قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وخمسة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وخمسة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وخمسة

المُقل في عناقٍ طويل، لم يصل للأذرع بعد، إعتاد لسانه على تعظيمها وندائها بأسمى مواطن عشقه، فنطق بما اشتاق بقوله رغمًا عنه، ولولا تلك النظرة المترددة برماديتاه بعد نطق ما قال لصدقت بأنه قد استعاد ذاكرته.

نظرته بالرغم من أنها تمزج بين الحيرة والذهول من نطقه لتلك الكلمات، الا أنها عكست التيهة التي يخوضها بتلك الحالة، فرأفت به حينما رسمت أجمل ابتسامة سلبته: ده كان ردك اللي اتعودت عليه منك لما بناديك.

جاهد عُمران لرسم ابتسامة صغيرة على ثغره، وقال: لو حباني أقولها بشكل مستمر معنديش مانع لو ده هيسعدك.

اتسعت ابتسامتها الرقيقة، وأخبرته بثقةٍ: هترددها غصب عنك لان لسانك متعود عليها.

استقام برأسه يتطلع لها باستغرابٍ، نتج عنه قوله الساخر: على حسب ما سمعت منهم إن يُقال عليا الطاووس الوقح، بس اللي شايفه عكس ده، هو مين فينا المغرور بالظبط يا حرمي المصون؟

راق لها حديثه، وقد بدأ يشعرها بأنه يتقبلها كزوجة رغم فقدانه كل ذكريتهما معًا: تقدر تقول من العشرة اللي بينا يا حبيبي.

ارتجفت نبضات قلبه تأثرًا بكلمتها العفوية، فصفن بجمال لون عينيها، وتضاعف فضوله حول رؤيته لخصلات شعرها التي مازالت تخفيها خلف إسدال صلاتها، ابتلعت ريقها بارتباكٍ من نظراته، وكأنها تتعرف عليه لمرتها الأولى.

فاذا بها تبتعد عن الاستناد عن ساقه، وتهتف: أكيد كالعادة هتحب تأخد شاور قبل ما تنزل تفطر، هقوم أحضرلك الحمام لحد ما تختار اللبس بنفسك ومتقلقش مش هاجي جنب لبسك ولا هختارلك شيء زي ما عودتني، مش هبدأ علاقتي معاك بمشكلة.

قالتها وحاولت الإتكاء على يدها لتنهض عن الأرضية الرخامية، فاذا به ينتصب بقامته، ويجذبها برفقٍ حتى استقامت قبالته، تتطلع له بشوقٍ لحنانه ورقيه المعتاد معها، حبيبها لم يفقد شيئًا مما إعتاد عليه، ربما خسر ذاكرة التعرف على الأشخاص ولكنه هو ذاته نفس الشخص الذي سقطت ضحية عشقه حتى النخاع.

إنسحبت من زهوة التطلع لعينيه، وإتجهت تشير له على الخزانة، بينما تتجه لحمام الجناح لتحضره له بعطوره ومنظفاته الخاصة مثلما إعتادت، بينما وقف عُمران قبالة الخزانة الضخمة، يتأمل الجزء المخصص له بإعجابٍ وانبهارًا خالص.

أيقن كل اليقين بأنه ذو ذوقًا رفيعًا، وربما هذا ما دفعه لعدم قبول ملابس صابر و موسى، مرر يده على صفوف البذل الآنيقة بشرود، ومن بين الملابس المريحة، إختار بنطال رمادي، وقميصًا أبيض، ثم أتجه يجذب بقية متعلقاته، وتحركاته تتخذ سبيلها من مكانٍ لأخر، وكأنه يحفظها عن ظهر قلب!

وقف عُمران أمام المرآة الضخمه، يرى إنعكاس صورته الحالية، ويشمل صوره المُعلقة على الحوائط، بدى وسيمًا للغاية قبل أن يفقد شعره الطويل، ربما المسألة متعلقة بالوقت لاستعادته، ولكن أكثر، ما يطمح به أن يستعيد ذاكرته أولًا.

لاحظ خروج مايا من الحمام، ترنو إليه وهي تخبره بابتسامتها: الحمام جاهز.

استدار يراقب بإعجابٍ خصلات شعرها المتحررة عن حجابها الذي نزعته عنها، فارتبكت من نظراته التي تشعرها وكأنه رجلًا غريبًا، هدأت من روعها بصعوبةٍ، وأعادت قولها مجددًا: أنا جهزت الحمام يا عُمران، خلص الشاور بتاعك بسرعة عشان على مستنينا تحت وعايزك ضروري.

إكتفى بإشارة هادئة من رأسه، وولج للحمام المنشود، بينما اتجهت هي للفراش، وهي تحرك أصابعها حتى تحصل على بعض الهواء الذي لا يصل لوجهها رغم برودة الأجواء الذي يحدثها مكيف الغرفة، غربته بتعاملها معها يمنحها شعور المراهقة، يعيدها لعذرية مشاعرها الأولى معه!

ظلت بانتظاره وبيدها الهاتف، تخبر على الذي يشدد لها أن تهبط به للاسفل، ولا تعلم ما السبب، أخبرته بأنهما سيكونان بالأسفل بعد ربع ساعة.

بينما بالأسفل، وبالأخص بغرفة المكتب السفلي.

مالت تستند على الطاولةٍ، بينما تجاهد لالتقاط أنفاسها بشكلٍ طبيعي، على يمينها أخيها الذي يحاول أن ينظم مجرى أنفاسها العنيف، وعلى يسارها زوجها الذي يمنع تساقط خصلاتها الناعمة على وجهها الباكي.

كلاهما يبذلان أقصى ما بوسعهما لجعلها تتوقف عن البكاء، فإذا بآدهم يخرج عن صمته حينما إنحنى بقامته، يحاوط بكفه الذي يلامس خصلاتها وجنتها الناعمه: كده يا شمس، بتندميني إني قولتلك الحقيقه، هو ده الوعد اللي ادتهوني؟

فتحت عينيها الياكية تطالعه بدهشةٍ: عايزني أكون متماسكة إزاي بعد اللي قولتهولي يا آدهم، عُمران عايش ده خبر كفيل يبعدني عن كل الذكريات الوحشة اللي عشتها، بس كل ده انهدم في لحظة ما عرفت أنه مش فاكر حاجه عننا، أنا مصدومة ومش قادرة أصدق إنه هيتعامل معانا زي الغريب!

مرر الألم جوفه وهو يرى شقيقته بتلك الحالة، فمنع آدهم من الحديث، وهتف بصرامة: بصيلي يا شمس.

استقام آدهم بقامته الممشقة، ووقف على مسافة منهما يراقبها ويديه موضعه بجيب سرواله، بينما يميل بساقه الاخرى على الحائط، ترك الساحة إلى علي، ومن سواه هو سيتمكن من سحر العقول.

استجابت له، ورفعت عينيها المتورمة إليه، تتطلع له بانكسارٍ، فاذا به يميل مستندًا على ركبتيه، ليكون بنفس طول المقعد الذي تعتليه، ضم وجهها بيديه الدافئة: حبيبتي أنا عارف إنك متعلقة بعُمران، وصعب تتعاملي معاه بطريقة معودكيش تتعاملي بيها معاه، عارف ومقدر وحاسس بيكِ، بس اللي عايزك تفهميه إن كل ده وضع مؤقت، عُمران من أول ما ظهرتله ولحد اللحظة دي بيجتاز كل التحذيرات اللي قالنا عليها الدكتور بشكل مبهر، صدقيني هيرجع وهيرجع أحسن من الأول كمان.

خطف نظرة سريعة للباب حينما استمع لصوت حذاء أنوثي يقترب من الغرفة، فوجد زوجته تقف وبيدها كوب العصير، الذي طلبه منها لشقيقته، وكانت تستمع لحديثه لها ودموع الشفقة والحزن تموج بعينيها، وها هي الآن تستعيد ثباتها، وترنو إليهم قائلة ببسمة رقيقة: العصير المفضل لأجمل شمس هانم بالدنيا.

رفعت زُرقتها إليها، تجاملها بابتسامة لم تصل لعينيها الباكية، بينما يحمل علي الكوب ويقربه من شقيقتها، متسرسلًا بحنان: يلا يا حبيبتي، اشربي ده وخدي نفسك بانتظام عشان تكوني مستعدة.

أبعدت فمها عن الكوب، بينما تتعمق بعيني أخيها: مش هقدر يا علي، أنا خلاص هديت والله، بس خليه ينزل بقى مش قادرة أستنى أكتر من كده، كلم مايا تاني.

أخفض ساقه، ورنا إليها يخبرها بصوته الرجولي العميق: وبعدين بقى يا شمس، ما على قالك إنه شوية ونازل، متنسيش إنه راجع بعد غياب، ومن حقه يقعد مع زوجته شوية.

واستطرد وهو يقترب من فاطمة بمزحٍ: وبعدين بعد حنية وكلام على ده ورافضة لسه العصير، ده أقنعني بيه أنا شخصيًا، ومش هشرب قهوتي وهأخد كوباية من العصير المغري ده.

سحب بالفعل كوب من على الصينية التي تحملها فاطمة، بينما يتبسم لها وعينيه أرضًا عنها: تسلم إيدك يا بشمهندسة فاطمة.

ابتسمت وقالت، وهي تضع ما بيدها على سطح المكتب: بشمهندسه مرة واحدة!

استهانت بما يُقدمه لها، ففاجئها آدهم حينما قال بنبرة فخر: وأشطر بشمهندسة، اللي عملتيه إنتِ وبشمهندس جمال ساعدنا جدًا إننا نرجع حق عُمران، وفعلًا كنتِ مثال لسيدة الأعمال الشاطرة اللي قادرة تدير كيان كامل بدون ما تتهز ولا تخاق من اي تهديدات من الكلاب دول.

اتسعت ابتسامتها فرحة بحديث آدهم المحفز عنها، حتى أنها مالت بوجهها تجاه زوجها الذي انعكس برماديتاه نظرات تنم عن فخره بها، فلم يبخل عنها بظهوره بحديثه حينما مال يقرب رأسها إليه، طابعًا قبلة حنونة أعلى حجابها قبالة شقيقته وزوجها: حبيبة قلبي اللي فخور بيها دايمًا، كنت واثق إنك قدها يا فطيمة.

اكتسى وجهها حمرة قاتمة، وهمست له على استحياءٍ: بتعمل أيه يا علي!

بنفس مستوى صوتها الهامس ردد لها: بوضح احترامي وعشقي ليكِ قدام الدنيا كلها يا روح قلب علي!

ارتبكت فاطمة ودفعته برفقٍ عنها، ثم قالت بتوترٍ لتبعد الآعين الباسمة عنهما: يلا يا شمس، إشربي العصير قبل ما عُمران ينزل.

أعادتهما لمنبط الحديث الأساسي، فتجرع آدهم من كوبه القليل، ومال يقدم كأسه بالقرب من شفتي زوجته: شمس هانم العاقلة، هتسمع كلامي وهتنفذه بالحرف، وحالًا هتشوف يا دكتور.

تمتم علي وهو يميل على سطح المكتب: أتمنى.

أبعدت شمس وجهها وهي تترجاه بتقززٍ انتباهها: عشان خاطري يا آدهم مش عايزاه، إبعده عني.

قالت كلمتها الاخيرة وهرولت لحمام المكتب، تطلق ما احتبس داخل فمها وكف يدها، بينما هرعت فاطمة من خلفها للداخل، تزيح خصلاتها وتساندها دون أي تقزز منها.

بينما على باب الحمام يقف آدهم مفزوعًا، ولجواره علي الذي تمتم بابتسامة جذابة: مبروك يا حضرة الظابط.

أبصره آدهم بدهشةٍ كبيرة من مباركته التي تأتي في وقتٍ غير وقته، ولكنه قال: مبروك علينا كلنا رجوع الطاووس الوقح يا علي؟

اتسعت ابتسامة علي، وهز رأسه باستنكارٍ: ذكاء ظباط المخابرات بقى محدود ولا أيه؟

قالها وإتجه لمقعد مكتبه، بينما يخطف آدهم نظراته القلقة تجاه زوجته التي تساعدها فاطمة بالاغتسال، فما أن اطمئن على استقرار حالتها، حتى لحق به يردد: بابا على إنت إتعديت من عُمران وبقيت تتكلم بالألغاز، طول عمرك واضح وصريح، جرالك أيه؟

ضحك بصوته الرجولي، وقال بغموضٍ لذلك الذي توقف عقله فجأة عن استيعاب أي شيئًا يخص حياته الزوجية: طيب دي أشرحهالك إزاي يعني؟ عمومًا تقدر تقول أمنية عُمران اتحققت، وشكلك كده على وشك إنك تكون أب يا سيادة المقدم.

اتسعت مُقلتي آدهم بصدمةٍ، وكأنه لم يكن خبرًا متوقعًا، ومنتظرًا لأي اثنان متزوجان حديثًا، ابتلع ريقه بارتباكٍ، وإتجه يجلس جواره على الأريكة، وكلاهما أعينيهما على باب الحمام، الذي خرجت منه شمس للتو، تتساءل وهي تزيح المنشفة عن وجهها باستغرابٍ: في أيه مالكم؟

أتجه للخزانة، يستعد لارتداء ما انتقاه، بعدما خرج يلف المنشفة حول جسده الصلب، فإذا به يتوقف عما يفعله على صوت شهقة خافتة، ونداء مفزوع: عُمران!

استدار تجاه الفراش، فاذا بزوجته تركض تجاهه متناسية حملها تمامًا، انتابه فضولًا وقلقًا لمعرفة ما الذي أصابها فجأة، فاذا بها تقف قبالته وهي تتفحص صدره في نظرات اشتقت كل معاني الألم، وكفها يحجب بكائها الصاخب، بينما تهمس بلوعةٍ، وهي تراقب علامات اصابة كتفه وجانبه: يا عُمري أنا!

تعالى صوت بكائها، وراحت تتحسس جروحه التي مازالت لم تندمل بشكلٍ نهائيًا، قائلة بانهيارٍ أوجعه من شدة العشق البادية بعينيها المتألمة: إزاي عدت بده كله ومفيش حد فينا كان جانبك.

قالتها ومازال كفها موضوع فوق صدره، محل اصابته بالتحديد: بس أنا كنت حاسة بيك وبوجعك والله، كنت حاسة إنك مش بخير، حسيت بضيق نفسك وبألمك ده، يا ريتني كنت أنا بدالك يا حبيبي، يا ريت كان بإيدي أمنعك من السفر في اليوم ده.

أقتحمته مشاعر قوية عما كان يشعر به تجاهها، فاذا به يضمها إليه بقوةٍ أطرقت عظامها، يؤكد لها بنبرة مبحوحة من فرط العاطفة التي سيطرت عليه فجأة: أنا كويس يا مايا، كل ده عدى وانتهى، خلينا في النهاردة، في اللحظة دي بالذات، أنا رجعت وقدام عنيكي، ومش هبعد عنكم تاني.

وأضاف وهو يدفن نفسه بين خصلات شعرها الناعمة: أنا ما صدقت لقيت نفسي، فمستحيل هبعد تاني يا حبيبي.

انتفض جسده من كثرة إرتعاش جسدها لكبتها البكاء قدر المستطاع، فرفع وجهها إليه، وهو يخبره بصوته الرخيم: لو مبتطلتيش عياط هرجع مكان ما كنت وهنسى كل اللي قولته من شوية يا بيبي!

قوست حاجبيها بدهشةٍ، وبابتسامة بلهاء قالت: بيبي!

راقب ملامحها بحيرةٍ، وقال يشاكسها: لو بتضايقك الكلمة دي أغيرها؟ أنا مش فاكر أي حاجة عن اللي بتحبيه واللي بتكرهيه، فخلينا واضحين مع بعض كده من البداية.

ضحكت رغمًا عنها وقد أنعشته ضحكاتها هذا: لا مش بكرهها، أي حاجه منك بحبها، أنا بس مستغربة إن كلامك هو هو متغيريش، كل حاجة فيك زي ما هي.

ضيق عينيه الساحرة بتهكمٍ: وده حاجة وحشة ولا حلوة؟

غرقت في سحر عينيه ومالت برأسها تتقن شرودها بجنته: كل حاجة منك حلوة، خليك بس جنبي ومعايا، وأنا مش عايزة بعدها أي حاجة من الدنيا غيرك إنت وابني.

تلقائيًا انخفضت نظراته لبطنها المنتفخ، وهتف بحماسٍ: هو ولد؟

هزت رأسها تؤكد له بابتسامة حزينة: أيوه، وأنت حابب تسميه ع.

علي.
قالها ببسمة جذابة وعينيه لا تفارقان بطنها المنتفخ، أكدت له بإيمائتها ومازالت تراقب رد فعله بفرحةٍ، بدى مرتبكًا مما يود فعله، ولكن ثمة شعورًا داخله يحمسه بملامسة ابنه المزعوم، عساه اشتاق له هو الآخر!

دفعته مايا قائلة في لطفٍ أحبه منها: عُمران عمره ما إتردد في أي حاجة حابب يعملها.

أحاطت بطنها بيده، فاذا به يشعر بنبضاتٍ هادئة أسفل يده، قشعر جسده بذبذبة أحبها، بينما يختبر شعورًا غامضًا نابع من داخله، تابعته مايا بأعين غائرة بالدموع، ثم قالت لتخفف عنه حزنه الشديد الذي ظهر في رماديتاه فجأة: أوعى تستغل فقدانك للذاكرة وتخل باتفاقنا، لا أنا فايقالك وواعية لكل فعل هتعمله.

نجحت بكسب اهتمامه وفضوله: اتفاق أيه؟

اجابته وهي تتجه لتلتقط إسدال الصلاة ترتديه: إتفاقنا كان واضح يا بشمهندس، إن دكتور على المحترم هو اللي هيربي ابننا، انت لا تصلح لتربية طفل صغير يا طاووس، لانك ببساطة هتعلمه الوقاحة وهو لسه ابن شهرين!

ضحك بصوته كله، ورد عليها باستنكارٍ مضحك: أنا ماليش دعوة بعمران القديم، أنا بنسختي الحالية، وأعتقد من احترامي الباين معاكِ من ساعة دخولي بيبنلك أد أيه إني محترم وماليش أي علاقة بالطاووس الوقح بتاعك ده!

لحقت به وهو يستكمل ارتداء ملابسه، فاستند على السراحة وقالت بعنفوان: لو غلطت في حبيبي تاني هتشوف رد فعل ميعجبكش!

ترك زجاجة البرفيوم من يده واستدار يتمعن بها بذهولٍ مضحك، حينما اختبر غيرة مهلكة: حبيبك مين! لسانك بدل ما أقصهولك يا بيبي!

ضحكت بملء ما فيها، وقالت باستمتاعٍ: إنت غيران من نفسك يا عُمران؟

ربع يديه أمام صدره العضلي، وقال يخبرها: محبكيش تفرقي بينا وكأننا شخصين مختلفين، ولنفترض إن شخصيتي اتغيرت، فإنتِ مجبورة تحبيني في كل حالاتي والا غضبي هيطولك يا عسلية!

اقتربت منه وقالت بصدقٍ: بس مفيش حاجة إتغيرت فيك، إنت زي ما أنت ولو حتى حصل وإتغيرت أنا قابلة بيك بكل حالاتك.

ارتخى ذراعيه وغرق بنظراتها التي تغوي أعتى الرجال، فإذا به يرنو إليها ولكنها ابتعدت للخلف بارتباكٍ يهاجمها، بعدما قرأت ما بعينيه بوضوحٍ، لقد باتت تفهم كل شاردة وواردة تصدر عنه.

تعجب من رد فعله المعاكس لحديثها، ولكنها أسرعت بالتبرير: على مستني تحت، يلا ننزل.

علي ذكرها لأخيه، شعر بأنه يفتقده كثيرًا رغم أنه لم يتركه الا ساعات معدودة، حرك رأسه لها بخفة، فسبقت خطاه وأشارت له بأن يتبعها.

شحذ عُمران قوته، واستعد للمواجهة التالية، لحق بزوجته للأسفل، فإذا بأخيه يخرج من غرفة المكتب ومن خلفه آدهم، ومن خلفهما فتاتين، إحداهما كانت تراقبه بشوقٍ، ولهفة سبقتها بركضها السريع إليه، وبدون أي مقدمات ارتمت تعانق رقبته بكلتا ذراعيها، بينما تهتف ببكاء: عُمران، أنا مش مصدقة بجد أني شايفاك، وحشتني أوي يا حبيبي، الحمد لله إن ربنا ردك لينا.

تيقن بأن من تضمه بتلك الألفة والمحبة، ما هي الا شقيقته التي أخبره عنها علي، مال يستمع لقلبه، فإذا به يستكين بقربها، بنفس المشاعر التي شعر بها حينما ضمه أخيه، أحاطها عُمران ورفع رقبته التي يحنيها ليكون على مستوى طولها، فإذا به يرفع جسدها عن الأرض، ومازالت تمشط رقبته، ضمها دون أن يصدر عنه أي حرف، ينتابه الحزن الشديد كونه تسبب في نخر وجعًا طائلًا لجميع أفراد عائلته بلا استثناء.

مال بها للأرض حينما وجدها تبتعد لتتشبع من وجهه، فراقبته وهو يتطلع لعينيها الزرقاء ببسمةٍ هادئة، فاذا بها تقول بضحكة تنافر سيل دموعها: أنا كده اتاكدت أنك فاقد الذاكرة فعلًا، لأنك مستحيل تقصر شعرك بالشكل ده أبدًا.

واضافت بضحكة مسموعه: بس شكلك حلو أوي كده، طول عمرك وسيم ومميز يا حبيبي.

ابتسم عُمران وخرج بصوته الهادئ عنه: وإنتِ كمان ملامحك مألوفة وهادية يا شمس.

وتساءل باهتمامٍ فشل بالتخلى عنه: بس ليه مش طالعه شبهنا؟

قصد بالشكل عينيها الزرقاء وملامحها النابعة عن ملامح فريدة، فاذا بأخيه يرنو منهما ويحاوطهما قائلًا: لأن شمس طالعه شبه فريدة هانم يا عُمران، أنا وإنت شبه بابا الله يرحمه.

تعلق الأسم بعقله، وبات يردد بصوتٍ غير مسموع: فريدة هانم!

اندفع إليه ذكريات تخص تلك السيدة التي زرعت فيه من قيم الطبقة الآرستقراطية ما تمكنت، فشعر بوحشة تضرب قلبه حتى أضرمت نيران شوقه لها.

كان مازال يقبض على كتف شمس، فاذا به يفق على صوت أنوثي رقيق والذي لم تكن سوى فاطمة تخبره مبتسمًا: نورت الدنيا وسط عيلتك كلها يا عُمران.

انتقل ببصره لها، يتطلع لها بحيرةٍ، لقد ذكر له على بأنه لا يمتلك الا شقيقة واحدة، إذًا فمن تلك الفتاة، ثمة شعورًا يمنعه من التطلع حتى لها، بل وبحجب ذراعيه عنها، كأن هناك ما يخبره بأنها محرمة عليه حتى من نظرة بريئة، ومن بين إرتباكه اتجه ببصره تجاه أخيه، يطالبه بالمساعدة بباطن نظرته العميقة، تفهمها على وأشار له بابتسامته الجذابة: دي فاطمة مراتي، ودراعك اللمين في الشغل، سيادتك مجندها لصالحك من أول ما انا اتجوزتها، حاولت أخدها عندي في المركز بس هي مش مخلصة غير لاخوها البشمهندس عُمران سالم الغرباوي!

ارتسمت منه ابتسامة وقورة، بث فيها كل الاحترام لها، بينما تقابله هي بفرحةٍ، تبثها بقولها: وهفضل مخلصة للاخ الوحيد اللي حيلتي، يا رب إنت بس تبطل نفسانه يا دكتور علي.

انقلبت الاجواء للضحك والمرح بينهم، حتى اجتمعوا جميعًا على طاولة طعام الافطار، فاذا به ينتقل يتنجنح بحرجٍ حينما لاحظ أن نظرات الجميع مسلطة عليه باهتمام وسعادة، فحرر نبرته هاتفًا: هو محدش مهتم بالأكل غيري ليه؟

اجابته مايا ببسمة رقيقة: يمكن عشان قعدتك بينا دلوقتي شغلتنا عن كل حاجة.

ترك على فنجان قهوته وقال برزانة: عُمران إنت رجوعك لينا رديت الحياة لكل شخص فينا.

واضاف بحذر: مش فاضل غير ماما وأصدقائك، مش عارف هل إنت جاهز لده دلوقتي ولا لأ، بس تجاوبك مع مايا وشمس ومعانا كان مؤشر ممتاز، ولا أيه يا آدهم؟

انتقلت نظرات عُمران تلقائيًا إلى آدهم الذي ابتسم وقال: ده يتوقف عليه هو يا علي، لو جاهز تشوف فريدة هانم نتحرك لقصر الغرباوي على طول.

ترك السكين عن يده وتساءل باستغراب: هي عايشة لوحدها بعيد عنك يا علي؟

هز رأسه بخفة، وأوضح له: لا يا حبيبي كلنا عايشين مع بعض وعمرنا ما افترقنا، احنا كنا عايشين في لندن مع بعض، لحد ما أنت حبيت تنزل مصر، فبالتالي كلنا نزلنا وراك وقعدنا هنا في الكمبوند بتاع عمنا، لحد ما فريقك يخلص قصر الغرباوي الخاص بتراث اجدادنا، واستلمناه بالفعل، بس كان في نفس يوم الحادثة بتاعتك، عشان كده مايا مقدرتش تقعد فيه من غيرك، وعشان حالتها الصحية كانت سيئة، جبت فطيمة وعشنا هنا بشكل مؤقت.

قرأ حجم الآلآم المتنقل بأوجه الجميع، واندرج داخل فجوة الصمت التي إلتهمت الجميع، إلى أن مزقها عُمران قائلًا: أنا شبعت الحمد لله، وحابب أروح القصر وأشوفها يا علي.

كان آدهم الاسرع بالحديث: احنا خايفين عليك يا عُمران، عايزينك ترتاح على الاقل يومين وبعد كده آ.

قاطعه وهو يجيبه برفقٍ ونبرة صفاء تتخذ طريقها بينهما لمرته الاولى: لا يا آدهم، كلكم اتعذبتوا بما فيه الكفاية، وأكيد هي كمان بتعاني، فلو عليا اتطمن أنا قادر أتعامل.

انصاعوا جميعًا لمطلبه، فصعدت شمس بسيارة زوجها، ولم يقبل على بأن تقود سيارتها بعمران، كأنه يخشى أن يفترق عنه مجددًا، فجعلها تجلس جوار زوجته بالخلف وجعل أخيه يجلس جواره بالامام، تيقن عُمران بأن على يخشى عليه من القيادة مجددًا، فانخضع له دون حتى السؤال عن سبب خوفه.

وبينما هو يجلس جواره، فاذا به يجذب من سيارته هاتف عُمران، ثم قدمه له قائلًا: ده موبيلك يا عُمران، كان معايا من وقت الحادثة، سجلتلك فيه رقم موسى وصابر، عشان عارف انك أكيد هتحب تتواصل معاهم.

ابتسم عُمران بامتنان إليه، والتقط الهاتف يتطلع له بدهشة، كان باهظ الثمن بشكل منحه خلفية بحجم الثراء الذي يصل إليه، أضاء شاشته فاذا به تنير بصورة له هو وعلي، أعز ما يمتلك حقًا، حرر شاشة القفل التي تحتفظ بصورتهما فاذا بصورته رفقة زوجته تطل بداخل الشاشة الرئيسية.

وصلت السيارات لبوابة القصر الرئيسي، فخطفت بتصميمها الاحترافي انتباه عُمران، كان يدقق في كل تفاصيل البناء، ويشعر بأنه يعلم كل شيء متعلق بالتجديدات الحادثة هنا، كان يلتفت ويسجل كل لقطة تجوب به، بينما يتابعه على بتركيزٍ، وابتسامة هادئة، كالأب الذي يراقب تصرفات صغيره لاول مرة.

دخلوا جميعًا للقصر الداخلي، ومازالت أعين عُمران تنتقل من مكانٍ إلى أخر، والجميع يجتمعون من حوله، فاذا بصوتًا رجوليًا يقتحم محل تجمعهم: أيه الزيارة الجميلة دي، وأنا اللي كنت فاكر إنك نسيتنا يا دكتور علي!

قالها أحمد الذي ظهر أعلى الدرج، واستكمل طريقه لاسفل متجاهلًا الجميع، عينيه الغاضبة لا تفارق وجه علي، حتى أنه فشل أن يلاحظ وجود أحدٌ سواه: إنت عارف أنا كلمتك كام مرة، طيب عارف حالة فريدة ساءت إزاي؟ قولي المفروض أجيب مين يعالجها غيرك يا دكتور؟ خلاص ما صدقت تمشي من القصر ومبقاش فارقلك حد.

وتابع وهو يستدير تجاه آدهم يشهده: يرضيك كده يا سيادة المقدم، بدل ما يكون جنبها ويعوضها عن فقدان آآ...

انقطع الحديث على لسانه فور أن تأمل من يقف جوار مايا و شمس، توسعت مُقلتيه في عدم استيعاب، بينما يعود ببصره تجاه على تارة وآدهم تارة آخرى، يود أن يتأكد بأنه لا يتوهم.

كلاهما منحاه ابتسامة تبث له الطمأنينة، ولكنه لم يكن بحاجة الا ليمسه، فاجتازهم جميعًا ودنى منه يرفع كفه، يقربه من جسده ليتأكد من أنه يقف بالفعل قبالته، انصهر تحجر عينيه حينما انهمرت دمعة من عينيه، بينما يستدير لعلي قائلًا: إزاي؟

وخز قلبه حزنًا عليه، فاقترب يمسح على ظهره وقال بحنان: عُمران عايش يا عمي، هو فاقد الذاكرة بسبب إصابته بس الحمد لله زي ما أنت شايف واقف على رجليه وبخير.

سقطت دموعه وهو يعود ليتطلع لعمران الذي يُجاهد لتذكر أي شيء يخص عمه، ولكنه لم يجد شيء يتذكره به، فاذا بأحمد يقربه من صدره، يحتويه داخل أحضانه، فلمس فيه حنان الأب المفقود، بينما الاخر يخبره بحنان ويشدد من ضمته بجنون: المهم إنه بخير، أخوك بخير يا علي!

وأبعده ليتطلع في رماديتاه بنظرة امتلأ فيها الحنان حينما وجده مشوش للغاية: ولا يهمك من أي حاجه يا حبيبي، كلنا جنبك ومعاك، أنا وعلى ومايا وشمس وفريدة كلنا جنبك يا عُمران، بكره هتبقى أحسن من الاول وهترجع تشاكس فينا من تاني.

وأضاف وهو يضاحكه بينما دموعه تتساقط دون توقف: ويا عم أنا جاهز أروح معاك لمحكمة الأسرة اربع مرات في الشهر لأجل عيوونك.

واستدار لادهم يخبره: مش انت جاهز تفضي نفسك يا حضرة الظابط ونطلع معاه نحققله احلامه هناك.

ضحك آدهم حتى أحمر وجهه وقال: عنينا للبشمهندس، نسيب فريدة هانم وشمس يريحوا هنا ونروح نفسحه هناك ونرجع بيه تاني.

ضحك على وأشار يحذرهما: خدوا بالكم إنه مش هينسى كلامكم ده، ولو الذاكرة رجعتله وفهم اللي بيتقال ده مش هيسيبكم فعلا الا لما تتجمعوا كلكم هناك في المحكمة، وأنا للاسف مش هعرف أخلصكم انتوا الاتنين، ما عليا الا اني هعالجكم نفسيًا بعد كسرة الطاووس ليكم.

وبالرغم مما فعلوه جميعًا لجعله يتحدث الا أنه كان مقبوضًا من المكان بشكلًا غريبًا، وكأنه لم يستمع لهم من الاساس، وجل تفكيره بلقاء والدته.

ارتاب على من صمته المطول، فاقترب منه يحاوط كتفه ويهمس له بقلق: مالك يا عُمران، إنت كويس؟

هز رأسه وردد بخفوتٍ: خدني ليها، عايز أشوفها.

اقترب أحمد منه، وقال وهو يشير له على المصعد: تعالى يا حبيبي، أنا طالع معاك، ولا إنت مش عايز الا علي.

قبض عُمران على كف علي وردد باصرارٍ غريب جعل القلق يساور الجميع: تعالى يا علي.

انضم لهما على للمصعد على الفور، وبقى آدهم برفقة الفتيات توقف المصعد بالطابق المخصص لفريدة هانم، خرجوا معًا للجناح الذي يغمره الظلام وكأن لم يسكنه أحدٌ.

اندهش على حينما وجد فريدة تتمدد على الفراش لا حول لها ولا قوة، لقد انشغل بالبحث عن أخيه وتناسى أمر والدته، اشتد عليها التعب لدرجة جعلتها لا تترك الفراش.

ترك أخيه على باب الجناح الضخم، وهرع راكضًا للفراش، يناديها بفزعٍ: فريدة هانم!

فتحت عينيها ببطء وهي تراقب وجه على القريب منها، جازفت برسم ابتسامة باهته على وجهها المنطفئ بينما يتحرر صوتها المبحوح: علي!

وأشارت بيديه لها ليرفعها إليه، فانزوت بين أحضانه تشم رائحته وتحبسها داخله قدر المستطاع: أنت كنت فين كل ده يا علي، عايز تحرمني منك زي ما عُمران حرمني منه؟

أدمعت اعين عُمران وجعًا، وقهرًا، إن تذكر إسم علي، فإنه يتذكر الآن بعض الذكريات التي جمعته بوالدته الحسناء، ابتسم من محله من فرط المشاهد التي جمعته بها، بينما شيئًا يحركه صوبها.

ومضت تخبره بانهيارٍ بينما تميل على صدره ويضمها هو بحنان: أنا مقسومة نصين لا عارقة أعيش من غيره ولا قادرة أدعي على نفسي بالموت عشان البيبي اللي في بطني، مالوش ذنب في كل ده، أنا مش قادرة اتحمل الوجع ده يا علي، خليك جنبي وحاول تعالجني، أنا تعبانه ومخنوقة أوي.

أزاح على دموعها وقد امتزج وجهه بدموعه تأثرًا بحالتها التي يراها بها لمرتها الاولى: ألف بعد الشر عليكِ يا حبيبتي، إنتِ فعلًا محتاجة لعلاج نفسي، عشان كده جبتلك أكتر حاجة ممكن تهديكي وتساعدك.

ردت ومازالت تندث بأحضانه وظهره محاصر لأحمد الباكي ولعمران الذي كلما اقترب للفراش كلما تدفقت ذكريات طفولته معها رويدًا رويدًا، حتى استمع لها تجيب أخيه: مفيش حاجه ممكن تهديني غير عُمران، وحشني أوي، وحشني صوته، أنا كل يوم بقوم أدور عليه بليل على أمل إني هلاقيه بيقيم الليل زي ما كان بيعمل، أنا كنت بحب أصلي معاه عشان أسمع صوته، انا عايزاه يرقيني زي ما كان بيعمل كل ما كنت بكون مخنوقة وضعيفة، هو كان بيقويني يا علي.

وأضافت وهي ترفع رأسها إليه، فوجدته ينهار باكيًا عليها وخاصة حينما قالت له: أنا كنت بتسند عليه وعليك، اتكسرت بفراقه فبالله ما تبعد عني انت كمان.

قالتها وانحنت على الفراش، تتمدد عليه واضعة رأسها على قدم علي، وتلف ذراعه من حولها، تحرر صوت بكاء أحمد، وهو يراقب بفضول وحماس رد فعلها حينما ترى عُمران الذي صعد من خلفها للفراش، زحف إليهما وعينيه تورمت من فرط البكاء، جلس جوارها وهي تغلق عينيها على ساق على الذي يتطلع له برجاءٍ أن يتعامل معها في حذرٍ، فلم يسبق له أن رأها بتلك الحالة.

قرب عُمران يده إلى جبينه وأخذ يردد الآيات القصيرة بما اعتادت أذنيها سماعه من قبل، لينتهي بقوله: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيكِ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيكِ.

أفرجت عن جفنيها بهدوءًا صادمًا، حتى تقابلت بوجه على المبتسم لها، تهاوت دموعها وهي تنظر له بصمت، بينما ينخفض بصرها لكلتا ذراعيه! ولفمه المعقود، ومازال الصوت الذي يضرب ساحتها يتكرر بآياته.

مالت جانبًا تجاه المحل الذي كان يقف فيه أحمد، ظنًا من أنه قد تحرك من محله لها، ولكنه مازال يقف محله ونفس الابتسامة الباسمة مرسومة على شفتيه.

تحرك بؤبؤ عينيها في صدمة، ورائحته قد تشربتها أنفها بالكامل، مالت على الفراش بظهرها بعدما كانت تنام بجانبها على ساق علي، ووجهها مدفون داخل صدره.

تطلعت لسقف الغرفة لبرهةٍ، ومازالت تشعر بالكف الدافئ مسنود على وجهها، كممت شفتيها تكبت صراخها بينما يسترسل عُمران قراءته للآيات، مالت بعينيها جانبًا والخوف يكاد يقتلها، فإذا به يجلس جوارها، تخشبت محلها لوهلةٍ، استندت على جذعيها وجلست قبالته بصدمة ضربتها كالرعد، بينما تميل تجاه على لتتأكد من أن بصرها لا يخونها، أو لربما حالتها النفسية ساءت لدرجة جعلتها تتهيئ وجوده، فاذا بعُمران يقطع حيرتها حينما قال بابتسامة هادئة: كنت عايز أشوف غلاوتي عندك يا فيري وشوفتها خلاص، ولو على صلاة القيام فخفي بسرعه وأنا هعوض معاكِ عن كل الصلاة اللي فاتتنا مع بعض.

توسعت حدقتيها في صدمة، بينما لسانها يجاهد لنطق: عُمران!

زحفت إليه في صدمة، تتطلع له لوقتٍ لا تعلمه، حتى أحاطت وجهه بيديها لتحطم أي قاعدة شك داخلها، مررت يدها على وجهه، صدره، ذراعه، هو بالفعل قبالتها، واذا فجأة تقبل وجهه وهي تبكي هاتفة في وجعٍ: ابني!

فشل عُمران بالسيطرة على بكائه، حتى أن قواه خارت لما تفعله، فمال للخلف وهي مازالت تضم وجهه وتتطلع له بصدمة، بينما تستدير الى على وزوجها تخبرهما بخوف: انا بحلم يا أحمد؟ على أنا اتجننت رد عليا وقولي إنه هنا قدامي!

وقبل أن يجيبها كانت تعود ببصرها إلى عُمران وتهتف بابتسامة واسعة: لا مبحلمش ولا اتجننت، عُمران هنا قدامي، ده ابني!

قالتها وضمته إليها تبكي بانهيار، أحاطها عُمران وقال ببكاءٍ: أنا هو صدقيني، أنا كنت غريب وتايه ودلوقتي لقيت نفسي.

مالت على صدره تبكي دون توقف، بينما يحاول هو أن يهدأها، ولكنه فشل في ذلك، بل عادت تتمعن به ثم تقبل وجنتيه وجبينه، ثم تضمه، ظلت هكذا وقد اعتصرت دموعهم جميعًا، حتى استسلمت للنوم على كتف عُمران، الذي ربت عليها وكأنه يضم ابنته! وخاصة أنها فقدت الكثير من الوزن بشكلٍ ملحوظ.

تمدد بها عُمران لحافة الفراش حيث استند بظهره للخلف وهي باحضانه، بينما طرح على عليها الغطاء، وظل قبالتهما، تركهم أحمد وخرج من الجناح، وبقوا معًا جوارها.

مر الوقت وعمران شاردًا في كل لقاء جمعه بعائلته، وإذا به يميل تجاه على وسأله: أيه اللي ممكن يساعدني في رجوع الذاكرة يا علي؟

طالعه من فوق كتفه الايمن ثم عاد يتطلع أمامه بحزن: وجودك بين اشخاص مألوفين أكتر، حاجه هتفيدك.

وأضاف وهو يشير له بترك فريدة ترتاح بفراشها، ثم قال له: تعالى ننزل، آدهم تحت مستنينا عشان هنروح للدكتور وبعد كده في مشوار مهم أخير لازم تعمله.

تطلع لفريدة المتعلقة به، وقال بقلق: أنا مش عايز أسيبها يا علي.

منحه ابتسامة جذابة ومال يساعده في وضعها بالفراش، قائلًا: مش هنتأخر أوعدك.

نهض من جوارها ومازالت عينيه متعلقة بها بحنان. راقبه على بابتسامة حنونة، ومال يداثرها بالغطاء ثم اتبع أخيه إلى الأسفل، ومن ثم إلى الخارج، حيث كان آدهم بانتظارهما بالسيارة.

فُتحت شقة عُمران القابعة بحارة الشيخ مهران، وخاصة بعمارة إيثان، اجتمع فيها الشباب بأكملهم وقد ترك يونس باب الشقة مفتوحًا وقد كان أخر من حضر بينهم.

جلسوا جميعًا متفرقون على الأرائك بصمت، بينما يتراقص الحزن بين المُقل، وجودهم بتلك الشقة تحيي ذكريات عُمران داخلهم.

وكأنهم يجلسون في ميتم لقضاء واجب العزاء، فهذا جمال يميل على ذراع الاريكة يحتبس دموعه، بينما يميل يوسف للحائط ولجواره سيف يتطلع أرضًا بحزن.

بينما يجلس آيوب على المقعد البلاستيكي جوار إيثان، وعلى الاريكة المعزولة جلس يونس مهمومًا.

قطع إيثان الصمت المخيم على الوجوه حينما تساءل: طيب هو الدكتور على مقالكش عايزينا ليه يا دكتور يوسف؟

رد عليه يوسف بتجهم: لا مقالش يا إيثان، كل اللي وصلني منه رسالة زيكم بالظبط.

تدفقت دمعة على خد آيوب، وقال دون أن يتطلع لهم: يمكن وصل لحاجة تخص عُمران.

سأله سيف باستغراب: حاجة زي ايه؟

رد آيوب بصوت مرتجف: ممكن يكونوا لاقوه.

ازداد الجميع ريبة من أن يكون حديث آيوب صحيحًا، ولكن ما يطاردهم هو العثور على جثمان عُمران المفقود، فاذا بيونس يتنحنح بخفوت: استهدوا بالله يا جماعة وبلاش نتشائم، يمكن الموضوع له علاقة بالمشاريع اللي كان عُمران عايز يعملها.

تخلى جمال عن صوته، وقال ببحة صوته المنقطع: كنت هعرف يا يونس، أنا اللي ماسك المشاريع أصلًا، على مالهوش علاقة بالموضوع ده ولا بيفهم فيه أصلًا.

زفر إيثان بقلق ملموس: طيب أيه؟ هنضرب اخماس في اسداس كده.

قال سيف وهو يتطلع لايوب: طيب ما ترن على آدهم يا آيوب، لو في حاجة هيعرفك أكيد.

رشح يوسف قوله: إيثان بيتكلم صح، كلم اخوك يا آيوب.

احتقنت معالم سيف وتمتم بغيظ: متقولش أخوك دي، ما أنا قولتله كلم آدهم قدامك ولا لازم يعني!

اتجهت نظرات الدهشة من الجميع إليه، وكأنه وقته هذا، تنحنح في حرجٍ وقال يخفي تفاهته: انجز يا آيوب وكلمه، الموضوع يقلق وميتسكتش عليه.

أحاطه بنظرة ساخرة، ثم استل هاتفه وحرر زر الاتصال على أخيه، فاذا بصوت الهاتف يقبع على باب الشقة المفتوح على مصرعيه.

اتجهت الاعين إليه، فوجدوا آدهم قبالتهم، يرسم جديته الحازمة، ويهتف في غموض: أنا كمان جايلي رسالة زيكم تمامًا.

قالها وولج للداخل يجلس جوار يونس، ويرسم انتظاره الممل لحضور علي.

مرت خمسة عشر دقيقة، وظهر على قبالتهم، اتجهت الأعين إليه بفضول، وجميعها سؤالها مشترك ما السر وراء اصراره على تجمعهم بهذا الوقت الغير مناسب للبعض منهم؟

منحهم على ابتسامة جذابة، وخطى للداخل بخطاه الواثق، ليفسح الطريق لمن يتبعه، فدخل خلفه حينما وجده يدخل، ولج للداخل يبحث عن محل جلوس أخيه، واتبعه كالصغير الذي يحبو خلف أبيه، ثم جلس ملتصقًا به، وهنا بدأت رماديتاه تلتقطان الصورة كاملة له، من وجود هؤلاء من حوله، ونظراتهم إليه كمعتاد نظرات عائلته، أفواههم تكاد تصل للارض في صدمة، بينما ينتقلون ببصرهم إلى بعضهم البعض وتعود الابصار مجددًا إليه!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة