رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثمانية
اهتز علي في وقفته صدمة مما استمع إليه، بينما يستمر عُمران في مواجهته، ووجعه ينطق بين رماديتاه من هول ما يحاول تصديقه، يتمنى أن ينفي أخيه كل ذلك، ولكن المشاهد داخل عقله تُعاد لتؤكد له إنها حدثت بالفعل!
كلما إستراد جزءًا من ذاكرته المفقودة، يرى نفسه بشخصية شيطانية، تجعله لا يريد استردادها أبدًا، يبعد بينه وبين هذا الشخص الزاني فرق الأمد، وبداخله أمنية غالية ان لا يكون هو هذا الشخص.
أصبح علي جواره الآن، يحاوط ظهره العاري، ويخبره بكل ثباتًا يمتلكه: عُمران حبيبي، كل ده كان من الماضي، إنت اتغيرت وآ.
انفض كفه يعيدًا عنه، ومازالت نظراته تحيط عيني أخيه في صدمة، نطق بها لسانه: إتغيرت! هو ده تبريرك على الجريمة اللي ارتكبتها.
تنهد على بقلة حيلة، ورد: أنت توبت عنها يا عُمران.
ارتسمت بسمة القهر على وجهه، وقال بسخرية: أيه الضامن ليك إن توبتي اتقبلت عند ربنا؟ وأيه الضامن ليك إني رجعت عن القذارة دي؟
وتابع وهو يدنو إليه ببطءٍ: إنت نفسك خدعتني يا علي، كدبت عليا لما سألتك، فقولي بأي حق هرجع أثق فيك تاني؟
إرتاب علي حينما رأى الاضطراب يزحف على معالم أخيه، وهو بنفسه يعلم ما الذي سيواجهه حينما يفقد ثقته الكامنة به، فعاد يقترب منه، وهو يحاول أن يقربه إليه قائلًا: كان لازم أبعدك عن النقطة دي يا عُمران، لإنك بتواجه شخصيتك القديمة البعيدة عنك، أنت قبل ما تعمل الحادثة كنت شخص تاني، بعيد عن كل القذارة دي.
اتسعت ابتسامته الساخرة، وعينيه تسترسل ألف قصة بُنيت على وجعٍ وألمًا عتيق، فاذا ببحته تجرح حلقه: هو إنت ليه مش قادر تفهمني! أنت محسسني إني إرتكبت شيء هين وبسيط وواقف تقولي إني اتغيرت! على أنا زنيت! أنا إرتكبت كبيرة من الكبائر اللي بتهز عرش الرحمن!
وأحنى رأسه أرضًا ودموعه تزحف على وجنتيه الساخنه: يمكن عشان كده ربنا عاقبني باللي حصلي!
هز على راسه نافيًا ما ترسخ بعقل أخيه، بينما يستطرد عُمران في شرودٍ: لو كان مصيري الموت كنت هقابل ربنا إزاي وأنا حامل الذنب ده؟ كنت هقف قدامه إزاي!
وتابع بارادة واصرار: أنا لازم أطهر نفسي من الذنب ده، أنا مش هقابل ربنا بيه أبدًا، عقابي في الدنيا أهون من عقابه في الآخرة.
واستدار إلى أخيه الذي يراقبه بخوفٍ، بعدما تفهم مغزى عباراته، فإذا بعُمران يتعمق برماديتاه وهو يخبره: عقاب الزاني 100جلدة ده لو كان عازب، أما لو كان متجوز فعقابه الرجم حتى الموت.
وتابع بعدما استدار بجسده إليه: ثقتي إتهزت فيك مرة فلو اتهزت التانية هتخسرني يا علي؟
فهم مغزى سؤاله الغامض، فارتعش جسده وخفق قلبه من ربكة ما يتودد لعقل أخيه، ابتلع لعابه الهادر وقال: عُمران بطل جنانك ده، وفوق آ.
قاطعه حينما حرر سؤاله المباشر: إرتكبت الذنب ده وأنا متجوز ولا قبلها يا علي؟
إرتخى جسده ضعفًا، وهو يشاهد في عيني عُمران اصرار لمعرفة الحقيقة، وتحدي بأنه إن لم يواجهه بالحقيقة سيخسره تلك المرة، سقط علي على المقعد بارتخاءٍ، ودموعه تنساق على وجنتيه، تعلن هزيمته الساحقة أمام أخيه الذي فطن الاجابة الصريحة على سؤاله، ازداد حجم الألم الساري بقلب عُمران، فاذا به يميل مستندًا على الحائل الزجاجي من خلفه، وقد ارتسم بسمة ساخرة على شفتيه: محكوم عليا بالموت!
حافظ علي على انتظام أنفاسه المنفعلة، ورد عليه: مش صحيح، ربنا سبحانه وتعالى رحيم بعباده، إنت بعدت عن معاصيته وتوبت منها، مبقتش تعمل غير اللي يقربك منه، سواء بقيامك أو بالصدقات اللي بتعملها.
رفع رأسه المحني، وتطلع فيه، قائلًا: مش كفايا يا علي، كل ده مش كفايا قدام ذنبي.
وابتعد عن الحائل وهو ينطق بعزيمة: أنا حياتي جحيم أصلًا فمش باكي عليها، أنا قابل بحكم ربنا سبحانه وتعالى، وجاهز ليه.
قالها وإندفع تجاه الخزانة، يتلقف أول قميصًا يقابله، ويرتديه فوق بنطاله باهمالٍ، صعق علي مما يراه، واتجه خلف أخيه يعركل طريق خروجه: لو فاكر إني هسيبك تخرج من هنا ولا تنفذ الا في دماغك ده تبقى بتحلم، كل اللي إنت فيه ده مجرد اضطرابات لمواجهتك بشخصيتك القديمة، مجرد رجوع ذاكرتك ليك هتفهم إنك امتنعت عن كل القرف ده وبقيت شخص تاني.
وتابع ليستميله: ثم إنك لما ارتكبت الذنب ده مكنش في علاقة تجمعك بمايا غير عقد الزواج، يعني لو هنمشيها بحكم الله فأنت هتتعامل معاملة الأعزب.
راقبه بصمتٍ بدى خطيرًا لأخيه الذي يترقب سماع رده، فإذا به ينزع حزامه الباهظ من حول خصره، ويقدمه لأخيه!
وزع علي نظراته بين عيني عُمران المتجهمه، وما بيده، وازدرد بصعوبة: عايز توصل لأيه يا عُمران؟
قطع صمته أخيرًا برده الصامت: عايز أتخلص من كل الاحاسيس المقيته اللي جوايا، عايز أحب نفسي اللي كل مدى بكرهها أكتر، من الأول، وإنت اللي هتساعدني يا علي.
ودنى منه يسحب كفه المبسوط ووضع فيه حزامه قائلًا بدموع متوسلة: إجلدني وطهرني من الذنب ده!
سقط الحزام أرضًا من يد على المصدوم، فاحتكت طوقه الثمين بالأرضية مطلقًا صوتًا صاخبًا، كقرع قلوبهما، ومن بعده احتكاك ركبتي عُمران الذي ركع ينزع قميصه، وهو يتابع ببكاء: عقابي في الدنيا أهون من إني أقابله وأنا شايل القذارة دي!
وأضاف، وهو يميل برأسه على ساقي أخيه: بالله عليك ساعدني، أنا مش طايق نفسي، أنا عصيت ربنا وكنت عارف عقوبتي، أنا إتجرأت على ربنا يا علي!
تهاوت دموع على وقلبه يتمزق بين أضلعه وجعًا على أخيه الذي يطالبه بالقصاص، وهو غير أهل بفعل ذلك، فإن كان بيده لحمل عنه كل العذاب الذي يؤلمه يومًا، لو كان بيده لتجرع الكأس بأكمله دون أن يترك له رشفة تجدد بها وجعه وحزنه.
سحب عُمران حزامه المُلقي أرضًا، ورفعه إلى أخيه قائلًا: لو عايز تداري على أخوك عاملته البشعة دي هتعاقبني إنت، والا هخرج أنا وهروح لحد ينفذ بس خليك عارف إنك هتكون السبب برفع الستر عني.
رفع على رأسه عاليًا والدموع تتدفق من عينيه دون توقف، خسر كل ما تعلمه في التعامل مع أخيه، الذي اجتاحته نوبة اضطراب قاتلة، ما بين مواجهته بماضيه وحاضره، ولم يفق من قتله البطيء الا على سوط التحام السوط بجلد أخيه، الذي قرر أن لا يضعه بهذا الاختبار القاس وقرر أن يعاقب هو ذاته.
جن جنون علي، وكأن السوط يهبط على ظهره هو، فانحنى يلتقط عنه الحزام، الذي ثناه ليجعله قاسيًا كضربة السوط، انتزعه علي منه وألقاه بعيدًا وهو يتفقد ظهر أخيه بجنونٍ لحق نبرته المبحوحة: عملت أيه يا مجنون!
أدمى جلده الأبيض جراء أول ضربة هوت على ظهره بقوته، بينما يحاول عُمران دفعه للخلف، حتى يصل لحزامه مجددًا، صرخ فيه على وهو يحاوط جسده: حرام عليك اللي بتعمله فيا وفي نفسك ده، فوق يا عُمران، إنت بتشكك في رحمة ربنا، ربنا سبحانه وتعالى رحيم بينا كلنا، مين فينا خالي من الذنوب، من فينا معصوم من الغلط، ربنا مبيقفلش باب التوبة في وش حد يا حبيبي، وإنت توبت وندمت على ذنبك ده، والدليل إنك لحد النهاردة بتأنب نفسك عليه، ومش قادر تناساه.
بكى بين ذراعيه وهتف بانكسارٍ: بس أنا مش هعرف أتعايش بالذنب ده، هكره نفسي يا علي.
شدد من الإحاطة به، وهو يراعي ألا يلامس جرحه الذي سرى بعرض ظهره العضلي، بينما يستطرد بدموعٍ تشق طريقها: إنت مش وحش عشان تكره نفسك، إنت لو كنت كملت في معصيتك كان ليك الحق في ده، لكن إنت بعدت وقربت من ربنا، ولو عندك شك أن ربنا مغفرلكش توبتك مكنتش لحد النهاردة محافظ على قيامك ولا صلاتك.
وأضاف بما يحاول أن يدمي به نيرانه: موسى حكالي على كل حاجة، إنت في عز تعبك ووجعك كنت بتقوم لصلاتك، مقدرتش تبعد عن ربنا سبحانه وتعالى، تفتكر لو هو كارهك كان هيحببك في طاعته وقربك منه بالشكل ده؟
مال على ذراعه وقال بوجومٍ: ذنبي هيقلل من درجتي عنده، ساعدني يا علي، بالله عليك تساعدني!
سند رأسه للخزانة من خلفه، وبكى بصوتٍ مكبوت، بينما يميل عُمران على ساقه مستندًا برأسه على ذراعه الأيمن، موليه ظهره المجروح.
رأى على عُلبة الاسعافات الأولية، الموضوعة بأحد ادراج الخزانة الحاصة بمكينات الحلاقة الخاصة بأخيه، التقطة وفتحه بذراعه المتحرر، حتى جذب منها قطعة القطن ومطهر الجروح، سكب البعض منه على ظهر عُمران، وبدأ يداويه.
ابتسم عُمران ومازال يميل على ذراع علي، يتمتم بسخطٍ: بقولك عاقبني بتداويني!
أزاح دموعه بكم قميصه المرفوع وقال بحزمٍ لجئ له: اسكت مش عايز أسمع منك حرف تاني، إنت هتنفذ كل اللي أنا هقوله وهتعمل بيه بالحرف، سامعني!
اتسعت ابتسامته رغم سقوط دمعاته، بل أجابه بسخرية: حاضر يا بابا.
انتهى على من تضميد جرحه، ونهض يسانده وقد استسلم له عُمران بجسدًا مهلكًا، وبنظراتٍ تضخ بالغموض الخطير!
سحب على قميصًا أخر لأخيه، طرحه عليه وقال: هنروح مكان بترتاح فيه، ولعلمك بقى إنت سهمت بتجديد المكان ده، والناس هناك بيحبوك جدًا.
استدار يسأله بلهفة أدهشته: فين؟
منحه ابتسامة رغم حزنه وبكاء عينيه: مسجد الشيخ مهران.
رفرف قلبه كالعصفور الطليق، والحنين يضرم مشاعره بشكلٍ أذهله، فاذا به بمسك كف أخيه كالصغير: أنا عايز أروح هناك يا علي.
زوى حاجبيه بمكرٍ، وقال ضاحكًا: اسمع كلام بابا اللي بيحبك وخايف على مصلحتك وأنا هوديك مكان ما تحب.
زارته بسمة في وسط الضياع الذي يخوضه، وقال بنبرة حزينة: وأنا بعمل أيه غير إني أسمع كلامك!
ضمه على ومال يقبل جبهته، هاتفًا بآنينٍ: كل اللي بعمله لمصلحتك، أنا راحتي في سعادتك.
تعلق به بقوةٍ، ومن ثم قال: لو عايز تشوفني سعيد واجهني بكل اللي عملته، بلاش تخبي عني أي حاجة هتضايقني وقت ما أعرفها.
وابتعد عنها يطالعه بنظرة حمل فيها حرجه مما فعل: مايا كانت تعرف إني بعمل ده؟
ارتبك على مجددًا قبالته، ولكنه خشى أن يخسر ثقته المهزوزة فيه: كانت تعرف، بس حبها ليك خلاها تحاربك أنت شخصيًا علشان تفوق من اللي إنت فيه يا عُمران.
هز رأسه بخفة، والألم يتضاخم داخله بشراسة، فاذا به يخبره: طيب ممكن أشوفها قبل ما نمشي؟
رد عليه مبتسمًا، رغم قلقه من مطلبه: آه طبعًا، هروح أناديها وهستناك في عربيتي.
وتركه وغادر لجناحه، بينما يميل عُمران على طرف فراشه، شاردًا في تلك اللحظات الخاطفة، التي تحطمت بذكرياته القاسية.
مرت الدقائق حتى أتاه صوتها الرقيق يناديه: عُمران!
رفع رماديتاه صوبها، فوجدها تراقبه بلهفةٍ، وما زاد من وجعه نظراتها الناطقة بعشقه الذي لا يستحقه، طال صمته وهو يتأملها بنظراته الغريبة، فإذا بها تبادر بقربه، وقد جلست جواره تتساءل: إنت كويس؟
هز رأسه بخفة، ورسم ابتسامة باهته: أنا اللي المفروض أسالك السؤال ده، إنتِ كويسة؟
ردت عليه باسترابة من طريقته وسؤاله الغريب: الحمدلله.
وأضافت وهي تتابع نظراته الغامضة: مالك؟
ابتسم ونطق بسخرية شملت ألمًا مازال يعاني منه: بكتشف عن نفسي ماضيي المشرف، ولاقيت إني كنت انسان حقير، بس اللي خلاني أستغرب هو إنتي، معقول البنت القوية اللي شوفتها بتتحدى على بإن جوزها عايش وهتدور عليه بنفسها، تكون قبلت تتنازل وتعيش مع شخص زاني وحقير زيي؟
لعقت شفتيها ومزقتهما بين أسنانها، لتذكره أصعب جزء مر عليهما، بينما ينتظر هو سماع ما ستقول في لهفةٍ، حتى تلفظت: الشخص الحقير اللي بتتكلم عنه ده مات واندفن في اليوم اللي كان راجع فيه على الطريق ومش قادر يسوق وهو خايف يقابل ربنا بكل معاصيه، الشخص ده هو حبيبي اللي اتولد من جديد، وأقسملي إنه بدأ معايا حياته من تاني، بعد ما فتح بيها صفحه بيضة خالية من كل ذنوبه، الشخص ده نفسه اللي عمل كل اللي يقدر عليه عشان يعوضني عن اللي عيشته واستحملته عشانه، هو نفسه اللي كان ليا الصديق والزوج والحبيب والأب اللي عوضني عن قسوة أبويا، الشخص اللي انت شايفه حقير ده قلبه أبيض وشاركني فيه كل أحبابه، آه أنا كنت بغير منهم بس عذارهم لإن عُمران سالم الغرباوي يتحب من أي شخص يتعامل معاه، حنيته وطيبته على اللي حوليه قادرة تمسح عنه كل خطأ ارتكبه في حق كل واحد فيهم، وأنا واحدة منهم.
وأضافت وقد سرت دموعها: أنا مكنتش بالضعف اللي يخيلك اني كنت مكسورة الجناح وأنت بتخوني، أنا وقفت في وشك وحاربت عشان عارفة إنك جواك شخص تاني بتحاول تدفنه جواك، ومستني طاقة نور عشان يظهر، حتى لما كنت مدفون في العتمة اللي كنت فيها كنت وفي ورافض تكونلي زوج عشان متحسش انك بتخون الكلبة اللي كنت معاها!
وتابعت بشراسة وغيرة رغمًا عنها: واللي كانت أول من افتكرتها بدل ما تفتكر حياتنا مع بعض!
ضحك رغمًا عنه، وهو يشاهد غيرتها القاتلة تتقافز من عينيها، فابتسمت هي الأخرى وقالت بمشاكسة: إنت شكلك حنيت ليها وعايزني أسن سكاكيني عليك، والمرادي محدش هيحوشني عنك يابن فريدة هانم!
تحرر صوته الضاحك أخيرًا: أهون عليكِ يا بيبي!
تلاشت ابتسامتها وقالت بغصتها المتألمة: عمرك ما هونت عليا.
جذبها إليه يضمها بقوة، فتعلقت به وقد تحرر عنها بكائها، فمال عليها يهمس بانكسارٍ: أنا مستاهلكيش ولا أستاهل حبك ده يا مايا، أنا بدور على حاجة واحدة ممكن تبررلي حبك ليا مش لاقي غير شخص أناني، خانته نزواته وأتخلى عن الإنسانة اللي حبيته بصدق، أنا مستخسرك فيه!
وصحح مبتسمًا بسخرية: فينا إحنا الاتنين، ما أنا لازم اتقبل النسختين لحد ما نسخة فينا تنتصر في حرب من أكون دي!
تعلقت به ورددت: ولو رجعت بمليون نسخة أنا بحبك بكل حالاتك!
ابتعد يتطلع لها بعشقٍ ناطق: أنا قادر أحبك في اللحظة دي وأختارك بارادتي يا مايا، حابب أتجوزك من تاني وأبدأ معاكِ من أول.
وابتسم يمازحها: وبما إن الشرع محلل أربعة.
توسعت مُقلتيها في صدمة، ورفعت ساقيها تلتقط من أسفل اسدالها حذائها المنزلي، فضحك وهو يستكمل: فأنا جاهز أتجوزك أربع مرات.
قالها وسحب الحذاء يتأمله بدهشة، فاذا به يتمتم والضحك يلاحقه: مش أنا اللي يترفع عليا شوذ يا بيبي، الرافعة دي نهايتها بزعل انتِ مش أده، فاهدي وخدي تمامك كده عشان الارهاق عشانك خطير وبالذات بالوضع ده!
سحبت منه الحذاء، ودفعته أرضًا، ثم حذرته: بقولك أيه يا حبيبي، لو فاكر أن عشان أنت فاقد الذاكرة ومفتكرتش الا ألكس الصفرا دي، فكده هسيبك تسبل وترمي كلام من ده فإنت متعرفش أنا أخري واصل لفين، إعقل كده وفكر كويس، اللي قدامك دي حرم الطاووس الوقح، يعني في لحظة ما تفكر تستهزأ بيا هكون فاتحه القامووس اللي قفلته من يوم ما فقدت كل شيء.
راقبها بصدمة وانهار في نوبة من الضحك، أطرب مسمعها، بينما يجاهد للحديث: حبيب قلب جوزه الشرس إنت!
وتابع وهو يزيح حجابها بينما يمسد على خصلاتها بنعومة أخجلتها: إهدى كده ورجعلنا بسكوتة النواعم، عشان نقدر نتفاهم بس.
ابتسمت وهي تعود لرقتها: حاضرة وسامعة اتفضل.
هز رأسه بعدم استيعاب، بينما يسألها بفضول: هو أنا كنت بديكي الفرصة تكوني بالشراسة دي قدامي؟
ضحكت وهي تنفي ذلك، قائلة: إنت مبتديش فرصة لحد أصلًا يشوف نفسه عليك.
رفع حاجبه بمكر، وقال: أمال مالك يا بيبي، شادة نفسك عليا كده ليه؟
أجابته ضاحكة: وماله يا حبيبي لما أشوف نفسي عليك قبل ما ذاكرتك ترجعلك!
زاره الخبث فنطق: بس أنا لسه زي ما أنا، وزي ما كنت بعملك واقفة زمان قادر أعملها دلوقتي يا حبيبي، تحبي تجربي!
زفرت مدعية الغضب: هو اليوم غريب من أوله، كان بدايته ذكرياتك مع ألكس والوقتي عايز تستعرض طولة لسانك عليا! شكلي كده هرجع لفاطيما وهسيبك هنا مع النسخ بتاعتك، تشوف مين فيهم هيغلب التاني.
تبسم وجاذبيته تزداد في فتنتها: أنا محدش يقدر يغلبني، مش قولتلك قبل كده أنا ماليش كتالوج!
مالت قبالته تمازحه بضحكة رقيقة: يعني افتكرت الكتالوج والصفرا ومش قادر تفتكرني!
رفع رأسه وهو يضحك حتى أدمعت عينيه، وإذا به يتخابث: لو الشعر الأصفر مضايقك كده إصبغي شعرك أنتي كمان، بسيطة!
توسعت مُقلتيها في صدمة: نهارك أسود يا عُمران، انت افتكرت كمان لون شعرها!
مال على الفراش من فرط الضحك، لا يصدق أن غيرتها تدفعها عن نسيان التفاصيل التي نطقت بها للتو، بينما تميل من فوقه بالحذاء مجددًا وقد ازدادت غيرتها حد الجنون.
لف ذراعها ببراعة، ينتشل عنها ما بيدها وهو يقول بنبرة تحذيرية: عيب كده يا بيبي، ميصحش ترفعي الشوذ على أبو ابنك بالشكل ده، تفتكري لو فريدة هانم عرفت أنك عملتي كده هيكون أيه تصرفها معاكِ؟
ارتعبت مما قال، وتطلعت إليه بنظرة رجاء: هو انت ممكن تقولها يا عُمران؟
منع ابتسامته وأبعد خصلاتها الساقطة فوق عينيه، بينما يعتصر أسنانه من فرط ألمه لاحتمالها عليه وقد لامست جروحه بالفراش: مش لازم تعيد تربيتك يا بيبي، يعني مين يقبل إنه يتثبت بالشكل ده؟
تراجعت للخلف وقالت بتلعثم: على فكرة أنا مقصدتش أنا كنت بس بعرفك إني أحلى من الصفرا دي، ومش بحب اصبغ شعري عشان أكون زي حد، إنت حبتني وانا كده، فلو بطلت تحبني فدي مشكلتك إنت مش مشكلتي.
لمس الحزن في نبرتها الأخيرة، فاعتصر قبضته يحتمل على مدى تألمه، ثم نهض يتجه صوبها، ضمها إليه وقال بصدقٍ: أنا مش مقرف عشان أحطك في مقارنة مع واحدة رخيصة زي دي، دي متتسواش بضافر رجليكِ يا مايا.
ومالت إليه وهي تحمد الله أنه لم يرى دموعها، قبل جبنيها وهمس لها: عشقك ليا صحى مشاعر في قلبي مكنتش متخيل إنها موجودة لواحدة ست، أنا واثق إن حبي ليكِ إتخطى حدود عقلي العاجز عن أنه يفتكرك.
استدارت إليه مبتسمة في رضا، فإذا به يعود ليضمها إليه ويحتويها بكل حنان وحب، وعاطفة، فيما يعود ليخبرها بمزحٍ: يا خبر، أنا نسيت أن على مستنيني تحت بعربيته كل ده.
عبثت في دهشة: مستنيك بالوقت المتأخر ده، ليه رايحين فين؟
قال وهو يرنو من السراحة، يجذب ساعته والبرفيوم الخاص به: قالي إنه هيوديني مسجد الشيخ مهران، هنقيم الليل ونصلي الفجر.
اتجهت إليه تخبره ببسمة حماس: انت كنت بتحب تصلي فيه جدًا، الناس هناك بيحبوا يصلوا وراك ويسمعوا صوتك.
استدار تجاهها وقال بلهفة: أنا كنت بصلي بيهم؟
أكدت له ذلك، قائلة: أيوه، كنت كل يوم بتخرج من الكمبوند بدري ساعة عشان تلحق توصل هناك، بس الحمد لله القصر قريب من الحارة، يعني ربع ساعة وهتكون هناك بإذن الله.
ارتاح قلبه الحائر، حينما أكدت له زوجته بأنه كان قريبًا من الله عز وجل بحياته الاخيرة قبل الحادث، فاذا به يميل مقبلًا جبينها ويهمس بما جعلها تطالعه في غرابة: شكرًا يا مايا.
قالها وغادر على الفور، ومازالت تقف محلها باستغرابٍ من شكره الغامض لها، ليتها تعلم بأنها بعبارتها أراحت قلبه، وأكدت نصف حديث أخيه عن توبته الخالصة قبل الحادث المُفتعل.
جلست زينب على المقعد بالطفلة الصغيرة، وجلس سيف على ذراع مقعدها يتأمل الطفلة بانبهارٍ، وكأنه يرى دمية تتحرك، بينما على الفراش تراقبهما ليلى بابتسامةٍ حنونة.
طبعت زينب قبلة على يد الصغيرة، ثم هتفت بحماس لزوجها: شوف يا سيف ايدها صغننه ازاي؟
ضحك وهو يجيبها: شايف يا دكتورة، مش أنا مدرسلك عملي في المركز؟
وأضاف يمازحها: أنا اتعودت على هبلك ده جوه وبره الشقة، يوسف نفد من ليلى لما بطلت تنزل الشغل، وإنتي لزقة ليا، مع إني حاولت أقنع الدكتور على أنك لسه بتدرسي بس هو مصر يخليكي تحت تدريبي.
واستدار يشهد زوجة أخيه: كل ما حالة تجيلنا تقوم تحضن الطفل وتبوس فيه بشكل يشكك أهله فينا، دي بتمسك الروشتة وتقعد تشرح للأم ازاي تكون حنينه مع ابنها وهي بتديه الدوا!
تعالت ضحكات ليلى بينما ترمقه زينب بغضب لحق نبرته: أنت قلبك قاسي ومعندكش المقاييس اللي تخليك تحس بالبيبي وهو بيشرب دوا مر بالشكل ده.
رد عليها بذهولٍ: هو في السن ده مبيكنش قادر يفرق بين الدوا وأي حاجة تانية، وبعدين لو الدوا المر مش هيعالجه هيتعالج بأيه سيادته؟
نطقت ليلى بصعوبة وهي تجاهد لرفع صوتها: إنت فين يا يوسف، تعالى إلحق الخناقة قبل ما تبتدي، أنا مش قادرة!
ولج للغرفة، يحمل صينية الشوربة، هادرًا بصوتٍ صارم: بس يا ولد، بس يا بنت، اقعدوا بأدبكم النهاردة أنا مش فاضي لعركة الأطفال دي!
وجلس جوار زوجته يدعم جلوسها، حتى يتمكن من اطعامها بينما يهمس بصوتٍ منخفض لها: بذمتك دول دكاترة دول! انا حاسس إننا قاعدين في كلاس كيجي تو!
استندت على ذراعه، وقالت وهي تكبت تأويهة نادية عنها: معلش يا جوو إنت موجود تفصل بينهم يا حبيبي، بس هات نوجة منهم، خطر تحضر العركة دي، مش عايزة اخلاقها تفسد.
ضحكوا معًا بشكلٍ لافت اتتباههما، فاذا بسيف يصيح بعنفوان: إنتوا بتقولوا أيه؟
رد عليه يوسف مصطنعًا نظرة الحنان خاصته: ولا حاجه يا سيفو، ده ليلى بتقول إنها حابة وجودكم معانا أوي، وبتقترح تباتوا مع نوجة النهاردة، أهو بالمرة تخدوا وردية الليل بدالي لحسن أنا ضهري وجعني بشكل!
نهضت زينب تضع الصغيرة بيد زوجها، وتشير لهم: لا أنا ماليش في الزن والسهر، خدوا سيف هو بيسهر لوش الفجر عادي.
واشارت لهم وهي تهرع للخروج: تصبحوا على خير يا حلوين.
قالتها وهرولت لباب الشقة، فما أن فتحته حتى وجدت سيدة في منتصف الاربعينات من عمرها، تكاد أن تقرع جرس الباب، فوقفت كلتهما تتطلع للاخرى باستغرابٍ، حتى خرج صوت السيدة تتساءل: إنتي مين؟
تعجبت زينب منها، وخاصة بحضورها بهذا الوقت المتأخر، فتنحنحت تتساءل عساها تخبطت بالطوابق: حضرتك عايزة مين؟
ابتعدت للخلف تتأمل اللافتة التي تحمل إسم الدكتور يوسف، ثم عادت تتفرس بملامحها بعجرفة تامة: إبعدي عن الباب خليني أدخل، لولا لبسك كنت فكرتك الشغالة، أكيد إنتي صديقة من صديقات ليلى، ليا عتب عليها إنها مش عارفة تصاحب حد عنده ذوق واحترام في استقبال أصحاب البيت.
تأجج الغضب بمُقلتي زينب، حتى أنها كادت أن تصفع الباب بوجهها، ولكنها تراجعت عساها تنحدر لعائلة ليلى، فقالت بتهذبٍ وهي تستعيد حقها: من سؤال واحد طلعتيني قليلة ذوق ومش محترمة! لو هنمشيها ذوقيات فمش من الذوق زيارة حد الساعة واحدة وش الصبح، ومع ذلك مرحب بحضرتك، بابنا عمره ما يتقفل في وش الضيف أبدًا.
مشطتها بنظرة مهينة، وقالت بعصبية بالغة وهي تعيد خصلات شعرها القصير للخلف: إنتِ بأي حق تكلميني كده يا قليلة الرباية، أوعي من طريقي.
دفعتها بقوة أسقطتها فوق الطاولة المحازية لباب الشقة، فسقطت ال?ازة الزجاجية، ومن خلفها مالت زينب مستندة على شظاياها، فجرحت كف يدها.
بينما تصيح الاخيرة بعنفوان: يوسف!
خرج يوسف راكضًا حينما استمع لصوت كسر الزجاج، ومن خلفه ركض سيف، الذي كان الاسرع من أخيه، حينما وجد زوجته بتلك الحالة، هرع يساندها ويتفحص كف يدها بدهشة، بينما ينطق يوسف أخيرًا: ماما!
هوى قلب زينب من الصدمة، وتجمد جسدها أرضًا، كما تجمدت نظراتها على تلك المرأة البغيضة، التي تتفرس بابنها الصغير الذي يساعد تلك الفتاة الغير مهذبة من وجهة نظرها.
رفع سيف بصره تجاه والدته، التي تتطلع لزوجته بعدائية شديدة، وقد تسرب له مضمون المقابلة بينهما، فتطلع لزوجته وسألها: أيه اللي وقعك بالشكل ده؟
تعجبت مروة من تجاهل صغيرها لوجودها، واهتمامه بتلك الفتاة، فنادته بغيظ: إنت مش ملاحظ وجودي ولا أيه يا دكتور؟
كان قد وقف بها الآن، وبالرغم من ضيقه الشديد من وجودها، الا أنه ترك زوجته وأتجه يقبل وجنتها قائلًا بضيق: أهلًا بحضرتك، نورتي.
هزت رأسها بسطحيةٍ، ومازالت نظراتها تحيط بزينب، ثم استدارت تجاه يوسف تصيح بانفعالٍ: من أمته ليلى بتصاحب الاشكال القليلة الذوق دي يا يوسف، البنت دي مش متربية لازم تقطع علاقتها بيها، وفورًا تطردها من هنا.
توسعت عيني يوسف في صدمة، بينما رد عليها سيف بغضب: هو مين دي اللي مش متربية! ثم إنك طلعتي منين فجأة كده عشان تقولي نقطع علاقتنا بمين ونطرد مين؟
اندفع يوسف تجاه سيف، يميل عليه بصوتٍ منخفض: مش كده يا سيف، ماما أكيد متقصدش ومتعرفش لسه حاجة، اهدى وأنا هفهمها.
احتقنت مُقلتيها في غضب، فدفعت حقيبة يدها تجاه مقعد السفرة، واتجهت محل وقوف ابنها الاكبر، تعاتبه بجراءة: تربيتك لاخوك واضحه ما شاء الله، واقف بيبجح فيا وبيدافع عن البنت الغريبة دي، وبعدين ممكن تفهمني ازاي تقعد الهانم دي مع ليلى وأخوك عايش معاك، الا لو بينطبق عليها الكلام اللي بقوله، انها مش محترمة!
كاد يوسف ان يبدأ بشرح العلاقة التي تربطهما بها، ولكن سيف كان الاسرع حينما قال بسخرية: لا متخافيش على أخلاقي، يوسف لما لاقاكم مش فاضين تربوني رباني أحسن تربية، ولعلمك أنا مش ساكن هنا مع يوسف أنا ساكن في الشقة اللي قصاده مع مراتي، اللي أنتِ داخلة فيها شمال من لحظة دخولك هنا، ولو صدف وطلعت شكوكي صح وكنتي انتي اللي زقتيها وجرحتي ايدها بالشكل ده هتشوفي مني اللي مش هيعجبك أبدًا!
لطمتها صدمة كبيرة من سماع ما قاله، رمشت بعدم استيعاب وبصرت تجاه ابنها الآخر تتساءل: الكلام اللي بيقوله أخوك ده صح يا يوسف البنت دي تبقي مراته فعلًا؟
واستطردت وهي تجلس على المقعد من خلفها بدهشةٍ: حصل أمته ده وإزاي متبلغونيش؟
اتجه إليها يوسف يحاول تهدئتها بقوله: من فترة بسيطة، اتصلت على حضرتك أكتر من مرة بس مكنتيش بتردي ولا اتصلتي بيا طول الفترة اللي فاتت دي، أنا مستغرب إن حضرتك عرفتي بنزولي لمصر وبولادة ليلى!
استهزأ سيف منه قائلًا: وهي هتفضى أمته عشان ترد عليك يا يوسف، هي داخلة في دايرة تحدي المناصب ضد باباك، كل حد فيهم عايز يثبت للتاني انه أنجح منه ونسونا احنا الاتنين في النص، كويس أصلًا إنها فاكرة شكلنا ومنستناش.
حذره يوسف بنظرة حازمة منه، بينما يناديه: سيف!
خرجت ليلى تحتمل على الحائط، تتابع ما يحدث في صدمة لم تكن تضعها بالحسبان، فجاهدت لرسم ابتسامة خافتة وقالت: أهلًا بحضرتك يا طنط، متوقعتش إنك هتيجي في نفس اليوم اللي كلمتك فيه.
انتصب مروة بوقفتها وتجاهلت حديث ليلى، ثم اتجهت تجاه سيف تصيح بكل حدة: كل الكلام اللي قولته ده مهزنيش، اختيارك أصلًا في حد ذاته وجوازتك اللي تمت من قبل ما حتى تتخرج وتتوظف وبالسرعة دي وراها لغز، واللغز واضحلي من تربية الشوارع اللي واقفة وراك دي، أكيد استدرجتك لمصيبة ولبستهالك.
كانت زينب أول من تخلت عن صمتها حينما صاحت ببسمة باردة لا تعلم كيف استحوذت عليها: عندك حق أنا استدرجته، وبما إن حضرتك كشفتي الموضوع بذكائك الكبير، فأيه رأيك تصلحيه وتخليه يطلقني، جربي كده!
استدار لها سيف يهدر بصدمة: زينب، بتقولي أيه؟
اتسعت ابتسامتها ولم تحيل نظراتها عن اعين حماتها المشتعلة، فرفعت كتفيها بقلة حيلة: شوفتي الاستدارج موصل حبه لفين؟
وتابعت قبل أن تترك المساحة لسيف بالجدال بينه وبين والدته، وبحنكتها الماكرة: سيف أنا عايزة أرجع شقتي، وحاسة إن في ازاز دخل في رجلي!
كانت اشارة صريحة له بأن يحملها، فاذا به يتجه لها، وانحنى يرفعها بين ذراعيه، أحاط والدته بنظرة غاضبة واتجه ليغادر، فما ان استدار حتى رفعت زينب كفيها حول رقبته، وأشارت لها بوداع: كان نفسي أقعد مع حضرتك أكتر من كده، بس للأسف ورانا شغل الصبح، وحضرتك أكتر حد عارف الشغل بالنسبة للست أيه، آه وعلى فكرة أنا دكتورة أطفال زي سيفوو، وكنت بدرس في نفس الجامعة بتاعته في لندن، يعني مش تربية شوارع ولا حاجة يا أنطي!
قالتها ومنحتها قبلة في الهواء ثم مالت برأسها على كتفه قائلة بتعب مصطنع: بسرعة يا سيف حاسة إن هيغمي عليا من النزيف، أو حرارة الجو!
ضحك سيف وهو يحاول استيعاب ما فعلته زوجته، كان يخشى أن ينجرح قلبها لكلام والدته المهين، ولكنها إستعادت حقها دون اللجوء إليه أو حتى لأخيه الذي مازال يتعامل مع والدته بقيود.
منعت ليلى ابتسامتها من الظهور، فلقد تمادت حماتها ولكن صدمتهما زينب بما فعلته وقالته، عدل يوسف نظارته واستدار تجاه والدته، التي اندفعت فيه بجنون: انت ازاي تسيب البنت الحقيرة دي تلعب على أخوك، وتوقعه، انا كنت متكلة عليك إنك جنبه ومستحيل تخلي حد يضحك عليه، تقوم تدبسه في جوازة من آ.
قاطعها يوسف بنبرة هادئة ولكنها كانت غاضبة: من فضلك كفايا، اللي بتتكلمي عنها دي تبقى مرات ابنك، ومش قليلة الرباية ولا تربية شوارع، أختها تبقى زوجة دكتور على الغرباوي، اعتقد إنك عارفة نسب العيلة دي كويس اوي، وبعدين أزاي تتهمي واحدة في اخلاقها بمنتهى البساطة كده، وحضرتك مجمعكيش بيها لقاء غير، من دقايق! فهميني بنيتي عنها كل الافكار دي ازاي؟ ولا كل ده لانها معرفتكيش ولا قدرت تتعرف عليكي!
واضاف ومازال يتطلع لها بحزن: يمكن لو كنتي بتظهري في حياتي أنا وسيف حتى لو كان ظهور مكالمات، كانت عرفت أن ليها عيلة زوج غيري، مهي زيها زي أي حد عارف إني مسؤول عن سيف مسؤولية كاملة، لانه يتيم الاب والام.
انفجرت بصراخها الجنوني: يتيم! بتموتنا واحنا عايشين يا يوسف، هي حصلت؟
أسرعت ليلى تتسند على الأثاث حتى وصلت لهما: لا يوسف ميقصدش طبعًا يا طنط، اتفضلي حضرتك معايا جوه، ريحي من الطريق وشوفي نجاة بنتي.
قوست حاجبيها بانفعال: نجاة مين! أيه الاسم اللوكل ده؟ ثم انكم ازاي تختاروا الاسم من غير ما ترجعولي! الظاهر ان مش سيف بس اللي بيتعامل بقلة الادب دي بس!
ابتسم يوسف مبتلعًا تلك الاهانه، وقال بمرارة: مهو أنا عشان أرجع لحضرتك في اختيار إسم بنتي، كده هقيدها بعد سنة من ولادتها، أساسًا لولا إنك ربنا كرمك وفتحتي على ليلى مكنتيش عرفتي إنها ولدت أصلًا.
مالت تسحب حقيبتها، واتجهت لباب الشقة، قائلة بغضب جامح: ماشي يا يوسف، إنت الغربة قست قلبك وخليتك قسيت قلب أخوك، أنا همشي ومش هتشوف وشي أبدًا.
قالتها واتجهت للخارج، فاندفعت ليلى لزوجها تترجاه: يوسف متسبهاش تنزل وهي زعلانه أرجوك.
تطلع لها بنظرة منكسرة، واختلج صوته المجروح: وأنا عملت أيه يا ليلى، هي اللي قدامك نازلة جرح فيا وفي سيف، حتى زينب مسلمتش منها.
مالت تقبل كتفه، كأنها تواسيه: معلش يا حبيبي حقك عليا أنا، إنزل وراها دي مهما كانت والدتك.
هز رأسه بهدوء، وخرج خلفها على الفور، وجدها تقف أمام المصعد، تنهد بقلة حيلة ودنى إليها يخبرها: ماما حقك عليا متزعليش، أنا مقصدتش والله، تعالي معايا الوقت إتاخر ومينفعش تنزلي وأنتِ زعلانه كده.
حانت منها نظرة غير، مرضية تجاهه، بينما تنتظر هبوط المصعد لطابقها، فاستكمل ببسمة جذابة: طيب مش عايزة تشوفي نوجة، دي قمر تبارك الله، تعالي شوفيها ولو تغير الاسم هيخليكي سعيدة اختاري اللي يعجبك ونناديها بيه، أيه رأيك؟
استدارت تجاهه بنظرة حزينة، يحاول استمالتها وهي المخطئة بحقه وحق أخيه، أرضاها بحديثه، وأرضى غرورها، فاذا به تحمل حقيبة يدها وتعود لشقته متبعة ليلى لغرفتها الخاصة، دون أن تضيف كلمة واحدة، بينما ارتمى يوسف على المقعد والحزن يتغلل بملامح وجهه، والخوف يحيطه من المعارك القادمة بين والدته وسيف وزوجته!
توقفت سيارة علي بزقاق حارة الشيخ مهران، وأمام المسجد بالتحديد، وبينما يصف علي سيارته، كان عُمران يسبق خطاه للمسجد، وكأنه يعلم طريقه جيدًا، نزع حذائه، وولج للداخل حيث كان المسجد فارغًا، فمازال يتبقى على صلاة الفجر ما يقرب الساعتين، بينما يجلس الشيخ مهران يرتل القرآن بصوته العذب، وما أن شعر بوجود أحدٌ حتى صدق، ورفع عينيه يراقب الزائر العزيز.
ابتهجت معالمه وردد بصوت الوقور، بينما مازال يجلس محله: يا ألف حمدلله على سلامتك يابني، كنت عارف أنك هتشتاق لمكانك وهترجع، مهما طالت غربتك أكيد هتحن!
وجد نفسه في كلماته المختصرة، فسمح لنفسه بالجلوس بالقرب منه، أمام حامل القرآن الفاصل بينه وبين جلوس الشيخ، يتطلع له بنظرة غائرة بالدموع، ثم قال بصوتٍ باكي: من أول ما وقفت على سلم المسجد وأنا حاسس بانتمائي ليه، عرفت من مراتي وأخويا إني كنت بقيم الصلاة بالناس!
هز الشيخ رأسه مبتسمًا وقال: صح، وبالرغم من إن الابتهالات غير مستحبة ابا إن الناس في الحارة كانوا بيحبوا صوتك، وبينزلوا بدري قبل كل صلاة عشان يسمعوا صوتك.
تساقطت دموعه بكثرةٍ، بينما يجاهد لنطق ما سيقول: وحضرتك عارف بالذنوب اللي ارتكبتها؟
قرأ الشيخ مهران كمية الآلآم، التي خيمت على هذا الشاب، علم بأنه استعاد بعض الذكريات المتعلقة بماضيه، فخطف نظرة سريعة إلى علي الذي بقى بنهاية المسجد يستند على العمود الرخامي، يتابع أخيه بدموع استفاضت بعينيه هو الآخر، عاد ببصره إلى عُمران وقال يجيبه: عارف يابني، إنت مخبتش عني حاجة.
اتسعت مُقلتيه بدهشة، وقال: وإزاي قبلت أكون إمام للناس وأنا شايل الذنوب دي كلها؟
زادت بسمة الشيخ بثباتٍ، أسبل فضول عُمران لاجابته، وإذا به يخبره بهدوءٍ: وأمنعك ليه وأنت توبت وندمت على اللي عملته، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
نطق بلهفة ومازال ينصت له بكل ذرة تركيز: وإنت عرفت منين إن ربنا قبل توبتي!
مرر الشيخ يده على المسبحه بين يده، وقال يجيبه: ربنا سبحانه وتعالى مصرح في كتابه الكريم لما قال بسم الله الرحمن الرحيم.
قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ {الزمر: 53، 54}. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة: 222}.
وقد تضافرت دلائل الكتاب والسنة على وجوب التوبة، ولزوم المبادرة إليها، وأجمع على ذلك أئمة الإسلام رحمهم الله تعالى.
إذا علم ذلك، فإن التائب لا يكون تائبا حقا إلا إذا توفرت في توبته خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص وهو أن يقصد بتوبته وجه الله -عز وجل-.
الثاني: الإقلاع عن الذنب.
الثالث: الندم على فعله.
الرابع: العزم على عدم الرجوع إليه.
الخامس: أن تكون التوبة قبل أن يصل العبد إلى حال الغرغرة عند الموت.
قال النووي في شرح مسلم: وللتوبة شرط آخر وهو أن يتوب قبل الغرغرة، كما جاء في الحديث الصحيح، وأما في حالة الغرغرة، وهي حالة النزع، فلا تقبل التوبة.
فهذه الشروط فيما إذا كان الذنب بين العبد وربه، كشرب الخمر وإرتكاب الزنا مثلاً. وأما إذا كان الذنب يدخل فيه حق العباد، فلا بد من إبراء الذمة من هذا الحق فإن كان مظلمة استحلها منه، أو حقا رده إليه، بالإضافة إلى الشروط الخمسة الآنفة الذكر.
إذا ثبت هذا فليعلم أن العبد إذا تاب، فينبغي أن يكون حاله بين رجاء قبول التوبة، ومخافة العقاب من الله تعالى، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {المؤمنون: 60}.
وقد خرج الترميذي بإسناد ثابت أن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق -رضي الله عنهما- سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
وتابع وهو يرسم ابتسامة مطمئنة لمن يراقبه: العبد الذي يقبل الله توبته، هو الذي يجد حرقة في قلبه على ما فرط منه في جنب الله، هو الذي ينظر لنفسه بعين التقصير في حق الله، ويكون أشد تجافيا عن الذنب وعن أسبابه، نائيا بنفسه عن هذه المحرمات، يميل إلى الإقبال على ربه ومولاه، وأن يصاحب أهل الفضل والخير، ويقاطع أصدقاء السوء، ومن لا خير فيهم، وأن ينظر إلى توفيق الله له بالتوبة على أنه نعمة عظيمة من أعظم النعم عليه، فيفرح بها، ويحافظ عليها، ويخاف زوالها، ويخشى عقوبة نكثها.
واستطرد وهو يربت على ساقه بحنان: وإنت من قبل الحادث اللي عملته وإنت جيت هنا ندمان وتوبت لربنا يا بني، وحتى في اللحظة اللي إنت قاعد فيها قدامي دي لسه بتلوم نفسك، فتفتكر بعد كل ده وربنا سبحانه وتعالى ممكن يردك؟
تزاحمت الدموع بمُقلتيه، وإذا به يستدير للخلف مراقبًا موضع أخيه، ثم يعود ليتطلع للشيخ، وبتوسلٍ قال: مش هرتاح الا لما يقيم عليا الحد، أرجوك ساعدني يا شيخ.
تلفظ الشيخ بحزنٍ وهو يهتف: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.
تابع عُمران برجاءٍ: أنا مش هقدر أعيش وأنا شايل الذنب ده، مش هقبل بيه لا أنا فاقد الذاكرة ولا لما ترجعلي، بالله عليك.
مرر يده على سبحته، وقال بهدوء: في حالتك دي لا يجوز يابني، يُفضل لما تسترد عافيتك الأول، إنت راجع من حادثة موت وغير كده فاقد ذاكرتك، على الاقل لما تبقى كويس وتتشافى من اصاباتك دي.
كاد أن يعترض، فقال الشيخ: أنا قولت اللي عندي، إنت مريض ولسه قايم من تعب، لما تبقى كويس تعالى وأنا هاجي معاك لناس أهل ثقة وأعلم مني في الامور دي، لإن لا أنا ولا غيري مصرح لينا بإقامة الحد في المواضيع دي.
ارتكن على ركبتيه وزحف قبالته، يطالب وعده بصوتٍ منخفض، خشية من أن يستمع له أخيه: توعدني إني لما أتعافى وأجيلك مش هتردني؟
منحه ابتسامة حزينة، وقال: مين أنا عشان اتدخل بينك وبين حدود الله، طالما إنك مصر على قرارك ليك مني وعد، وقت ما أشوفك قدامي بكامل صحتك هدلك على الطريق.
أشرق وجهه بسعادة بعد سماع ما قال، فربت على كتفه وقال يحمسه: يلا قوم صليلك ركعتين واجهز عشان صوتك وحشني أنا والحارة كلها.
أشار له بخفة، ونهض يسرع لحمام المسجد، فابتسم على في راحة، وتيقن بأنه أتى بأخيه للمكان الصحيح، فإتجه للشيخ الذي قابله بابتسامة بشوشة، وقال يطمئنه: متخافش عليه، هيبقى كويس دلوقتي.
جاور جلوسه، وقال ممتنًا: كنت واثق أن حضرتك هتقدر تهديه، كان في حالة صعبة ومقدرتش أحتويه.
هز الشيخ رأسه نافيًا، وقال: بالعكس إنت احتويته لما جبته هنا.
منحه ابتسامة هادئة، واستدار يراقب أخيه وهو يؤدي صلاته في ركنٍ بعيدًا عنهما، فنهض هو الآخر يصلي.
مرت ساعة انتهى فيها عُمران من قضاء صلاة قيامه، ثم نهض يتجه للميكرفون، وبصوته العذب بدأ يردد
«
يا إله العالمين
يا إله العالمين حنيني دائم
والقلب شاك عليل
سال دمعي يا إلهي
ولولا غربتي ما كان دمعي يسيل
غربتي نجوى ونيران شوق
وأسى باك وليل طويل
وما لي رجاء غير أن تسعى إليك السبيل
إذا ضاقت فنجوى دعائي
حسبي الله
حسبي الله ونعم الوكيل
بالله إيماني وفيه رجائي
وإلى علاه ضراعتي وبكائي
يا مؤنسي في وحدتي.
يا منقذي في شدتي
يا سامعا لندائي
فإذا دجا ليلي وطال ظلامه
ناديت يا رب كنت ضيائي
سبحانك جل جلالك يا الله».
انطلق صوته في حارة الشيخ مهران، تعيد الحنين لتلك الايام التي كان يقضيها برفقتهم، توافدت الاعداد للمسجد بفرحةٍ لعودة الغائب والحبيب، وعلى رأسهم آيوب الذي أتى برفقة يونس، وهو لا يصدق أنه يستمع لصوت عُمران، حتى ايثان استيقظ من نومه، يهرول للمسجد بفرحة حينما استمع لصوته.
بمجرد انتهائه من الابتهالات، استدار للخلف فتفاجى بعدد المحيطين به، تتلقفه الأيادي، بضمتهم الحنونة، وتعابيراتهم بسعادة عودته، زرعت السعادة في قلبه.
مضت عدة دقائق، انتهى فيها من ترحابهم، حتى وجد آيوب قبالته يتطلع له بابتسامةٍ واسعة، تذكره عُمران على الفور، فاذا به يبتسم له قائلًا: هتفضل باصصلي كده كتير، هتسلم ولا هتحضن، إنجز قبل ما نقيم الصلاة!
ضحك آيوب بصوت مسموع، وركض صوبه، يضمه بكل حبٍ، إحتمل عُمران ألم ظهره الخفيف، وضم آيوب بمحبةٍ، زرعت داخله حينما علم من أخيه بأنه ابن الشيخ البار به، وإنه أحد أصدقائه المقربون، شمله آيوب لعشر دقائق يرفض تركه، بينما يخبره بصوتٍ محتقن: وحشني صوتك، وصلاتك بينا يا طاووس.
ربت على ظهره بحنان وقال مازحًا: هتزهق مني، أنا هعكتف هنا معاك كام يوم.
ابتعد برأسه وقال بفرحة: والله ما أزهق منك العمر كله.
اتسعت ابتسامة عُمران فازدادت جاذبيته، بينما يقترب منه يونس يصافحه بوجهه البشوش: نورت المسجد وحارة الشيخ مهران كلها يا بشمهندس.
اجابه في حبور: بنورك.
انسحب يونس وجاور على في محل جلوسه، بينما ظل آيوب ملتصقًا بعُمران كظله، حتى اقتحم إيثان جلستهما، وهو يصيح بسعادة: خواجة.
زوى حاجبيه باستغرابٍ من نطقه لذلك اللقب المتفرد، فلم يترك له إيثان المجال وضمه قائلًا بحب: وحشتني يا خواجة، الجيم من غيرك ما يسواش، بامانة لما ترجع مش هناغشك ولا هغلس عليك أبدًا.
استدار تجاه آيوب فقال يعرفه: ده إيثان صاحب ابن عمي وصاحبك بردو، عملتوا مع بعض جيم هنا في الحارة.
أسبل بانبهار: جيم؟
أكد له إيثان بسعادة: صلوا وهأخدك اوديك على طول.
رفع آحد حاجبيه بشكلٍ مضحك: نصلي! طب وإنت نظامك أيه؟
رفع يده أمام وجهه وهو يجيبه: أنا مسيحي يا خواجة، فوق كده ونعنش الذاكرة، هما يسيبوك معايا يومين هجددلك الدورة الدموية كلها.
أحاطه بنظرة شاملة، ثم تمتم: ما بلاش أفوق، فوقتي بتبقى فقدان وعي لغيري، شكلي فعلًا واحشك وبالجامد أوي.
ضحك آيوب وهلل: آيوه بقى يا طاووس، إديله.
لوى إيثان شفتيه بتهكمٍ: مفيش فايدة فيك!
قالها وهم بالمغادرة قائلًا: هستناكم بره.
انتهت صلاة الفجر، واجتمع الشباب أمام المسجد، وقف على قبالة أخيه وقال بابتسامته الهادئة: خليك النهاردة مع آيوب، وأنا هكلم جمال ويوسف يقابلوك في شقتك اللي هنا، يمكن لما تفضي اليوم بين أصحابك مود النكد ده يفارقك.
أمسك كفه حينما كاد بفتح باب سيارته وقال: خليك معايا يا علي.
اتسعت ابتسامته وأحاطه بضمة جعلت الشباب يتابعونهما، بضحكات مشاكسة، بينما الوحيد الذي يتفهم حالته النفسية هو علي، الذي ربت عليه وقال يبث له الطمأنينه: أنا معاك دايمًا يا حبيبي، بس إنت محتاج تغير جو وتكون بينهم، خلص قعدتك وهعدي بليل عليك بالعربية.
حرك رأسه باستسلامٍ، وشعور الراحة يغمره بتواجده بهذا المكان الدافئ بين أحياء الطبقة المتوسطة، وخاصة برفقة آيوب وإيثان الذي أثار اهتمامه منذ لقائه الأول.
سحب آيوب كف عُمران وأبعده عن إيثان قائلًا: بينا على أم عزت نفطر هناك أحلى فول وطعمية وبنتجان ونجيب عيش سخن من عند عمي عباس.
وأكد عليه بثقة: أنت بتحب الاجواء دي صدقني.
أمسك إيثان كفه وقال: ام عزت أيه آحنا هنطلع على الجيم نسخن ولا أيه يا خواجة؟
وزع نظراته الحائرة بينهما، ثم قال بحزم: نطلع الجيم نسخن وننزل نأكل بعد كده.
أحاطه إيثان وقال بحماس: بينا يا خواجة.
لم ينجح بازاحة جسده، بينما يطالعه عُمران بنظرة غائمة، وبغلظة قال: شكلك هيبقى وحش من غيره.
سحب إيثان كفه وهتف بحنق: لسانك متغيريش لسه زي ما أنت.
ضحك ساخرًا: حد قالك أنهم استبدلوني في المصنع، أنا زي ما أنا مبتغيريش فبلاش تحط أمال.
جاراله بسخط: أمال أحط أيه؟ اعتماد؟
ضحك عُمران وقال: اعتماد دي الحتة اللي انت سارح معاها ولا إسم ماما؟
سقط آيوب من فرط الضحك، ومال يضمه وهو يصيح: أقسم بالله وحشتني، الحيوان ده كان مستغلني استغلال سييء.
زوى عُمران حاجبيه، وردد بوعيد: بينا على الجيم يا إيثو، شكلك ليك روقة!