمران، أنا رنيت عليك كتير اوي؟
رسم ابتسامة رقيقة على وجهه الرجولي، وقال: الموبيل هنا وعامله صامت يا مايا، أنا مرحتش في مكان عشان أخده معايا، أنا كنت فوق في الصالة.
عادت تترك مساحة لانفاسها تمر وتخرج بشكلها الطبيعي، هامسة: قلقتني عليك.
رد بصوته الشجي: قلقك عليا مبالغ فيه يا حبيبي، أنا خلاص رجعت ومش هبعد تاني.
رفعت عينيها إليه، وبصوتٍ مرتعش قالت: بجد، يعني مش هصحى في يوم على الكابوس ده تاني؟
رفع اصبعه يبعد الدمعة عن وجهها الجميل: انتهى خلاص يا مايا.
ارتسمت ابتسامة فاتنة على وجهها، فمنحها ابتسامة عاشقة، بينما عينيه تغوص في عمق عينيها، وإذا به يتقدم إليها، ودعوة تجدد ميثاق الغرام تتقدم لها، فلم ترفض دعوته أبدًا، بل لبتها بكل شوقٍ وحنين إليه.
مال عُمران للفراش، وإذا به يبصر عدد من المشاهد، واللقطات التي تمر في باله لمشاهد مشابهة، فرمش بوجعٍ.
رفعت مايا رأسها تراقب ملامحه بقلقٍ، اتبع سؤالها: عُمران مالك؟
ضم وجهها بيده وقال بابتسامة زائفة: مفيش يا روحي، أنا كويس.
عاد يصطحبها برفقته لرحلتهما المشتاقة، ولكن احتد به الألم بشكلٍ جعله يميل جوارها وهو يضم رأسه ويتأوه بوجعٍ قاتل، فاذا بها تهرع إليه وهي تناديه بفزعٍ: عُمران!
مرر يده على جبينه وهو يقاوم وجع الرأس القاتل، الوجع يتضاعف بشراسة وكل ما يطرح من امامه وجه فتاة شقراء، بشعر أصفر وعيني خضروتان، ملابسات جريمة الزنا التي حدثت بينهما من قبل، كره شديد مطعون بشخصه القديم.
يحتد الألم وتلك المرة ينتهي ب صراخًا عاصفًا، جعل مايا تقف باكية قليلة الحيلة، فاذا به تجذب اسدال صلاتها، وتركض صوب جناح علي، تطرق الباب بشكلٍ جنوني، فاذا به يقف أمامها ويراقب حالة الذعر الناطق بها عينيها، بينما تلفظ بتوتر: عُمران!
لم يستمع لأي كلمة أخرى، فقد كان يركض صوب جناح أخيه فور أن علم أن الامر يخصه، ولج للداخل يبحث عنه، ولكنه لم يجده، فاذا بصوت تحطيم شرس يقبع من خلف باب المرحاض الموصود.
ركض على صوب الباب يدق بكل قوته وهو يناديه: عُمران افتح الباب!
وحينما لم يجد أي رد، استدار تجاه زوجه أخيه، يسألها بخوف: أيه اللي حصل يا مايا؟
في تلك اللحظة انضمت لهما فاطمة التي لحقت بهما فور سماع نبرة مايا المرتعبة، ابتلعت مايا ريقها في توترٍ، بينما يتابع على باستفسارٍ ليتبين له حالة أخيه الغامضة تلك: ردي عليا، أيه اللي حصل، أنا لسه سايبه من شوية وكان كويس، اتكلمي عشان أقدر أساعده!
بكت بانهيار، فضمتها فاطمة، وهتفت بانزعاج: بالراحة عليها يا علي، انت مش شايف حالتها عاملة ازاي!
اعتصر شفتيه بضيقٍ من الوضع برمته، وعاد يتطرق على الباب مجددًا، في محاولة أخيرة: عُمران، الباب ده يتفتح حالًا سامع!
وحينما لم يجيبه، اتجه لها ينحني قبالة الاريكة التي تتخذها هي وزوجته متكئًا: مايا ساعديني، حصل أيه؟
رفعت عينيها له باستحياءٍ، وقالت: معرفش، كان كويس وفجأة مسك رأسه وكان بيتألم جدًا، جيت وناديتك على طول.
نظراتها أضرمت الموقف بأكمله له، فاستقام بوقفته وأشار لفاطمة: فطيمة خدي مايا جناحنا، سيبوني معاه شوية.
أومأت له، وساندتها حتى أغلقت باب الجناح من خلفها، بينما اتجه هو يصيح بعنف يعلم أنه سيجدي نفعًا: مفيش حد في الجناح غيري، هتطلع ولا هتفضل مستخبي جوه زي الجبان!
تحرر مزلاق الباب وطل له عُمران بهيئته المخيفة، عينيه محمرة بلهيب من جهنم أضرم سحر رماديتاه، دنى منه حتى جابه محل وقوفه، وقال بغضب: مكنتش علاقة عابرة زي ما قولت، كانت كبيرة من الكبائر.
وأضاف بوجعٍ وكسرة: خوفت تصارحني بحقيقة إني كنت زاني يا دكتور!