رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وأربعة وعشرون والأخير
أرخى جسده على مقعد مكتبه، يستريح من عناء هذا اليوم الطويل، فاذا بهاتفه يستقبل رسالة من زوجته، تجيبه على رسالته
«أنا سيبت البنت مع المساعدة وجيت أشوف مايا، وبصراحة ارتاحتلها جدًا وحاسة إنها هتفيدني الفترة اللي جاية، وخصوصًا إني هنزل المركز اتابع شغلي»
ابتسم وهو يكتب لها بفرحة.
«قولتلك إنها بنت حلال، أنا سأل عليها كويس، اللي مفرحني إنك قررتي أخيرًا ترجعي لشغلك، وقاعدة البيت منجحتش بإغرائك. »
اخذت دقيقتين لتكتب له
«هي فعلًا بنت حلال، بس بردو مازلت خايفة ليحصل زي ما بيحصل اليومين دول وتلطشك مني، يعني تستغل غيابي في المستشفى وتتحرمش بيك، وإنت تقع في غرامها، وأرجع ألقيك أتجوزتها عليا، بس لو حصل هشرحك حي ومن غير تخدير يا دكتور الحالات المتعسرة! ».
اهتز الهاتف بيده من فرط الضحك، بل استجمع ذاته بصعوبة وهو يدون لها
«عيوني شبعانه بيكِ يا دكتورة، بحب جزارة بشر! بس على قلبي زي العسل يام نوجة»
وأضاف ضاحكًا
«يهون عليكي تخضيني، افترضي جاني ذبحة وأتشيعت من الرعب مين هيفيد النسل البشري من بعدي، طيب أنتِ معندكيش نية تعمليها مرة تانية؟ »
اتاه الرد صادمًا.
«أنت اللي معندكش نية للحظر من التليفون والحياة يابو بنتي يا غالي؟ بالمناسبة زينب من ساعة ما دخلنا وهي شايلة على الصغير ومنتحة قدامه، وشوية وطالعالك، أسترجع عن الطب ما شئت عشان هيفيدك معاها، بالشفا يا دكتور».
انتصرت عليه انتصارًا ساحقًا، بينما انتفض هو بمحله، فسقطت نظارته الطبية أرضًا من شده انتفاضته، في نفس توقيت فتح علي باب المكتب، باحثًا عنه، فرنا إليه متسائلًا باستغرابٍ من رؤيته يجلس أسفل مكتبه: أنت بتعمل أيه عندك يا يوسف؟
طالعه في لهفةٍ، وكأنه وجد سبيل النجاة من عتمته، فنهض يصيح مفزوعًا: علي. إلحقني يا علي!
اندهش على من حالته الغامضة، وبنفس ثباته الذي يتخذه من بداية دخوله قال: خير؟ عُمران هددك بشيء؟
خرج له يخبره وهو يتابع الباب بقلقٍ: هي زينب فين؟
اجابه ومازالت الدهشة تحاوطه تجاهه: مع مايا والبنات تحت.
ارتسمت بسمة إرتياح على وجهه، وأسرع ينزع البلطو الطبي عنه، بينما يسحب محفظته وهاتفه ومفاتيحه: كويس جدًا، ألحق أهرب قبل ما تقبض عليا، ورايا قاعدة صلح مع حضرة الظابط، ومش ناقص فرهدة.
واستدار لينجو بذاته، فإذا به يلقى حتفه بتلك التي تقابله عاقدة الذراعين، والحاجبين، ويغضب قالت: هتساعدني ولا أشوف دكتور غيرك؟
عبث على باسترابةٍ، وبذهولٍ تام تساءل: خير يا زينب، محتاجة مساعدة في أيه؟
استندت على ذراعه الممدود، وخطت برفقته بطرقة الجناح، وكلما زاد تعبها، مالت على كتفه تبكي من شدة الوجع، فإذا بعينيه تدمعان تأثرًا بها، فقرب رأسها لذقنه، وقبل جبهتها، هامسًا بصوت احتقن بدموعه: سلامتك من أي وجع يا حبيبي.
ودعمها محمسًا: يوسف قال أنك لو مشيتي في الجناح، هيوافق أنك تروحي البيت.
بكت وقالت بتعبٍ: مش قادرة.
حاوطها كليًا بذراعيه، إنحنى يحملها بخفةٍ، ويمازحها ليرى بسمتها الذي أفتقدها: تعالي ريحي جوه، ومتقلقيش هروحك غصب عن عين أمه، كلامه يمشي على نفسه مش عليا.
تبسمت وهي تمنع صوت ضحكاتها من الخروج، فبالرغم من أنها لجئت للولادة دون ألم الا أنها مازالت تشعر بالألم.
تحرك بها خطوتين، ووقف يمنحها نظرة مشاكسة: مش عايزة تعرفي هلوستي في البنج بأيه وغلطتي في مين؟!
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، وقد تسلل لها الرعب، فأحاطت رقبته ومالت تستند بتعبٍ: مش مهم، بعدين اصدمني.
ضحك بصوتٍ أطرب قلبها، وأيد قولها: على رأيك.
وأتجه بها حتى غرفتها، عاونها على النزول عن يديه وقال هامسًا: ده أخري، البنات جوه مش هينفع أدخل.
هزت رأسها بتفهمٍ، فطرق على باب الغرفة، وقد اخشوسنت نبرته وهو ينادي: شمس، ممكن تساعدي مايا؟
خرجت أخته على الفور، تلتقطها منه، وتعاونها للدخول، وقد أسرعت لها ليلى والفتيات يعاونوها على التمدد بالفراش.
أتخذ علي مقعدًا جانبيًا مقرًا أمنًا له، وأخذ يتابع الحوار المتبادل بين زينب ويوسف بدهشة، وضحكات نجح بكبتها قدر المستطاع، وأن بذل قصارى جهده لذلك، وقد برز مجهوده بعرقه النازف فوق جبينه، وهو يشرح لها للمرة الثالثة أن الامور طبيعية ولا يستدعى الأمر، لتناول المشنطات، فهتفت بنزقٍ: هو إنت مفيش عندك الا نفس الجملة، أنا زهقت منك بجد يا يوسف، أديني منشطات أجربها، يمكن ربنا يكرمني عليها!
وأضافت والحزن قد تشكل جديًا على ملامحها: نفسي ربنا يكرمني بيبي صغنن، أعتني بيه وأحس أني مسؤولة عنه مسؤولية كاملة.
حاول أن يمازحها ليخرجها عن نوبة ضيقها: وسيف أثر معاكي في أيه؟ اعتبريه ابنك واتحملي بردو مسؤوليته كاملة عادي! هو أصلًا على الله حكايته ومبيعرفش يعمل لنفسه كوباية الشاي!
طرقت بكلتا يديها على المكتب بغضب: انت كتضحك عليا أ يوسف يااك، انا كنت عارفة انك ماشي شي دكتور واعر، و ما كتعرف والو، انت دخلتي هاد التخصص غلط
(إنت بتستهزئ بيا يا يوسف، أنا كنت متأكدة أنك دكتور أي كلام، ومالكش في أي حاجة، إنت دخلت القسم ده بالغلط. ).
وأضافت بنفس نبرتها المغربية، التي صعق لها يوسف وعلي: انا ماعرفاش علاش كنضيع و قتي معاك اصلا، انا غنطلع لعند الدكتورة الين باش تعاونني، ولكن قبل هادشي غادي نفضحك، خاص الصونطر كله يعرف انك دكتور فاشل،
انت فاشل أ يوسف
(أنا مش عارفة ليه بضيع وقتي معاك أصلًا، أنا هطلع على الدكتور آلين تساعدني، بس قبل ما أعمل كده هفضحك الاول، لازم المركز كله يعرف أنك دكتور فاشل، إنت فاشل يا يوسف. ).
وقف قبالتها يعدل من نظارته بصدمة من الحالة التي تلبستها فجأة، وتهته باستنكار: أنا موصلنيش أي حاجة من الهيروغليفي ده غير مشتقة كلمة الفضيحة!
رددت بالمصري وقد استعادته عن جدارة: وأي فضيحة أنا هوقف حالك وحال المركز كله بسببك.
خرج على عن صمته، قائلًا بضحكةٍ رنت صداها بالارجاء: متتعبيش نفسك يا زينب، أنا قررت اقفله طالما المركز تاعب العيلة كلها وبيفكروا يقفلوه ازاي.
استحضرت وجوده في تلك اللحظة، وكأنها تناسته تمامًا، فقالت بحرجٍ: ما أنت مش شايف طريقته بالكلام يا علي؟
أكد لها حتى لا يعرضها لاحراج أكثر: شايف وبصراحه معاكِ حق.
جحظت عيني يوسف بصدمة، ومال يطرق كتف على هامسًا: أيه يا دكتور على مالك، ده إنت الوحيد اللي مثال حي للأخلاق والاستقامة!
دفعه برفق وقال وهو يشير على العُلبة التي أحضرها إليه منذ قليل: روح يا يوسف إكتب لزينب الدوا المناسب ليها، وبص بكرتونة الادوية اللي لسه جايبهلك من شوية، يمكن تلاقي فيها حاجه.
إتجه مندهشًا للطاولة، وبصعوبة سحب بصره عنهما وتفحص ما بالعُلبة، فوجد زجاجات مختلفة، أغلبهم فيتامينات، ونسبة قليلة للمعاونة بالانجاب، عاد يوسف ببصره لعلي وهو يحك رقبته بحيرةٍ، غمز له علي، فتفسر خطته الواضحة إلى يوسف أخيرًا، فاستغل انشغال على بالحديث معها، وفتح إحدي زجاجات المنشطات، ثم سكبها بالعُلبة، ثم فتح علبة الفيتامينات وسكبها بها.
أعاد غلقها، وهرول يقدمها لها بابتسامة واسعة: اتفضلي يا زوزو، عشان بس تعرفي معزتك عندي.
تناولت منه الزجاجة بابتسامة واسعة، ثم رفعت بصرها نحوه بنظرة حادة، لتصحح مفهوم جملته: معزة! لا مهو واضح، لولا جوز أختي مكنتش شوفت منك حباية دوا حتى.
وأشارت باصبعها في وجهه حتى تراجع للخلف برعبٍ، بينما تحذره هي: أوعى تكون مفكرني هبلة وهتضحك عليها، أنا هبحث عن إسم الدوا وهتأكد هو لأيه بالظبط، ويا ويلك مني يا يوسف لو كنت بتخدعني.
كاد على أن يسقط من الضحك، وقد أحمر وجهه بشدة، عدل يوسف نظارته وتنحنح بخشونة تسترعي جديته المهدورة: عيب يا زينب، أنتِ كده بتقللي من قدراتي كدكتور نسا معروف، وشاطر في مجالي.
أحاطته بنظرة ساخرة، ودمدمت بسخط: كل الصفات دي بلح، مش بيظهروا الا في الحالات المتعسرة، غير كده أنت متنفعش حتى دكتور أطفال يا دكتور!
قالتها وغادرت، فظل يتابعها حتى غادرت، فصاح بغضب حينما اطمئن لرحيلها: على أخر الزمن تيجي دكتورة تحت التدريب تشكك فيا أنا، طيب لعلمك بقى إنتي اللي محتاجه تركزي في شغلك ومذكرتك كويس، بدل ما تطلعي السنادي بخمس ملاحق.
وتابع وهو يراقب على الذي يتابعه مبتسمًا، وثباته قد أثار ضيقه: بذمتك يا دكتور واحدة زيها هتعرف تهتم بعيل وهي داخلة امتحانات كمان كام شهر، دي أخرها تتفرج عليهم من بعيد ويتكتب ليها هي بالذات ممنوع اللمس!
نهض على عن سطح المكتب، وإتخذ خطوتين تجاهه، يربت على كتفه بنفس الهدوء: هتتأخر على مشوارك يا يوسف، حافظ على هدوءك هتحتاجه لقاعدة الصلح.
هز رأسه وهو يهتف بضجر: معاك حق والله.
اتسعت بسمة علي، وأشار للعلبة: هنزل أنا، بس متنساش تخفي الجريمة يمكن ترجعلك تاني.
هرول للعلبة، يحمل للاقراص والزجاجة الفارغة، يتخلص منهم بالسلة، ثم عاد يقف قبالته هاتفًا بانهاكٍ: عنيفين أوي المغاربة دول!
ضحك بصوت مسموع، وقال يمازحه: لا مش كلهم، بلاش نظرتك في زينب تخليك تأخد فكرة مش لطيفة عنهم.
وأكد له ضاحكًا: من تجربتي المستمرة إن مش كلهم عنيفين، في صنف طيب وقلبه أبيض.
هز رأسه هاتفًا وهو يتابع محل رحيلها: طمنتني.
وعاد يخبره بخوف: أنا خايف على بنت أو ابن سيف من دلوقتي، هينزل خلقه ضايق وأنا أحب التعامل الهادي يا علي!
قهقه ضاحكًا، وبصعوبة تحرر حديثه: لا اطمن، الاطفال طباعهم بتكون ناتجه عن التربية، فلو خايف عليهم اتبناهم، زي ما هعمل مع ابن عُمران بالظبط!
عاد يحرك رأسه باقتناعٍ: حل ممتاز.
وعاد يتطلع له مبتسمًا: تصدق إنك انقذتني النهاردة منها.
وأضاف بحماسٍ: هات حضن يطري مقاسي اليوم اللي مش راضي يخلص ده.
راقب على من يقترب إليه بدهشةٍ، وقبل أن يستوعب يوسف ما يحدث، وجد ذاته ملقى على سطح مكتبه، وعُمران منكب عليه، ويديه تلتف حول عنقه، وبشرٍ وحدة صاح: أخص عليك يا جو، محتاج تطري وأنا موجود، دي حتى تبقى عيبة كبيرة في حقي يا جدع.
وأضاف وهو يلكزه بعنف: مش أنا منبهك قبل كده وقايلك تتعامل مع على بحدود؟
هز رأسه وهو يردد من بين سعاله الحاد؛
حصل.
عاد يخبره من بين اصطكاك أسنانه: لا وإنت شاطر وعامل بكل كلامي، ده إنت داخل وبترسم على تقيل!
وأغلق عينيه وهو يجاهد ذاته، فضحك يوسف وسأله: أنا غلطت وعارف بده بس أعذرني في سؤالي أنت كويس، في أصوات عندك غريبة ومش طبيعية، إنت هتتحول ولا أيه؟!
فتح رماديتاه وهمس له: بحارب شياطيني اللي بيقولولي أفتح مطوتي عليك، بس للاسف اتأكدت أن اللي بعمله ده حرام مية في المية.
وأضاف وهو يعود يلكزه: بس متفكرش إنك نفدت مني بروح أمك. أنا مازلت بحاول أحجب كلابي عنك بس أنت اللي مصر تفك وثاقهم!
تنهد على بغضب، وناداه: عُمران!
زفر بغيظٍ وهو يحاول أن يكظم كل سبابه، ونهض يترك يوسف، الذي يحاول السيطرة على ضحكاته، حينما تذكر موقف سيف وآيوب، والإن عمران وعلى فاذا به يخبر على وهو يسقط ضحكًا: هو في أيه؟ مش المفروض الغيرة دي كلها تتجه نحية الزوجات؟! في حاجة غلط!
منحه عُمران نظرة ساخطة، وهدر: هتغور من وشي ولا أوريك الغلط ييتعمل إزاي!
سحب جاكيته وقال متخذًا طريق السلام: لا وعلى أيه، أنا كده اتطمنت عليك جدًا، هستأذن انا بقى، ورايا طالعه تانية في مكان قريب من هنا، سلام.
قالها وانسحب بهدوء، ولم يتبقى سوى الطاووس، وأبيه الذي يمنحه نظرات غاضبة، جعلته يذم شفتيه بعصبية لحقت نبرته: هو أنت فاتح حضنك لكل من هب وداب! في أيه يا على ده حتى مكنة السحب بتغلق للصيانة!
ربع يديه أمام صدره ببرود لحق نبرته: هو مش يوسف ده من أعز أصدقائك ولا أنا بنسى!
هز كتفيه بعد تفكير: مقولتش حاجة، بس مش مبرر يا حبيبي، أنا كل ما بدب رجليا بمكان بسيبه ونص اللي فيه أصحابي، هتمشي ورايا تلقفهم بالاحضان يعني؟!
حل عقدة ذراعيه، ودنى إليه يتلقفه في ضمة، قائلًا بحنان: لا هتلقفك أنت بس في حضني، ده أنت حبيبي!
رفع بصره إليه يهاتفه بضيق: عيل صغير أنا! بتأخدني على قد عقلي!
ربت على ظهره وقال وهو يحجب ضحكته: أنا بحاول أعدي اليوم الصعب اللي عشته.
اغلق عينيه واستكان يمازحه: إذا كان كده ماشي.
ضحك على وبعده بينما يقول بجدية: يلا إنزل شوف مايا عما اجيب العربية. يوسف قال أنها عادي ترجع طالما مصرة ومش حابة تبات هنا، وهنشوف حد من الممرضات تقضي النهاردة وبكره معاها زيادة اطمئنان.
حرك رأسه بهدوء، وهبط متجهًا لجناح زوجته.
كلاهما يجلسان قبالة بعضهما البعض، ووجوههما تنحرفان بكل أتجاه الا مقابلة كلاهما الآخر، بينما بالمقدمة كان يجلس آدهم يتابعهما والضحك يكاد أن ينصهر على شفتيه القابضة عليه.
وكأنه جالس ليفض نزاع طفلين صغيران، اختصم كلاهما وتجنب الأخر، استند على كفيه يتابعهما من فترةٍ لأخرى، ومن ثم يرتشف عصيره بجمودٍ تام.
أتخذ وقتًا إضافيًا، حتى صاح بتهكمٍ من عنادهما: ها وبعدين؟
رمقه آيوب بنظرة خاطفة، وعاد يتطلع للجانب الآخر، في حين أن أجابه سيف ببراءة خبيثة: والله ما لاقي إجابة على السؤال ده، أهو قاعد قدامك لوي وشه ومديني ضهره، الظاهر إنه فاكر إن القاعدة دي كلها لرسم بوتريه لقفاه!
واجهه بنظرة متعصبة، وصاح فيه: لم لسانك أحسنلك.
زوى آدهم حاجبيه بدهشة من حدة أخيه، فبدى حازمًا معه ولأول مرة: آيوب! أيه الاسلوب ده، من أمته وإنت بتتكلم مع حد بالطريقة الحادة دي أصلًا!
تقهقهر جبروته عن حدته، وطالع رفيقه بنظراتٍ مرتبكة، وخاصة حينما رأى يوسف يرنو إليهم، يجذب أحد المقاعد ويجلس بعدما قال: أتاخرت عليكم.
ابتسم له آدهم، ومازحه: لو اتاخرت عن كده كنت هكلمك.
وزع بصره نحو أخيه وآيوب باستغراب: للدرجادي! أيه اللي وصلكم للحالة دي؟
حرك سيف كتفيه في حيرة: مش عارف والله يا يوسف، أنا لسه مكلمه من فترة قريبة جدًا، ومكنش في حاجة.
هاتفه آيوب بعصبية: من تلات أيام تقصد!
رد سيف بنزقٍ: ودي فترة بعيدة!
أسرع آدهم بالتبرير: من قريب أهو يا آيوب مالك بقى؟
استدار لاخيه يعترضه: بذمتك من تلات أيام ده من قريب!
ابتسم يوسف وقال بثبات: طيب مش أنت عريس جديد وكده يا آيوب، أكيد يعني سيفو متفهم النقطة دي، ده المفروض تصرفات الراجل العاقل واللي أنا مستغرب إنها تلبست سيف فجأة!
اشتكى له آيوب بجديةٍ أضحكته: مش مبرر ده يا دكتور يوسف، انا لما كنت بكلمه كل يومين كان بيبلكني!
قال آدهم بسخطٍ: ومش ده كان مضايقك!
ارتبك من نظرات أخيه، وانسحب من الحديث، فاستشف يوسف بشيءٍ يود أن يبوح به آيوب، ولكن ليس بحضراتهما، فنهض يشير لآدهم قائلًا باسلوبٍ ماكر: بقولك أيه يا آدهم، أنا راجع من المركز مرهق، تعالى نقعد على تربيزة تانية نشرب فنجانين قهوة، ونسيبهم يحلوا مشاكلهم مع بعض.
فطن آدهم حيلته، فسحب محفظته ومتعلقاته، وأتجه خلف يوسف الذي إختار الجلوس على طاولة بعيدة عنهما؛ ليمنحهما الخصوصية المطلوبة.
رمقه آيوب بنظرة متكبرة، فتنهد سيف بقلة حيلة، وسأله: مالك يا آيوب؟
منحه سؤالًا أخرًا مماثلًا له: إنت اللي مالك، بقى سهل تعدي يومك من غير ما تعرف إذا كنت كويس ولا لا.
قال مندهشًا من نيرته: ومش هتكون كويس ليه وأنت لسه ببداية حياتك! إنت بجد مش طبيعي!
صرخ بوجهه بصوتٍ متعصب، جعل الجميع يلتفتون إليهما: لا انت اللي مش طبيعي مش أنا.
حذره سيف لصوته المرتفع، فاستدار من حوله بحرجٍ، وخاصة من نظرات آدهم ويوسف، فابعد المقعد للخلف بعصبية ونهض يغادر المطعم، كاد آدهم باتباعه، ولكن أوقفه يوسف مشيرًا له: سيف طلع وراه، سيبهم يتكلموا شوية يمكن الدنيا تهدى.
انصاع ليده وعاد يجلس مجددًا، وقد تأكدت ظنونه كاملة حول الحالة الغريبة التي تلبست أخيه!
ركض سيف خلفه يناديه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبةٍ: يا آيوب اقف بلاش لعب العيال ده، وبعدين مش أنت كنت بتتضايق مني ومن طريقتي اديني بحاول أغير من نفسي، فأيه اللي زعلك.
وقف يواجهه بغضب فاح صيته مع نطقه: يعني إنك تتعمد تبعد عشان تظهرلي انك اتغيرت ده في نظرك هيرضيني!
تنهد بتعبٍ، وقال: طيب يا آيوب أنا آسف، أنا متعمدتش أبعد والله، أنا كنت بديلك المساحة الخاصة بيك بما أنك عريس جديد مش أكتر، وبصراحه محبتش أكون رخم!
ارتخت معالمه المشدودة وأخذ يسحب انفاسًا صاخبة، تنافس صراع صدره المنتفض، فاستدار يغادر صوب إحدى الاستراحات المحددة على طرفي النيل، جلس ينكس رأسه بين كتفيه في حزنٍ، جعل سيف يتبعه والوجع يتعمق داخله، فجلس جواره يخبره بأسى: معقول أكون وصلتك للحالة الغريبة دي، آيوب الموضوع تافه وأقل من إنك تنزعج بالشكل ده.
وأضاف حينما طال صمت الاخير: طيب اعتذرلك تاني ولا أعمل أيه؟!
وبحيرة ردد: إنت أيه حصلك بس، كنت أعقل مني ألف مرة.
رفع رأسه إليه مترددًا فيما سيقول، وبعد معاناة قال بكلمات مختصرة: عرفت مكان قبر أمي الحقيقية، ومش قادر أروح أزورها.
حصل على تفسيرات منطقية لحالته الغامضة، وأجاد التعامل معها بحرفيةٍ: طيب وأيه اللي مخليك مش قادر تروح؟
أبدت حيرته ظاهرة باحباله: مش عارف، حاسس إني هكون بظلم الحاجة رقية، وفي نفس الوقت أنا ظالم ومقصر في واجباتي تجاه أمي الحقيقية.
وبوجعٍ شرح له ما يعيش فيه بالفعل: رجعت لنفس دوامة الشيخ مهران ومصطفى الرشيدي يا سيف!
مد كفه يشد على ساقه، بينما يخبره بقوةٍ: مش محتاج ترجع لأول الطريق من تاني يا آيوب، خلاص انت اتخطيت كل ده بفضل الله، زيارتك لوالدتك واجبه عليك، ولو خايف على مشاعر الحاجة رقية بلاش تقولها إنك بتروح وبتزور قبر والدتك، خليك ذكي في التعامل، بدون ما تجرح حد.
وبحكمة شد بصره حول نقطة هامة: أنا عارف إنك قلبك نقي وأبيض، ومبتعرفش تكدب ولا تحور، بس الصفات دي هتتخلى عنها مؤقتًا لو هتجرح الحاجة رقية، لانها مش قوية زي الشيخ مهران اللي اتقبل مشاركة مصطفى الرشيدي فيك، خلي زيارة والدتك سر بينك وبين نفسك عشان متأذهاش.
رفع عينيه إليه، وقد غمر فيروزته الارتياح لما قال، وبصلابة ثابتة قال: تيجي معايا.
ضيق عينيه بعدم فهم، فسأله: فين؟
رد بصوتٍ متألم، نقل ربكته الظاهرة: عندها، في المقابر.
واستطرد وقد سطرت دمعة خذلان على وجهه: حاسس إني مش جاهز للزيارة دي، ومش قادر أخرها عن كده يا سيف، أنا اتربيت على صلة الرحم، حتى لما نزلنا هنا مازلت بزور الاستاذ ممدوح وبعامله كأب ليا، فمش معقول ههدر حق الست اللي جابتني على الدنيا دي، أمي الحقيقية يا سيف.
خفق قلبه بثقلٍ، وقد لمس حجم معاناته، فنهض يشير له: هاجي معاك، يلا قوم!
فردت كفها ونثرت الحبوب، فرفرف الحمام الأبيض بجناحيه، وهبط يتلقف ما ألقته له بجوعٍ، راقبته وابتسامتها أشرقت لتنافس ضياء القمر في سطوعه، وحجابها يتدلى من خلفها، محررًا خصلاتها القصيرة من حول وجهها.
فأبعدته ومالت تراقب زوجها، الذي انتهى من صنع قدحين من القهوة على الفحم المقتاد، فحملهما وأتجه إلى الأريكة التي تجلس من فوقها، يقدم لها ما بيده قائلًا بابتسامة جذابة: أجمل فنجان قهوة لست البنات.
أحاطت الكوب بكفيها، وسعادتها بكلماته البسيطة تطرق مشاعرها وعواطفها، فأجلت أحبالها تشكره: تسلم إيدك يا يونس.
اتسعت بسمته وهمس: يا حظ يونس بسماع إسمه بالحنية والرقة دي.
ضحكت اطراءًا لحديثه، وسحبت رشفتها الأولى من الفنجان، فتلذذت بمذاقه للغاية: مظبوطة جدًا، طعمها جميل جدًا ما شاء الله.
بنفس ابتسامته ونظراته الدافئة قال: ألف هنا على قلبك.
تصنعت انشغالها بابعاد خصلاتها للخلف، فلاحظ أنها لم ترتدي الحجاب كاملًا، ففاه غاضبًا: فين نقابك يا خديجة، إنتِ طالعه السطح كده؟!
ارتبكت من صياحه المفاجئ، وأسرعت تلتقطه من جوارها: معايا أهو، قلعته لما ملقتش حد حولينا، الوقت أتاخر ومفيش حد.
تذكر تعليمات على له، فبدأ يهدأ من ذاته، ثم قال برزانة: زي ما طلعنا نقضي الليل هنا أكيد في اللي طالع لنفس السبب، ومش شرط يكون متشاف، الأفضل إنك تحافظي على نفسك أضمن.
أومأت في طاعة، واستدارت له حتى تمكن من عقد الرباط حول وجهها، وأعينيهما قد اتصلت ببعضهما البعض، بشكلٍ جعل حبه لها ظاهرًا كظهور الرياح، حتى هي لم تحجب مشاعرها مثل كل مرة، بل تفوهت وبشجاعة: مش زعلانه من غيرتك عليا، بحبها وبحب أي حاجة منك، لإن حبي ليك أكبر من كل شيء.
قفز قلبه سعادة، فنطق، وهو يتلذذ بالكلمات: مش أكبر من حبي واحترامي ليكي يا خديجة.
اتسعت بسمتها، وعينيها تتوه بين نظراته التي حاصرتها، فبصمت على ميثاق العشق، بعد أن نجح بمعالجتها جسديًا ونفسيًا، ربما كانت الرحلة أكثر مشقة عليه، ولكنه صبر فيها وقد جنى ثمار صبره، وها هو يهبط بها لمعزلهما الخاص، ليجددوا معًا عهد الغرام الاول الذي خُتم بأول طفلًا بينهما!
حافظ عُمران على كلمته التي منحها لزوجته، فقد تفرغ لرعايتها بشكلٍ كاملًا، ولمدة شهرين متتاليين، وجد فيهم سكينته المفقودة، وخاصة بتوطئ علاقته مع صغيره وشقيقته، التي تعلقت به كثيرًا بشكلٍ فاجئ الجميع.
حتى علي كان يساعده في الاعتناء بهما، ويمضي برفقته سهرًا بهما، حتى وإن نفذ صبر الطاووس كثيرًا، حتى بليلةٍ مزعجة مثل التي يقضيها الآن، فاذا به ينطق بتعبٍ شديد: وبعدين يا على الساعة تلاتة الفجر، والهانم مش راضية تنام هنعمل أيه دلوقتي!
كلماتٍ ترددت على لسان عُمران المستلقي على أحد أرائك القصر بارهاقٍ تام، ومن فوق صدره يقطن هذا الكائن المزعج، ترمقه بزرقة عينيها البريئة بينما بالنسبة له تكن خبث ودهاءًا عظيمًا.
أغلق عينيه بتعبٍ وهمس لاخيه: مبتردش ليه يا علي؟!
وحينما لم يستمع إلى رده اعتدل بجلسته وتفحص الأريكة المجاورة إليه، حيث بات مكان نومهما المعتاد منذ أن أتت تلك المزعجة.
اعتلى الغضب ملامح حينما وجده يغط بنومٍ عميقٍ، فركله بقدمه صارخًا بحنقٍ: بقى أنا بقولك ريح جسمك تنام! نايم وسايبني بفطس هنا!
تأوه على ألمًا فور سقوطه على أرضية المنزل الرخام، وهدر بانفعالٍ: في حد يصحي حد كده!
نهض عن أريكته وانحنى إليه يضع الصغيرة على ساقيه قائلًا بسخرية: مسؤولياتك كأخ كبير تحتمك إنك تقوم بدورك تجاهي، وتجاه الكائن المزعج ده، وبعدين كله تدريب ليك يا حبيبي، بحيث لما فاطمة تولد إن شاء الله، يكون معاك كورس شامل في التعامل الدقيق مع الكائنات الطفيلية دي.
وتابع وهو يجذب أحد الاغطية عليه: هسيبك تتعلم وأغطس أنا، خد بالك دي مش أنانية مني، أنا بستغل فترة اجازتي، بأخد فيهم كورسين كورس بالنهار فوق مع مايا، وكورس تحت مع فريدة هانم اللي رميه بنتها علينا دي!
وأضاف يبرر له: أنا بحبها فوق ما تتخيل، فالظاهر إنها عايزاني أكرهها فرمتها عليا هي وأحمد الغرباوي!
وزع على نظراته المندهشة بينه وبين تلك الباكية، فاستند بجذعه على المقعد، ونهض يتمشى بها ذهابًا وإيابًا، فوجد أنه يستسلم كليًا للنوم بينما مازالت هي مستيقظة، كأن ما يفعله يعاونها بطرد نومها.
جلس على أريكته يتنهد بارهاقٍ: وبعدين بقى معاكِ، مهو أنا محتاج أنام ساعتين بس وبعدها هشيلك ألففك مصر كلها لو تحبي، ها يا رو?ا اتفقنا؟
انتهى نقاشه بصراخ الصغيرة، وكأنه تفهمت ما يقصده بالمعنى الحرفي، فنهض بها يحاول تهدئتها ولكن دون جدوى.
زفر عُمران بغضبٍ، فأبعد غطائه وجلس يرمقه بنظرات مشتعلة، هادرًا بعصبية: يا الله عليك يا علي، مش قادرة تسكت طفلة أمال دكتور على أيه؟!
والتقطتها منه، يهدهدها بحنانٍ وهو يتمتم: عاملك ايه عشان تبكي بالشكل ده، حقك على قلبي يا صغنن.
حدجه على بسخرية، بينما يخطو بها وهو يقبلها بحنان وحب، كأن من كان يستاء منها منذ قليلٍ شخصًا أخرًا، إتجه على للاريكة، تمدد من فوقها قائلًا بسخطٍ: إنت صح أنا مش عارف أتعامل معاها نهائي، هي محتاج لعُمران سالم الغرباوي قاهر قلوب العذارى وهوانم قصر الغرباوي، لكن أنا دكتور نفسي، ماليش غير في علاج حالات معينة، وبديهي أنه ملحقتش يكون عندها مشاكل نفسية حالي?ًا، فهي بالفعل في أشد احتياجها ليك وإنت كذلك.
وبابتسامة واسعة قال: ربنا ما يحرمكم من بعض يا حبيبي، تصبح على خير.
وسحب على الغطاء فوق رأسه وترك الاخير حائرًا بين تلك المشاكسة التي يحملها وأخيه الذي سبح بنومٍ عميق.
تنهد بيأسٍ، واتجه لمطبخ القصر يصنع لها الحليب مثلما اعتاد كل يوم، ومن ثم تفحص حرارته، وحينما وجدها مناسبة أطعمها وتمدد على المقعد يحارب الا يسقط بغيبوبة من النوم.
وحينما وجدها قد غفت، خشى أن يضعها بالفراش فتستيقظ للمرة المائة والثلاثون، لذا نهض واتجه للمصعد ومنه لغرفة والدته يطرق بابها.
فتح أحمد الباب، وهو يفرك عينيه من أثر النوم: خير يا عُمران؟!
زوى حاجبيه باستنكارٍ لحديثه، وقال بنبرة ساخرة: أنا آسف على الازعاج يا أحمد باشا، بس هو جناب فخامتك أنت وفريدة هانم موقعش منكم حاجة من يجي تمن ساعات كده؟!
تصنع الاستغراب للأمر، وقال بمكرٍ: لا يا حبيبي مش واقع لا مني ولا منها أي حاجة، ثم إنك مش عارف تسألني الصبح يعني، بتقومني من النوم عشان تسألني السؤال الهايف ده!
كز على أسنانه وهدر بغيظٍ: يا خبر يا عمي لهو أنا قومتك من النوم!
أشار ببراءة: شوفت! سبني بقى أكمل نومي ونتكلم بكره أحسن!
وقبل أن يغلق الباب، دفع عُمران الصغيرة لاحضانه قائلًا: خد بنتك في حضنك تسليك، لو فاكر أنك باللي بتعمله ده بتخلي الجو عشان تتشقى، وتعملها تاني فأحب أكدلك المرادي ومش تهديد مني أنك مش للأسف مش هتلحق، المرادي طلاقها منك على ايدي فوري ومش هنحتاج لمحاكم آسرة.
وأضاف وهو يطالعه بنزقٍ: مش يعملوها الكبار ويلبسوها الصغار!
واسترسل بصراخ منفعل، بينما الاخير يضم ابنته ويتابعه بصدمة: أنت بتعمل كل ده عشان أكره الملاك البريء ده؟ طيب مفكرتش في على المسكين، عايز تعقده في الخلفة! إحنا مبقناش عارفين ننام زي البني آدمين متخيل!
تسرب لأحمد شعور الشفقة لما تسبب بفعله، فقال بحزن: قطعت قلبي، خلاص روح نام إنت وأنا هسهر بيها!
كور يده بغضب من فرط غيظه، فأسرع أحمد يردد تحذيراته: عارف عارف، ممنوع البوس اطلاقًا.
لم يجد الكلمات المناسبة لقوله، فاتجه لجناحه بارهاقٍ تام، فحمد الله أن صغيره يغفو بعمق، تمدد على الفراش بتعبٍ، وما أن كاد بالهروب لنومه حتى وجد من يعلو صوته باكيًا، ومن جواره صوتًا حماسيًا يسبقه: عُمران كويس إنك طلعت أنا تعبت ومش قادرة أنيمه ممكن تساعدني!
الايام تمر سريعة، وقد تخطت فاطمة أشهر حملها الأولى بسلامٍ، واستقبلت الاشهر الاخيرة، رغم أنها واجهت معضلة قد أجاد علي حلها بسلامٍ، حينما أستبعد ان يتابع حالتها يوسف رغم أنه من أمهر أطباء النساء والتوليد، فاختار طبيبة من الطبيبات الماهرات بالمركز، لتتابع حالة زوجته، وها هي تمرر الجهاز برفقٍ على بطنها المنتفخ، ويد فاطمة رهينة يد علي، الذي يتابع الجهاز بمشاعرٍ مرهفة.
لقد ترقبوا معرفة جنس المولود منذ أسابيعٍ مضت، ولكن الطبيبة فشلت بتحديد الجنس، والآن يبدو من طريقة تطلعها للجهاز باهتمامٍ، بأنها قد حددت النوع، وإذا بها تنطق بانبهارٍ أثار فضولهما: ما شاء الله.
نقلت فاطمة بصرها لزوجها بقلقٍ من صمتٍ الطبيبة، الذي أفرجت عن الحديث أخيرًا: أقدر أكدلك دلوقتي إنك حامل في طفلين متماثلين يا فاطمة.
جحظت عينيها بدهشةٍ، بينما يطالعها على متأثرًا بما قالت، فاستطردت الطبيبة حديثها مجددًا: وأتاكدت كمان إنهم ما شاء الله بنتين، وأكيد هيطلعوا زي القمر شبهك.
جمدت أصابعها بين أصابع علي، ومالت تهمس له بصدمة: علي! سمعت قالت أيه؟
هز رأسه وابتسامته الجذابة تتشع بفرحةٍ، بل وأضحكها حينما مال يخبرها بقلق: كده عُمران سلطته هتكبر في القصر!
تحررت ضحكاتها من بين ربكتها وتوترها الظاهر، فضمها على إليه وعينيه تراقب الجهاز الذي مازال يحمل صور الأجنة، بحنان نبع برماديتاه، وفضولًا ينتابه لمعرفة رد فعل أخيه بسماعه لهذا الخبر، وهو الذي يدلل شقيقته الصغيرة بدلالٍ لم تحظى به أنثى من قبل، فماذا سيفعل باستقباله لخبرين كلاهما سيجعله سعيدًا للغاية.
ضمه لصدره بحبٍ، ومازال ينتقي له ما سيرتديه، فتمتم الصغير باكيًا، فاذا به يربت على ظهره وهو يخبره بجدية تامة: أعمل أيه أكتر من أني شايل جنابك؟! وبعدين مش في بينا اتفاق انك هتكون صبور شوية لحد ما أنقي طقم قريب من اللي أنا لابسه!
وعاد يتفحص الخزانة هاتفًا بحنقٍ: ما انت جيت ضعيف جدًا وغرقت في كل اللبس اللي جبتهولك شبه بتاعي!
رفعه عُمران إليه، يشير له بتحذيرٍ تام: بس أنا مش هسيبك كده كتير، أول ما تشد عودك هسحبك معايا الجيم.
راقبه الصغير برماديتاه التي ورثها منه ومن عمه، بينما يمص يده ببراءةٍ أضحكت عُمران فضمه وهو يقبله بحبٍ، ويحكم من حوله المنشفة، بينما يعود للبحث عن الملابس المناسبة: خلينا نلبسك بسرعة قبل ما تأخد برد.
واضاف مازحًا: مش حمل خناقات مع مامي هانم بسببك يا باشا.
وتركه على الأريكة القريبة، بينما يجذب منشفة أخرى يجفف خصلاته التي تقطر بالمياه، ثم يتابع البحث حتى نسق لابنه شورت من الجينز، وتيشرت أبيض صغير، ثم جذب الجوارب والحذاء شبيهًا لما سيرتديه، واستدار يحملهم أمامه غامزًا له: قولتلك قبل كده طول ما أنا اللي بشرف على لابسك بنفسي ثق إنك هتخرج من تحت ايدي باشا.
انتهى من الصغير، وبدأ يرتدي هو الآخر ملابسه، ثم صفف شعر الصغير البني، ونثر له البرفيوم الخاص بالاطفال، وهو يقول بعدم رضا: البرفيوم بتاعي أفضل، بس تركيزه هيضرك دلوقتي.
عبث الصغير فجاة، فضحك عُمران وشاكسه: لما تكبر هنحل المشكلة دي يا على باشا، متقلقش.
وحمله وخرج من الجناح يبحث عن زوجته، فوجدها تجلس بالاسفل برفقة والدته، هبط بالصغير إليهما، وهتف بابتسامة هادئة: مساء الجمال على أجمل تلات وردات ببستان قصر الغرباوي كله.
ومال يمنح الصغير لزوجته التي تلقفته منه، بينما يتجه متلهفًا للصغيرة التي ما أن رأته حتى تعلق بصرها به، وباتت تمنحه اجمل الابتسامات التي يضعف قبالتها، فانحنى يحملها في نفس لحظة طرح فريدة سؤالها: طيب انا ومايا تمام، مين الوردة التالتة بقى؟
استدار لوالدته يجيبها، وهو يميل مقبلًا وجنة الصغيرة: فيروزة هانم طبعًا، مش محسوبة في حسبة الأميرات دي ولا أيه يا فريدة هانم؟
ابتسمت فريدة وأمسكت ذراع الصغيرة بحب: لا طبعًا أميرة وملكة كمان.
ابتسمت مايا وقالت بحماس: عقبال ما يشرفنا بيبي فاطمة وعلي، أنا قاعدة استناهم ومتحمسة جدًا أعرف نوع البيبي، فاطمة لما كلمتها قالت أنهم عرفوا، بس مردتش تقولي قالتلي مفاجأة.
رد عليها عُمران مبتسمًا: دقايق وهنعرف بإذن الله، بس أنا عندي ثقة أنها هتطلع بنوتة أن شاء الله.
وأيه اللي مخليك متأكد؟
قالها علي الذي ولج للتو برفقة فاطمة، فأسرعت مايا لها تسألها بحماس: ها يا فطوم، قوليلي بقى؟
أبصر الصغير مفضله، فمنحه نظرة وابتسامة، جعلت على ينحني ليحمله، وهو يبالغ في قبلاته التي حصدت وجهه بالكامل، والصغير يضحك بصوتٍ مسموع، فاذا بأحمد الذي حضر من الخارج للتو بعد يوم عمله، يشاكسه قائلًا: خلي وصلة الحب بتاعتك دي كانت لفيروزة، مكنتش هتشوف الوقح واقف بالبرود ده!
رفع عُمران رأسه بغرورٍ، ومال يقبل فيروزة وهو يصوب هدفه: محدش يقدر يقربلها غيري، وأن كان عاجبك يا أحمد يا غرباوي!
قهقه أحمد ضاحكًا، وأتجه يجلس على ذراع مقعد فريدة: مقدرش أعترض طالما بتاخدها طول الليل وبقدر أقوم لشغلي بقمة نشاطي.
زفرت مايا بضيق وقالت: ما تتطقي بقى يا فاطمة، هموت من فضولي.
رد عليها عُمران بعاطفة مستفزة لمن حوله عن عمد: سلامتك يا حبيب قلبي، ما انا مطمنك وقولتلك أنها هتكون بنوتة بإذن الله.
واردف وهو يوجه حديثه لعلي: استمتع وهي في حضنك اليومين دول يا علي، عشان لما هتتولد قلبها مش هيختار غيري، وللاسف انت مش هتقدر تخش معايا في منافسة الجنس الناعم!
ضم على شفتيه يخفي ضحكته، وقال وهو يحك أنفه بسخرية: بس أنا حاسس أنك هتحتاج مساعدة، لأنها مش بنت واحدة، دول اتنين!
غمرت الدهشة والفرحة الوجوه، وبالاخص عُمران الذي تساءل بابتسامة واسعة: بجد؟
هز رأسه يؤكد له، بينما غمرت مايا، فاطمة تهنئها بسعادة، وانضمت لهما فريدة.
اتجه عُمران إلى علي، يميل تجاهه ويهمس له بسعادة: أنا كنت مختار ليها الاسم على أساس إن هيجيني بنوتة واحدة، هخليك تختار إسم البنوتة التانية عشان تعرف بس معزتك عندي.
طالعه على والضحكة تنير وجهه، بل بات يشاكسه: أيه الكرم ده كله؟
رفع وجهه بعنجهية، بينما يملي عليه القادم: أنا مفيش في حنية قلبي، بس خد بالك اسم لين ده تدلعها بيه، الاسم اللي هتختاره هيكون مشتق من أخر حروف في اسمي، أنا اختارت الأول كيان لانه بيشاركني في أخر حرفين من اسمي، ممكن أكجول اسم لين ونضفله الألف فيبقى ليان، أيه رأيك؟
ضحك بصوتٍ مسموع وقال: انا كده اخترت أيه؟
غمز له بمكر وهو ينادي، فاطمة قائلًا: فاطمة مش أنتي اللي اخترتي اسم كيان واحنا قاعدين تحت هنا من كام يوم؟
دعمته بكل صدر رحب، ولم يكن حبه الصريح لابنتيها يضايقها، بل زادها فرحة، لقد وجدت فيه العوض عن قسوة أشقائها، فكان خير الشقيق، والداعم القوي لها، فاذا بها تدعمه: أيوه وموافقة كمان على ليان.
واستدارت صوب زوجها، تهتف على استحياء: عندك اعتراض على اختياراتي يا علي؟
رد بتلقائية: أبدًا يا قلب علي.
أندهش الجميع، وبالطبع لم يمرر عُمران كلماته، فاذا به يضحك قائلًا: الله ده بابا على طلع عاطفي وله في أساطير العشق أهو، أمال مالكش سكة مع الهوانم ليه؟
أجابته فريدة وهي تحذره: عُمران بطل تضايق أخوك بكلامك المشاكس ده، وبعدين سكك تخصك لوحدك متخصش علي، سيبوه زي ما هو أنا مش عايزاه يكون وقح زيك!
هتف أحمد بشماتة: الاعتراف بالحق فضيلة يا وقح!
رد عليه ببرودٍ: أخرك معايا خلع من أول جلسة.
تلاشت ضحكة أحمد، بشكلٍ أضحك الفتيات بأكملهن، فسحب كف فريدة وغادر على الفور، حتى فاطمة ومايا صعدتا للاعلى، ولم يتبقى سوى على وعُمران الذي حمل فيروزة، وجلس على الصالون يتحدث بالهاتف بسعادة: إبدأ نفذ فكرة الجناح اللي بعتهالك، بس مع تعديل بسيط الجناح هيكون خاص بتؤام بنات مش بنت واحدة.
قالها وهو يغلق الهاتف ويلقيه والابتسامة تتسع على وجهه، فجلس على جواره وهو يحمل الصغير الذي بدأ يغفو على ذراعيه، فاذا بعمران يخبرها بحماسٍ: أنا كنت مصمم الجناح كله لكيان هانم، فكده هنزود سرير إضافي ل ليان، متشلش هم هرتب كل حاجة، وقبل معاد الولادة هيكون كل شيء جاهز.
ابتسم على بحبٍ، وقال بجدية تامة: مش قلقان، لإني واثق أنك مش هتقصر في شيء!
تربت على الحب واحتواء العائلة، وحينما تزوجت وجدت زوجها يحل محل العائلة، ولكن ببقائها مع سدن داخل منزل الشيخ مهران، كانت شمس تشعر بأنها قد وجدت عائلتها من جديدٍ، فكثيرًا ما كانت تزورها وتبقي برفقتها، حتى أن يمر آدهم بالمساء ليأخذها ويعود للمنزل.
كانت من أفضل الايام لها، هو يومي الخميس والجمعه، التي تأتي فيهما سدن للمبيت برفقة آيوب بمنزل مصطفى الرشيدي، وها قد أتت اليوم برفقته، فوجدت شمس قد أحضرت كل الاطعمة التي تحبها سدن.
تهربت كلتاهما بعد تناول الطعام، وتركت سفرة الاطباق لآدهم وآيوب، اللذان أعتاد على التنظيف كل يومي خميس وجمعة، فاذا بآيوب يجمع الاطباق ويضعها لآدهم بمساحة المياه، قائلًا بسخرية: أتمنى تكون مهمة الاطباق على قدر من تكافئ مهاراتك يا سيادة المقدم.
ضحك بصوته الرجولي وقال: مهما حاولت مش هتأثر عليا، غسيل الاطباق أهون من زعل شمس هانم ألف مرة.
ابتسم وأشمر عن ساعديه يساعده في تنظيف المطبخ، ومال للرخامة الخارجية يرفع صوته لمصطفى الذي يتابع التلفاز: شاي ولا قهوة يا بابا؟
منحه ابتسامة نبعت عن سعادته، باستقرار علاقته بابنه أخيرًا، وقال: أي حاجة من إيدك شهد يا حبيبي.
قال مستحسنًا ترك الخيار له: هعملك شاي بلبن، القهوة هتتعبك.
قالها وإتجه يعد الشاي بالحليب، ومن جواره قد صنع بماكينة القهوة، فنجان صنعه مخصوص، لاخيه، فرنا يضعه جواره قائلًا: أحلى فنجان قهوة معتبر لباشا مصر.
جفف يديه بالمنشفة، ومدحه: تسلم ايدك يا بشمهندس.
عاد يضع الاكواب لصنع الشاي، وهو يسأله بفضول: استقريتوا على إسم؟
سحب المقعد يجلس من فوقه، وأجابه: محتار للاسف، لاني كنت مواعد القائد بتاعي وقاطع وعد لعمران بردو.
قهقه آيوب ضاحكًا، وقال: خلاص أوفي وعدك للقائد وتاني مرة أوفي للطاووس.
شاركه الضحك، بل وتمازح معه: قولت كده لشمس كنت هتضربني بسلاحي الميري.
صمت يفكر بخبث مضحك وقال: سمي اسم القائد بتاعك، وسيبها تواجه زعل الطاووس، فهتحاول تراضيه بالمرة التانية، وبكده هتكون ضربت عصفورين بحجر واحد.
توالت ضحكاته وهو يجاهد ليوضح كلماته: اقنعتني، خلاص هسميه مراد.
وبهيامٍ نطق اسمه بعاطفة: مراد عمر الرشيدي!
بالأعلى.
كانت تتفحص سدن الملابس التي اشترتها شمس، فكلما اشترت شيء يخص ابنها، كانت تريها اياها، حتى لو اشترت أتفه الاشياء، وقد عبرت سدن عن ذوقها الرفيع قائلة: حلو أوي شمس، ذوق بتاعك كيوت وشيك جدًا.
أجابتها ومازالت تفتح الاغراض من أمامها: مش ذوقي ده ذوق عُمران، كل فترة بستلم أوردر تبعه.
أشادت بذوقه منبهرة: حلو الذوق بتاعها.
تحررت ضحكات شمس من قلبها، وقد شحبت حقيبة مغلفة فخمة، تمنحها إياها، وهي تخبرها: ده بقى ذوقي أنا، شوفت الفستان ده وعجبني جدًا، فجبت ليا وليكي واحد، عشان تلبسيه يوم احتفالنا بالبيبي.
جذبت الحقيبة منها، تتأمل الفستان بانبهار، ونهضت تضعه على جسدها وهي تراقب المرآة بابتسامتها الفاتنة، ومن ثم عبثت وهي تلفت نظر شمس: بس لما إنت تولد هيكون بطن سدن كبير، الفستان هيكون ضايق وآيوب هتزعل مني!
ضمت شفتيها معًا بحيرةٍ، وهتفت: تصدقي مأخدتش بالي من النقطة دي!
ومن ثم فرقعت أصابعها ونهضت تتجه لها: عندي فكرة تجنن، هنعين الفساتين ليوم حفلتك انتي والبيبي، وننزل بكره أنا وانتي نشتري اتنين تانين شبه بعض، أيه رأيك؟
هزت رأسها بفرحة وسعادة: هنزل معاكي بكره أكيد. انا يحب يخرج معاك أصلًا.
ضمتها شمس بلطف ولين: وأنا كمان، بحبك جدًا والله، أساسًا انتي اللي مهونة عليا قاعدة البيت الذكوري ده.
أدلت بشفتيها بعدم فهم: مش فاهم أنا شمس!
عادت تضمها ضاحكة: لا متأخديش في بالك!
اللحظات تمر، ودفتر الزمان يسجل يومًا تلو الأخر، حتى أتى اليوم الذي طرح اختبارًا قاسيًا أمام علي، وكان عليه الفوز به مثلما أقدم على إحراز أكثر من نجاحٍ مسبق في حالة فطيمة، تلك الحالة التي فرض عليها أن تذق من الوجع ما يجعلها تعاني أبديًا، ولكن بظهوره قد أزال المفترضات، وسحبها خارج معتقل الظلام، لمجد النور الذي أباد ظلمتها.
كان أحق الناس علمًا بما ستتعرض له فاطمة فور أن يخضع جسدها لتخدير الولادة، يعلم بما ستواجهه داخل غرفة العمليات بتلك اللحظة، لذا لم يتركها ولو للحظةٍ، رافقها وعاونها على أكمل وجه، وقد نبه الطبيبة من استخدام التخدير الكامل لها، فخضعت للتخدير النصفي.
سرى المخدر بجسدها رويدًا رويدًا، وبدأت تفقد احساسها تدريجيًا، تنافر العرق على جبينها، وشفتيها ترتعشان خوفًا، ورعبًا من الاحاسيس التي هاجمتها، حينما كان يخدر جسدها من فرط الألم وهي تعافر تلك الذئاب الذكورية التي هتكت عرضها.
مالت برأسها تبحث عنه، وقد وجدته جوارها يجفف جبينها بمنديله، ويخبرها بصوته الحنون: أنا هنا يا فطيمة، اطمني!
خشى أن تهاجمها أي نوبة، وهي بتلك الحالة، فبقى نصب أعينها، يراقب كل فعلٍ صغيرًا تتخذه، حاولت فاطمة رفع رأسها لترى ما يحدث بها، ولكنها لم تجد سوى ستارًا يعزلها عن رؤية باقي جسدها.
مالت صوب على باكية، تردد برعشة: علي.
أحاط وجهها وهو يحاول أن يهدئها: مفيش حاجة يا فطيمة، أنا هنا معاكِ، شوية وهنخرج يا حبيبتي.
هزت رأسها وهي تعيد غلق عينيها، تحاول رفع اصبعها مشيرة له على ظل الطبيبة المنعكس على الحائط: خرجني من هنا، أنا خايفة!
ترك محله الأيسر، وأتجه يقف بالايمن، حتى يحجب رؤيتها لأي ظل يهيئ لها ذكريات الماضي، وقال وهو يتعمق بعينيها بثقة: مفيش حد هنا غيرنا، اهدي وخدي نفسك بانتظام يا فطيمة، توتر أعصابك ده مش كويس عشانك.
غامت عينيها بدموعها، وبصعوبة لسانها الثقيل نطقت: أنا بتخنق يا علي، مش عارفة أتنفس!
راقب على مؤشرات الاجهزة من جواره، ورفع رأسه للطبيبة التي تتابع كل شيء بتركيز ومهارة فائقة، فأسرعت الممرضة بقناع الأكسجين إليه، وضعه حول وجهها وقال: اتنفسي يا فاطمة، أنا جانبك متخافيش.
قالها وضغطة ذراعيه يوهمها بأنه يضمها، فمالت تجاهه وانصاعت له بسحب نفسًا عميقًا، وطرده على مهلٍ، حتى هدأت تمامًا.
وبينما تستكين بوجوده وبصحبته، داعب أذنيهما صوت الطفلة الأولى، فابتسمت فاطمة ودموع فرحتها تنهر على وجهها، أزاحهما على بأطراف أصابعه، وسألها ليشتتها بالحديث: تفتكري دي هتكون مين فيهم، ليان ولا كيان؟
رددت بصعوبة وصوتها شوشه القناع: الاتنين ممكن صوتهم يتشابه.
ضحك وقال، وهو يقبل جبينها: عندك حق.
وعاد يطرح سؤاله لها: حابة تشوفيها؟
هزت رأسها بكل حماس، ومازالت دموعها تنهمر دون توقف، فإتجه يحملها من الممرضة بعدما جهزتها، وضعها جوارها، فراقبتها بسعادة شتت عنها كل شيءٍ ثقيل، فأخذت تقبل يدها بفرحة وهي تحاول التشبع من رؤيتها، فأذا بثانٍ صوتًا يشرفهما فاتسعت بسمة فاطمة وهمست له: ليان شرفت.
ابتسم لها وقال يمازحها: خايف نسميهم هنا عُمران يعرف فيقوم مختار أسماء تانية خالص عقابًا لينا، مجنون ويعملها.
ضحكت من قلبها، وقالت بتعب: خلاص سيبه هو يختار، محدش هيحبهم ولا هيخاف عليهم أده.
مال يطبع قبلة عميقة على جبينها، امتنانًا على تفهمها لتعلق أخيه به وبابنائه، وحينما كان يضمها ويضم الصغيرة، انضمت له الاخرى حينما منحته إياها الممرضة.
ود على لو خرج بهما لاخيه، ولكنه كان يعلم بأن فاطمة لن تحتمل مغادرته وهي بتلك الحالة، ولكنه تفاجئ بها تعود لطبيعتها بعدما قرت عينيها بالطفلتين، فاذا بها تقول: طلعهم لعمران، زمانه على أعصابه بره.
مازحها بسخرية: خلاص هتتخلي عن بناتنا بدري كده؟!
منحته ابتسامة أطربت قلبه، وقالت تذكره بما كان يخبرها به طوال الفترة الماضية: سلمك على قبل ما يستلمه، نسيت ولا أيه يا علي؟
قبل يدها الموضوعه على رأس الصغيرة، وقال بتأثرٍ: لا يا حبيبتي مش ناسي، زي ما مستحيل أنسى موقفك ده أبدًا، طول عمرك بتفاجئيني يا فطيمة.
منحته ابتسامة أخيرة، وتركته يغادر بالفتيات، وسعادتها لا توصف لأحد.
بالخارج.
كاد أن ينشطر قلبه من الارتباك والترقب، يراقب ممر العمليات بلهفةٍ، يحاول يوسف و آدهم و أحمد أن يستميلوه للجلوس، ولكنه كان يرفض ذلك وبشدةٍ، وأخيرًا زف إليه الأمل ببشارة قدوم خطوات ساق يعرفها جيدًا، فلم يحتمل الانتظار، وهرول راكضًا صوب الباب الخارجي للممر.
قابل أخيه بمنتصف الممر، فارتسمت أجمل ضحكة على وجه عُمران، رغم تلألأ دموع عينيه، بل وأسرع راكضًا يوزع نظراته المتلهفة بين ما يحمله أخيه، أدمعت عيني على متأثرًا به، فوضع له الطفلة الاولى، حملها على يده برفقٍ وعلق اصبعه بيدها، وانحنى يقبل اصابعها الرقيقة، بينما يهمس لها: ما شاء الله، تبارك الله على جمالك يا سكر.
أزاح على دموعه سريعًا، ومازحه ساخرًا: هتقدر تشيل الاتنين مع بعض ولا عضلاتك نخت؟
التقف الاخرى منه وهو يهتف بحب: ده أنا أشيلهم جوه عيوني وقلبي، إطلع أنت منها بس وسبني معاهم.
ضحك بصوت مسموع وقال: اطلع فين أكتر من كده!
تعلق بصره بالصغيرة الاخرى، وكأنه يتعرف عليها، فراقبه على بحب، وسأله: ها يا بشمهندس، مين فيهم ليان ومين كيان؟
حملهما واتجه للباب الجانبي، وصوته الخافت يصل له بالكد: القرار صعب، سبني أخده براحتي.
راقبه وهو ينزوي بهما بعيدًا عن الشباب بالخارج، فهز رأسه بقلة حيلة: مفيش فايدة!
قالها وعاد لزوجته، بينما يرفرف صوت عُمران بترديد الآذان بصوته العذب، ويعود لمهمة اختيار الاسماء لكلاهما بكل صدرٍ رحب، غير عابئًا بلهفة الشباب بالخارج لرؤية التؤام الذي يحمل الجميع فضول رؤيتهما!
توالى الاحتفال مرات عديدة، غمرت الشباب بفرحة رممت وجع البعض منهم، وبعد عدة أشهر، وباحتفال شعبي، اجتمع الشباب بأكملهم، لأقامة أكبر حفل، حيث قام جميعهم بالمشاركة للتضحية في حارة الشيخ مهران، احتفاءًا بأولادهم، وقد شارك مع آيوب وآدهم، على وعُمران وأحمد، فقد تخطت عدد الاضحية لأكثر من عشرة أضاحي.
كان الحفل بمثابة عيد للفقراء، الذين حضروا من بقاعٍ قريبة من الحارة للحضور، وما زاد الشباب بهجة وحماس حينما ارتدوا جميعًا جلبابًا أبيض، قبالة صلاة الجمعة، وقبل ذبح الأضاحي.
وقد عاد الوصال يتقوى بتجمع الفتيات بشقة خديجة مجددًا، بانتظار، خروج الشباب من الصلاة للذبح والتوزيع للفقراء.
وبينما كانوا يجتمعون بالمسجد للصلاة، كان إيثان كعادته ينتظرهم بالخارج، ولكن تلك المرة خطط لاستقبال خروجهم بطريقة مبتكرة، فاشترى عدد من الصواريخ، ومع تسليم الشيخ مهران امام المسجد، أخذ يطلق الصواريخ هو والاطفال، حتى تجمع الشباب قبالته، فأخفى ما بيده خلف ظهره.
زفر يونس بغضب شديد: تاني يا إيثان، تاني!
هز آدهم رأسه بقلة حيلة، وسحب على يهمس له: بينا إحنا، هو اللي جابه لنفسه.
رافقه بكل صدر رحب، بينما يتطلع له عُمران بسخط، وقد رانا إليه يسأله بخشونة: وريني معاك أيه ورا ضهرك عشان لو طلع اللي في بالي صح هطلع بروح أمك وقتي!
كلمات متعصبة ترددت على لسان الطاووس الوقح، لذاك الذي يقف، ومازال يخبئ يده خلف ظهره، ويجيبه وهو يدعي اللامبالة: هيكون معايا أيه يعني!
احتدت رمادية عُمران، وهدر منفعلًا: طلع ايدك وافتحها قدامنا هنا.
هدر إيثان بتعصب: وإنت تقتحم خصوصياتي بتاع أيه؟
زفر جمال بملل من مجادلتهما، بينما ردد يونس بنفاذ صبر: ما تريحه وتفتحله ايدك يا كابتن.
بينما قال آيوب ضاحكًا: خصوصية أيه اللي بتتكلم عليه هو أحنا دخلنا عليك الحمام!
دفع إيثان آيوب بعنف وهو يصيح بشراسة: انت هتقف في صف الخواجة من أولها يابن الشيخ مهران!
تعالت ضحكات عُمران وقال ساخرًا: هو أنت مزهقتش من كلمة خواجة دي يا إيثان، يابني ده أنا ملامحي مصرية أكتر منك إنت شخصيًا، وبعدين أعملك أيه عشان تصدق أكتر من إني ثبتك خمس مرات قبل كده بمطوة ونازل قصف في جبهة أمك من ساعة ما شوفت خلقتك!
وبابتسامة واثقة استطرد: وبردو هتوريني اللي في ايدك حتى لو فضلنا نتكلم لسنتين قدام، أنا جاهز وفاضي.
تنهد سيف بضجر: ما تخلص يا ايثان!
أخرج كفه يفتحه بارتباكٍ، فاذا بالصدمة توزع بين الوجوه، وكان أول من تحدث هو آيوب الذي صرخ به بغضب: بقى إنت اللي بترمي علينا الصواريخ كل يوم بعد صلاة العشا وجاي تكمل دلوقتي!
بابتسامة واسعة أكد له مصححًا: مش كل يوم سبت واتنين وأربع باقي الايام بكون مشغول فيهم.
جذبه عُمران من تلباب قميصه قائلًا باستهزاء: متزعلش يا حبيبي هنخليك متفرغ طول أيام الاسبوع للعلاج المجاني في مستشفى القصر العيني، أو الدمرداش!
ارتعب إيثان من تهديداه المخيف وبصعوبة قال: لا أنا مشغول اليومين دول في تحضيرات الفرح، هبقى أعدي عليكم وقت تاني.
سحبه عُمران من ياقة قميصه، وقال بخبث: رايح فين ده إحنا سهرتنا صباحي يا إيثو، مش كده ولا أيه يا دكتور الحالات المتعسرة؟
عدل يوسف من نظارته، ومضى من جوارهم يتصنع تجاهله التام بهم، حتى دون أن يتطلع قبالته، فاذا به ينعكس باحدى الحمالات الخاصة بالبطاطا لاحدى العربات.
صرخ يوسف ألمًا، فأسرع جمال إليه يراقب ما حدث له: انت كويس؟
رد بانفعالٍ: هبقى كويس ازاي وانت والوقح ده ورايا، ارحموني واعتقوني لوجه الله.
لف عُمران يده حول كتفه، وهتف مبتسمًا بجدية غامضة: منقدرش نفترق عنك يا جو، هو إحنا كده ملناش حد يحاوط الضلع المفكوك غيرك.
استغل ايثان اندمجهم، وفر هاربًا، فصاح جمال فيه: استخبى في بيتكم يا ايثوو، حاول متظهرش النهاردة.
وهمس بصوتٍ خافت أضحك عُمران ويوسف: سيب كلابه السعرانة متخدرة النهارده، اليوم كله سكاكين أبوس ايدك مش ناقصة.
التفت له عُمران ومازحه: متخافش يا جيمي إنت بالذات عمرك ما هيطولك مني أذى، وبعدين أنا مش مغفل اني أضحى بصاحب عمري بالبساطة دي.
وأضاف بسعادة وراحة غمرته: بمناسبة المسجد اللي عملته في توقيت الحادثة، أنا عاملك انت ويوسف مفاجأة.
زوى يوسف حاجبيه بذهول: مفاجأة أيه؟
اجابهما وهو يتجه لمنزل الشيخ مهران: لما نتجمع في الشقة هتعرفوا.
وقف الشباب بجلبابهم الابيض، يتابعون ذبح الأضاحي، وقد قام سيف وآيوب بتصوير هذا الاحتفال، بينما بشرفتي شقة خديجة، نوزعت عليهما الفتيات، تتابعن ما يحدث بسعادة.
وما أبهر البعض مشاركة عُمران في الذبح، بشكلٍ فاجئ الجميع حتى على نفسه اندهش مما يحدث، فضحك يوسف وهمس باستهزاء: المهارات اللي اكتسبها من الاسطى موسى.
رافق جمال حديثه بقوله: أصلك مشوفتش اللي شوفناه في السفرية دي يا دكتور علي.
أجابهما ومازال يتابع ما يفعله أخيه: لا مش متخيل.
ترك آيوب الزحام واتجه للمنزل، ثم عاد بعد قليل يحمل ابن أخيه مراد، وعلى كتفه الأخر ابنته جوري، وبينما يقف جمال لاحظ صبا تناديه ليحمل ابنه، فذهب وأحضره، وقد فعل يوسف بالمثل.
ترك عُمران ساحة الذبح، وإتجه لاخيه الذي قرأ ما بنوي فعله، فوقف قبالته يتمتم من بين اصطكاك أسنانه: رايح فين يا علي؟
ببسمة باردة قال: سؤال ده ولا تحقيق؟
احتقن صوته غيظًا: متنزلش لين وكاري هنا، الدنيا كلها شباب مش شايف ولا أيه؟!
منع ضحكاته من الظهور بصعوبة، وقال ينبهه: ليان وكيان عندهم أربع شهور مش 24 سنه يا عُمران، هما شكلهم مدي على عمر تاني وأنا مش واخد بالي؟
أجاد باصرار: حتى لو عندهم أربع أيام، مش نازلين يعني مش نازلين، وبعدين هو مين فينا الكبير؟! مين فينا المفروض يكون عنده الوعي الكافي.
أجابه ببسمة ساخرة: هيبقى عندي وعندك، كفايا أنت يا حبيبي.
وعاد يتسم بالثبات، وبالرغم من جدية تعامله الا أنه يكاد يسقط ضحكًا: أنا طالع اجيب علي، راجل ويقدر يقف في تجمع الرجالة، ممانع حضرتك في حاجة؟
تنحى جانبًا بتذمرٍ من طريقته، فما أن مر من جواره حتى سقط على ضاحكًا، وبالفعل عاد بعد قليل يحمل الصغير الذي يزداد تعلقه به حد الجنون، ويزداد على ذاته تعلقه به وكأنه ابنه الوحيد، يطبع قبلاته على وجهه من اللحظة للاخرى، ومن على بعد مسافة بينهما، يلتقط لهما عمران الصور بسعادة، وعلى ذراعه مراد الصغير، ابن شمس الذي لم يرث منها شيئًا، كان يشبه آدهم أكثر من آدهم نفسه، ولكنه يتأنق اليوم باستايل خصصه له عُمران رفقة صغيره، فقد كان يحبهما حبًا جمًا، ولكنه رغمًا عنه كان يحمل معزة خاصة لصغيرات قصر الغرباوي!
بالأعلى.
وضعت الحاجة رقية صواني(الفتّة المصرية)، على السفرة، وتركت الفتيات يحملون الطعام على السفرة، التي اجتمعوا من حولها وهم يرتدون جلابيب الحاجة رقية، التي ترأست جلستهم بالمقعد المخصص للشيخ مهران، وقد باشرت بالترحاب الحار بهم، قائلة بوداعةْ ومحبةٍ: نورتونا وشرفتونا يا حبايب قلبي، يلا مدوا ايدكم بألف هنا.
ردت مايا عليها بحبورٍ: تسلم ايد حضرتك، الأكل ما شاء الله شكله يجنن.
قالت شمس وهي تلتقط إصبع الكفتة: نفس طنط رقية في الأكل مالوش مثيل، بس ربنا يستر ومامي متعرفش بالجريمة دي.
ضحكت الحاجة رقية وقالت: ولو عرفت هغريها بحلة المحشي دي، هتضعف قدامها.
قالت ليلى: أنا نفسي ضعفت، وهحتاج طبق كبير معايا وأنا ماشية عشان أنا بعد ما طلعت من مرحلة الفطام وكده دخلت على مرحلة حمل جديد.
انفجرت الفتيات ضحكًا، بينما صاحت زينب بصدمة: أيه؟! عملتيها أمته دي؟! مش تستني لحد ما أولد الأول وتبقي تعمليها، أنا تعبت واتمرمطت لحد ما ربنا كرمني، ازاي تضيعي فرصتي وتقطعي عليا بالشكل ده!
هزت ليلى كتفيها بقلة حيلة، وقالت: والله ما أعرف! ده يوسف اتصدم، بعد ما كان نفسه إني اعملها من كتر اللي اتعرض له من دوامة الولادات، كره المهنة، ولسه بيشم نفسه جيت خبتطهاله وش.
هدرت بانفعال وحسرة: أيوه يعني كده هتكروتني، ومش هيبقى في سبوع ولا أضحية؟!
قهقهت صبا ضحكًا، وقالت بصعوبة بالحديث: متقلقيش يا زينب ان شاء الله تأخدي فرصتك ونفرح بيكي كلنا
قالت الحاجة رقية: ولا يهمك يا حبيتي، أحلى سبوع يتعملك هنا في بيت الشيخ مهران، ونفس الليلة اللي اتعملت بره هتتعملك أنتي كمان، احنا عندنا كام زينب، ده انتي مرات صاحب الغالي، اللي لاجله يكرم كل حبايبه وحبايب حبايبه.
ابتسمت لها فاطمة، وقالت بتهذبٍ: تسلمي يا طنط ربنا يسعد قلبك يا رب.
أجابتها بمحبة: ويسعدكم كلكم يا ررب، كلكم زي بناتي، وربنا يعلم.
قطعت سدن حديثهم حينما قالت: حاج ركيا أنت بتكدب ودايمًا بيقف مع آيوب، هي عندك دايما مظلوم ومش بتعمل حاجة، أنا مش عاد يشتكي ليك، الشيخ مهران بتجيب لسدن حقه.
انهارت الفتيات ضحكًا، وخاصة حينما طرقت رقية على صدرها بحركة شعبية، وقالت: بقى كده، بقى انا أنصفك دايما على الواد وفؤ الاخر تقولي كده!
ضحكت خديجة وتحدثت بمشقة، وهي تمرر يدها على بطنها المنتفخ بجنينها ذو الخمسة أشهر: هي أكيد متقصدش يا ماما رقية، هي بس واخده على خاطرها عشان مخلتهاش تسمي جوري الاسم إلى هي كانت عايزة تسميه.
شهدت الحاجة الفتيات قائلة: اشهدوا يا بنات عايزة تسمي البنت شاكيماز باين ولا شاكيواز ولا مدارك أيه، بذمتكم ده يرضيكم، لما أجي انادي البت اناديها انا ازاي!
وأضافت باستهزاء: عما هفتكر الاسم هيجيني زهايمر!
انطلقت الضحكات مجددًا بينهن، وقد سادهما جوًا من الألفة والطمأنينة، وبعد انتهاء الغداء، جلست الفتيات تعود لتخطيطهم المسبق، لانشاء براند الحقائب النسائية الخاص بهم، الذي تأجل لأكثر من مرةٍ لولادة كلا منهم، والإن قد حان الوقت لتنفيذ المشروع المشترك بينهن جميعًا، والتي ستكون من مسؤولية صبا وخديجة وشمس بالكامل.
أما فاطمة ومايا فمازالت كلتاهما تباشران العمل مع عُمران، وليلى وزينب يباشران العمل بالمركز، ولكنهم اتفقوا جميعًا على تقسيم ورديات لظهور الاربعة مع صبا وخديجة وشمس، لتقديم الدعم الكامل لهم.
استغلوا انشغال الاطفال مع أزواجههم، وبدأت مايسان بتصميم لوجو البراند، والدعوات وما يخصهم، ولجوارهم كانت المساعدة الخاصة بالتؤامتان تقدم على تولي مسوؤلية التؤام، النائمون بالعجلة ذو الفراشين، كالملاك البريء، وكلاهما يدهما متعلقة بالاخرى، خصلاتهما السوداء تنحدر فوق حاجبيهما، وجفنيهما المنغلقان تخفيان لونهما الممزوج بحبات القهوة البني، وبشرتهما الصافية، ورثًا مشترك من ملامح على وفطيمة، قصة العشق المتحد بينهما.
ببنما بشقة عُمران القابعة بحارة الشيخ مهران.
كان الشباب يجتمعون بالمطبخ، لجلي أطباق الغداء، حتى لا يجهدون الحاجة رقية والفتيات بالتنظيف، بينما يجلس على بالخارج، يضم الصغير الذي غفى بين ذراعيه، يمرر يده بين خصلاته الغزيرة بحب وحنان، وإذا به يرى عُمران يراقبه ونظرات الشرار تكاد تلتهمه.
انبلج الضحك على وجهه، وقال: تحب أوديك لدكتور يا عُمران، في نار طالعه من عينك يا حبيبي؟
رنا إليهما، ينحنى مقبلًا رأس صغيره، ورغمًا عنه ابتسم وهو يراقبه بحنان، ومن ثم حمله بين ذراعيه، فظن على أنه سينقله للداخل، ولكنه تفاجئ به يتمدد على الاريكة، ويضع رأسه على ساق أخيه، ويضم صغيره بين ذراعيه، ثم جذب يد على ووضعها على رأسه، ليرغمه على فعل ما كان يفعله منذ قليل مع صغيره.
تحررت ضحكات على الصاخبة، وقال مستنكرًا فعلته: ناوي تكبر أمته عشان اعرف بس؟
قال وهو يضم صغيره، ويغلق عينيه في راحةٍ: متحطش أمال على شيء مش هيحصل يا دكتور، مفيش ابن بيشبع حنان من أبوه، ولا أنت شايف حاجة مش شايفها يا دكتور.
ضحك وهو يمرر يده على رأس عُمران، الذي انتعش وجهه بابتسامة بينما يدفن أنفه بين خصلات شعر ابنه التي تحمل الزيوت الباهظة، التي يحرص على وضعها له بنفسه لتقوي خصلاته.
تركه يسترخي وابتسامته تتسع، مهما كبر عُمران بالعمر سيظل ابنه الصغير، يتمسك بثيابه بأي مكان يذهب إليه، وقد رأى هو فيه الأب الناجح لابنتيه، بل يجزم أنهما يتعلقان به أكثر منه هو، فماذا سيفعل بهما حينما يشتد عودهما!
مرت ساعة كاملة، قد انتهى الشباب من التنظيف كاملة، واجتمعوا بالردهة المطولة، بينما هبط إيثان كعادته بصينية الشاي بالنعناع، وجلسوا جميعًا يتسامرون أطراف الحديث فيما بينهم، حتى لاحظوا جميعًا أن عُمران يجلس بصمتٍ على غير عادته، بل كان شاردًا، وهو يضم صغيره الذي استيقظ للتو، وأخذ يدقق التطلع له مبتسمًا، ويده تتعلق بلحية أبيه النابتة، وحينما وجده شاردًا، لا ببتسم له ويقبله على غير عادته، عبث بملامحه وحاول الوصول لوجهه، عساه أن يراه، فخشى على أن يسقط الصغير دون أن ينتبه، فحمله إليه بحنان، وحينما تأكد الصغير من هوية من يحمله، سكن بأمانٍ بين أحضان أكثر حصن أمنًا له.
شق صوت آدهم الصمت، وتساءل بريبة: سكوتك ده مش مطمني، بتفكر في أيه تاني يا وقح؟!
كاد يوسف أن يبصق الشاي من فمه، وصرخ بتوجس: أبوس ايدك احنا معندناش حمل مغامرة من مغامراتك، المرة اللي فاتت كنت هتشيع جمال وراك، واللي بعدها علي، المرادي ناوي تضحي بمين فينا؟
هدر جمال بضيق: ما تهدى شوية يا يوسف، عُمران عاقل مش مجنون!
ردد آيوب وقد بدأ القلق يزحف إليه: عُمران صمتك ده مريب، أنا بقيت حافظك من فترة شغلي معاك، جماعة صدقوني خافوا منه!
ضحك سيف وقال: يمكن ده معاد نفش ريش الطاووس! مهو بينفشه مرة كل سنة!
صاح إيثان منفعلًا: سكتوا جوز الزغاليل دول، مش عايزين نعصب الخواجة في خلوته، شكله كده بيتأمل في أشكالنا وعلى ما يبدو مش عاجبنا.
راقبه على بإمعانٍ، وقد حزم الجدل حينما ناداه بحزمٍ: عُمران! في أيه؟
استدار تجاه أخيه، وقد حررت حركته المتصنمة أخيرًا، وأخبره بصوتٍ غامض: إنت فاكر وعدك اللي قطعته ليا يا علي؟
تيقظت جميع الآذان، فبمجرد نطقه للامر بتلك الجدية، استرعت انتباه الشباب لمعرفة ماذا يقصد؟
شرد على قليلًا، وقد علم مقصده، فأجابه بثبات: فاكر وموافق يا عُمران.
ارتسمت ابتسامة سعادة على وجهه، بينما يعود لجمال ويخبره: قولتلك محضرلك مفاجأة، مش عايز تعرف هي أيه؟
غامت عيني آدهم بمكر وقال: ما تجيب الناهية وتقول ناوي تشد الرحال على فين يا طاووس!
اتسعت ابتسامته الماكرة، ونهض أمام اعينهم يتجه لحقيبته المسنودة على الطاولة، حملها واتجه يضع خمسة تذاكر سفر للعمرة أمامهم أرضًا، تعجب الجميع فعلته والجميع ينبعث داخلهم فرحة ورعشة غريبة، فلم يفكر أحدًا منهم السفر لقضاء عمرة وزيارة بيت الله الحرام يومًا، فأتاتهما الصحبة الطيبة تدعوهم، وقد كانوا مرحبين بل أكثر من مرحبين.
سحب علي، وجمال، ويوسف وآدهم التذاكر، فغضب آيوب وسيف وقد تلاحمت أصواتهما: طيب وإحنا؟
ابتسم عُمران وقال يشاكسهما: هي الرحلة تحلى من غيركم يا زغاليل.
قالها وألقى لهم تذكرتين كان يمتلكهم، والثالثة كانت ليونس الذي تلقفها مبتسمًا، ودموعه تلألأت شوقًا لزيارة بيت الله.
وبينما تجوب الوجوه الحماس والابتسامة، فاذا بإيثان يمضي بين الصفوف، ملتقطًا أكواب الشاي دون أن يتم تناولها، والغضب يحتل قسماته، انهار الشباب ضحكًا بينما يصيح هو بحدة: أنا مهما أعمل مكروه بينكم.
رد عليه أدهم والضحك يجعل صوته مهتز: طيب قولي هتيجي معانا ازاي بس؟
رفع كتفيه وهو يجيبه: هستناكم بره زي ما بقعد قدام المسجد لما تخلصوا صلاة.
عاد الضحك اليهم، فقال له يونس بحنان: الحج مش زي الصلاة يا إيثان، واحنا كده كده هنرجع متقلقش.
هتف بحزن: هستناكم بأي مكان، عادي.
وأضاف وهو يترك الصينية ويتجه لينزوي على الاريكة: هقعد ازاي هنا من غير يونس، وآيوب والخواجة!
واضاف باكيًا: لو مشيتوا هقطع علاقتي بيكم، هو يعني محرم على المسيحي إنه يسافر السعودية لازم أكون مسلم يعني.
ابتسم على وقال له: لا مش شرط يا إيثان، أنا أشك إن عُمران ميكنش عامل حسابك معانا.
عادت نظرات الأمل تتجه إلى الطاووس، الذي أخرج أخر تذكرة، وكانت مختلفة عما تخصهم، بينما يخبره: حجزتلك رحلة للرياض وكذه مكان سياحة، لحد ما نعتمر ونقابلك بعدها، عشان تعرف بس إنك مش تقيل علينا ولا إننا بنكرهك، أنت واحد مننا وليك معزة في قلبي وإنت عارف ده.
نهض يسرع إليه يلتقفه بالاحضان، حتى وإن لن يذهب معهم لمكة المكرمة، ولكنه سيكون بنفس الدولة على الاقل، يراققهم أينما كانوا.
وبالفعل انتهى جمعهما بعودة الجمع مرة أخرى أمام بيت الله المشرف، أطهر بقاع الأرض، يطوفون حول الكعبة معًا، صحبة في الخير وكان جمعها يشكله من كان يومًا عاصيًا، من كان يومًا زانيًا، لقد أتى باكيًا، تائبًا، مؤمنًا، معتزلًا كل المعاصي، وقد عانقته رحمة الله، وأعانه على زيارة بيته الطاهر، ورؤيته التي كانت تحمل البشرى له، كان دومًا يفعل الخير سرًا وعلنًا، وعا قد ختم القصة، ولم يخسر لقبه المنافي أفعاله كان #طاووسًا وقحًا، ومازال يوصم بذلك رغم توبته!