قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

مزجت الوجوه بتعابير الدهشة وصدمةٍ يصعب تصديقها، عودة الراحل لدولةٍ بعيدة عن الوطن تتاح له تخمين فرصة العودة؛ ولكن هل يعود ميتٍ للحياةٍ بعد مرور كل هذة الأعوام، وقف طلعت محله ثابتٍ وعينيه تتنقل ببطءٍ على الوجوه، دقائق مرت على الجميع ومازال يقف كلاً منهم محله، وكأن الصدمة حولتهم لتماثيل من الشمع المزخرف، بدأ مراد بالحديث ليكسر حاجز الصمت فيما بينهما فقال:.

في حاجات كتيرة لازم تعرفوها وأولها إن طلعت زيدان عايش مامتش زي ما أنتوا فاكرين...
تحرك فك سليم ناطقاً في ذهولٍ مما يحدث:
طيب ليه خبيتوا علينا كل دا...
نقلت نظرات مراد تلقائياً ل ريان الذي لمعت عينيه في ضيقٍ من تذكر ما فعله أبيه، تحرك طلعت بإتجاههم ليجيبه بعينين تشع بغموضٍ:
لو كنت عرفت أخلي حد يوصل لمكاني أكيد مكنتش هتردد إني أطلب مساعدة من حد...
رفع جان حاجبيه باستغرابٍ:.

يعني أيه، حضرتك كنت في السجن!..
تشكلت بسمة صغيرة على وجه طلعت وهو يرد على سؤاله بكلماته المبهمة:
هو سجن بس مش حكومي...
تساءل مروان بدهشةٍ:
أنا مش فاهم حاجة ولنفترض إن في حد حبس حضرتك كل الفترة دي أمال الجثة اللي دفناها دي أيه؟..
تحرك مراد تجاه باب الخروج ثم توقف جوار ابيه فقال دون التطلع إليه:
الشرح هيكون طويل فأتمنى إنك تعرف تأخد وتدي معاهم بدون نرفزة...

وتركه وغادر، غامت عين طلعت بشرودٍ في رسالةٍ ابنه الصريح بألا يضيع تعبهم بالجمع بين العائلة، تهدل جسده بخزلانٍ وهو يرى إنعكاس الطريق الذي إنجرف إليه بعدما أراد المضي قدماً تجاه الطريق الذي حلم به حينما قضى أيامٍ قاسية بداخل حبس عمران المنفر، تذكر كيف كان يتمنى العودة لحياته عامٍ، شهراً، أو حتى يومٍ واحد يصلح ما أفسده أبيه وما أفسده هو بعد استكماله لمسيرة ابيه الظالمة، تذكر كيف عكست أفعاله ما كان يود فعله وخاصة بتعامله القاسي مع شجن، عاد لذاكره فرحة مراد به حينما وجده مازال على قيد الحياة، تذكر كيف كان يعامله بإحترامٍ متناسياً ما فعله به تماماً، اما الآن فهو على حافةٍ خسارة عائلته مثلما خسر رحيم، القرار بيديه هو أما ان يعود بقوته المعهودة فيخشاه شباب عائلة زيدان من جديدٍ، اما أن يختار لنفسه طريقاً أخر عله يجد بدرب الحب طريقٍ، إهتز جسده بتثاقل فكاد بالترنح يساراً ليجد من يمسك يديه اليمنى واليسرى، استدار برأسه ليجد مروان يتمسك به من جهةٍ، ومن الجهةٍ الاخرى يتمسك به فارس الذي سأله بقلقٍ:.

أنت كويس يا خالو...
منحه نظرة عميقة، فهو يتذكر كيف كان ينحاز هو وأخيه لطرف ابنه مراد وها هو يجمعه أمامه قصر رحيم زيدان ومن جهته الأخرى يسانده مروان الذي عانى لسنواتٍ بسبب أبيه، رغم عدواته مع الكثير من الأشخاص ولكن الضربة التي زجت به في معتقل مأساوي كان من الشخص القريب إليه، لذا كان عليه إختيار ما سيقول وما سيصبح عليه بعد هذا اللقاء المصيري، أشار لهما طلعت برأسه:
كويس...

ثم وجه حديثه للجميع وهو يشير على المقاعد المحاطة بهما:
إقعدوا وأنا هحيلكم على كل حاجة...

بالمشفى...

طرق على بابٍ الغرفة برفقٍ وحينما استمع لأذن الدخول ولج للداخل، ليجد نجلاء تجلس جوار سرير شجن وتطالعها بحزنٍ، نقل نظراته إليها، ليجد رقبتها تحيطها سندة من اللون الأزرق حتى لا تتأذي بتحركها وخصوصاً مع تأذيها بشكلٍ كبير، عينيها كانت مسلطة على الفراغٍ بملامحٍ عابثة، يدها متمسكة بزهرة حمراء بقوةٍ جعلته يشعر بقيمتها، جذب مراد أحد المقاعد ثم جلس من أمامها مباشرة، فقال ببسمة هادئة وهو يتأملها:.

يااه دا أحنا بقينا عال العال مسافة الساعتين اللي سيبتك فيهم ورجعت البيت...
إنتبهت شجن لوجوده، فأجبرت شفتيها على رسم بسمة باهتة، ورغم عنها عادت دموعها لتكسر تلك البسمة، وكأنها لا وجود لها بحياتها المظلمة، شكتها نجلاء إليه بحزنٍ:
شوفت يا مراد عشان تصدقني لما أقولك كل ما حد يكلمها كلمتين تعيط...

رد عليها ببسمة ماكرة وهو يتوجه تجاه التلفاز ليجذب جهاز التحكم ثم جلس مقابلها على الأريكةٍ وهو يتصنع بالبحث عما يرأه مناسب للمشاهدة:
سيبها تطلع جرعة النكد اللي عندها، مهو كدا كدا العريس فلسع...
تحولت عين شجن تجاهه بنظراتٍ شرسة، تعجبت نجلاء مما يقوله وخاصة بما تمر به من حالة صحية متدهورة، ولكن بدأت خطته بالنجاح حينما تحررت عقدة لسانها وهي تسأله بغضبٍ:
فلسع!، أنت تقصد أيه؟..

تصنع إنشغاله بالتلفاز وهو يجيبها بمكرٍ:
الواحد مننا بيدور على راحته يا بنتي، يعني مثلا وليكن الراجل اللي عنده أكتر من عيل يوم لما يتخنق من زنانهم بيعمل نفسه خارج يزور صاحبه، رايح عند خالته، أمه، إفتكر إنه عنده عزى في جاره اللي ميعرفوش، مش مهم اي سبب عشان يخلع من الزن اللي عايش فيه شوية، ورحيم فووووش...

وأشار بيديه بخبث على حركة الطائرة بمعنى صريح بهروبه، ابتلعت شجن حلقها الجاف بصعوبةٍ بالغة وهي تسأله بشكٍ:
رحيم في مهمة تبع شغله ماما نجلاء قالتلي كدا...
ترك الجهاز من يديه ثم استدار بجسده الممدد على الأريكةٍ ليكون مقابلها:.

مش صحيح رحيم عمره ما هيطلع مهمة وأنا موجود قدامك هنا، هو فعلاً في مهمة بس هيكون ليها وجود لما أنا اسافرله غير كدا فهو عايش، شارب، أكل، خارج، باصص على المزز برة وأنتِ قاعدة هنا تنوحي...
انكمشت ملامحها بضيقٍ شديد وقد تغلبتها الغيرة القاتلة رغم العوائق الكبيرة بعلاقتهم ولكن رغماً عنها وخز هذا القلب الذي يدق بداخل صدرها، لعقت شفتيها الجافة بطرفٍ لسانها قائلة بوجومٍ:.

طب وأنت مسافرتش ليه عشان ميكنش لوحده...
إبتسم بخبثٍ للوصول لما أراده بسهولةٍ وبدون أي مجهود منه، فنهض عن الأريكة ليعود لمقعده مجدداً وهو يجيبها بحزنٍ مصطنع:
كان نفسي والله أكون جانبه، أواسيه وأحاول اخرجه من الحزن دا، وأخد بالي منه لواحدة خواجية كدا ولا كدا تلف عليه بس للأسف مس هينفع...
تساءلت بدون أي تردد:
ومش هينفع ليه؟..
قال ببسمته الماكرة وعينيه الزرقاء تنكمش اجفانها بضيقٍ مصطنع:.

لإنه منعني من السفر لحد ما أتمم جواز نغم اللي يوسف لغي كل حاجة بسبب اللي حصلك وقال إنه مش هيعمل أي حاجة غير بعد خروجك من المستشفى...
قالت بإتزانٍ وهي تحاول أن تسيطر على تعابير وجهها البائسة:
أنا هبلغه يعمل الفرح في معاده، أنا كويسة...
هز رأسها نافياً فكرتها الغير مقبولة:
وتفتكري هيقبل بدا...
أخفضت عينيها أرضاً بتشتت، فأشار بيديه لنجلاء ليقول بجديةٍ:.

السبب الوحيد إنك تخرجي من هنا وعشان دا يحصل لازم تأخدي أدويتك...
وجذب الدواء الممدود ليقدمه لها، تناولته شجن بإستسلامٍ، ثم تمددت بحذرٍ شديد حتى لا تؤلم عنقها، هلل وجه نجلاء فقالت بسعادة:
الله يسعدك ويراضيك يا ابني دا أنا بقالي ساعة بحاول أقنعها تأخده وهي رافضة...
وضع مراد الدواء على الكومود الأبيض الصغير وهو يجيبها ببسمةٍ هادئة:
متقلقيش طول ما أنا موجود...
ثم قال بلهجةٍ مرحة:.

شجن عارفة إن مصلحتها بسفري عشان أكون عينها هناك ولا أيه؟..
تفاجئ بنظراتها الجادة من عينيها الغائرة، فقالت بصوتٍ باكي:
فريد كان هنا يا مراد صح؟..
رأف بها، فأوما برأسه، ابتسامتها أنارت وجهها العابس، رغم تلألأ الدموع ولكن طيف الأمل الصغير منحها سعادة عالم بأكمله...
ازاحت نجلاء الدموع العالقة بعينيها تأثراً بها، فقالت لتزيل غيمة الأجواء الحزينة:.

حنين فين يا ابني نبهت عليها متجيش تاني النهاردة وتريح شوية عشان اللي في بطنها...
استند بذراعيه على حافةٍ المقعد وهو يجيبها بسخريةٍ:
أخر مرة شوفتها كانت بتستريح بأوضتها غير كدا معرفش، حضرتك عارفة إنها مش بتسمع لكلام حد واللي في دماغها ب...
بترت كلماته حينما فُتح باب الغرفة من أمامه لتطل تلك القصيرة من خلفه، قائلة بأنفاسٍ لاهثة:
إتاخرت عليكي يا شوشو؟..

تلاشت بسمتها الواسعة وهي تهمس بعينين تتطلع لمن يجلس مقابلها:
مراد!، أنت جيت؟..
إرتدى نظاراته السوداء ثم نهض عن مقعده وهو يتمتم باستهزاء:
لا ماشي...
عبثت بملامحها بضيقٍ فتوجه للخروج قائلاً بإبتسامة هادئة سرقت قلبها:
خاليكي معاها، وأنا هشوف الدكتور وهرجع القصر أشوف الحرب لسه مشتعلة ولا مصيرها أيه؟..
شهقت نجلاء بفزعٍ، فتساءلت بفزعٍ من كلماته المبهمة بالنسبة إليها:
حرب أيه دي الله أكبر!..

تسلطت نظراته عليها وهو يجيبها بلهجته الغامضة التي سكنها بعض الضيق:
حرب طلعت زيدان...
ما أن إستمعت لإسمه حتى سيطر على وجهها الخوف بطريقةٍ ملحوظة للجميع، أشفق مراد على حالتها فقال بنبرته الخشنة:
إنسي كل الكلام اللي قالهولك، رحيم قلب عليه الطربيزة والتهديد بقى ليه هو...
ابتلعت شجن حلقها الجاف بصعوبةٍ بالغة فسألته بتوترٍ:
وهو عرف اللي قاله إزاي!..
بسمة مشاكسة رسمها قبل أن يتوجه للخروج ليتمتم بخبثٍ داهي: .

التخمينات لطيفة أحياناً...
عبئ رأسها بأفكارها المرتبكة، فما أن غادر حتى جلست حنين لجوارها و نجلاء من الجانب الأخر لتسألها بإستغرابٍ:
طلعت شافك إزاي وقالك أيه؟.
قالت حنين بذهولٍ هي الأخرى:
وتهديد أيه إحنا مش فاهمين حاجة!.

في أغلب الأحيان حينما يتمادى أمراً ما خارج المتوقع تماماً يكون لصدى تصديقه وقتٍ طويل، فربما الصمت هو الحل الأمثل الذي يعبر عما يحارب العقل من صدمةٍ كبيرة، وحديث طلعت كان بمثابةٍ صاعقة للبعض ودهشة للأخر وعدم تصديق لشخصٍ واحد فقط، الصمت كان يكمم الأفواه ولكن بداخلهم صراعٍ من الأسئلة اللامنتاهية لما إستمعوا له، والسؤال الأهم هو من الذي تجرأ بخطف طلعت زيدان؟..
وكيف نجح بوهم الجميع بموته!..

والأهم من ذلك ما الذي حدث لطلعت زيدان حتى يجلس بهذا الهدوء الغير مقبول بالمرة، ما الذي أصاب جبروته ليصبح هادئاً لهذا الحد، يطلب منهم الجلوس والإستماع لما سيقول فطلعت بالماضي كان يقول ما يشاء بدون أي تبرير، أما عدم التصديق فكان من نصيب ريان وهو يستمع لإنكاره بمعرفة هذا العدو الذي حبسه تلك المدة الطويلة...

نظرات الحسرة والإنكسار كانت من نصيب ريم وهي ترى أبيها يجلس أمام عينيها على قيد الحياة، تركزت نظراتها على نغم الذي لم يعنيها الأمر كثيراً بل إنسحبت لغرفتها بالأعلى، لحقتها ريم بنظراتٍ شك مما يجول بخاطرها، ولجت نغم لغرفتها، فأخرجت حقيبتها ثم أخذت بوضع الملابس التي شرتها بالأمس استعداداً للزفاف، فتحت ريم باب الغرفة ثم ولجت للداخل لتجدها ترتب حقائقبها بهدوءٍ قاتل، وقفت من أمامها تتمعن بها بنظراتٍ شرسة ختمتها بسؤالها الصريح:.

أنتِ كنتِ عارفة إنه عايش؟.
تجاهلت سؤالها عمداً، وهي تنقي ما يلزمها من خزانتها لتحزمه مع باقي الأغراض، غامت نظراتها للقسوة وهي تراها تتجاهل حديثها، دنت منها فجذبتها من ذراعيها لتجبرها على التطلع إليها وهي تكرر سؤالها بعصبيةٍ بالغة:
مش بكلمك ردي عليا كنتِ تعرفي؟..
اجابتها بصراخٍ وصوت قهر ألف مرة قبل ان يخرج من حنجرتها:
أيوه كنت عارفة، ومهمنيش عايش ولا ميت في الحالتين مش هتفرق...

مزق القلب القاسي بداخل صدره وهو يستمع لكلمات ابنته، تجمدت اطرافه على باب الغرفة بعدما لحق ريم للأعلى، تنهيدة هادئة انفلتت من جوفها لتنطق بعدها بغموضٍ وبنبرة قوية تليق بشخصها القوي:.

ريم العيلة اللي أنتِ بترسميلها صورة دي مش موجودة، دا حلم مالوش أي وجود، دوري على العالم اللي بتحلمي تعيشي بيه بره قصر طلعت زيدان، هنا مش هتلاقي غير الوجع والقسوة، مهما حاولوا يعملوا مش هيجمعوا علاقات متوحدتش قبل كدا عشان ترجع زي ما كانت...
ومررت يدها على جبينها بتوترٍ وهي تحاول إنتقاء الكلمات المناسبة حتى لا تؤثر بالسلب على شخصٍ ريم الضعيف:.

انا ميهمنيش اي حد بالعيلة دي كلها كل اللي يهمني هو يوسف، هو كل دنيتي يا ريم، أنا حبيته لأني بحس معاه بحنية الأب والأم، بيغنيني عن إحتياجي لأخ، هو بالنسبالي كل حاجة...
ومن غير أخواتك مكنش هيكون له وجود بحياتك يا نغم...

صوت رجولي إقتحم قاعة الحديث الأنثوي، فاستدروا معاً ليجدوا طلعت زيدان من أمامهم، قطع المسافة الفاصلة بينهم وهو يتحاشى التطلع إلى وجه كلاً منهن، يخشى أن يرى أحداً ضعفه وإنكساره لسماع كلمات ابنته التي صفعته بقوةٍ ليفق من غفلته الذي عاد ليغفو بمسارها من جديدٍ، وقف من أمامهم بهدوءٍ مخادع ليسترسل حديثه موضحاً:.

أنا كنت هوقف الجوازة دي وأخواتك اللي أنتِ مش شايفاهم قايمين بوجباتهم هما اللي وقفوني عن قراري...
تطلعت له نغم في ذهولٍ، بينما رقت ريم إليه فوقفت من امامه بحركاتٍ متوترة، حائرة، أنهاها طلعت بعدما قربها إليه ليحتضنها بقوةٍ وهو يردد بصوته الذي غلبه الدمع رغماً عنه:.

أنا عارف إني أحقر أب في الدنيا دي كلها بس صدقوني مكنتش أتمنى إني اكون كدا في يوم من الأيام، ياريت كان بايدنا إختيار الأب والأم كنتوا إختاروا أب غيري وأنا كمان كان هيكون لسا إختيار تاني...
وخز قلبها بكلماته، فتحطم رداء قوتها، لمعت الدموع بعيينين عهدت بالجفاءٍ تجاهه وتجاه ذكراه، فتح ذراعيه الأخر لها وهو يضم ريم لصدره لينطق بكلماته الموجعة:
هتخلي اخوكي اللي يسلمك لعريسك وأنا لسه عايش يا نغم!..

لم تتردد من التسلل لأحضانه وقد خرت قواها لتبكي بصوتٍ منكسر، شعر بسعادةٍ عالم بأكمله وهو يضمهم لصدره، فلتذهب قواه القاسية للجحيم، تباً لقوانين أبيه الذي وضعها حاجزاً بينه وبين أولاده، لأول مرة تشعر كلاً منهن بإحتواءٍ هكذا، قبل رأس ريم قائلاً بحزنٍ ينبع بأوصاله:
أنتي الوحيدة اللي كنت واثق إنك مستحيل هتقسي عليا في يوم من الأيام...

اشرأبت بعنقها تجاه، لتطبع قبلة صغيرة على جبينه، فأبتسم وهو يتنقل بنظراته لابنته الأخرى فقال بحنوٍ يصاحبه تنهيدة عميقة:
جالي فضول أتعرف على الشخص اللي غيرك بالشكل دا، بس حاسس إن من حبك ليه هحبه أنا كمان...

ابتسمت بفرحة أضاءت وجهها المنطفئ فربت على خصرها بحنانٍ، صوت صفقات قوية إخترقت مسامعهم، فصدر عن دعسات قدميه صوت مسموع وهو يقترب ليستند على الخزانة المقابلة إليهم ببسمة فاترة ترسم على وجهه الثابت، فقال في حبورٍ:
مش مصدق إني واقف في أوضة من قصر طلعت زيدان، المشهد حقيقي صادم!..
رد عليه أبيه بحزنٍ وقد تدارج أخطائه:
لا صدق يا مراد انا معتش عايز حاجة غيركم...
ضيق عينيه وهو يسأله بنظرة مشككة:
من امته دا!..

ثم زفر براحةٍ وهو يستطرد بلهجة مشاكسة:
عموماً دا في مصلحتي كل ما تتغير للأحسن كل ما كان تذكرة سفري أسرع...
انصهرت ابتسامة مراد حينما وجد نغم تترك ذراع أبيه وتقترب منه بنظراتٍ مرتبكة، لتميل برأسها على صدره وهي تهمس بصوتها الباكي:
شكراً على كل حاجة عملتها عشاني...

أفتر ثغره عن ابتسامةٍ عذباء، فطوفها بذراعيه بسعادةٍ وقد إلتمعت عينيه بمشاعرٍ تتحرك لاول مرة حينما رأى ريم تحتضن أبيه ونغم بأحضانه، أجواء العائلة المفقودة عادت لتطوف بهم لأول مرة...

خشى القمر من ضوء الشمس الساطع فتسلل خفية ليترك لها الساحة، ففردت خيوطها الذهبية بحريةٍ وكبرياء، حرك جفن عينيه بإنزعاجٍ شديد، ففتحهما ببطءٍ ليجد ذاته على نفس الفراش بنفس ذات الغرفة جوار طفله الرضيع، إستقام إياد بجلسته بتوترٍ، فتمعن بنظراته بالغرفةٍ الصغيرة ليجدها غافلة على المقعد المجاور لمطبخها الصغير، سكن الآنين بداخله وهو يطوف بعينيه حالة الغرفة المتهالكة، التي لا تصلح لإتخاذها سكنٍ آمن، سلطت نظراته على ابنه الصغير الذي يداعب يديه ببسمة طفيفة وكأنه احبه وأحب وجوده لجواره، حمله إياد بحذرٍ ثم قربه منه ليطبع قبلة مطولة على خديه الناعم ثم تركه على الفراش مجدداً ليضع جواره مبلغ طائل من المال بعدما دون بقلمه على النوت الصغير بملحوظة صغيرة.

«أنا لسه مستحقيش يا صباح، »...

ثم ودع صغيره بنظرة حزينة وهو يتجه للخروجٍ ببطءٍ وحذر حتى لا يوقظها، وما أن غادر حتى أسرع بخطواته ليغادر البناية بأكملها ليجلس على أحد مقاعد الإستراحة أمام مياه النيل الهائم بأمواجه العتية، إنهمرت دمعة خائنة من عينيه وهو يجاهد ضيق تنفسه الثقيل، أراد ان يبدأ بذاته ليتمكن من العيش معها، أراد أن يستكمل الطريق الذي قطعه ليضمن بأنه تغير كلياً دون تمسكه بصفة من ماضيه المقزز الذي قد يشكل إليه امام ابنه نقطة غير مقبولة..

بصعوبةٍ بالغة تمكن مراد من إقناعٍ الطبيب بأن تعود شجن لمنزلها، رضخ الطبيب إليه بنهايةٍ الأمر بشرطٍ أن تصطحب ممرضة متخصصة للتعامل معها ومع حالتها الحساسة، وبالفعل بسيارة مجهزة عادت شجن لقصر طلعت زيدان وبالأخص لغرفتها مكمن الغموض خلف تصميم الجوكر بعودتها إليها، ليرد للغائب نبضات قلبه التي توقفت برحيلها الغامض، وضعها يوسف على الفراش بحذرٍ حتى ينتبه لقالب الجبس الرقيق الموضوع حول رقبتها، ثم جلس جوارها ويديه تشدد على يدها، فسألها بإهتمامٍ:.

حاسة بأيه دلوقتي؟.
أجابته ببسمة فاترة وهي تحرك يدها بإنزعاجٍ حول رابطة عنقها:
الحمد لله..
فرك يديها بحركاتٍ دائرية وهو يخبرها بيقينٍ
أسبوع بس والدكتور هيشيلها بإذن الله...
هزت رأسها بإنصياعٍ ثم عاد الحزن ليخيم عليها من جديد، رن هاتف يوسف برقم مديره بالعمل، فبدا التذمر يسترق على تعابير وجهه، لطلبه لمهلة ساعتين ليكون جوار شقيقته وقت خروجها من المشفى، أشار لها بأصابعيه وهو يخرج للشرفة:.

ثواني وراجعلك يا حبيبتي...

وبالفعل فتح باب شرفتها الكبيرة ثم خرج للتراس الخارجي ليتحدث على الهاتف، استغلت شجن خروجه من الغرفةٍ، ففتحت احد أدراج الخزانة المجاورة لها ثم جذبت هذا العقد المطوي، تنهدت بألمٍ قبل ان تفتح وثيقة جراحها، ففتحتها ببطءٍ شديد وهي تتطلع لتوقعيه على ورقة الطلاق، مازالت تحتفظ بها وكأنها ضريبة لآنينها، تذكر ذاتها بما إرتكبته ليكون لبكائها حجة ولوجعها سببٍ مقنع، طرقات باب غرفتها جعلتها تطويها سريعاً وتعيدها للخزانة من جديدٍ، فازاحت دموعها وهي تهدر بصوتها المتقطع:.

إدخل...
ولج مراد للداخل، فجلس على أخر الفراش الكبير وهو يدعي الحزن وعينيه الماكرة تخطف نظرة سريعة لركنٍ ما بغرفتها:
انا جيت عشان أودعك...
تركزت نظراتها عليه لتستجمع كل ذرة إهتمام لديها وهي تقول بلهفةٍ وفرحة فشلت بإخفائها:
هتسافر لرحيم؟..
لم يتمكن من اخفاء تلك البسمة الصغيرة التي ظهرت على محياه، فتنحنح بثباتٍ كاذب وهو يدعي خوفه على مصلحتها الشخصية:.

أيوه مهو انا مش هفضل قاعد جانبك هنا وسايبه هناك مع المزز والمحرمات وهو ما بيصدق...
تسللت الغيرة لوجهها، فأدعى الحزن وهو يستدير بجلسته تجاهها قائلاً باستياءٍ:
طب تصدقي بأيه، كل ما نكون بمهمة مع بعض يقولي سيبلي أنت الدخلة الطرية دي سكتي، وفاكر نفسه إنه بيضحي فداء الوطن وهو بيشخلع نفسه...
إحتقنت عينيها بغضبٍ غريب المصدر فقالت بعزمٍ:
هتسافر امته؟..
وضع قدمٍ فوق الاخرى بنظرة متعجرف تجاه احداهم:.

يعني الفرح بعد يومين همشي في اليوم التالت على طول...
قالت بدون أن تنتبه لحديثها المتسرع:
مش لازم تحضر الفرح سافر بكرا على طول..
نقل نظراته تجاهها، فتدارجت ذاتها، لتقول بخجلٍ وهي تعدل من حجابها:
يعني بقول لو حابب تكون جانبه...
اخشونت نبرته وهو يجيبها بعدما انتصب بوقفته:
متقلقيش أنا عيني عليه...
هزت رأسها باستحياءٍ، فقال وهو يتفحص الغرفة باستغرابٍ:
امال فين يوسف ؟.
أجابه وهو يدلف من الشرفة:
وراك...

ابتسم وهو يستدير له، فتبادل السلام معه وهو ينحني ليهمس بمكر:
خاليك معاها وأنا ورايا مشوار على السريع كدا وراجعلك...

اومأ برأسه بهدوء ثم جلس جوارها، توجه الجوكر للخروج من الجناح فضم أصبعيه لبعضهم وهو يودي بهما تحية ماكرة لأحد حوائط غرفتها وكأنه يودي سلاماً حار لمن يتابع ما يحدث من خلف شاشة حاسوبه، بسمة صغيرة تسللت لوجه الأسطورة الذي يتابع حواره مع شجن وخاصة دور الدنجوان الذي القاه من مهامه المصون ليقذفه على عاتق رحيم الذي يمقت هذا الجانب بمهامه فيلقيها عليه فاصبح هو بالأخير متحمل ما يحدث، أغلق رحيم حاسوبه وهو يستقيم بوقفته المهيبة ليردد بسخرية:.

سيد الجوكر الماكر كم تهمة هشيلها عنك تاني!..

ثم ابتسم بخبثٍ وهو يتذكر الغيرة والضيق الذي سطر باقلامه أبيات على وجهها، خطى بثقة تجاه خزانة الغرفة الصغيرة، ليجذب جاكيته الأسود وقناعه الموصود بجواره، إرتدى رحيم الجاكيت ثم وضع القناع ليخفي ملامحه، جذب هاتفه الذي أنار بالموقع المترصد ليغادر سريعاً المبنى الذي يقطن به مؤقتاً، ليستقل دراجته الرياضية المثيرة للإهتمامٍ، غادر بأسرعٍ سرعة يمتلك ليصل بأقلٍ وقت ممكن، وبالفعل بدأ بالإقترابٍ من الموقع المحدد له، فتسلل بخفة على سطح أحد مباني تركيا، تخفى خلف احد البراميل الموضوعة على طرف الطريق المقطوع ليجد شاحنات مغطاة جيداً تدخل تباعاً بنفقٍ صغير يودي بها لأسفل الأرض، أخرج من حقيبته العدسات المقربة للصورة البعيدة، ليرى بوضوحٍ ما يحدث، فتيات فاقدات للوعي ملقاة بداخل الشاحنة، وعدد من الرجال يحملونهن للداخل، احتل عينيه شرارة مشتعلة من الغضب المميت وهو يتخيل مصير تلك الفتيات، يعلم بأنه إن لم يتحلى بالصبر لمراقبة ما سيحدث ستضيع فرصته الذهبية إن لم يتمكن من كبح غضبه الوحشي، فربما يلقى حتفه بهذا المكان إن لم يتمهل ليصل لمنبع الشبكة بتركياٍ، لذا عليه الصمود ليعلم أي نقطة بالتحديد سيصيبها!..

بغرفة شجن...
توترت ملامحها، فتصلبت حدقتيها وهي ترى من يقف من أمامها، انتبه يوسف لحالةٍ الذعر التي أصابت شقيقته فنقل عينيه تجاه ما تتطلع له، ليجد رجل غريب عنه يقف من أمامه وعلى ما يبدو عليه بأنه المعهود بأسم طلعت زيدان...
بسفر الجوكر ستبدأ رحلة ستهتز لها أبواب الشر وينتبه لحركاتها كل من ربط أسمه بطريقٍ مقبوض بعالم الجريمة، ليرتجف الشياطين خشية من إتحاد.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة