قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

رواية صراع الشياطين (الجوكر والأسطورة ج4) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

أحياناً تفرض عليك الحياة طريقٍ مظلم وتجبرك على المضي قدماً، لا يهمها ما ستلاقاه من عواقب وخيمة؛ ولكن يسعها كونك تجازف، جعلتها تجتاز إختباراً قاسي حينما فقدت عشق طفولتها، ثم منحتها أمل كاذب بعودته، فعادت لتنتزعه منها من جديد، فجعلتها مشتتة الذهن، لا تعلم أي من الطريقين الأصح لها، هي تعلم بأن أي طريق ستسلكه سيكون ممتلئ بالأشواك التي قد تجرح جسدها، تعلم بأن الطريق الذي ستختاره ربما سيتنزف روحها، وبعد كل تلك المعاناة مازال هناك جرحٍ جديد وألم أصعب، كلمات طلعت زيدان مازالت تتردد بذهنها، أخبرها بطريقةٍ صريحة بأنها غير مرحب بها بمملكته، أخبرها بأن تبتعد عن ابنه فهي الشوكة التي تحني ظهره وتسقط به في بئرٍ الماضي الموجع، تهدجت دمعتها وكأنها تواسيها عما تلاقاه بتلك الحياة، تريد الإبتعاد عنه وعن مملكته ولكنها بحاجة لأن تراه للمرة الأخيرة، تريده أن يمنحها الغفران والمسامحة حتى تستطيع أن تغادر هذا المكان، أغلقت شجن عينيها بضعفٍ وهي تحسم مصيرها المؤلم بين ما تخفيه حوائط قصره، ولكنها ليست قوية بما يكفي لمجابهة أحداً بقدر أبيه، فقررت الرحيل بالغد وليقتل قلبها اللعين فهي تستحق ذلك بعد الذي فعلته...

طرقت على باب جناحه طرقات مترددة، لا تعلم إن كان الوقت مناسب للحديث أم لا، فأنسحبت للمغادرة بخجلٍ من أن يكون غير مستعد لرؤية أحداً بوقتٍ كهذا
ماما نجلاء..
صوته المنادي أوقفها عن التراجع، فأستدارت تجاهه، لتجده يقترب منها بنظراتٍ قلق، فأسرع بالحديث وعينيه تتفحص قسمات وجهها الحزين:
في حاجة؟! ، أنتِ كويسة؟..

إنسدلت دمعاتها المتأثرة بما يحدث مع قصة ابنها الغير مكتملة، فكلما حاول جمع أطرافه يأتي من يحطم ما فعله، كلما تسلل الحب بأعماق قلبها تجاهه تبتعد عنه ألف خطوة، أزاحت نجلاء الدموع العالقة بأهدابها ثم قالت وهي تتطلع إليه:
فريد فين يا مراد؟..
أجابها الجوكر بهدوءٍ، وهو يشير لها بالجلوس على المقعد المجاور لجناحه:
أنتِ عارفة إنه في مهمة بره مصر..
أشارت له بإعتراضٍ، وهي تضيف لكلماتها:.

لو في مهمة زي ما بتقول مكنتش لسه قاعد مكانك هنا...
إبتسم مراد وهو يجيبها بنظرة حنونة:
أنا مكاني هنا لأنه منعني أسافر معاه لحد ما أخلص مهمتي اللي هو فرضها عليا..
وقال كلمته الأخيرة بضيقٍ مصطنع وكأنه وكاله بخوض معركة قتالية، وضعت يدها المجعدة قليلاً على يديه الموضوعة على يد المقعد قائلة بلهجة أشبه للرجاء:.

لو تعرف توصله وتخليني أكلمه يبقى كتر خيرك يا ابني، أشجان ملهاش ذنب هي إتخدعت وأي واحدة في مكانها كانت هتعمل كدا، دا أنا لو كانوا حلفوا أنه ابني مكنتش هصدقهم بس كرم ربنا بيا إني كنت معاه من البداية وشوفت جزء بسيط من اللي أبوك بيعملوه معاه عشان يكون زيه...
أشفق على حالها، فمسد بيديه الأخرى على يدها المتمسكة به، قائلاً بلهجته الجادة:.

صدقيني أنا معرفش عنه حاجة أزيد من إن طيارته بكره بليل حتى هو لما بيعوز يكلمني هو اللي بيوصلي، قافل عليا كل الأبواب عشان يكون بعيد...
تساقطت دمعاتها بحزنٍ، فقالت وهي تحاول الثبات قدر المستطاع:
ربنا يهدي الأمور بينهم ويقرب البعيد يارب..
ثم وقفت لتشير له ببسمةٍ رسمتها بصعوبةٍ:
معلش يا حبيبي قلقتك بالوقت دا...
وقف مقابلها بقامته الطويلة، فرد عليها بضيقٍ:.

متقوليش كدا يا أمي أنا موجود بالوقت اللي إنتِ تحتاجيني أكون موجود فيه..
أجابته بإبتسامةٍ مشرقة:
ربنا يسعد قلبك يا حبيبي...
ثم استطردت بتذكر:
أه أبقى خلي حنين تعرفني هتروح للدكتورة تاني أمته عشان أروح معاها...
أفتر عن وجهه إبتسامة عذباء وهو يراها تمنح زوجته إحساسٍ تعويضي بوجود الأم لجوارها، فقال:
حاضر هبلغها...

تركته وغادرت وبداخلها حزن كبير على خذلانها، كانت تود المساعدة ولكن على ما يبدو أغلق رحيم عليهم الطرق حتى لا يكون لهم مجال بالتداخل بالأمر...

وضع كوبين الشاي الساخن على الطاولة المقابلة له، ثم جلس مقابله يتأمله بذهولٍ خُتم بقول:
أيه اللي فكرك بيا!..
إلتقط آدم كوب الشاي ليرتشفه على مهلٍ، فتحرك فكيه ناطقاً بخبثٍ:
أيه يا عم هو أحنا كنا متجوزين وخليت بيك ولا أيه، كل الحكاية إني سمعت ان فرحك بعد بكرا فقولت أجي أساعد يعني روشنة الشباب زي ما أنت عارف...
تعالت ضحكات يوسف بعدم تصديق لما يلقيه حديثه من مشاكسة خطيرة، فقال بسخريةٍ:.

طيب والله كويس إن الواد الأمريكي عارف الجزء الشعبي دا بس لعلمك مش أنا اللي يتحفل عليا يا خفيف دا أنا أشرف بلد بحالها...
رفع حاجبيه بسخطٍ، فوضع الكوب عن يديه وهو يشير له بأصبعيه بمرحٍ:
ما بلاش تبتديها بالعك بدل ما تلاقي سليم طالعلنا من أي زواية يحطنا في أوضة واحدة وبدل ما بتبقى دخلتك تبقى خارجتك...
تلقائياً مرر يديه حول عنقه بارتباكٍ، فقال بضيقٍ:
بلاش تفكرني كل شوية بأم الليلة السودة دي..

عاتبه بغضبٍ وهو يقلد لهجته بإستحقارٍ:
ليلة سودة!، مش الليلة دي هي اللي عرفتك عليا يا حيوان..
أحمرت عينيه في غيظٍ فقال بلهجة تعمد جعلها مضحكة:
أه دا أنت جاي عشان تنضرب بقى!..
ضحك بصوته الرجولي وهو يسرع بالحديث:
لا جيت أوجب معاك وأشوف اللي ناقصك يا عريس...
نهض يوسف عن الأريكة وهو يشير له بأهتمامٍ:
والله انت واد جدع، أنا لسه مجبتش حاجة ليا خالص، هغير هدومي وننزل أشتري شوية قمصان على بنطلونين تلاتة...

ثم عاد ليتساءل بجدية:
معاك عربيتك؟.
أومأ آدم برأسه وهو يضيف بمكرٍ:
معايا ومتقلقش هسهرك سهرة للصبح، وأهو تبقى وداع للعزوبية...
خلع جاكيته الرياضي ثم جذب قميصه فخرج ليرتديه أمامه قائلاً بصدمة:
وداع عزوبية!.
ثم جذبه من تلباب قميصه ليقف من أمامه، مردداً بغضبٍ:
مش قولتلك أنت شمال، هستنى أيه من واحد عايش مع الخوجات!..
حرر آدم ذاته من بين براثينه ليدفعه بسخرية:.

يا عم أنت اللي دماغك متركبة شمال، كنت فعل ماضي منتهي أنا دلوقتي زي الألف مقدرش أتعوج ومعايا بسيوني كفة...
ضيق عينيه باستغراب:
مين بسيوني كفة دا؟!..
وضع يديه بجيوب جاكيته قائلاً ببسمة مكر:
لا دا حوار طويل نبقى نرغي فيه بعدين المهم تنجز...
أشار له بعدم مبالاة ثم ارتدى ملابسه سريعاً ليلحق به للأسفل، فصعد جوار بالسيارة لينطلق للوجهة المنشودة...

عينيه كانت مسلطة أرضاً، يتهرب بنظراته من التطلع إليه، فالخزي يقبع بحدقتيه تجاه أخيه الأكبر، يعلم بأنه إرتكب أكثر من ذنب بحق ذاته وبحقه، لطالما كان يحاول ان يجعل منه رجلاً حقيقياً؛ ولكنه لم يتمكن من ذلك فنجح جان بالأخير، تراقبه أن يقطع لحظات الصمت المطولة بينهما ولكنه كان يتحاشى التطلع إليه فبدأ ريان بالحديث:
لو مكنتش شوفتك بعيوني مكنتش صدقت إنك ممكن تتغير في يوم من الأيام...

إستقام بوقفته ثم نقل نظراته تجاهه، ليتحرر عقدة لسانه قائلاً بوجومٍ شديد:
ولا أنا كنت مصدق...
ثم أضاف بحزنٍ يتعمق بلهجته:
معرفش إزاي كنت ضايع كدا، أنا تقريباً مفيش حاجة معمتلهاش...
دنا ريان منه ثم قرب يديه ليرفع وجهه مقابله، ليستمع لما سيقول جيداً:
لو ربنا مكنش بيحبك مكنش أديك الفرصة إنك تتوب وترجع عن اللي انت كنت فيه يا إياد، خاليك متعشم إنه هيغفرلك كل اللي فات من حياتك...

لمعت دمعة عزيزة بعينيه فأحتضنه ريان بسعادةٍ عظيمة، عودة أخيه وتراجعه عن الطريق الذي سلكه جعل قلبه يرقص طرباً، ولج جان للداخل بعد ان أعطى لهما مساحة خاصة لبعض الوقت، فأستند بجسده على باب الغرفة وهو يتابع ما يحدث بإبتسامة صغيرة ختمها قائلاً:
أظن ان كدا مرحب بيه بالقصر ولا أيه..
إبتعد كلاً منهما عن الأخر ثم تطلعوا لمصدر الصوت، فأستكمل جان حديثه بخبثٍ:.

اسف على المقاطعة ولكن أنا حبيت نغير جو بدل جو المخازن الكئيب دا ولا أيه يا إياد؟.

أومأ إياد برأسه بهزة خافتة، فأتجهوا معاً للخروج من هذا المكان، صعد جان لسيارته ولجواره صعد ريان بينما وقف إياد امام باب المخزن، يلقي نظرة أخيرة على المكان الذي كان رفيق دربه برحلة معاناته، شهدت جدرانه الاربعة على أول خطوة جديدة بحياته، شهدت تغيره وإمتناعه عن النفس الأمارة بالسوء، شهدت أول طريق التوبة والأستغفار ليسامحه ﷲ عز وجل، شهدت على بداية ونهاية الطريق...
بالسيارة...

تابعه جان من نافذة السيارة، يشعر اخيراً بالإرتياح لرؤية ما أصبح عليه الآن، سحب مقود السيارة على استعدادٍ بالرحيل، فأنتبه لصوت ريان حينما بدأ بالحديث قائلاً:
أنقذت حد غالي عليا للمرة التانية، مش عارف أكافئك بأيه؟!..
تعمق بنظراته إليه، وقد بدت التعاسة تصاحبه:
شوفت خالد فيه يا ريان، لما ساعدته كنت حاسس إني برجعه يعيش من جديد...

وامسك برأسه عل ذراعيه تخفي عينيه الغائرة بالدموعٍ، شعر به وبما يختبره من شعورٍ قاسي، فقال بثباتٍ إنفعالي:
هو أكيد حاسس بيك وشايف اللي بتعمله...
أزاح الدمع عن عينيه وهو يهز رأسه بإقتناعٍ:
ربنا يرحمه ويغفرله...
أمن على حديثه:
اللهم آمين يارب...

قطع إياد جلستهم بصعوده للسيارة فأنطلق عائداً بهما لقصر رحيم زيدان، طلب منهم إياد البقاء بقصره حتى يستعد للعيش مع الشباب بمكانٍ واحد، فهو يعلم بأن هناك من يمقت وجوده بسبب أفعاله التي إرتكبها بالماضي وخاصة مع فاطمة و يامن...

إرتعب القمر من ضوء الشمس المشرق فتخفى بظلماته الكحيلة لتستطع هي بنورها الذهبي...

بمكتب رحيم زيدان وعلى مقعده المخصص، جلس الجوكر بسكونٍ عجيب قد يبدو على ملامح وجهه، بينما يشغل عقله فكرٍ عميق، ما بين زفاف نغم وتوحد العائلة ومهمته الأكبر ان يعلن للعائلة خبر موت أبيه المخادع وعودته لتوالي زمام أمور عائلته، وتحقيق تلك المهام الشاقة لابد أن تتم بسرعةٍ كبيرة ليكون جوار رحيم بهذة المعركة المصيرية، زفر بضيقٍ وهو يحاول إيجاد الحلول للخروج من هذا المأزق، على صوت هاتفه، ليقطعه عما يعتلي فكره، رفعه ليجد رسالة من أبيه، قرأ محتوياتها ليجده يود الحديث معه بالحال، زفر بضيقٍ وهو يحاول السيطرة على ثباته حتى يتمكن من إيجاد حلول سريعة، إخترق صوت حازم قاعة صمته حينما قال:.

حضرتك بعتلي يا باشا...
تخلى مراد عن مقعده لتتصلب عروق جسده العريض، فأشار له بيديه:
تعال يا حازم...
إقترب منه بارتباكٍ فشل بأخفائه:
تحت أمرك...
تعمق بنظراته الثاقبة تجاهه ليحسم قوله التحذيري:
إسمعني كويس وركز في اللي هقوله، عايزك تبلغ الشباب كلهم إني عايز اتكلم معاهم في موضوع مهم جداً بعد ساعة على السفرة، فهمت هتعمل أيه...
أشار له بهدوء:
فهمت يا باشا...

رفع أصبعيه ليشير له بالخروج لتنفيذ ما أمره به فخرج على الفور أما هو فتوجه لرؤية طلعت زيدان...

ولجت للداخل تبحث عنها بلهفةٍ، فوجدتها تجلس على المقعد المقابل للشرفة الزجاجية، تتأمل الحديقة من أمامها بنظراتٍ شاردة، وجهها كالمصباح المنطفئ، الإنكسار يستحوذ على حركاتٍ جسدها بأكملها، تمزق قلب حنين وهي تراها جالسة هكذا، وكأنها إستسلمت من محاربة الحياة لمنحها الفرصة التي تستحقها، إستسلمت لاحزان ابتلعتها دون رجعة او حتى شفقة منها، جذبت المقعد المقابل إليها ثم جلست أمامها، تتطلع لها بعدم تصديق، فقالت بتأثر:.

هتفضلي كدا كتير يا شجن؟..
لم ترمش لها جفن، وكأنها مغيبة عن الواقع أو لم تستمع إليها، بكت حنين لأجلها، تتمنى أن تعود لطبيعتها من جديد، تود لو أن تتمسك القوة بها للمضي قدماً، جذبت العصير الموضوع على الطاولة ثم قربتها منها قائلة بحزنٍ:
ماما نجلاء قالتلي إنك رافضة تأكلي أو تشربي حاجة فعشان خاطري تشربي العصير دا...
أشاحت بوجهها للجهة الأخرى مرددة بهمس شبه مسموع:
ماليش نفس لحاجة يا حنين...

عاتبتها بدمعة منكسرة:
وتفتكري هو دا الحل!..
أغلقت عينيها بألمٍ فصاحبتها قافلة من الدموع، قائلة بصوتٍ مهزوز للغاية:
مفيش حلول لمشكلتي يا حنين...
وتركتها وتوجهت لحمام الغرفة سريعاً حتى لا ترأها وهي بتلك الحالة الهشة...

صاح بغضبٍ لمع بصوته المرتفع فجعله مخيفٍ للغاية:
يعني أيه الفرح إتحدد!، أنت عايز تفهمني أن بنتي أنا هتتجوز الواد دا!..
انتصب بوقفته بثقةٍ بالغة وهو يجيبه:
نغم و يوسف بالفعل متجوزيين...
صرخ بعصبيةٍ:
متجبش أسم الواد دا على لسانك، دا عيل سنكوح أكيد داخل هو وأخته البيت دا عشان تكوت هي الدمار لإبني وهو عشان ورث نغم...
رد عليه بنفي وقد تصليت لهجته بغضبٍ:
لا يوسف ولا أخته بالشكل اللي انت شايفهم دا...

وتركه مراد وتوجه للقاعة حتى لا تزداد الأمور سوءٍ، تركه كالبركان الثائر، لا تطفئه مياه ولا مطر...

بقاعة قصر رحيم زيدان وخاصة على السفرة التي تنصفها، وقف الشباب بأكملهم بمقاعدهم الموضوعة أمام الطعام، كلاً منهم يتطلع للأخر باستغراب، والنظرات تحوم حول الجوكر الذي يترأس الجلسة العظيمة، ترقبه الجميع بأهتمام لما سيقول عن سبب تجمعهم الغريب على طاولة الطعام، فأشار لهم مراد بالجلوس..
جلسوا جميعاً من حوله، ونظراتهم مازالت مصوبة تجاه الجوكر المزعوم، قطع فضولهم بصوته الثابت حينما قال:.

مش بتاكلوا ليه؟!..
شرع الجميع بتناول طعامه ومازال الفضول يكتسح عقولهم لمعرفة سبب تجمعهم على مائدة الطعام، القى سليم نظرة متفحصة على الوجوه، فأبتسم بعدم تصديق وهو يراه يحقق المحال بتجمعهم وتناولهم الطعام معاً، فجذب الملعقة ثم بدأ بتتاول طعامه هو الأخر قبل أن يمهد ما يود قوله...

تحركت ببطءٍ وهي شاردة الذهن، محطمة القلب، بائسة التعابير، تحني قدماها عن الدرج لتستقبل درجاته بعينٍ هائمة بالماضي الذي يكلم فؤادها، كلماته تلاحقاها دون تردد لتذكرها بإنها قتلت حبيب الطفولة وعشقها الساكن بين أضلاعها، بدت صورة الأشياء مهزوزة أمام عينيها، فحتى بعد راحيله لم تتمكن من كبت اوجاعها أو حتى إتخذت القرار المناسب بهذا الأمر، غيام سوداء إلتقفتها فجسدها الممتنع عن دخول الطعام لجوفه أصبح هزيل للغاية، أسودت الرؤيا من امامها لتلتوي ساقها عن الدرج المخيف ذو الثلاثون درجة وأكثر، الدرج الذي يتوسط مملكة رحيم زيدان لتسقط على أطرافه الحادة تدريجياً حتى إحتضنتها أخر درجاته لتستقر أرضاً أمام أعين الشباب المجتمعون على مائدة الطعام ولأول مرة، فزع الجميع، فنهض مراد ليركض تجاهها، رفع رأسها بين يديه ليجد الدماء تحيطه حتى هتكت ملامحها فصرخ وهو يحركها بقوةٍ:.

أشجان!..

حبال غليظة ملتفة حول عنقه، لهثت أنفاسه بتقطع وهو يشعر بأن السوء قد حل به، أغلق رحيم المياه التي تتساقط على جسده العاري كالتيار المنجرف، ثم جذب المنشفة ليخرج من أسفلها، ألم قلبه يخترقه شعوراً غريب، فرفع يديه يضغط على صدره بقوةٍ ليردد بلهفةٍ وخوف:
شجن...

جسد ضخم للغاية، يفتح فمه الواسع ليبتلعها بداخله، لم تجد سوى الظلام يحيط بها من كافة الإتجاهات، الدماء تنسدل على وجهها دون توقف، شعاع ضوء خافت يتسلل لمقلتيها، نقلت عيناها صورة مهتزة إليها، فعلى ما يبدو بأنها موضوعة على فراش متحرك، يدفعه أشخاص عديدة بملامح مشوشة، عادت لتفتح عينيها من جديد فرأت مصابيح تلمع من أمامها وتمر سريعاً كلما دفع الفراش أحداً بسرعةٍ كبيرة تجاه غرفة العمليات، قاومت الأغماء الذي ينازع لإبتلاعها ففتحت عينيها مرة أخيرة لتبدأ الوجوه بالوضوح، فكان مراد يدفع الفراش و نجلاء لجواره تتطلع لها بعينيها المنتفخة من أثر البكاء، تباعدت الوجوه عنها لترى ذاتها بعد ذلك بغرفة الجراحة، ليلتف حولها فريق طبي متكامل، وضع جهاز التنفس على أنفها ثم بدأت أحدى الممرضات بحقنها بالمخدر لتفقد الوعي بعدها سريعاً...

بالخارج...
جلست نجلاء على مقاعد الأستراحة تبكي بحسرة وهي تردد بقهر: .
يارب إنجدها من اللي هي فيه ، يارب إحفظها وقومها بخير يارب...

رأف مراد بحالها فجلس جوارها يحاول تهدئتها بكافة السبل ولكنها كانت منهارة لأجلها، دقائق معدودة وإمتلأت ساحة المشفى بسيارات عائلة زيدان، ليتفاجئ مراد بوجودهم لجواره، سليم، ريان، جان، آدم، مروان، فارس الجميع لجواره، الشباب باكملهم كانت تسيطر عليهم هالة من الحزن والترقب للقادم، فتح الباب من أمامهم لتهرول ممرضة للخارج فأوقفها مراد ليتساءل بقلقٍ:
في أيه؟!.
أجابته بتوترٍ ملحوظ بنبرتها: .

المريضة فقدت دم كتير وفصيلتها مش موجود منها غير كيس دم واحد بس بالمستشفى...
تدخل فارس بالحديث، متسائلاً بإهتمامٍ:
هي فصيلتها أيه؟..
أجابته على عجلة:
oسالب..
وكادت بالركض لبنك الدم لترى ماذا ستفعل لإنقاذها فأوقفها سليم مسرعاً بالحديث:
دي نفس فصيلة دمي...
قال آدم هو الأخر: .
وأنا كمان...
تنهدت الممرضة براحةٍ كبيرة، فأشارت لهم مسرعة:
الحمد لله، إتفضلوا معايا بسرعة...

لحقوا بها للداخل، فركضت للخزانة الموضوعة جانباً بأحد غرف العمليات، لتحضر المطلوب لسحب كيس من الدماء من كلاً منهما، خلع سليم جاكيته ثم كشف عن ذراعيه، ليسترخى على الفراش، وكذلك أشمر آدم عن ساعديه ليستلقى على السرير المجاور إليه، لتدس الممرضات الأبر الطبية بذراع كلاً منهم لسحب الكمية المحددة لإنقاذ شجن، تكاتفت العائلة ولأول مرة لإنقاذ أحد أفرادها، فأزاحت أول عقبة بطريق الجوكر دون اي مجهود مبذول منه...

إمتلأ الكيس المحدد لكلاً منهم، فألتقط سليم جاكيته ثم خرج بصحبة آدم ليجلس كلاً منهم على الأستراحة بالخارج لينتظروا خروجها من الجراحة، أعدل آدم من قميصه، فتفاجئ بمشروب ممدود تجاهه، رفع عينيه تجاه من يحمله ليجده مروان يقدم إليه عصير البرتقال حتى سليم ناوله فارس أحد الأكواب، تناوله منه ببسمة إمتنان ثم تناوله فجلس لجواره يترقب هو الأخر خروج الطبيب، تشكل على وجه مراد بسمة خافتة وهو يرى بعينيه الزرقاء ما يحدث من أمامه، خروج الطبيب جعل الجميع يتأهبون لما سيقول، فأسرعت نجلاء تجاهه قائلة ببكاءٍ:.

طمني يا دكتور...
أجابها الطبيب بعملية بحتة:
متقلقيش يا هانم الحالة دلوقتي بقت مستقرة بفضل الله...
رددت بخفوتٍ وقد عادت للحياة بكلماته المطمنة:
الف حمد وشكر ليك يارب..
ثم عادت لتتسائل من جديد:
طيب أنا عايزة أشوفها..
قال وهو يستعد للخروج:
شوية والممرضة هتخرجها لأوضتها..

وتركهم وغادر على الفور، فوقفت بأنتظارها، فأذا بالممرضة تدفع السرير المتحرك تجاه الغرفة المجاورة للجراحة، فشرحت لهم كيفية حملها للفراش دون أن تتأثر جروحها، وبالفعل رفع جان و مراد الملاءة المفروشة أسفلها بحذرٍ شديد ثم وضعوها على الفراش، أعادت الممرضة ضبط المحقن بالوريد ثم اشارت لهم بإحترامٍ:
بعد إذنكم المريضة محتاجة ترتاح شوية وأول ما هتفوق تقدروا تطمنوا عليها...

تفهم الجميع ما اخبرتهم به، فخرجوا على الفور، أما بالخارج فتوقفت سيارته أمام باب المشفى الخلفي، ليهبط منها بسرعة البرق، يبحث بلهفةٍ وجنون عن رقم غرفتها الذي أرسله إليه مراد، فتح باب الغرفة ليجدها غافلة على فراش صغير تحيط به عدد كبير من الأجهزة، رأسها ملفوف بشاش أبيض ووجهها شاحب للغاية، إقترب منها ليجلس على طرف الفراش ثم رفع يديه الخشنة ليحيط بها كف يدها الصغير، لتتحرك حدقتيها بلهفةٍ وكأن احدهم أنعش قلبها بجهاز الكهرباء، فعادت لتشعر بما أفتقدته، فتحت عينيها بوهنٍ شديد وهي تردد بصوتها المتقطع:.

فريد...
إختبارٍ قاسي أختارته القلوب ولكن حطمته الروح التي تصرخ للبوح بما يعيقها عن التحرر، فتأتي موجة عتية، تهاجم بشراسة لم تعهدها من قبل، مستهدفة الأسطورة المعهود بالصرامة والقوة والجوكر المزعوم بالدهاء والخبث ولكن ترى هل ستبتلعهم بجوفها المحموم أم أنها ستقذفهم بعيداً عنها حتى تتفادى ما دمر إليهم؟!..
ترى ما الذي ينتظر رحيم بمهمته الشاقة؟!..

هل سيمنحها الغفران أم أن رحلة معاناتها سيكون نقاطها ما سيحرزه من مهمته الغامضة!..
ترى من الذي سيقف بوجه طلعت زيدان؟..
ماذا سيكون رد فعل شباب عائلة زيدان حينما يعلمون بالحقيقة كاملة؟!..
وأخيراً ماذا خطط بحق الجوكر والأسطورة؟..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة