قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

حساسية التعامل مع هذا النوع من البارود جعله يترقب بحيرةٍ السلك الصحيح للنجاة، إختار احداهم ثم قرب مشرطه إليه وفي خاطره صورة تذكارية لها، لعله سيلقي مصرعه الآن فتكن حاضرة بوجدانه وبكل ذرة بنبع الفؤاد، قطع السلك وعينيه مغلقة يترقب العواقب التي قد تحدث لها وإليه، يعلم بأن ريحانة أخرجت الفتيات جميعاً من المكان، ولكنه خشى أن يتعرض أخيه للضرر حينما بجازف على تعطيل القنبلة، فتح عينيه على مهلٍ وهو يبتسم بهدوءٍ حينما وجد مهامه مكتملة على أكمل وجه، الشعور المرتبك بألم الحريق حاوطتها، بداخل جسدها رجفة متوترة عن الألم الغريب الذي سيهاجمه بمجرد إنفجار القنبلة، خاب ظنها حينما وجدت رحيم يحرر يدها المقيدة على المقعد، وزعت نظراتها بينه وبين الحزام الملقي أرضاً جوارها، فأمتزجت دموعها مع ابتسامتها العذباء بلقاء حياة جديدة قد حرمت من التفكير بنيلها منذ قليل، أمسك يدها ثم خرج بها مسرعاً من هذا المكان وهي تتبعه كالطفل الصغير العاجز عن المشي، تتخبط هنا وهناك حتى خرجت من هذة الغرفة المعتمة للضوء الذي سينير حياتها...

وقف بالخارج مع عدد قليل من الفتيات اللاتي بت في أمرهم فعلم بأنهم من مصر لذا قدم لهم يد العون بكشفه عن كناياته كونه ضابط مصري، كما إنه وعدهم بعودتهن للقاهرة بأقرب وقت، وقف شارد الذهن وعينيه متعلقة بالباب، قلبه يرتجف بأن يخسر أخيه والفتاة، دقائق شقت غبار أعوام كاملة وهو يترقب خروجه بصبراً يجتاز الحواجز، ردت الدم لأوردته حينما وجد رحيم يخرج من المكان وبيديه فطيمة، وقفت أمام مراد وهي تلتقط انفاسها قائلة بدموع تمزق القلوب:.

وفيت بوعدك...
أشار لها بالنفي وهو يرفع يديه على كتفيها، قائلاً ببسمته الهادئة:
لسه، وعدي هيكتمل لما أسلمك من أيدك لوالدك...
بسمة معبأة بالحزن طافت وجهها، فهمست بصوتها المنخفض:
مش عارفة هيتقبلوني ولا لأ...
شدد من ضغط يديه على كتفيها وهو يؤكد لها بعزمٍ وثقة:
أنتي مالكيش ذنب في اللي حصل يا فطيمة...
هبطت دمعة مختنقة من عينيها رغم الإبتسامة المرسومة على ثغرها، فتحرك فكيها الصغير ناطقاً بتأثر:.

مالكيش ذنب!، الكلمة دي كان نفسي أسمعها من أول ما دخلت المكان دا...
أشار لها بيديه ليستحوذ على إهتمامها كلياً وهو يستطرد بقول:
متفكريش غير في أهلك وبس، أهلك اللي هيطيروا من الفرحة بمجرد ما هيشوفكي واقفة قدامهم وعلى رجليكي...
أومأت برأسها ببسمة صغيرة فقال وهو يلوح بيديه لرحيم الذي يقف على مسافة صغيرة منه بجوار ريحانة ليلفت انتباهه بالرحيل...

جذب رحيم ريحانة وتوجه إليهم، ليصعدوا لأحدى السيارات توجهاً بتعليمات فطيمة لمكان إقامتها، شهدت ريحانة توتر فطيمة المحزن طوال الطريق، وكأن الفرحة بالتحرر من هذا المكان لم تكن كفيلة بمحو القادم، دفعها الإرتباك الذي تشهده بعيونها للتفكير جادياً بالأمر، فبات الأمر منقسم بين كلاً منهن، حتى بعدما نلنا الحرية من هذا الجحيم مازالن يشغل تفكيرهما بما سيحدث لهما، وهل ستتقبلهم العائلة والأهل!.

توقفت السيارة بعد مسافة إستغرقت ساعتين كاملين أمام أحد المنازل الذي يعد لونه الأبيض وبابه الأزرق مبهج للنفس ورغم ذلك لما يتسلل بهجته لهذا الكهل الذي فتح بابه، ليقف من أمامهم وهو يضيق عينيه المريض في تأمل من يقف أمامه، تحررت عقدات وجهه تدريجياً وهو يتأمل هذا الوجه المألوف الذي يقف من خلف الشابين ذو الأجساد العتية، صوت بكائها لامس قلبه لينعشه بذكرياتٍ ابنته المفقودة منذ أعوام، اكتسب وجهه دموع الشوق والخوف من ان يكون يتوهم رؤياها، فمد يديه تجاهه وهو يهمس بصوته الباكي الذي يشق الصدور:.

فطيمة بنتي!..

انفطر فؤادها وعلى صوتها وهي تركض تجاهه وقد علي صوتها بلفظ كلمة تطرب الآذان أبي، وكأنها طفلة صغيرة تنطقها لأول مرة، فبفراقها تبددت غيمة الذكريات فعلق بذهنه شكلها وهي طفلة صغيرة ذات الجدائل القصيرة، خرجت من خلف ظهر مراد لتهرول لأحضان أبيها سريعاً، إنهمر الدمع تباعاً وكأنه يشكو له ما شاهده من قسوة وعناء، بكى الرجل الكهل وهو يحتضنها في مشهد مؤثر جعل الدمع يتلألأ بعين الجوكر والاسطورة، كلاً منهما يتابعان ما يحدث في صمتٍ وامعان، خرجت للشرفة سيدة في نهاية العقد الرابع من عمرها، تراقب السبب وراء تأخر زوجها لرؤية من الطارق، ردت الروح لوجهها البائس وروحها المعذبة حينما وجدت ابنتها الغائبة تقف على عتبة بابها، صوت عويلها جعلها موضع اهتمام، هرولت فطيمة للداخل وهي تصرخ بأسم والدتها، لحظات ثقيلة مرت عليهم بالخارج وهما يراقبان ما يحدث أمامهم من لقاء، إقترب مراد من رحيم الواقف لجواره ليهمس بصوته الحزين:.

يا ترى كم بيت وأسرة بتعاني!..
أجابه وعينيه تتأمل الباب المفتوح على مصراعيه حيث توارت فطيمة عن الأنظار خلفه لدقائق مطولة:
وقت حسابهم جيه...

اختسلت ريحانة النظرات من خلف نافذة السيارة لما يحدث بألمٍ، فحينما عادت فطيمة وجدت من يجلس بإنتظارها ولكنها لا تمتلك سوى زوجاً كان له الفضل العظيم بما رأته على أيدي هؤلاء الشياطين، بعد قليل خرج الكهل العجوز يستند على كتفي ابنته وهو يقترب منهم حتى وقف قبالتهم تماماً فوزع نظراته بين مراد تارة وبين رحيم تارة أخرى فعلى ما يبدو بأن ابنته قد اختصرت له ما حدث على وجه السرعة لينال الضيفين شكراً يليق بما قدموه من معروفٍ عظيم تجاههم، فقال ببسمة تشكلت على وجهه لتنيره:.

هادشي اللي درتي معايا خير كبير عمري ما ننسا انك سترتيني وخا نبقا عمري كله ماغنعرفش نرده ليك، (اللي انت عملته دا جميل وستر لعرضي لو فضلت عمري كله عشان ارده مش هعرف)...
ابتسم مراد وهو يحاول فهم ما يود قوله، فقال بودٍ:
أحنا معملناش غير واجبنا، فطيمة زي أختي وانا حققت وعدي ليها...
نقل الشيخ نظراته تجاه رحيم وهو يشدد على ضغطه على يديه قائلاً بتأثر:.

الله يسترك اولدي كيما سترتي بنتي، (ربنا يستر عرضك يا ابني زي ما سترت بنتي، )...
ترنحت كلماته على مسماعه وكأن اليوم هو صفعة بسواط الماضي، فالعرض بالنسبة للرجل هي زوجته أو شقيقته وقد نجاه الله حينما تمكن من إنقاذ زوجته، رفع رحيم يديه على كتفي الشيخ وهو يجيبه ببسمته التي ترسم كل فترة زمانية كبيرة:
ربنا اللي سخرنا ليها عشانك يا راجل يا طيب...

ابتسم الرجل بمحبة لهذا الشاب الغريب الذي جمعه به عشرة دقائق ومعروف لن يتمكن من تسديد فواتيره عمراً بأكمله، إرتدى رحيم نظاراته السوداء ثم توجه للسيارة التي تقف بأنتظارهم فجلس بالخلف جوار ريحانة الساكنة بصمتٍ مطبق...
وقفت فطيمة أمام مراد وهي تبتسم له تارة وتبكي تارة أخرى لقاء هذا الوداع الأخير للشخص الذي حرر روحها المعذبة، مزقت صفحات مجلد الصمت الطويل قائلة ببسمتها الخجلة:.

أنا شوفت فيك الأخ الكبير اللي عشت عمري كله بحلم إنه يكون جانبي وبيحميني بس للأسف أخواتي الصبيان لسه صغيرين فربنا بعتك أنت ليا، خاليك فاكر ومتأكد إنك لو نزلت في يوم من الأيام المغرب إن ليك أهل وأخت هنا بيتهم مفتوحلك في أي وقت...
بادلها البسمة حينما استقام بوقفته قائلاً بصوته الرجولي:
أكيد يا فطيمة، وأنتي عندك أخين بمصر بس أخ واحد..
قال كلماته وعينيه تشير على السيارة فأومأت برأسها قائلة بتأكيد:.

أنت صونت شرفي وحققت وعدك وأخوك أنقذني من الموت...
عدل على كلمتها الأخيرة قائلاً بمزح:
إسمه رحيم، رحيم زيدان هو بيكشر على طول كدا بس قلبه صافي ووقت تفكيك الاسلحة أو أي سلاح بيتفكك مبيهزرش...

اتسعت بسمتها شيئاً فشيء رغم الدمعات التي تسيطر على عينيها، تلاشت إبتسامتها تدريجياً حينما رأت من يقف على بعدٍ قريب منها، يتأملها بنظرات غير مصدقة بأنها تقف أمامه من جديد، إكتسح وجهها معالم التوتر والإرتباك، وهي تتأمله باحاسيس مبهمة، لا تعلم ماذا سيظن وماذا سيحدث ولكنها أختارت الصمت والترقب خيراً، إقترب منها هذا الشاب الثلاثيني، ليقف على مقربة منها وهو يردد بصوته المبحوح:
فطيمة...

انهمرت دمعاتها وهي تردد بقلبٍ مفطور:
قاسم!..
أمسك يدها وهو يفرك أصابعها بتأكد بأنها تقف أمامه، ليس مجرد حام يزواره للمرة المائة والثلاثون منذ يوم فقدانها، ود لو تمكن من إحتضانها ولكن ما يربطهما سوياً مجرد خاتم خطبة.

من خلف نافذة السيارة المعتمة لمح طيف الشاب الذي يقترب منها، فضغط الزر الجانبي ليستجيب له زجاج النافذة ليهبط تدريجياً كاشفاً له هذا المشهد الغامض إليه، لح على وجهه بسمة فاترة وخاصة حينما تمسك الشاب بيدها غير عابئ بما تعرضت له، كل ما يعانيه بأنه يرأها أمامه!، على قيد الحياة!.

وداعها مراد وصعد للسيارة بجوار السائق بينما حان منها التفاتة صغيرة للخلف، فمنحت رحيم نظرة ذات مغزى حينما تذكرت كلماته لها وهو يفكك القنبلة الموقتة، تذكرت الجزء الخاص عن حبيبها وها هو يزيح ألم خيبة الأمل ويكون لجوارها مثلما أخبرها هذا الشخص الغريب عنها، بسمة صغيرة تسللت لثغره كوداعٍ أخير لها، فرفعت يدها لتلوح لهنا في سعادةٍ بعدما اكتملت المهام وتحقق الوعود، انطلقت السيارة للمطار تاركة خلفها دور صغير لشخصية كان ظهورها كالظل واختفت بلمح البصر ولكنها تركت قصة وموعظةٍ عظيمة، انتهت أول رحلة للجوكر والاسطورة بالمغرب وحان دور مهام أخر بدولة أخرى ومصاعب أكبر مما تعرضوا إليها، وصلوا للمطار أخيراً وبعد عدد من الساعات انطلقت الطائرة عائدة لمصر الحبيبة، بعد غربة لم تدوم طويلاً بفضل الفتاتين اللاتي عاونهم على تحقيق أهدافهم بوقتٍ قياسي وغير مصدق من قوات الشرطة...

شعلة من النيران تطوف حول جسدها لتلتهمه بعنفوانٍ وكأنها دمية هاشة وسط حشد من النيران، لم يحتمل رؤية هذا الحلم البشع، فحارب للإستيقاظ، نهض وهو يلتقط انفاسه بصعوبة بالغة ليردد بفزعٍ:
هنا!.

وضع يامن يديه حول رأسه وهو يزيح حبات العرق العالقة على جبينه، فألتقط أنفاسه بصعوبةٍ بالغة لرؤية هذا الحلم الثقيل، مقت ساعات النوم القليلة التي يحظى بها بصعوبة بالغة، نهض عن الفراش وهو يفرك عينيه يحزنٍ عن حلمه المتكرر لشقيقته المتوفاة، فقد حسم أمره ببناء مسجد. لها، لعلها تحتاج لصدقة جارية، جذب هاتفه الموضوع على الكومود جواره ثم تفحص الوقت بضيقٍ حينما تذكر موعد زفاف يوسف فقد شدد على الخادم بضرورة ايقاظه بعد ساعة واحدة ولكنه تناسى ما قاله، ولج لخزانته ثم انتقى ما يناسبه ليسرع للسيارة، فقادها ليتوجه للمكان الذي يقيم به حفل الزفاف..

بعظمة وتفاخر، وقف طلعت زيدان على مقدمة المنصة ليسلم يد ابنته للرجل الذي إختارته بذاتها، طرب قلب يوسف وهو يرأها تقف أمامه بفستانها الأبيض الذي سلب عقله بجنون، تشبثت به وكأنها تؤكد له بأنه لا يحلم حلم جميل بل هي واقعه المنتظر، صعد بها أخر درجات المنصة، فجلست جواره وهي تعدل من فستانها الطويل، ليبدأ الحفل الشعبي بالإبتداء وسط جو من المرح والحماس من أبناء عائلة زيدان رغبة برؤية طقوس الزفاف الخاص بتلك المناطق، وبالطبع وقف سليم بصرامة وحدة ليراقب الأوضاع المقامة، فأطرفت عينيه في غضبٍ حينما وجد أحد الشباب يتسلل خفية للصعود للأمام في محاولة انتحارية للوصول لزوجته، فغمز بعينيه للحارس الذي يتابع اشارته منذ بدء الزفاف فأقترب من فارس ليحمله سريعاً لأحد السيارات الخاصة بالحرس، لاح على شفتي سليم ابتسامة متعجرفة لصرامة قرارته لمن يخالف أوامره ولكن سريعاً ما تلاشت كليا حينما رأى هذا المشهد المفجع!..

...

عدد من سيارات الحرس مصفوفة بإنتظامٍ أمام مطار القاهرة الدولي وكأنه هناك استقبال هام لأحد شخصيات المجتمع المرمق، وبالفعل قد كان حينما ظهر رحيم زيدان بصحبة الجوكر من أمامهم، تسابقوا بفتح باب السيارة لكلاً منهما، لتلحق بهما ريحانة بخطواتها البطيئة، المرتبكة مما تراه من ثراء وحاشية مخيفة، توجهت السيارات سريعاً للقصر بعدما أغلقت أبوابها، ما رأته لم يكن الا نقطة صغيرة بددت برؤية القصور المرصوصة جوار بعضها البعض بحرافية عالية، فقد صدق حدسها برهنت ما حدث بالمطار بوجود نفوذ عظيم لكل منهما وإتضح ذلك برؤية المكان الذي يقبع به...

بالداخل...
زفرت شجن وهي ترفع صوتها بملل:
كفايا بقى الله يكرمك صدعتيني!..
لوت حنين شفتيها بغيظٍ وهي تعيد على مسماعها الكلمات التي أعادت قولها للمرة الألف:
بقى أنا سبت الفرح ورجعت على طول عشان مسبكيش لوحدك وفي الأخر تقولبلي صدعتك!..
أخفت وجهها الذي يكاد أن ينفجر من الغيظ خلف يدها وهي تهمس بصوتٍ منخفض للغاية:
صبرني يارب أقتلها ولا أعمل أيه بس!..
أجابتها بحدةٍ:.

فكري بس تقربيلي وهتلاقي مراد علقك في سقف النجفة...
ثم ابتسمت ببلاهة وهي تردد بشرودٍ:
أممم مراد وحشني أوي، أنا حاسة إنه مصدق يخلع دا حتى مهتنش يطمن عليا ولا على مرين
مين قال كدا، أنتي معايا لحظة بلحظة مش بتفارقيني!..
صوته الرجولي اقتحم القاعة ليجعل فؤادها يتراقص على نغماته، استدارت تجاهه وهي تردد بعدم تصديق: .
مراد!..

ابتسامته الجذابة، نظراته المعهودة بالعشق لقصيرته ذات اللسان السليط، هرولت من على أعلى الأريكة لتلقي ذاتها بأحضانه وهي تردد بفرحة كبيرة:
أنا مش مصدقة بجد أنك رجعت بالسرعة دي أنا كنت عايشة أعد الأيام عشان أشوفك وعندي كلام كتير آآ...
بتر كلماتها وهو يجذبها من يدها ليجبرها على تتبعه قائلاً بمكر:
لينا أوضة نتكلم فيها...

ولف ذراعيه حول كتفيها ليتحركوا سوياً تجاه شجن التي تراقب الباب من خلف مراد بلهفة وخوف، لاحظها الجوكر المزعوم فأشار لها برأسه وهو يهم بصعود الدرج معها بإشارة مؤكدة بأنه قد اتى بالخارج، اتسعت بسمتها وقد ضرب القلب عاصفة من المشاعر المضطربة، فهرولت بخطواتها السريعة تجاه الخارج والبسمة تكاد تصل من الأذن للأخري، لمحته وهو يقف بهيبته المعتادة بمنتصف الحديقة الخلفية للقصر فكادت بالركض لتلحقه ولكنها تخشبت محلها من الصدمة حينما وجدته يقف مع فتاة غريبة ترأها ولأول مرة!، اشتعل وجهها بنيران الغيرة وهي تتابع ما يحدث أمام أعينها بغضب يكفي لأبادة تلك الفتاة الغامضة!.

سلمته الحقيبة التي تحتوي على أعراض هؤلاء الفتيات اللاتي دهست كرامتهم عمداً، بالإضافة لعدد من الفلاشات الهامة التي ستساهم بالقبض على رؤسائهم، وقفت من أمامه تطوف جسدها بذراعيها وكأنها عارية، رغم إنها ترتدي فوق ثيابها المخلة جلباب أسود يستر جسدها، لاحظ رحيم حركاتها والدموع التي اكتسبت وجهها لونٍ دموي، فقال بثباتٍ يتشكل في لهجته المتزنة الحادة:.

ريحانة أنتي دخلتي المكان دا وبقيتي كدا غصب عنك، أنتي مأخترتيش طريقك هو اللي إتفرض عليك...
رفعت عينيها الباكية بإنكسارٍ يكسرها، فقالت بصوتها الذي يكاد تلتقطه آذنيه:
أنا حققت حلمي بالخروج من المكان القذر دا ورغم كدا حاسة إني عريانة قدام الناس..

تعمق بالتطلع إليها وللحالة النفسية الحادة التي أصبحت عليها، رؤياها هكذا قذفه في غياب الماضي حينما كان يستحوذ عليه الشر فيجعله شيطانٍ مخيف، فكاد بأن يصبح مثل هؤلاء، إنكماش جسدها ودموعها منحه صورة تفصيلية لحبيبة القلب وسُكنان الروح، شجن خاصته حينما كان ليصبح وضيعاً بما كان يوشك رجاله على فعله معها بأمرٍ منه، عاد لواقعه بعزمٍ وبقوةٍ بأنه لن يدعي الماضي يسيطر على شخصه الجديد الذي حاوطته النزاهة والشرف، فوقف يدافع عن عرض الفتيات، إقتراف الخطأ يكون جريمة ولكن ما يفوق الجريمة بحدتها حينما لا يعترف بأنه أخطأ وإقترفها، شتت غياب الماضي حينما خلع جاكيته وهو يلفه حولها ليقف من أمامها وجهاً لوجه، يقابل علامات دهشتها فلما منحها جاكيته وهي ترتدي ثياب محتشمة، خرج عن صمته قائلاً بغموضٍ:.

أنتي مش مكشوفة لحد أنتي لابسة كويس وهتكملي بالشكل اللي هتختاريه، القذارة دي كانت اجباري في حياتك اللي جاي إختياري، انتي اللي هتختاري هتبدأي ازاي، وسواء ساعدتيني في إننا نستدرج بيبرس أو لأ فتأكدي إني جانبك وهساعدك لأخر نفس خارج مني زي ما وعدتك...
رفعت عينيها المقهورة إليه وهي تبتسم بصعوبة، رفع يديه وهو يضعها على كتفيها قائلاً بجدية:
هتعدي كل الظروف دي بس وأنتي قوية...

أزاحت دمعاتها وهي تحكم اغلاق جاكيته عليها قائلة بارتباك: .
مش عارفة أشكرك على أيه ولا أيه بس كل اللي أقدر اقولهولك انك ادتني حياة جديدة أنا اشتقت أعيشها، وأوعدك اني هعيش بالطريقة اللي اختارها بس لما أقفل اخر صفحة من الحساب دا وأنت عارف هيتقفل ازاي...
اتزانه لا يعني اجابتها ولكن صمته وهزة رأسه كانت الإجابة الواضحة إليها، أخفض يديه عنها وهو يشير لحازم حارسه الخاص الذي أتى إليه مهرولاً، فقال بحزمٍ:.

هتأخد الهانم المكان اللي قولتلك عليه وهتسيب على باب الشقة اتنين من الحراس، والاهم من كل دا إنك هتشرف عليهم بنفسك من وقت للتاني، كلامي مفهوم؟..
هز حازم رأسه وهو يجيبه بوقار:
مفهوم يا باشا..
ثم أشار بيديه تجاه السيارة قائلاً وهو يتفادى التطلع لها:
اتفضلي يا هانم..
بسمة سخط تشكلت على وجه ريحانة وهي تراه يود أن تنال جزء من إحترامها بالمعاملة الطيبة، وبالفعل تحركت تجاه سيارة حازم لتنفذ ما طلب منها..

رغم أن السيارة قد توارت على الأنظار الا إنه مازال يقف محله، يتطلع للفراغ بغموض، أغلق رحيم عينيه بقوة وألم حينما أنعش الهواء البارد وجهه، ليقذفه برائحة محببة لقلبه ليجعله يشعر بخطاها القريب منه، حاول قدر الإمكان تصنع القوة والصرامة قبل ان يستدير ليلتقي بها ولكنه تفاجئ بلهجتها المندفعة فور وصولها إليه وهي تصرخ له بعصبية بالغة:
مين دي!..

أخفى بسمته بنجاح وهو يستدير ليكون مقابلها، مقابل شجن جرحه العميق، ولكنها لم ترى منه سوى قواه المعهودة، الضعف ليس من سماته حتى مع أقرب أناس لقلبه، اكتسا وجهه ما اراد من جدية وصرامة ليجيبها بمكرٍ يتشكل باسترجاع جزء من الحقوق المهدورة:
ويلزمك في ايه تعرفي هي مين!.
الغضب والغيرة معاً جعلوا عينيه بارزة بشكلٍ ينذر بالخطر وخاصة حينما صرخت به:
هو أيه اللي يلزمني، بقولك مين دي وبتعمل أيه هنا!..

رغم حرارة الشوق إليها، لسماع صوتها، لرائحة شعرها الذي يحركه الهواء ولكن بداخله دافع غريب للقصاص حتى وإن كان سيذكرها بالجزء المفقود، إقترب ليقف قبالتها وهو يجيبها بوقفته التي تمنعه طالة قابضة، مخيفة:
والله أنا راجل يعني أعرف واحدة أعرف ألف دا شيء ميخصكيش ثم إني مش بعمل حاجة من وراكي ولا بقابل حد بالسر مثلاً بالعكس كله قدامك...

غصة احتلت قلبها وهي تستمع لما يلقيه إليها من عتاب قاسي لما ارتكبته، حاولت قدر الإمكان التماسك وهي تقاتل لتستمد جزء من القوة المصظنعة، فتركته وأسرعت بخطاها المتعسر للداخل لتعود بعد قليل وبيدها قلم وورقة مطوية لتقف من أمامه من جديد، نظراتها المسلطة لزيتونية عينيه جعلت فؤاده يرتجف بنشوة غريبة تدفعه لفعل المحرم على ذاته ورغم ذاك فوقفته المنتصبة تعهده بقوته وتماسكه أمامها، خرج صوتها الباكي وهي تحرر غطاء القلم لتفتح الورقة من أمامه لتدون شيئاً ما ثم اقتربت منه لتضعها على الطاولة البيضاء الموضوعة بالحديقة لجواره لتتضع معالم الورقة إليه، فرفع عينيه لها ليستمع لاخر كلماتها وهي تقول ببكاءٍ:.

أنت صح، الغلطة اللي غلطتها مينفعش فيها سماح مقابل ان أنت تغلط ومنتظر أني هتقبل دا ولازم أخرس عشان اللي ارتكبته فدا شيء أنا مس هتحمله...
وتركته وغادرت من أمام عينيه وهو يتطلع للفراغ ببسمة غريبة، وضع يديه بجيوب جاكيته وهو يخطو بخطوات مرتبة، وكأنه لم يستمع لما قالته منذ قليل، او لم يراها توقع على ورقة الطلاق بصدرٍ رحب، ربما تتمكن من فهم خبايا الموت على أن تفهم ما يخفيه رحيم زيدان...

جلس على المقعد القريب من الطاولة واضعاً قدماً فوق الأخرى، وعينيه مغلقة باسترخاء، جسده يتحرك بحركات منتظمة، حركة تلو الأخرى ليوقفها حركة ثابتة تليها نظرة ثاقبة من زيتونية عينيه، ثلاث ساعات كاملة منذ رحيلها من القصر بأكمله ورسالة نصية صغيرة صوتها جعلته يخرج من حالة هدوئه ليلقي نظرة سريعة على محتواها ببسمة صغيرة ليضع هاتفه بداخل جيب بنطاله وهو يتوجه للسيارة التي فتحت بابها من قبل الحارس، أشار له بيديه ليبتعد فأنه من سيتولى القيادة بذاته للمكان الذي اختارته شجن روحه، ليكون نقطة بداية ونهاية لقصة عذاب طفولته وظمأ شبابه، اختارت المكان الذي ظنته سيداوي جروحها بذكرياته فربما لا تعلم بأنه نقطة البداية لرابط جديد سينهيها برحيم زيدان وسيجمعها بفريد!..

دمعاتها تهبط دون توقف، عينيها تتطلع لكل أنشن بالغرفة، غرفة محبوبها، فبالرغم من أنه أعاد ترميم المنزل وترتيبه الا أنه مازال يحتفظ بدفئه وبذكرياته التي جمعتهم سوياً، خرجت شجن للشرفة وهي تتطلع لشرفة منزلها المجاورة لشرفته، فمررت أصابعها على السور الفاصل بين الغرفتين بدمعة تواسيها، أختارت العزلة لذاتها ولكن كان اختيارها لمنزل طفولته، المكان الذي شهد قصة حب طفولة بريئة تربع عرشها الحب الصادق، وقف أمام المرآة الصغيرة الخاصة بغرفته وهي تتأمل وجهها، رفعت يدها تزيح الرابط الملتف حول رقبتها بضيقٍ من تقيد حركتها بسببه فألقته بعيداً وكأنها تخلصت من شيئاً بالي، ثم فتحت خزانته وهي تبتسم بتلقائية وهي تتفحص ملابسه التي تعد صغيرة للغاية للجسد الذي أصبح يمتلكه الآن، ولكنها بالنسبة للملابس مرهقته فهي ضيئلة للغاية، جذبت من الخزانة قميص ابيض وبنطال قطني قصير ثم توجهت للمرحاض وتركت المياه تغمرها كلياً لتزيح دمعاتها ووخزات قلبها التي تشتد كلما تذكرت تلك الفتاة التي احتفظت بجاكيته، حديثه معها ووضعه ليديه على كتفيها، كادت النيران بأن تحرقها حتى مع وقفتها أسفل المياه الباردة، ارتدت شجن الملابس الخاصة به ثم لفت خصلات شعرها جيداً وتوجهت للغرفة لتتمدد فهي بحاجة ماسة للاسترخاء بعدما واجهت كلماته الحادة، توقفت محلها حينما استمعت لدقات الباب الثابتة بشكل مخيف، ضيقت عينيها باستغراب من كناية الطارق، فجذبت الحجاب لتضعه جيداً على شعرها ثم فتحت الباب لترى من الطارق فتخلت عنها الكلمات حينما رأته يقف أمامها وجهاً لوجه، ونظراته تقيدها وكأن لا مفر من القادم!..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة