قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثلاثة وعشرون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثلاثة وعشرون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وثلاثة وعشرون

اعتكافه بالمسجد كان أفضل ما وقع عليه، اعتزاله الجميع وبقائه بمفرده كان أنسب شيئًا له، تمر به الأيام يومًا تلو الآخر، حتى قضى خمسة أيام يتقرب فيهم إلى الله عز وجل بالصلاة، وقراءة القرآن، والصلاة على الحبيب المختار، خاتم الأنبياء محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام، وتلك كانت أسمى ما قضاه عُمران بفعله، كان يصلي عليه من أعمق نقطة بقلبه، وهو يتمنى بصلاته أن تصل للصادق الآمين تصل له بخشوعٍ تام.

جسده كان يرتعش حينما علم بأن الله عز وجل، لا يجعل من ثواب الصلاة على الحبيب بمحضر كتاب الحساب لسد دين العبد من الذنوب الذي يقترفها، بل يجعلها كما هي، ويكافئ عليها، بل والأروع من ذلك أن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام يجيب العبد حينما يصلي ويرد سلامه، فلقد استمع باليوم الأول من اعتكافه من الشيخ الذي خطب فيهم أن الصلاة على الحبيب من أسهل وأرقى العبادات، وسهولتها تعود لعدم حاجتك للوضوء لتفعلها، بل يردد لسانك قول كلمات بسيطة، فتبلغ الحبيب صلواتك وسلامك إليه، لذا لم يتوقف لسانه عن الصلاة الابراهيمية، وهو يتمنى من أعماقه أن يتحقق ما قاله الشيخ حينما قال أن من أراد رؤية رسول الله برؤياه فليكثر بالصلاة عليه، وبالرغم من قيامه لليل وإلتزامه بالصلوات طوال تلك الاشهر الا أنه لم يرزق مرة برؤيته!

وها هو اليوم السادس يمر عليه، ومازال يعتزل الحديث عن الجميع، حتى عن مجموعة الشباب الذي يعتكف برفقتهم.

بالرغم من اعتكاف كلا منهم بركنٍ منفصل، الا أنهم كانوا يخصصون كل يومٍ ساعة أو ساعتين للحديث المتبادل بينهم، وأحيانًا حينما يحضر للمسجد أحد المشايخ، كانوا يلتفون بدائرة يقرأون القرآن الكريم وينشدون الابتهالات في حلقة جماعية، لم يكن بها عُمران، كان يستغل كل دقيقة بالاختلاء بنفسه مع الله عز وجل، فكان الشاب الغامض الذي أثار فضولهم جميعًا بسيارته وملابسه اللاتي عبرت عن ثرائه الباهظ، وبالرغم من اعتكافه الا أنه مازال وسيمًا يحتفظ على تناسق ملابسه وتهذيب لحيته النابتة، ونثر البرفيوم الذي كانت تفوح رائحته وتسبقه قبل اقترابه لحضور الخطب الجماعية.

أثار الفضول بشكلٍ مثير، حتى أن الشيوخ سألوا الشباب المعتكفون بالمسجد عن أمره، وكانوا يجيبون بعدم معرفتهم به، بل كان يحضر الخطبة القصيرة التي يخطبها الشيوخ وفور انتهائهم يتخذ من بقعته معزلًا مرةٍ آخرى.

وها هو يغفو على سجادة الصلاة، والقرآن موضوع على صدره بعدما غلبه النوم، فاذا به ينتفض مفزوعًا، وعينيه تبرقان في دهشةٍ انعكست برجفة جسده، تمسك بالمصحف بين يديه، وزحف حتى استند على الحائط، يجذب زجاجة المياه، تجرعها عُمران مرة واحدة، وعاد في محاولاته لتنظيم أنفاسه اللاهثة، وعينيه تمشطان المسجد في رهبةٍ.

يُعاد المشهد من أمامه مجددًا، ودموعه تنهمر دون توقف على وجهه، يختلي بالظلمة، وعقله مازال غير واعيًا لما رآه للتو.
الدقائق مرت عليه حتى وصل الشيخ للمسجد يرفع آذان الفجر، فنهض عُمران ووقف بأول صف جوار الشباب، وحينما سجد عانقت دموعه سجادته، ولسانه لا يتوقف عن شكر الله، حتى انتهى من صلاته ودموعه رافقته منذ سجدته الأولى إلى النهاية.

اجتمع الشباب حول الشيخ الذي بدأ يستعد للتلاوة الجماعية فيما بينهم، وبينما يحاوطون على بعضهم لصنع دائرة، تفاجئوا جميعًا بعُمران يجالسهم للمرة الاولى، حتى أن أحد الشباب قال مندهشًا: أكيد في حاجة غلط، أخيرًا هتشاركنا القعدة!
تطلع له عُمران بتيهة، وعاد ببصره صوب الأرض، فابتسم الشيخ أحمد وقال: يا ألف مرحب بيك، أنا مكنتش حابب أقاطعك في عزلتك وسيبتك زي ما تحب، بس حقيقي مبسوط بمشاركتك معانا.

إكتفى عُمران بمنحه ابتسامة هادئة، وجلس ينصت لهم ولترتيلهم للقرآن الكريم، حتى جاء دوره فامتنع عن القراءة، ظن البعض أنه لم يحفظ الآيات، فمنحه شابًا جواره مصحفًا مفتوحًا على الآية التي ينبغي عليه ترتيلها، ولكنه ضم كفه على صدره باحترامٍ، فسحب الشاب بصره للشيخ الذي أشار له بأن يتركه مثلما يريد، وانتقل الدور لمن يجلس جواره، والجميع يتفهم عدم رغبته بالمشاركة، لا أحد يعلم بأنه مازال متخبطًا بعد رؤيته لتلك الرؤيا.

بدأ الآن يستوعب الآيات المطروحة من أمامه، وحينما أتى دوره، وقبل أن يتخطاه، رتل بصوته العذب الذي فاجئ الجميع به وقال بخشوعٍ
«وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى? مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

تهاتف الشباب باعجاب بصوته العذب، الذي تعمق بقلوبهم جميعًا، بل وأبكائهم من شدة الخشوع، وحينما توقف ليمر الدور لمن يليه رفضوا بشدة وأصروا عليه أن يستكمل ترتيل حتى انتهى من قراءة السورة كاملة، فاذا بالشيخ يقول بإعجاب: ما شاء الله تبارك الله عليك، صوتك فيه خشوع يبكي القلب قبل العين.
وأضاف وابتسامته مازالت تستحوذ عليه: إنت شخص غريب، من ساعة ما دخلت المسجد وأنا عندي فضول أتعرف عليك.

قال أحد الشباب مضيفًا: فعلًا يا عم الشيخ، كلنا عندنا فضول نتعرف عليه، ده من يوم ما جيه المسجد وهو قاعد مع نفسه حتى الكلام البسيط المتبادل بينا مبيحصلش.
منحهم عُمران ابتسامة جذابة، وتحرر عنه الحديث وعينيه تتطلعان للشيخ: على فكرة أنا بحب حضرتك جدًا، ومتابعك، وياما روحت كذه مسجد بتصلي فيه عشان أتقابل معاك بس سبحان الله مكنش مقدر لينا اللقاء غير هنا.

اندهش الشيخ من حديثه، ورد عليه بسعادة: اللقاء مقدر عند ربنا ومكتوب بالثانية.
هز عُمران رأسه بيقين، وقال: ونعم بالله.
اقتحم الحديث أحد الشباب حينما قال: أنا آسف على المقاطعه، بس كلنا عندنا فضول نعرف أيه السبب في انعزالك التام عننا، وكمان شكلك ما شاء الله بيقول أنك غني ووراك عزوة ومال، فازاي قادر تمشي مصالحك وأحنا مشوفناكش حتى بتعمل مكالمة تليفون!

حافظ على ابتسامته، وأجاب بما يشبع به فضولهم: ميفرقش معايا حاجة، السكينة والراحة اللي عشتهم هنا بالكام يوم دول عمري ما عشتهم قبل كده.
واستكمل برزانةٍ: أنا أتولدت لاقيت حوليا كل حاجه، الثروة، الشهرة، النجاح دول أسهل حاجة عملتها، بس معاهم عمري ما حسيت ربع الاحساس اللي أنا حاسس بيه النهاردة.

واسترسل وهو يتطلع للشيخ الذي يتابعه باهتمامٍ: أنا النهاردة وبعد عذاب طويل جاتني البشارة أن ربنا سبحانه وتعالى غفرلي الخطيئة اللي ارتكبتها، النهاردة حاسس إني أتولدت من جديد.

قالها وهو يسحب نفسًا طويلًا ينعشه، السعادة تربعت على وجهه بعد مشقة، رافق جلستهم الطويلة، يقص لهم عن قصته باختصارٍ شديد، وبعد صلاة العصر حزم أمتعته وغادر بعد أن قدم وعدًا لهم بأنه سيعود كل فترةٍ ليعتكف رفقتهم، رحل والشوق يضرمه لحبيب قلبه ولحبيبته ونصفه الآخر.

قبل وجنتها الناعمة وابتسامته الجذابة رسمت على وجهه، ثم إنحنى يضعها بالسرير الصغير، جاذبًا الغطاء عليها، ومازال كفه يهدهدها برفقٍ، والرضيعة تراقب ملامحه بدقةٍ عالية، اتسعت ابتسامة علي وقال بدفء صوته الرخيم: حاسس أنك بتسأليني أنتِ كمان عنه، الباشا بدلعه وحنانه أسر قلوب هوانم قصر الغرباوي كله.

قالها ضاحكًا، واستطرد بعدما انحنى قبالتها، يعود لتقبيلها من جديدٍ: قلبي بيقول إنه خلاص هانت وهيرجعلنا كلنا، إنتِ الوحيدة اللي أنا قولتلها على مكانه، عشان بقى في بين فيري الجميلة وبابي على ثقة كبيرة، مش هتنكسر أبدًا، صح يا فيري!
التقطت بفمها البيبرون الذي وضعها للتو لها، انحنى مجددًا يقبل كفها الصغير ووجنتها، ثم استقام بشموخٍ، وإتجه للتراس الخارجي، يبحث عمن همس له قلبه بأنه إشتاق لها.

أخر ما رأته عينيه منذ ساعة، مشهد جلوسها رفقة ميسان بالاسفل، على إحدى طاولات الحديقة، يتبابعون العمل على الحاسوب والملفات.

انتقلت رماديته لنفس المحل الذي تركهما فيه، ولكنه لم يجدهما، بل كانت تجلس زوجة أخيه على الاعشاب أرضًا، وقد بدى له ما تفعله، وخاصة بظهور زوجته التي حملت عُلبة من المكعبات البلاستكية، وانحنت تقدمها لها، بينما تعود مايا للعبث بالمكعبات، وعلى ما يبدو بأنها كانت تصنع مجسمًا مجهولًا له، فاستدار وهو يقرر الهبوط إليهما، فاذا به يرى والدته قبالته، يديها منعقدة أمام صدره، تطالعه بغضبٍ وشراسة.

علم بأنها قد رأت المشهد برفقته، وتمكن من قراءة سبب غضبها من قبل أن تبوح به، فتنحنح بارتباكٍ، وتصنع بسمة هادئة: صباح الخير فريدة هانم.
لم يبدو الخير طريقه على وجهها، بل تنافس الشر وهزمه بالمعركة هزيمة ساحقه، ابتلع ابتسامته التي وجدها حمقاء، ورنا يهذب خصلاته المتطايرة بفعل الهواء، حتى وقف قبالتها ينتظر أن تتحدث، وحينما طالت، قال: التعبير عن الغضب أفضل شيء، الكبت بيضر.

وكأنه سحب فتيل القنبلة، فانفجرت فيه: أنا متعصبة منك أوي يا علي، خبيت عليا اللي أخوك كان ناوي يعمله، ورجعت تقولي إنك سبته أسبوع يريح أعصابه وهيرجع، وفوق كل ده رافض تقولي هو فين؟
تحرك تجاهها، يفاجئها حينما قبل يدها ورأسها بحبٍ: أنا مش متعمد أخبي عليكي حاجة يا حبيبتي، انا بس اديته وعد إنه هيكون مرتاح بدون أي إزعاج مننا، وكل اللي فكرت فيه إنه هنا ومعانا مش بعيد عننا في دولة تانية.

تلاشى غضبها رويدًا رويدًا، وبدأت تتطلع له من أعلى كتفيها بتصنعٍ للاستياءٍ، حتى رددت بعصبية: أنت غلطت في تصرفك ده، كان المفروض من وقت ما اكتشفت خطته كنت ضربته قلم يفوقه، الولد ده اتمرد وعايز اللي يعمله stop، مبقاش حاسس ولا مقدر تعب مايا ولا قلقنا كلنا عليه.

وأضافت مشيرة للسور الخارجي: اللي بيعمله في بنتي ده كتير، وإتخطى بيه كل حدود صبري، فصدقني يا على عقابه عندي هيكون عسير، ولو مضربتهوش إنت وربيته هضربه أنا سامع!
تحررت ضحكته فأبدته جذابًا، حتى تلاشى عن فريدة غضبها، وابتسمت تمازحه: هو إنت مش جاي من قلبك تضربه، ولا خايف منه يا علي؟
تلاشت ضحكته بشكلٍ جاد، وأجابها: هو أنا المفروض مخافش! مع ده بالذات من خاف سلم.

نجح في إيقاعها بنوبة من الضحك، فضحكت من قلبها، ومالت تستند عليه، بينما يتابع هو: فريدة هانم إنتِ عايزة تقدميني قربان للطاووس الوقح! لو زهقانه مني للدرجادي أنا ممكن انعزل في مكتبتي فوق أو بأي مكان بالقصر.
لكزته بخفة، وقالت ساخرة من حديثه: بلاش تعمل الشويتين دول عليا يا بكاش، أنا عارفة إنك بتسيطر على أخوك من كلمة واحدة.
فاه مبتسمًا بمكر: أنا بريء من إتهام حضرتك بنسبة 15 في المية، والباقي نسبة وتناسب.

منحته نظرة مشككة، فحك أنفه يخفي ضحكته، ثم تنحنح بخشونة: نخليها 30 في المية.
أشارت ببصرها صوب المصعد، ورددت: إنزل بص على بناتي وراضيهم، بدل ما أقلب عليك يا دكتور.

ذم شفتيه ببراءة مضحكة، وقال: طيب فاطمة وبتحاسب عليها لإنها مراتي، مايا بتحاسب عليها ليه بقى؟ هو أنا السبب في غياب عُمران عنها!، ولا ده راجع لضغط حضرتك عليا عشان أقولكم على مكانه؟ عمومًا هتعامل بحذر وذكاء مع الموضوع، من باب إن في أوكازيون خصومات، تهتم بواحدة تتدبس في رعاية التانية فوقها.

دققت النظر فيه مندهشة من طريقته المرحة بالحديث، فاتجه للمصعد، وأخفض نظارته الطبية يغمز لها مازحًا: بهون على حضرتك غيابه، عشان متكتئبيش معانا، على فكرة إنك تعيشي مع إنسان مثقف ومتربي شيء ممل وغير محتمل!
ضغط على المصعد خاتمًا حديثه بابتسامته الجذابة: نازل أخد بالي من بناتك، هدللهم وأحطهم جوه عيوني حاضر.
وغمز لها بابتسامة واسعة: كله عشان خاطر عيونك فريدة هانم.

غاب عنها المصعد، ومازالت صدمتها حاضرة، جاهدت لتنفك عنها عقدتها ويردد لسانها عاجزًا عن استيعاب ما يحدث: معقول ده علي!
وضعت المكعب الأخير على سطح المنزل المصنوع من المكعبات، وصفقت بحماسٍ، وهي تلفت انتباه فاطمة لما فعلته: فطيمة شوفي جمال البيت بتاعي.

سلخت نظرها عن شاشة الحاسوب، وتطلعت لما فعلته مايا، نزعت عنها السخرية، وقالت: هو شابوو وكل حاجة، بس لو أنتِ حاسة بطاقة نشاط زيادة أو ميول للتصميم فأيه رأيك ننفذ الفكرة عملي على لوحة مش بمكعبات!
حملت طرف فستانها البني، تفرده من حولها، وتقذفها بطرف عينيها: هو إنتِ مفيش في دماغك غير الشغل وبس، ما أنا طالع عيني معاكِ طول الايام اللي فاتت، حاولي تغيري من نفسك عشان كده هتبكي ندمًا لما أبلكك.

اغلقت الحاسوب ضاحكة: لا وعلى أيه، إعملي اللي يريحك.
ردت بعنجهيةٍ وهي تعيد بصرها للمنزل الذي صنعته: ده شيء أكيد.
ثم عادت تتطلع صوبها، وتناديها بارتباكٍ: بقولك أيه يا فاطمة.
أجابتها وهي تضع الحاسوب بالحقيبة: قولي.

عدلت من طرف حجابها المنسدل جانبًا، وكأنها تمشط خصلاتها، بينما تستجمع شجاعتها لنطق: قبل ما نطلع هنا، كنا جوه في المطبخ، ساعة ما دخلتي عليا ولاقتيني عاملة طاجن صغنن من ورق العنب بشرايح اللحمة، فاكرة؟
جذبت انتباهها للحديث، فتطلعت لها بكل انتباه، بينما تتابع مايا: وقتها أكلت طبق صغير، وعزمت عليكي وإنتِ رفضتي وقولتي مليش نفس، ومش طايقة ريحة الأكل وكلام من هذا القبيل فاكرة؟

هزت رأسها باستغرابٍ، وانتظرت سماع الجزء المهم في الحوار، بينما مازالت تتابع مايا بدقتها في وصف المشهد، وكأن الأخيرة لم تكن طرفًا فيه: وأنا كمان قولتلك إني شبعت، حتى لما قولتيلي كملي أكلك، قولتلك لا خلاص معتش قادرة، فاكرة؟
تحررت عن صمتها بنفاذ صبر: هو الموقف فات عليه سنتين، فاكرة والله كل التفاصيل دي، وبعدين أيه حصل؟!
أخبرتها بنزقٍ وضيق: قومي هاتي بقية الطاجن، أنا مأكلتش كويس وهموت من الجوع.

تصنمت ملامحها وهي تتطلع لها، في محاولة لاستيعاب ما تقوله، بينما تستطرد مايا كأنها لم تفعل شيء: هتلاقيني مدكناه بالتلاجة في الرف الرابع، ومغلفاه كويس بالسلوفان، حكم فريدة هانم السلحدار مركبة حساسات بمناخيرها، لو قفشته هيجيلها سكتة قلبيه، والسبب هيكون إنتِ، أنا بتاوي الجريمة وقتي ومبسبش أي دليل ورايا.

واستطردت وهي تلوي شفتيها بنزقٍ: لولاش الكرامة والنفسنة دخلت في قلبي من الكلمتين بتوعك مكنتش سبت أي ثغرة ورايا.
وتمتمت بسخطٍ: إنتي وحماتي الحمل نازل عليكم بصدة النفس، وأنا اللي ما شاء الله نفسيتي قابلة الأخضر واليابس!
مازالت فاطمة تتطلع لها بصدمة، ففرقعت أصابعها قبالتها لتستجدي انتباهها، بينما تلقي أخر تعليماتها: سخنيه كويس في الميكرويف، ومتتأخريش عليا.

فلت عنها ضحكة وهي تنهض متجهة للداخل، فصاحت مايا بغضب: سمعتك على فكرة.
استدارت تهز يديها ببراءة، وضحكتها تفضح تأثرها بالموقف، غادرت فاطمة للداخل، وتركت مايسان تستكمل اضافاتها بمدخل المنزل الذي تجتهد لصنعه، فإذا بها تلمح ظلًا لمن يقترب إليها، رفعت رأسها تمشطه بنظرة حادة، ثم عادت تستكمل ما تفعله.

ابتسم علي على تجاهلها المتعمد له، وإتجه يسحب أحد المقاعد، وضعه على مسافةٍ منها، ثم جلس يراقب ما فعلته، جاذبًا أطراف الحديث ببراعته وذكائه، ليرغمها على الرد عليه وعدم تجاهله مثل ما يحدث معهما بأخر فترة: فاطمة سايباكي لوحدك ليه؟
سحبت المكعب تبحث عن المكان المناسب لوضعه، بينما ترد ببرود: بتسخنلي الغدا وراجعه.

تعمد التعليق على ما قالت ليستدرجها بمشاكسة ناجحة: بدأتي رحلة الانتقام مني، فاستغليتي ملاكي البريء لخدمتك!
منحته نظرة متعالية، وأكدت بتعالٍ زائف: ولسه هتشوف مني أنت وأخوك الأكتر من كده.
ادعى عدم علمه بمقصده، بينما بداخله ينصهر ضحكًا: ليه كل القسوة اللي في قلبك دي يا مايا؟

تركت المكعب من يدها، واستدار تقابله بغيظٍ: ليه؟ إنت خرجت من هنا وكلك ثقة وغرور إنك هترجع بعُمران، غبت بره وقفلت موبايلك، ولما رجعت سألتك عنه قولتلي اطمني عُمران مش مسافر ولا هينفذ اللي في دماغه، وزيادة الاطمئنان من وجهة نظرك إنك ادتني تليفونه وجواز سفره! أعمل بيهم أيه وأنا معرفش جوزي فين؟!
رد بعقلانية لم يخسرها بعد: قولتلك إني أقنعته يعتكف بالمسجد عشان يتخلص من الموضوع ده بشكل نهائي.

هزت كتفيها، قائلة بضيق: وأنا معترضتش، بس على الأقل أعرف عنوانه.
بادلها بسؤالٍ: ولما تعرفي هتعملي أيه؟
رمشت بتيهة وقالت: معرفش، بس إنت عاجبك غيابه ده، أنا بسبب أخوك أجلت الولادة يومين، ومش عارفة هصبر لحد أمته؟ كده العاشر هيدخل عليا وأنا قاعدة قعدتي دي!
تحررت ضحكته، وقال يمازحها عساه يتمكن من اخراجها من حالتها: لا متقلقيش، لو وصلتي للمرحلة دي هروح أجيبه.

شملته بنظرة مستهزئة، وعادت تستكمل تصميمها هامسة بسخطٍ: هتطلع إنت اللي بتطبخها معاه في الأخر!
قهقه ضاحكًا حتى أحمر وجهه، وتحدث بصعوبة: الظلم حرام يا مايا، مينفعش تلقيني بتهمة خطيرة زي دي!
صاحت غاضبة: ألقيك براحتي، إن شالله ألقيك بقالب طوب، طول ما أنت مانعني من الوصول لجوزي عمر قلبي ما هيصفالك يا دكتور.

منحها نظرة ساخرة، اتبعت قوله: وكانت فين الشجاعه والعنف ده كله وقت ما قالك على اللي ناوي يعمله وقالك متعرفيش حد!
صفنت وهي تتطلع للمجسم الذي صنعته، بينما تمتم: بيعملي تعاويذ وسحر ابن فريدة!
انفجر ضاحكًا حتى كاد أن يسقط من شدة نوبته، فتابعته بضيقٍ وقالت: اضحك اضحك، بكره جاي عليك الدور.
استقام بوقفته يعيد المقعد لمحله: لا وعلى أيه، أنا هروح اعملي فنجان قهوة معتبر، وهكمل قراءة في المكتب أحسن.

وخطى للامام ثم استدار يخبرها ببسمة جادة قبل رحيله: عُمران راجع وقريب أوي يا مايا.
شق الأمل بركة يأسها، فلحق به دمعة انهمرت من عينيها بينما تخبره بكل تمني: يا رب يا علي.
استكمل طريقه مبتسمًا، بينما ظلت هي محلها تتطلع بما صنعته والحزن يسيطر عليها حتى جعل عينيها تسطران وابل من الدموع الحارقة.

انتهت من تسخين الطعام، فوضعته على الصينية وجذبت من البراد كوبًا من العصير، وضعته وحملت الصينية واستدارت لتعود إليها، فتفاجئت به يرتكن على باب المطبخ، يتأملها بنظرات سرت داخلها فاصطبغ وجهها بحمرةٍ الخجل لأجلها.
تحرك بخطواته المتزنة تجاهها، وحينما وقف على مقربة منها، رفع ذقنها للاعلى ليعود ببصرها إليه مجددًا، فرددت بتلعثم لتخفي خجلها وتأثرها به: خضتني يا علي.

منحها ابتسامة وقولًا دافئًا مثلما اعتادت: سلامة قلبك من الخضة يا قلب علي.
أفرجت شفتيها عن ابتسامة لم يراها هو، بل كان غارقًا بسحر عينيها الفاتن، وإذا به يهمس وهو يقاوم سحرهما المغري: ما كُنت أُؤمن بالعيونِ وسِحرها حتى دهتني في الهوى عيناكِ، جميلةٌ بقَدر الزّهر، والرِّياح، ونَسائِم المَطر، ونجُوم اللّيل، والسهَر، وطهارة الغيم، ودفئُ الجَمر، جميلةٌ بِقَدرِ حُبكِ، وحبي للشّعرُ، والنّثر.

كادت أن تذوب من فرط جمال الكلمات المختارة لها، بينما يميل هو طابعًا قبلة أعلى حجابها، فتراجعت للخلف ترفع الصينية بوجهه لتعوق نيته الخبيثة فيما سيفعله مجددًا: عندك يا دكتور، الصينية هتقع مني، ومايا هتعمل مني مشروع بيوت صغيرة ترصهم جنب البيت اللي شقيانه فيه بره من الصبح.

حملها عنها ومال يستند على جبينه بجبيه، قائلًا من بين ضحكاته: محدش يجيله قلب يأذي الملاك البريء ده، حتى مايا نفسها هتضعف قدام رقة قلبك يا فطيمة.
حاولت الوصول ليده لتلتقطها منه وتركض للخارج، ولكنها لم تتمكن لفرق الطول بينهما، بينما الاخر يدغدغها، فتراجعت تحذره بضحك: بس يا علي، بتعمل أيه؟!
وأستكملت لتثير اهتمامه: هات الاطباق، مايا جعانه هتاكلني لو اتاخرت عليها.

احنى يده لها؛ وفور أن تمكنت من المسك بها، هرولت للخارج مبتسمة، ومازال يتابعها حتى اختفت من أمامه، فاتجه لغرفة المكتب يعد لذاته كوبًا من القهوةٍ، استعدادًا لخوضه رحلة خاصة مع إحدى كتبه.
مالت بجسدها على ظهر المقعد من خلفها، تدعم ظهرها الذي بدأ يؤلمها من جلستها أرضًا، ثم أخذت تدقق في تصميم المنزل الذي صنعته بانبهارٍ، ورددت بصوتٍ منخفض: برا?و عليا وتسلم إيديا بجد.

وتابعت بكبرياء مضحك: مرات الوز عوام، أمال يعني هجيب الابداع ده كله منين؟!
وذكر الوز فخور بيكِ كل الفخر يا عيوني.
قالها من يراقبها، بقامته المستقيمة بشموخٍ، صوته الرخيم أفسد عالمها الهادئ، وعصى فيه الفساد، حينما أهتز جسدها واستدارت تتمعن فيه، هاتفة بعدم تصديق: عُمران!

ابتلع مرارة الألم، وألقى الحقيبة عن ذراعه، ثم انحنى يجلس أرضًا أمامها، يضم وجنتها بكفه الحنون، ورماديته تحاوط مُقلتيها في لقاءٍ حميمي، بينما تزف نبرته تلك الكلمات بعشق: يا عمره وروحه وحياته اللي من غيرك متسواش.
أحاطت كفه بفرحةٍ، وهي تبتسم ضاحكة، وتبكي بذات الوقت، فمالت تقبل كفه، وهي تعود لندائها كأنها لا تصدق عودته: عُمران!

سحبها إليه وقد جلس بشكلٍ أكثر أرياحية، ليتمكن من دفنها كلها إليه، سامحًا لتلك العبرات بالنزق عبر مُقلتيه، تمسكت به باكية، وصوتها كاد أن ينشق صدره، مخترقًا قلبه الذي غرق في أوجاعه.

مال يقبل جبينها، هامسًا بوعدٍ قطعه لها بتلك اللحظة: كل اللي فات إنتهى وعدى، أنا خلاص رجعت ومش هبعد تاني يا مايا، وحياة غلاوتك في قلبي إنتِ وابني اللي لسه عيني مشفتهوش، لأعوضك عن كل اللي عشتيه بسببي وبسبب الماضي اللي اتفرض عليكي تعشيه معايا.

سحبت نفسًا طويلًا يحمل رائحته القريبة منها، تود أن تحطم به ظنونها بأنها تتخيل وجوده، اتسعت بسمتها وهتفت بحبٍ: كان قلبي حاسس إنك هترجع، وهتكون جنبي، إنت عمرك ما إتخليت عني زمان عشان تعملها وتتخلى دلوقتي يا عُمران.
أبعدها عن صدره، ليتعمق بالتطلع إليها، يرفع يديها إليه، مقبلهما برقةٍ وحنان: جنبك ومعاكِ لأخر نفس يا حبيب قلبه ودنيته.
حمدلله على السلامة يا بشمهندس.

قالتها فاطمة التي تقف على بعدٍ منهما، فنهض وهو يجذب مايا عن الأرض، يحيها بابتسامة هادئة، وعينيه تتأمل ما تحمله بفضولٍ، ترنح بنبرة ساخرة: الله يسلمك يا مرات أخويا يا غالية، لا أنا كده اتطمنت إنك كنتِ قايمة بالواجب ومنفذة كل أركان الوصية.
ضحكت وهي ترفع الصينية نصب عينيه: شوفت، قولتلك متقلقش طول ما أنا موجودة.
استندت مايا على كتف عُمران وقالت بتلعثم وارتباك: خلاص يا فطيمة أنا لما شوفت عُمران شبعت.

رفعت احدى حاجبيها بسخطٍ: ده بجد! أمال كنتِ بتهدديني لو أتاخرت بالقتل ليه من شوية!
مالت من خلفه تشير لها بتحذير، وقد أخصت بالاشارة لرقبتها، فارتعبت فاطمة وقالت بابتسامة واسعة: الاكل ده بتاعي، مايا من ساعة ما مشيت وهي نفسها مسدودة عن الأكل.

رقصت بحاجبيها بفرحة، وخرجت من خلف ظهره تتطلع له ببراءة ووداعة، جعلته يقرص أذنها: فاطمة البريئة ملهاش في حركات خبثك يا بيبي، مش أنا قولتلك بلاش تعملي الحركات دي قدام أستاذك، ده إنتِ تربية ايدي.
حاولت المناص منه وهي تصرخ باستغاثة: ودني، خلاص مش هعملها تاني، الحقيني يا فاطمه.
تركها وانحنى يحمل حقيبته، ثم أشار لفاطمة: على فين؟
هتفت بحماس للقائهما: بمكتب أنكل أحمد.

هز رأسه ممتنًا له، ثم ابتسم لزوجته قائلًا: دقايق وراجعلك يا بيبي، لو اشتاقتلي كملي في بنية بيت الأحلام ده لحد ما ألبي الدعوة.
قالها وإنطلق للداخل، فلوت شفتيها هاتفة بنزقٍ: هو أنت على طول راحل كده، أمته هتستقر بقى، قرفتني معاك يابن فريدة!
سقطت فاطمه على المقعد من فرط الضحك، فسحبت منها مايا الصينية وجلست أرضًا تلتهمها بغيظٍ وضيق!

أغلق زر ماكينة القهوة بعدما سكب كوبه، ثم أتجه للمكتب، يجذب بضعة مناديل ورقية، وعاد للماكينة مجددًا يمسح بضعة القطرات المسكوبة، ثم رفع يده ليجذب الكوب الذي تركه منذ قليلٍ، فاندهش حينما لم يراه.
استدار يبحث على سطح المكتب، عساه تركه هناك حينما كان يحضر المناديل، فتفاجئ به هنالك، جذبه علي ورفعه إليه بدهشة ازدادت مع رؤيته فارغًا!
داعبت ابتسامة شفتيه، ولسانه يردد دون أن يستدير للخلف: نورت بيتك!

واستدار يقابله بأجمل ابتسامة امتلكها، فاذا بالاخير يندفع صوبه، تلقفه على بفرحة غمرت كلاهما، بينما يتحرر لسان عُمران الثقيل، يبوح عن مشقة الهجر: فراقي عنك كبرني فوق العمر عمر.
واستطرد باكيًا رغم ابتساماته: أنا إزاي كنت هبعد عنك سنة، كنت هموت أكيد يا علي!
أبعده وهو يزجره غاضبًا: بعد الشر عليك، إنت بتفرحني برجوعك ولا بتزعلني بكلامك السم ده.

ابتعد يزيح دموعه، ويطالعه بكل حب، يقرأ بوضوح سؤاله الفضولي، حتى أنه سحبه للأريكة، يسأله بلهفة: ها؟
منحه ابتسامة، وقطع فضوله برده المبهج: عمري ما مليت من دعائي، وربنا حققلي حلمي وشوفته يا علي.
أجابه باكيًا، وبصوتْ يتقطع من فرط التأثر: شوفت رؤية طيبت وجعي وضمدت كل جروحي يا علي، إحساس لو عشت عمري كله عشان أوصفه مش هعرف أوصفهولك.

أدمعت عيني على تأثرًا بحديثه، أمال ذراعه يلتقفه إليه، فمال على كتفه يبكي كالطفل الصغير، ويتمتم بكلماتٍ خنقها البكاء: ربنا من عليا وريح قلبي يا علي، أنا مستهلش كل ده.
مرر يده على شعره الذي طال ليصل لخلف رقبته، قائلًا بمحبة: ربنا سبحانه وتعالى بيبص على قلوبنا يا عُمران، وإنت قلبك نقي وأبيض، وتوبتك رجعته نضيف تاني بعد الذنب اللي ارتكبته.

استكان على كتفه، بينما يربت عليه بحنانه، واحتواء: أنا كنت واثق إن ربنا هيراضيك، وهيطيب وجعك.
تشبث به عُمران مبتسمًا على مشاعره الصادقة، وما كان أن يجاريه بالحديث حتى أقتحم صوتًا غاضبًا مجلسهما الهادئ: طبعًا كل اللي في دماغك حضن علي، لكن الهانم اللي خلفتك وتعبت عشان تزرع فيك كل الصفات الآرستقراطية الراقية مش في الحسبان عند سيادتك.

ابتعد عُمران عن أخيه بدهشةٍ من سماع ما قالته والدته، رآها ترمقه بضيقٍ، ويديها منعقدتان أمام صدرها الذي يعلو وينخفض بشراسةٍ.
ارتاب على لأمرها، يينما همس له عُمران وهو ينهض من جواره: عندي دي، متقلقش!
تركه وإتجه إليها، هاتفًا بصوتٍ رخيم يستهدفها به: مين يقدر يتجاهل وجود برنسس عيلة الغرباوي، فريدة هانم!

ومال يتلقفها بين ذراعيه، ينشب شباكها بخبث: أنا كنت بستمد طاقة إيجابيه قبل ما أجيلك، بحيث ما أثرش عليكي بالطاقة السلبية اللي شايلها.
دفعته عنها هاتفه بحنقٍ: لو الطاقة الايجابية مركزها حضن علي، فأنا في أشد الاحتياج له عنك.

وتركته وأتجهت إلى علي، الذي ضمها ضاحكًا، بينما يطالعه عمران بغضب، واندفع تجاهها يفصلها عن على ويضمها مجددًا، قائلًا: لا يا فيري أوعي تخونيني الخيانة دي وفي وشي كمان، مش كفايا إني مستحمل أحمد الغرباوي، وفشلت أوصله لمحكمة الأسرة، تقومي تكرهيني في علي!

ضحكت رغمًا عنها، وانطوت بين ذراعيه تمنع دموعها من أن تنشطر بصعوبة، شدد عمران من ضمها، وقال ليرفع عنها الحزن: بابا على وجوده مهم في حياتنا، بس أنا الكل في الكل يا فيري، على يفتقد الخبرة في التعامل مع الجنس الناعم، ابنك خبرة عشرين سنة، بيلقطها وهي في بطن أمها.
لكزته بغضب، فتأوه ضاحكًا، وعاد يشدد من ضمتها، فرددت وهي تجاهد البكاء: عارف لو عملت فينا كده تاني هعمل فيك أيه المرادي؟

وأبعدته ليتمكن من رؤية إشارة يدها المحذرة: أوعى تكون فاكر أنك بطولك وعضلاتك دي كبرت على الضرب، لا انا هربيك من أول وجديد ولو فكرت تعلي صوتك أو بس تعترض هزود عقابك.
مال ينحني قبالتها باستسلامٍ، متنحنحًا بخشونة لم تنطبق مع قوله: لو كبرت على الدنيا كلها مقدرش أكبر عليكِ، لو ضربك ليا هيريحك أنا تحت أمرك.

تهاوت دمعتها تأثرًا به، حتى على تخلل الحزن قسماته، انحنت فريدة تعاونه على النهوض، واندفعت مجددًا لاحضانه، تهتف بمزح ضاحك: طلع عندك حق يا علي، مش هينفع معاه الضرب إطلاقًا، يتخاف منه مرة ومرة تانية من مكره وفنه في اختيار الكلام.
وضحكت مستطردة: بيعرف يلين القلوب، وبالذات قلوب الهوانم!
ضحك علي، وعُمران الذي قال بتكبر: لسه عندك شك في مواهب ابنك يا فريدة هانم؟!
منحته نظرة صارمة، ونداء حازم: ولد!

تلاشت ضحكته، ورسم جديته، انحنى يحمل حقيبته واتجه ليخرج من الغرفة، وقبل أن يغادر مال يقبل وجنتها، وغادر سريعًا، اتسعت ضحكة علي، حتى فريدة ابتسمت، واستدارت تخبر على بتعالي: شوفت سيطرت عليه إزاي، وكنت هضربه عادي جدًا!
هز رأسه وهو يكبت ضحكاته بصعوبة، بات يتعامل مع أخيه كأنه ابنه الصغير، والآن دور والدته!

ترك الحقيبة أرضًا، وتسلل لجناح والدته، يركض صوب الفراش الصغير، يحملها بكل شوقًا ومحبة، يمطرها بوابل من القبلات، ويهمس لها بشوقٍ: وحشتني أوي يا صغنن.
تعلق بيدها يضمها مبتسمًا، دافنًا انفه بها، يدغدغها برفقٍ وأثنى عليها: واوو ريحة البرفيوم بتاعك خطيرة، طيب قوليلي أكلك أنا دلوقتي ولا أعمل أيه؟
وأضاف ضاحكًا: شكلك أتغير خالص، انتِ كمان إكتئبتي في بعدي يا صغنن؟

فاقت من نومتها تبكي، فازدادت ضحكاته وقال بتفاخر: هعتبرها اشارة.
وضع لها البيبرونه، وحملها متوجهًا للمصعد، ناطقًا بعزمٍ: مش قادر أفارقك، فمضطر أخدك معايا فوق!
خرجت تبحث عنهما، فوجدتهما يجلسان بالخارج، عبثت فاطمة على الحاسوب لتنهي عملها، فاذا بها تلمح فريدة تدنو منهما، فصاحت لمن تلتهم الطعام بنهمٍ: مايا.
مايا!
انتفضت حتى سقط الطبق بأكمله فوقها، فركلت ساقها بعنف: آيه فزعتيني!

رددت بصعوبة واصبعها يشير تجاه القادمة إليهما: فريدة هانم.
جذبت الطعام من على فستانها تتناوله بسخط: مالها بكيزة هانم؟
ابتلعت ريقها بينما تحرر لها قولها الاخير: في طريقها إلينا.
سقط الطبق منها فزعًا، وحاولت بشتى الطرق النهوض عن الأرض، صائحة بتوسل: ساعديني يا بنتي، مش قادرة أقف!

تركت ما بيدها وساندتها حتى استقامت، فاسرعت تضع أحدى المقاعد فوق الصينية الصغيرة، ووقفت تعدل من ثيابها وتجفف فمها باحدى المناديل الورقية، تقف كلتاهما بانتباه كأنهما باستقبال إحدى أفراد الشرطة.
أحاطتها فريدة بنظرة متفحصة، وخاصة الذيوت التي تركت بصمتها على فستانها الفاتح، تجلى عنها كل الحديث، وانطلق سؤالها: أيه اللي عمل في فستانك كده؟
أطلقت نظراتها إليه، ثم قالت: كنت بلعب بالنجيلة!

أبصرت بشكٍ خلفها: وأيه الريحة دي؟!
تنهدت بقلة حيلة وقالت: طمطم كانت بتتوحم فاتصرفت.
ضيقت عينيها بدهشة: طمطم!
تغاضت عن كلماتها، وتساءلت: وحم من تالت شهر!
وطرحت سؤالًا أخرًا: بتتوحمي على أيه يا فاطمة؟
رفعت كتفيها بصدمةٍ، جعلت الاخيرة تلكزها، فهمهمت بتيهة: على أكل!
دمدمت مايا بشفتيها بنزقٍ: يا راجل! أنا فكرت إن اللي بيتوحموا بيتوحموا على برسيم!
صاحت بها فريدة وقد كشفت أمرها: مايا.

أشارت لها بالاقتراب منها، فابتلعت ريقها بصعوبة، واقتربت، مالت لها فريدة تشم رائحتها وقد انكشف من أمامها الطبق، فصرخت بوجهها: أعمل فيكي أيه؟! أنا مبقتش عارفة حملك ده فين، بقيتي حامل من كل مكان!
You need a strict diet after giving birth
(إنتي محتاجة ريجيم قاسي بعد الولادة! ).

منحتها نظرة ثاقبة، وقالت مدعية الحزن: على فكر ة بقى أنتي كرهتيني في نفسي يا فريدة هانم، أنا اديتك وعد إني هخس بعد الولادة، أعمل أيه يعني بكون جعانه جدًا.
ردت بكل بساطة: جعانه كلي أكل صحي يفيد البيبي، مش بكمية الدهون والكرلسترول العالي ده!
أجابتها ببسمة واسعة: كلها كام ساعه وهرجع لنظامي القديم، هخش أكمل جوه آآ. أقصد أطلع لجوزي حبيبي، وحشني أوي. عن اذنكم.

كزت فريدة على أسنانها، واستدارت تجاه فاطمة المبتسمة، تشهدها بقلة حيلة: شوفتي البنت!
ولجت للداخل تغلق باب الجناح من خلفها، وأتجهت تبحث عنه، وجدته يصلي بزواية الصلاة، وقد ترك الرضيعة تغفو أعلى فراشه.
زحفت مايا وجلست خلفه، تراقبه وتتلصص لسماع صوته بترتيل القرآن بحبٍ، حتى انتهى من صلاته وجلس يسبح قليلًا على سجادته، وفور أن استدار وجدها تضع رأسها على قدميه.

أحاطها بذراعيه، ومال يقبل جبينها، فابتسمت وقالت تداعبه: غريبة إنك مش لابس لبس خروج! أصحابك مش وحشوك؟
لف يده من حولها وقال بما ربح به الحرب على قلبها: إنتِ وحشاني أكتر.

وأضاف وهو يسند ظهرها إليه لتتمكن من الجلوس براحةٍ: لو مش هتزهقي مني فأنا قاعد معاكِ فترة، لحد ما بعد الولادة بشهرين تلاته، ينفع تتولي مسؤوليتي مع البيبي اللي هيشرفنا ده ولا أرحل بعيد عنكم، بس خدي بالك أنا صبرت عليكي كتير أوي ومن حقي أتجازى على صبري ده.
ضحكت بصوتها الرقيق، قائلة: ده إنت شكلك داخل على طمع يابن فيري.

رفع احدى حاجبيه هاتفًا باستنكارٍ: ابن فيري! لا واضح إن لسانك بقى أوقح مني، ومحتاجة لاعادة تأهيل يا بيبي، بس متقلقيش أنا رجعتلك.
سحبت كفه تلفه من حولها، هامسة بحبٍ صادق: حمدلله على سلامتك، ربنا ما يفرقك عني أبدًا.
تلاشى غضبه، ونبعت ابتسامة جذابة على وجهه، فرنى متلهفًا للقائها، فاذا بصوت بكاء يقتحم مجلسهما، زوى حاجبيه وهو يدقق النظر لبطنها المنتفخ، متسائلًا بصدمة: الصوت ده جاي منين؟ مايا إنتِ ولدتي؟!

لكزته بضيقٍ، وأشارت للفراش ضاحكة: فيروزة هانم بتديك إنذار إنها صحت!
قدم له طبقها من السلمون بالسلطة الصحية التي أعدها لها، وضعته فاطمة جانبًا وراقبته وهو يتمدد على الشازلونج متابعًا قراءته بالكتاب الذي يحمله.
نادته بصوتها الشجي: علي!
أجابها ومازال يبحث عن الصفحه الذي توقف عند قراءتها: أيوه حبيبتي.

سألته وقد مالت للمقعد تستند بهيامٍ: فرحتك برجوع عُمران باينة عليك، لو أنا هاجرت شهر ولا اتنين للمغرب هيكون عندك ليا نفس الاشتياق واللهفة؟
ترك الكتاب بيده ورفع رماديتاه لها، وبكل بساطة قال: مين هيسمحلك تسافري أصلًا؟
ابتسمت وشاكسته بتحد: لو حابة أسافر هتمنعني؟
رد بهدوئه الرزين: مقدرش أمنعك عن شيء عايزة تعمليه، بس أقدر أشاركك في كل مكان تروحيه.

اتسعت ابتسامتها، وعادت تعتدل بجلستها لتستكمل طعامها، وما أن فرغت منه حتى نهضت تتجه إليه.
جلست على بعدٍ منه، تمسد على بطنها الملتصق، وقالت شاردة: تفتكر هيجيلنا بنت ولا ولد؟
تطلع لها وابتسامتها أشرقت وجهه: أنا متلهف لأي جنس من الاتنين، وصدقيني مش فارقلي أجيب أيه أكتر من إن الطفل ده منك يا فطيمة.

فرحتها لم تسعها بكلماته، فتوهجت مُقلتيها، وأخذت تجذبه بمسار الحديث المحبب لقلبها: لو جالنا ولد إختارنا نسميه عُمران، طيب لو بنت هنسميها أيه!
غاب بشروده قليلًا ثم تنحنح بخشونة: لين، أنا بحب الاسم ده جدًا.
منحته نظرة متفحصة، ثم تمتمت: أعتبره اسم حبيته عادي، ولا هيطلع في قصة حب ليك بطلتها لين يا دكتور علي؟
تحررت صوت ضحكاته الرجولية، بينما يرفع يديه للاعلى مستسلمًا: قلب على مفهوش غيرك صدقيني.

ارتخت تعابيرها المشدودة، ورددت برقةٍ: ثقتي فيك كبيرة طول عمرها.
قال ومازال يراقبها باهتمام: وهتفضل كبيرة على طول.
نهضت من محلها تتجه للكومود، وعادت تحمل عُلبة مطوية، رفعتها إليه على استحياءٍ: أنا جبتلك هدية، ينفع تلبسها على طول.
أكد لها بسعادة جعلتها تستريب لأمره، ولكنها فتحت العُلبة، فرأى خاتمًا فضيًا موضوع بلباقةٍ بمنتصفها، حملها يتفحصه باهتمامٍ وتركيز، فوجده مدون عليه.

«وإني أراك بعين قلبي جنة، يا من بقربك مر الحياة يطيبٌ! »
ابتسم وعشقه يطوف بقلبه، وانتزع خاتمه القديم، ثم قدم اصبعه لها، عاونته على ارتدئه، ففجائها حينما ضمها وقال: مش هقلعه من إيدي أبدًا، وعد.
تمسكت به وسعادتها لا تقدر، ظنته لن يكون سعيدًا بتلك الاشياء البسيطة، ولكنه بالفعل نجح بفعلها، وعلى أكمل وجه.

مرت ساعات الليل مرور الكرام، ومازال عُمران مستيقظًا يراقب زوجته التي غفاها النوم بين ذراعيه باهتمامٍ، وحينما اقترب موعد صلاة الفجر، نهض يغتسل، ثم حمل سجادته ومصحفه وخرج من الجناح، فاذا بأخيه يخرج هو الاخر استعدادًا للصلاة.
شمله بنظرة غامضة من رؤيته بالملابس المنزلية، أنهاها بسؤاله الفضولي: هو إنت مش رايح مسجد الشيخ مهران؟
هز رأسه نافيًا: لا هصلي بالمسجد القريب من هنا النهاردة.

خشى على من أن يكون هنالك أمرًا ما، فتساءل: في حاجة ولا أيه؟
أجابه مبتسمًا: عايز أكون جنب مايا، يوسف بعتلها رسالة إنها تكون بالمركز على الساعة 11 الظهر.
ابتسم على وربت على كتفه بسعادة: وأخيرًا ولي عهد الطاووس هيشرفنا.
ضحك مستهزأ: أبوس ايدك تتبناني وتتبناه.

شاركه الضحك، ومضى يهبط برفقته للاسفل، متجهان للمسجد، أدوا صلاة الفجر وعادوا مجددًا للمنزل، وبالمصعد شرد عُمران وقد بدى عليه الحيرة، فحركه على متسائلًا باستغراب: مالك؟
زفر بارتباكٍ أطلقه بجملته: هو الوجع ده المفروض يجيلها أمته؟
عبث بعدم فهم: وجع أيه مش فاهم؟
أشار له هامسًا: وجع الولادة يا على مالك؟
رفرف بأهدابه بدهشةٍ مضحكة، وقال: أيه سبب سؤالك الغبي ده؟

رد بتلقائية أضحكت علي: سهران جنبها من امبارح عشان أكون مستعد لأي شيء، فخايف أروح في النوم ومحسش بيها.
مال على على باب المصعد من فرط الضحك، وبصعوبة تلفظ: عايز أجيب اللي قالوا عليك وقح وأعدمهم في ميدان عام.
وخرج حينما توقف المصعد، يتجاهله ويتجه لجناحه، فلحق عُمران به يناديه بضيق من طريقته: علي، إنت رايح فين، تعالى جاوبني على سؤالي!

وقف محله ينتظر انضمامه له، وبسخرية طرق على كتفه ضاحكًا: سيرش حقير على جوجل، هتعرف منه إن في ولادة طبيعية وولادة تانية بالجراحة يا بشمهندس!
أوقفه بينما يغادر مجددًا: عارف طبعًا إن في ولادة قيصرية بس بردو الوجع هيبتدي أمته؟!
مسح أعلى منخاره بحدة، وتركه وغادر بهدوء يحسد عليه، فذم عُمران شفتيه بحنقٍ: عاملي فيها دكتور حريف وشايفلي نفسك من أولها، أنت أخرك تعالج المجانين بتوعك بقلم وكراسة بيضة ياعم!

وتركه وعاد لجناحه، فسقط بالنوم سريعًا مستجيبًا لارهاقه لعدم النوم!

ساعات محدودة وأزدادت شمس الصباح توهجًا، وبرفقته تصطحب شمس لحياة أخرى على وشك السطوع بنسل عائلة الغرباوي، وها قد تستعد وتضع ملابسه الصغيرة بحقيبة الولادة، تعاونها فاطمة وفريدة التي أشرفت على وضع كل شيءٍ بنفسها، لعدم خبرة ابنتها، وحينما انتهت وقفت قبالتها مبتسمةٍ تخبرها بمحبة: متتخيليش أنا متلهفة إزاي أشوف حفيدي يا مايا، إنتِ ادتيني كل حاجة حلوة، كنتِ ليا أعظم بنت، أجمل صديقة، وأحن زوجة ابن، وكلها شوية وهتديني حفيد.

وأضافت باشارة باصبعها منزعجة: صحيح هتكبريني شوية، بس أنا هحط حد للموضوع من أوله وهخليه يقولي يا فريدة هانم.
أخفت دموعها، وقالت بابتسامة واسعة وهي تضمها: وإنتِ كنتيلي أجمل أم في الدنيا كلها، ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
أزاحت فاطمة دموعها التي تساقطت تأثرًا بهما، وقالت: خلاص بقى انتوا هتقلبوها حزن ليه؟

دفعت فريدة مايا للخلف، ثم صاحت بانفعال وهي تركض صوب المرآة لتزيح دموعها وتتفقد وجهها: هي اللي بكتني، قولتلها ألف مرة مش بحب الحزن ولا الدموع بتكبر الوش وبتعجزه بس هي مبقتش تهتم بتعليماتي، وأكبر دليل جسمها اللي باظ خالص من الحمل.
وأشارت على ذاتها بتباهي وتفاخر: بصي شوفيني وقارني بينا.
وعادت تشير عليها: هل يعقل إن ده جسم بنت لسه مكملتش التلاتين سنة!

وأضافت بتأكيدٍ لما تود فعله بها: تروحي تولدي وترجعيلي، لازم تعملي نظام قاسي وتلعبي رياضة.
اشتد غضب مايا وخرجت عن المحتمل، حتى توسلات فاطمة لها لم تجدي أي نفع، فصاحت بها وبكل غضب: على فكرة يا فيري إنتي من بعد الحمل والولادة سوري يعني الحمل بهدلك خالص، وعجز ملامحك وجسمك بقى شبه المسمار المصدي ده عارفاه!

وأضافت بضحكة أوضحت أسنانها بأكملهم: أنا من رأيي تكسري الحمية الغذائية المميتة دي لأنكل أحمد يدور على السمنة البلدي برة!
خرجت عيني فاطمة من محجرهما، بينما كادت أن تسقط فريدة من شدة ما أصابها، أما مايسان فقد وجدت طريق المناص من الباب الذي كان ولحظها قريبًا منها
أفهم من كده إنك عامل حجر على الجنين من قبل ولادته؟

قالها علي باسترابةٍ من حديث أخيه، الذي وضع ساقًا فوق الآخرى، وأجابه بثباتٍ أضحك علي: بالظبط، لو جت بنت تلزمني لعلي ابني، ولد هجبله أنا مزة تشبك معاه، المهم نسلك أنت بالذات مينفعش يطلع بره عيلة الغرباوي يا علي.
كبت ضحكته، وتساءل بجدية: ليه بقى؟

نزع عُمران نظارته الأنيقة، وأجابه بغمزة وقحة: عشان نضمن تكافئ الفرص، مهو أنا ميؤس مني، ابني كده كده هيورث مني حاجة، وكذلك بنتك أو ابنك، الاتنين هيكملوا بعض، بمعنى لو على ابني جيه وقح يلاقي بنتك طيبة وعاقلة، وهكذا، أنا بحاول أدمج الجينات عشان ناخد شغل عالي!

تحررت ضحكات على حتى أدمعت رماديتاه، فابتسم الوقح وأكد له بعدما انفرد ريشه: أنا ببلغك باللي هيحصل بس، كده كده البيبي اللي فاطمة هتجيبه هيدوب فيا، وهقدر أسحره بكلامي، شمال أو يمين مش هيكسرلي كلمة.
ومنحه نظرة متحدية، فيما يخبره: تحب تدخل معايا في تحدي؟

وما كاد على بأن يجيبه، حتى اقتحمت مايا غرفة المكتب السفلية، تلهث بأنفاسٍ متقطعة، والخوف والهلع يحتجزان نظراتها، جعلت كلاهما يتابعانها بقلقٍ، فاذا بعلي ينتصب بوقفته، طارحًا أهم سؤالًا يليق بمرورها لأخر مرحلة من الحمل: أكلم دكتور يوسف يبعت الاسعاف؟

تجاهلت مايا حديثه، وركضت صوب الستار الكبير من خلف مقعد المكتب الذي احتله عُمران، اختبأت من خلفه برعبٍ، فاتجه إليها زوجها، أبعد الستار وتفحصها بنظرة دقيقة، فاذا بها تعيد الستار عليها مجددًا، ضحك عُمران ومال يردد بتسليةٍ، لوقوعها في مشهد مماثل لمشهد نعمان: حبيب قلبه عامل مصيبة وجاي يتدارى في جوزه يا ناس!
وأضاف باستغراب: بس هو مش التوقيت مش هو، احنا المفروض نتحرك على المستشفى؟

برق بذعرٍ، ورفع الغطاء يسألها: تكنش أعراض ولادة، حاسة بأي وجع؟
هزت رأسها نافية وسحبت الستار، فعاد يرفعع مجددًا، ورفع حاجبه تزامنًا مع نطقه للكلمات: زعلتي مين المرادي يا بيبي، لو نعمان معنديش مشكلة أقف في وشه وأقوله بكل جبروت أن مراتي بسكوتة نواعم مستحيل تأذي حد، بس هو من ساعة ما رجع بيته ومشفناش منه أي أذى شهادة لله!

ضم على أعلى أنفه بقلة حيلة، بينما تجذب مايا الستار مجددًا، فرفعه عُمران وتساءل بمللٍ: ما تنطقي يا مايا، عملتي أيه وجاية تتداري فيا؟
أتاه الرد من خلفه حينما صاحت فريدة من الخلف: ابعد عني يا أحمد، والله ما هسيبها النهاردة.

توترت ملامح عُمران، فاستغلت مايا تطلعه لباب مكتبه بصدمة، وإذا بها تعود لتسحب الستار عليها، فتحرك عُمران يفتح باب المكتب، اندفعت فريدة للداخل، توزع نظراتها بين ولديها وهي تصيح بانفعالٍ: فين ميسان؟
دنى منها علي بثباتٍ مخادع: في حاجة ولا أيه يا فريدة هانم؟
تجاهلته وتطلعت لابنها الاخر هادرة بحزمٍ: فين مراتك يا بشمهندس؟

تخلى عن صمته وقال بمراوغةٍ: محبوسة جوه قلبي، لو حابة أخرجهالك مش هتخرج غير بالدم، يرضيكِ ابنك يتجرح يا فيري!
منحته نظرة نارية، بينما يتمتم أحمد من بين اصطكاك أسنانه: مش وقتك يا وقح، خدلك جنب.
ضحك وهمس باستهزاء: متدخلش إنت يا أحمد يا غرباوي بدل ما تتشاط في الرجلين، ونطلع كلنا على محكمة الأسرة قول إن شاء الله.

لم تتابع فريدة حوارهما، كانت مشغولة بتأمل تلك التي ترتجف من خلف الستار، فربعت يديها أمام صدرها وقالت بغضب: اطلعي من ورا الستار يا مايا، البيبي فضحك يا حبيبتي!
ضحك أحمد بجنون، حينما وجد بطنًا مكورة يخرج عن الستار، وكأن الحائط يحمل بجنينٍ، فاذا به تطل بوجهها من خلفه، تبحث عن واحد بينهما، وهي تناديه باستنجاد: عُمران!
كبت ضحكاته وهو يجيبها بصوته الضاحك: حبيب قلبه وروحه.

واتجه لها يضمها بينما يهمس لها: عملتي أيه يا مايا، دي فريدة هانم عينها بتطلع شرار!
تمسكت به بينما تخبره برعشةٍ تحتل صوتها: هي عمالة تقولي تولدي وترجعي تعملي دايت قاسي، فقولتلها إنتي كمان الحمل بهت ملامحك وغيرك، وقبل ما أكمل كلامي عقلها طار وجريت ورايا، هي اللي جرحت مشاعري الأول!

جحظت مُقلتي عُمران وعلى في صدمة، فريدة التي تخشى أن تذرف دمعة واحدة فتخسر نضارة وجهها، التي تقضي ليلها بعمل روتين طويل للحفاظ على جسدها ووجهها، تتلقى هذه الكلمات البريئة من الشخص الخاطئ بالوقت الأخطر.
وزعت مايا النظرات المرتعبة بين زوجها وأخيه، ثم أسرعت تبرر: مكنتش أقصد!

صوبت لها فريدة نظرة نارية، بينما تأمرها بعنفوان: تعالي حالًا هنا قدامي، بدل ما أجيبك أنا، أوعي تفكري ان الحمل والولادة خلاوني أخسر رشاقتي زيك، لا أنا لسه كيرفي.
شددت من يدها على جاكيت بذلة عُمران، فمال يضمها مجددًا، هادرًا من يين ضحكاته: بتجريني لحرب أنا مش هيجيلي قلب أقف فيها، ولا جاي من قلبي أتخلى عنك بعد المسكة والبصة المغرية دي، قوليلي أعمل فيكِ أيه أنا!

رددت وعينيها تتطلع لفريدة: help me please.
تنحنح على بخشونة، واقترب من والدته: فريدة هانم، مايا أكيد مش قصدها، هي بس خنقة الشهور الأخيرة وخوف ما قبل الولادة بيعلوا الهرمونات وأكيد حضرتك فاهمه.
رمت له نظرة صارمة: متتدخلش يا دكتور، ويلا إطلع ساعد فاطيما العاقلة في نزول الشنط.
قالتها وهي ترمي نظرة محتقنة تجاه مايا، التي طلت من خلف جسد عُمران الضخم، تصيح: وأنا يعني اللي مجنونة، قصدك أيه يا مامي!

ابتسمت رغمًا عنها، فكلما تستنزفها تردد بتلقائية كلمتها التي لطالما كانت تناديها بها منذ صغرها، حتى اعتاد لسانها على نطق فريدة هانم.
ربت أحمد على كتف علي، ومال يخبره: اسمع الكلام واطلع ساعد مراتك، انت وهي أعقل اتنين في عيلة الغرباوي كلها، اطلع وإحفظ عقلك بعيد عن الجنون ده، خلي واحد فينا سليم يعالج الباقي.
وتابع ببسمة خبيثة: متقلقش الطاووس حاضر هيحل المدعكة دي، هو الوحيد اللي بيقدر لفريدة.

حرك رأسه بخفة، وغادر على الفور، بينما تشير فريدة لها: مايسان قربي هنا والا والله العظيم هاجي أجيبك أنا.
استدار لها عُمران ودنى منها يخبرها بنبرة هادئة مخادعة: صباح السكر والورد والجمال كله على أجمل برنسس في عيلة الغرباوي كلها، اللي محدش يُجرأ يرمي أي كلمة في حقها، ولو حصل فأكيد سوء تفاهم عابر ومالوش أي أساس.
واستدار يستشهد بزوجته: مش كده يا بيبي؟

أكدت باشارة رأسها، بينما مازالت فريدة تتابعها بذراعي معقود: ولد يا بكاش أنت، كلامك مش هيأكل معايا، هاتلي مراتك أربيها، كده كده بنتي وأنا ملزومه بيهها وبأخلاقها.
كبت ضحكة كادت أن تنفلت منه، ومال يقبل جبينها: عارف يا روحي، انتِ أساسًا مميزة في كل حاجة، حتى باهتمامك بشكلك، هو حضرتك مش شايفه جمالك اللي كل يوم بيزيد ولا أيه؟
واستدار تجاه أحمد الذي يكاد فمه ان يصل للارض من فرط دهشته: ما تتكلم يا عمي!

هز رأسه أكثر من مرةٍ بينما يقول: ما شاء الله يا قلبي، كل يوم بتصغري عن اليوم اللي قبله.
حلت فريدة عقدة ذراعيها، وقد لانت تعابيرها قليلًا، بينما تشير تجاه مايا: هاتها هي تقولي الكلام ده.
ابتسم عُمران وأشار لزوجته بأن تقترب، فاقتربت تختفي خلف كتفه بحمايةٍ، فاذا بفريدة تحذرها للمرة الاخيرة: اطلعي قدامي هنا حالا وبطلي تتداري في عُمران!

طلت من خلفه، تقف قبالتها مرتبكة، وحلقها يزدرد بقلق، فسألتها فريدة بجدية مضحكة: هو أنا فعلًا وشي كرمش؟ صارحيني عشان ألحق أحل الموضوع؟!
وزعت نظراتها بين عمها وزوجها الذي يشجعها على النطق، فاذا بها تخبرها: أنا عيبي الوحيد إني مش بعرف أكدب!
صاحت فريدة بانفعال: بمعنى؟!

أسرعت تجيبها بخوف: يعني انتي زي القمر وجسمك متأثرش بالحمل والولادة خالص، أنا اللي معرفش مالي بالظبط، وبعدين حضرتك نازلة ذل فيا من وقت ما جسمي زاد، فكان لازم أخد حقي، وآه بتحامى في جوزي لإنه عمره ما اتخلى عني عشان يتخلى عني دلوقتي.
لف عُمران يديه من حولها، ومال على كتفها يردد بضحكة واسعة: حبيب قلبي الواثق من جوزه، كلامك رشق في قلبي من جوه.

رمقتهما فريدة بنظراتٍ غامضة، ثم مالت تجاه أحمد وسألته بجدية مصطنعة: هو مين اللي جوزهم ببعض يا أحمد؟ يمكن الذاكرة خانتهم وخانتني.
ربت على كتفها بفخر: إنتِ يا فيري.
أكدت بايماءتها ثم قالت ببسمة ماكرة: وأنا حالًا هعرف أخليهم إزاي يرجعوا تحت جناحاتي!
كبت أحمد ضحكاته، وتساءل بشماتة: نطلع بيهم على محكمة الاسرة؟
مسح عُمران على كتفه وغمز له بوقاحة: ما تريح يا عمي، أنت كبير ومش حمل الحوارات دي صدقني!

أتت فاطمة من خلفهما تخبرهم: أنا جبت الشنط، وزينب كلمتني هي وسيف ودكتور يوسف وصلوا المركز.
أستغل على الامر وقال: طيب يلا يا جماعه عشان منتأخرش.
أوقفتهم فريدة باصرار: محدش هيتنقل الا لما أربيها، بنتي وفشلت في تربيتها واللوم عليا.
مال أحمد يهدأها: فريدة البنت داخلة عمليات!
ردت بتهكمٍ ساخر: دي لسالها يومين وتدخل على العاشر، وماله لما تستنى يوم أربيها فيه.

أسرع عُمران لها يساندها ويعركل قدميها، طالعته مايا باستغراب، فاذا به يغمز لها بمكرٍ: مالك يا حبيبتي، حاسة بأيه؟
أشادت بما يفعل، وصاحت بوجع: آه مش قادرة هموت.
هز على رأسه ضاحكًا، بينما لفظتها فريدة بنظرة مشككة، فردد احمد بارتباك ليمر الامر: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، متقلقيش يا بنتي هتقومي وهتبقي زي الفل.
مالت مايا على أذن زوجها تخبره بغضب: علمتني تمثيل الألم أهو حضر بجد يا حبيبي ولا تزعل.

وصاحت تصرخ بألمٍ، فاستشفت فريدة صدق حديثها، فصاحت لعمران بأمرٍ قاطع: إنت بتتفرج عليها، شيلها بسرعة!
حملها وركض بها صوب السيارة، وقادها على سريعًا للمركز، حيث كانت غرفة العمليات مجهزة لاستقبال حالتها، من قبل طبيبة اختارها يوسف لتنوب عنه، اتباعًا لخطة على المحكمة للنفاد من غضب عُمران الجنوني بأقل الخسائر الممكنة.

وبينما تتم ولادة مايا بالداخل، كانت تتم تنفيذ خطة على بالخارج على أكمل وجه، حيث كان الطابق المخصص للجراحة فارغًا الا من وجودهما، حتى فاطمة وفريدة وأحمد لم يكن أحد موجود برفقتهما.
جلس عُمران على الارائك المعدنية مشدوهًا، يعتصر اصابعه بتوترٍ، وإذا به يلتفت جواره مناديًا: علي!

اغلق على الهاتف مع آدهم، بعدما أبلغه بالتوجه رفقة شمس للجناح، وإتجه يجلس جواره وبابتسامة واسعة قال: متقلقش الطابق كله معزول عن المركز، وكل اللي مع الدكتورة جوه ممرضات، حتى اللبس خليتهم يفصلولها لبس مخصوص، أي تعقيبات أخرى؟
بدى وكأنه يتحدث مع طفلًا صغيرًا، تجاهله عُمران وعاد يتطلع أرضًا بوجعٍ، يود لو يتمكن من الولوج إليها.

انضم يوسف إليهما، وقال لعلي بأسف: مقدرتش أقعد تحت، وبعدين أنا منبه عليهم جوه ميطلعوش البيبي لحد، محدش هيسلم الوقح ابنه غيري أنا نادرها.
ومال يضمه بشوقٍ، وبابتسامة حنونة قال: وحشتنا ومبارك ما جالك مقدمًا.

أحاطه عُمران بحبٍ، ومنحه ابتسامة هادئة ثم عاد يجلس محله من جديد، فاتجه يوسف للمقاعد المقابلة له وأشار الى علي، فترك عُمران الذي لم يشعر بهما واتجه إليه، قال يوسف ليحطم قلق علي: متقلقش يا علي، الحالة اللي جات لعمران قبل كده مرتبطة بيك إنت، عُمران مش هيعاني منها تاني.

تنهد والخوف قد أصابه في مقتل: بتمنى يا يوسف، بس لازم أكون جاهز لأي احتمالات، عايز أتأكد بنفسي انها كانت حالة مؤقتة مش هتهاجمه كل ما هيتعرض لخوف شبيه باللي عاشه.
وسحب هاتفه يدون لآدهم
«آدهم من فضلك هات فيروزة وانزل لوحدك»
وبالفعل ما هي الا دقائق وانفتح المصعد، ليطل آدهم من أمامهم، حاملًا الصغيرة بين يده بحرصٍ، حملها منه علي، هاتفًا ببسمة بشوشة: عقبال ما نتجمع باستقبال ابنك يا باشا.

ابتسم آدهم ومازحه بلطف: هنتجمع عندك الاول يا دكتور وبعدين أنا بإذن الله.
هز رأسه بامتنان، وتركه يجاور يوسف بجلسته، واتجه لاخيه، بينما يتابعان ما يحدث بنفس القلق المستحوذ على علي.
انتبه عُمران لاخيه، وهو يخاطبه ليلفت انتباهه وتركيزه كليًا: بص جبتلك مين يا سيدي، حالفة لتحضر استقبال على باشا الغرباوي بنفسها.

تلهف عُمران فزعًا، بل وانتفض يحملها من أخيه بضيق: جبتها ليه يا علي، ازاي أصلًا تجيبوها في الجو ده.
وتابع وهو يعدل غطائها: ودي لفة تلفها بيها، أيه يا أخي معندكش قلب!

بالرغم من ثباته أمامه، الا أنه كان بمنتهى السعادة لمساعدته بالخروج من حالته بمنتهى البراعة، وبدون أدنى مجهود، فلقد نجح بأن يلهيه بالصغيرة التي حملها وجلس بها جانبًا يعتني بها، بل وقد إنطبق عليه جملة يوسف الذي رددها لآدهم منبهرًا: دكتور على نجاحه كله راجع لثباته وذكائه.
واستدار لآدهم يخبره: الراجل ده محتاج يُدرس في كتب الطب النفسي.
ضحك آدهم وقال ساخرًا: وبالجهاز صدقني!

شاركه الضحك، واذا بهاتفه يستقبل رسالة، والآخرى على هاتف آدهم بنفس التوقيت، تطلع كلاهما للهاتف ثم وضعوه، فقال آدهم ساخطًا: سيف وآيوب اتخانقوا عاشر.
هز رأسه، وأضاف مستنكرًا: المرادي آيوب بيشتكي ان سيف معتش بيعبره ولا بيغير عليه! وبيقول انه ضارب صحوبية مع آيثان اليومين دول!
قهقه آدهم ضاحكًا، وقال: والله ما بقيت عارف آيوب عايز أيه، ولا سيف بيعمل أيه؟

همس له وهو يتابع اشارة الممرضة: ديتها قعدة صلح نقضيها بعد ما نستقبل ابن الوقح!
قالها ونهض يسرع للممرضة التي أشارت له، حمل منها الطفل، وهو يهتف بسعادة وكأنه يحمل ابنه: بسم الله ما شاء الله.
انخطف قلب عُمران وعينيه ترفرف من محله تجاه ما يحمله يوسف، رنى إليه مبتسمًا وبمحبة قال: مبارك ما جالك يا حبيب قلبي، ربنا يجعله بار بيك وبوالدته وتفرح بيه يارب.

ضم فيروزة إليه ومال يقبل جبينه ووجنتيه ويديه، ثم نهض يزيح دمعة خائنة أخجلته، بينما يحرر صوته المتحشرج: إديه لباباه يا يوسف.
رمش بعدم استيعاب وكأنه لم يستوعب كلماته، فعاد يكرر: إديه لعلي يا يوسف.
إنصاع له يوسف ووضعه بيدي علي، الذي يحترق شوقًا لرؤيته، حمله وأخذ يهمس بسعادة: ما شاء الله، ربنا يحميك يا حبيبي.
ومال يقبله ويؤذن له بصوتٍ مرتعش من فرط البكاء، شعر وكأن من يحمله هو ابنه بالفعل وليس ابن أخيه.

شعور لا يوصف بالمرة، وخاصة حينما فضله عُمران على نفسه وأمر بأن يحمله هو قبل أن يحمله بذاته.
احتضن آدهم عُمران وهنئه بحبٍ: مبروك يا طاووس، يتربى في عزك.
ضمه بمحبة صادقة وقال: عقبالك يا آدهم، وأوعدك إني هسابقك عشان أشيله قبلك.
رد بحب: أنا هركن على جنب وهسيبك تشيله الاول، زي ما عملت ما على هعمل معاك، مهو الحلو كمان بيترد.
اتسعت ضحكته وقال بما أدهش به يوسف: تعرف إني بحبك!
هتف يوسف مازحًا: سجل يا تاريخ.

وضع عُمران فيروزة إلى آدهم، ومال يهمس ليوسف ضاحكًا: هيسجلكم كلكم من أوسع أبوابه، كفايا انكم تعرفوني أساسًا.

وتركهم وغاب عنهم بالداخل، يتفحص أمر زوجته، انتظر بالرواق الداخلي حتى خرجت بالسرير المتحرك، تحرك جوارها يناديها بقلق، يحاول أن يجعلها تسترد وعيها، ولكن الطبيبة أخبرته بأنها مازالت تحت تأثير المخدر، فاتبع الفراش المتحرك للمصعد، ومنه للباب الجانبي للجناح، حملها عُمران حتى وضعها بفراشها، ومازال الجميع يجلسون بالخارج بانتظار الاطمئنان عليها.

إلتف الشباب حول على وآدهم، كلاهما يحملان فيروزة والصغير الذي شرف الاجواء للتو، سلم على الصغير إلى جمال الذي تلقفه بسعادةٍ، وكان أول ما قاله: حاسس إنه شكل عُمران جدًا!
أجابه سيف وهو يفحصه بشكلٍ ظاهري: مش بيبان على طول كده يا بشمهندس.
صاح به آيوب بمشاكسة: لا بيبان أنت مدينلك الشهادة بالرشوة، متعرفش بطب الاطفال حاجة.

اندهش جمال من اندفاع آيوب، الشاب الطيب البشوش، فمال عليه إيثان ضاحكًا: الادوار اتقلبت بين الزغاليل، ملناش دعوة بيهم احنا يا هندسة، ركز في الخواجة المستقبلي.
اعترض سيف قائلًا وهو يقبل وجنة فيروزة: ما شاء الله على القمراية دي، سكر ياخواتي.
حاول آيوب رؤية وجهها، فانبهر هو الاخر وقال: ما شاء الله ولا قوة الا بالله!

ضحكوا معًا وتفحصوه كأنه قطعة من الآثار الهاربة من المتحف الكبير، فقال آدهم: أنا حاسس إن عُمران لو قفشنا هيبقى رد فعله مش لطيف.
ضحك على وقال مازحًا: متقلقش يا آدهم، أنا مخلي عمي يراقب الاجزاء بره أول ما يقرب هيديني رنة.

وقد أتته الرنة تحذره من اقتراب عُمران، الذي ما أن ولج صاح بخشونة: أنا ميهمنيش مين فيكوا شال ابني، مهما كان ده شاب زيه زينا، لكن اللي مش هتهاون فيه هو إن حد فيكم يحط ايده على أختي، فبهدوء كده أختي كانت مع مين فيكم!

هزوا رؤؤسهم، ومازال الفتاة قيد ذراعي سيف، الذي أسرع يضعها بين يديه، فالتقطها عُمران وقال بوجومٍ شديد: العيب مش عليك يا سرنجة، العيب على أخوها الكبير اللي شكله فرحته بالواد نسيته يعني أيه نخوة.
ذهل الجميع، بينما ضحك سيف وقال: مش متفاجئ أنا، ما طلع عين أمي لحد ما سلكت زينب من عندهم، حتى حضرة الظابط مازال بيعاني.
أضاف يوسف مازحًا: يا ويله وويل ويله اللي هيقع في حب فيروزة هانم.

انطلقت ضحكات الشباب تجلجل بينهم، وجلسوا برفقته لقليل من الوقت، يسود بينهم المزح والمرح، والحديث الجاد حول الفترة التي قضاها عُمران بالمسجد، ومدحه بالشيوخ الذي استمع لهم بتلك المدة، واذا به يتطلع صوب جمال ويهتف بخبث: نسيت احكيلكم على حاجة غريبة حصلت بالمسجد هناك.
سأله آيوب بفضولٍ: حاجة أيه؟

قال ومازال يراقب جمال المرتبك: كل يوم كان في شخص ابن حلال بيجي عند المسجد وبيوزع واجبات وعصاير للناس اللي بره وجوه المسجد.
وأضاف ومُقلتيه تضيقان بخبث: لا وسبحان الله كل الاكل اللي كان بيتوزع كان أكلاتي المفضلة، لا ونفس العصير الغالي اللي بحبه!

ابتلع جمال ريقه بارتباك، وقد انتقلت جميع الاعين له، والابتسامة والاعجاب بعلاقتهما تزداد، بينما يستهزأ عُمران: قال قولي يا جيمي هي شوشو لسه بتزعل لما حد بيقول على الحاج إنه اتكل على الله، أصلى أنا الوحيد اللي أحب أدلعها وأمشي معاها في سكة إنه حي يرزق، ساعتها تطبخ بمزاج وتأكل من ايدها شوية ملوخية ومحاشي عجب.

وأضاف باسلوبٍ ملتوي: ويا سبحان الله الواجبات اللي كانت بتوصلني كان نفس أكلها ونفسها في الأكل تخيل؟!
أسرع يدافع عن ذاته قائلًا: كنت بجيب الواجبات وبمشي تاني والله ما دخلت ولا قطعت اعتكافك!
ضحك عمران والشباب، بينما يهتف آدهم ضاحكًا: مش محتاج لاي وسائل تعذيب يا بشمهندس، كله طالع تصاريحك يا صريح!

نهض إيثان يشير للشباب: طيب بينا يا شباب، بلاش نتقل على الجماعه أكتر من كده، أنا وعدت يونس اني مش هتأخر، هو مشغول مع جماعته شوية وبيعتذرلك يا خواجه انه معرفش يجي.
ربت على كتفه بتفهمٍ، وبدأ الشباب بالمغادرة، فقال آدهم ليوسف: ورانا قعدة عرب، هخدهم وأطلع بيهم على أقرب كافيه، هتيجي معانا.
قال بانهاكٍ: هبص على مدام مايا، وهحصلكم على طول، ابعتلي اللوكيشين.

هز رأسه بخفة، وغادر رفقتهم، ولم يتبقى الا على وأحمد الذي ولج للتو يصيح: أشوفه، يا تدوني بنتي، ادوني أي حد.
قدم له عُمران الفتاة، وقال يحذره: لم البطانية عليها الجو مش مظبط.
ومال يلتقط الصغير من أخيه، يحمله ويضمه بسعادة، ثم رفعه لاحمد الذي قبله وقال بصوت حفزته العاطفة: شبهك انت وعلى وأنت مولودين يا عُمران.
استدار تجاه على وقال بابتسامة جذابة: يا رب يكون زي على يا عمي، يارب.

ربت على كتفه وقال بجدية تامة: يا رب يكون زيه وزيك في حنية قلبك وطيبتك يابني.
ابتسم عُمران، وخرج به، فاذا بشمس تهرول له بلهفة: أنا مشفتوش يا عُمران، كده ظلم على فكرة، بقالكم ساعة واخدينه جوه.
منحه لها وهو يضمها قائلًا بمزح: الواد وأبوه تحت أمر جنابك يا شمس هانم، المهم متتعصبيش عشان البرنس اللي جوه ميكرهنيش.

قبلت الصغير بفرحة وانبهار، وركضت صوب فاطمة وفريدة تخبرهما بسعادة: بصوا الجمال، جميل جدا ما شاء الله.
انتبه عمران لاشارة يوسف له، فعلم بأنه يود أن يفسح له مجال الولوج لغرفة مايا، منحه ما أراد حتى ولج لها.
بينما اقترب على منهم وأشار لفاطمة قائلًا: فاطمة هاتي شمس و تعالوا نروح نطعمه.
حملته بحرص واتجهت برفقته هي وشمس، بينما جلس أحمد برفقة فريدة التي هدهدت الصغيرة حتى غفت.

دموعها إنسابت على وجهها، بينما تجاهد لفتح مُقلتيها، أزعجها الضوء بالبداية ومع ذلك حاولت، حتى تسرب إليها الضوء، وبدأت تراقب المحاوطون لفراشها، واحدًا تلو الأخر، ومازالت في رحلةٍ بحثها عمن تركته بالخارج، فاخترق مسمعها صوته الهامس بجوارها: أنا هنا!
قالها بنبرة دافئة، داثرت جسدها البارد، فمنحته ابتسامة خرجت بكل تلقائية، مع نداء خافت: عُمران!

أنزاح عنه القلق أخيرًا، وتنهد يجيبها بهمسٍ متعب: حبيب قلبه وروحه وعمره إنتِ، خضتيني عليكي يا مايا.
أشرقت إبتسامتها من جديدٍ، ثم ما لبست حتى عاد العبوس لوجهها، تحررت عنها أحبالها المتحشرجة، فهمست بكلماتٍ لم تكن مفهومة بالمرة له، فنهض عن مقعده، ومال ينحني تجاهها متسائلًا بفضولٍ: بتقولي أيه؟!
عادت تهمس له مجددًا، فالتقطت آذنيه لأخر كلماتها وبدايته لم تكن واضحة له؟
فين؟

رد عليها بابتسامة حنونة: تقصدي ابننا! متقلقيش على أخده لدكتور الأطفال يديله التطعيمه وزمانه جاي بيه.
هزت رأسها برفضٍ لما قال، وعادت تكرر سؤالها بوضوحٍ أكثر، وصراخًا فزع الممرضة و يوسف الذي يدون لها ما ستفعله: بقولك رجليا فين؟
رمش بعدم استيعاب لما تقوله، بينما تشرأب بعنقها، في محاولةٍ لرؤية أن كانت ساقيها موجودة بالفعل أم لأ، وبنفس الاصرار صرخت: وديتوا رجلي فين؟

انتقل عُمران ببصره نحو يوسف، الذي رفع يديه قائلًا: الحمد لله إني محضرتش الولادة دي، فبالتالي أنا براءة من أي سرقة أعضاء هتتهم المركز بيه، وأقولك عايز تبلغ عن دكتور على بلغ كده كده إنت أول واحد هتتشيع وراه!

عادت مايا تميل برأسها على الوسادة، والبكاء يتلبسها بينما تهتف بكل عدائية: إنت إزاي تفتكر الحرباية ألكس ومتفتكرنيش أنا، لا وبأي عين تطلب مني أصبغ شعري زيها، عُمران يابن فريدة هانم الغرباوي إنت خاين!

اندهش من تلك الحالة التي سيطرت عليها فجأة، وخاصة حينما بدأت بالبوح بالأعمق من ذلك، وما لم يكن بالحسبان دخول فريدة وأحمد، فلم يملك عُمران خيارًا أخرًا ومال يكمم فمها، ليوقف وابل الفضائح والاعترافات التي ستلقيها، فاذا بفريدة تهدر فيه غاضبة من تصرفاته: إنت بتعمل أيه للبنت، إبعد ايدك عنها!
هز عُمران رأسه، وقال متصطنعًا ابتسامة باردة: دي تمارين يوسف قالي أعملهالها.

استنكرت فريدة قوله، واستدارت تجاه يوسف الذي عدل من نظارته بصدمة مما يحدث قبالته، وأشار ببسمة واسعة: أنا ورايا حالة حرجة في الولادات، آآ. أقصد في العمليات، بالسلامة أنا بقى.
وزع أحمد نظراته الحائرة بين يوسف وعُمران، وقد انتباه قلقًا مما يحاول عُمران منع حدوثه، فحاول التدخل حينما قال مبتسمًا: ما تيجي ننزل الكافيه تحت نشرب قهوة يا فيري!

منحته نظرة محتقرة، جعلته ينسحب للخلف بهدوس مضحك، بينما تلكم عُمران بحقيبتها الكلاسكية وهي تأمره بصرامة: إبعد عنها وحالًا.
رفع يده عن فمها، فاذا بها تستدير تجاهها مبتسمة ابتسامة نثرت القلق على الوجوه، وتضاعفت فور أن نطقت بكل حبور: عقربة هانم إزيك!
رفرفت فريدة بعينيها، وتساءلت: هي بتقول أيه؟!
رسم عُمران بسمة بلهاء وقال: بتقولك فريدة هانم.

هزت رأسها بشكٍ، بينما تعود مايا للحديث بتيهة: بقى أنا بعد كل البهدالة دي وفي الآخر تعمل فيا كده، إنت قضيت على مشاعري وقلبي، إنت حقيقي قليل عليك رفعة الشوز، أنت كنت عايز ك...
كبت عُمران فمها بصدمةٍ، وصرخ في يوسف الذي طل من خلف الباب له: انت عارف لو مجتش فوقتها هطلع بروح أمك!
جحظت عيني فريدة صدمة، ومالت تضربه بحقيبة يدها بعصبية: أيه الالفاظ المتدنية دي يا قليل التربية.

أجابها ومازال يسيطر على زوجته: ده أنا رحمك من اللي ممكن تسمعيه، صدقيني أنا خايف عليكي.
ومال يهز رأس زوجته صارخًا بها: مايا فوقي، فريدة هانم بنفسها جايلك تتطمن عليكي يا بيبي.
قالها وهو يضغط على إسم فريدة عساها تسترد وعيها، فمالت برأسها تهمس: بكيزة هانم وصلت!
صعقت فريدة وكممت فمها بيدها، هادرة بصدمة: مين بكيزة! أنا بكيزة!
هز أحمد رأسه وقال موضحًا: بتقول فريدة.
صاحت نافية: No بتقول بكيزة انا سمعتها.

تنحنح يوسف وهو يسيطر بصعوبة على ذاته: لا يا فريدة هانم بتقول فريدة.
وأضاف لينجد عُمران الذي تورمت يده من قرصها عليه باسنانها: لو ينفع تستنوا بره بس هبص على الجرح.
هزوا رؤؤسهم بتفهمٍ، وخرج أحمد برفقة فريدة للخارج، وحينها سحب عُمران يده وهو يزفر براحة، بينما تميل مايا تجاهه، فتحت عينيها وقالت باكية: إنت عايز تبعد عني تاني يا عُمران، حرام عليك؟!

أغلق عينيه يحجب كل ما يمكن أن ينطق به وقاحته في تلك اللحظة، بينما يردد يوسف شامتًا: أخليهم يجبولك عصير ليمون!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة