قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

أغلق باب الشقة من خلف شقيقته، وهو يجاهد لتضميد ذاك الألم الغائر الذي يطيح بقلبه، وكأن ذكرها لعنة مميتة، كل شيئاً من حوله بات منفراً، وكأنه يذكره بها، الهواء يحتضن رائحة خصلات شعرها الأصفر، خفقات قلبه المضطربة تذكره بها، حبات الكرز الذي يشتهيها تذكره بشفتيها الحمراء، جلس بدر على المقعد ليغلق أجفان عينيه بقوةٍ يتمنى أن يحتضن ذكراها المؤلمة بداخلها، ضربته كلماتها التي عادت لتهاجمه من جديد.

«طباع الرجل الشرقي المتحكمة ليست الا جهل، المرأة خلقت حرة لا يستعمرها رجل ولا دين!»
هكذا كانت نظرتها تجاه حبه وغيرته الشديدة إليها، أطبق بقبضته على بعضها البعض وهو يردد من بين اصطكاك أسنانه:
إخرجي من عقلي وتفكيري، أنا بكرهك وبكره أي شيء بيفكرني بيكِ!

كادت حور أن تدق جرس شقة يحيى، فوجدته يفتح الباب، فقال بابتسامةٍ أزادته وسامة:
أيه الصباح الجميل ده؟
ابتسمت بخجلٍ، ثم قالت على استحياءٍ:
صباح الورد يا يحيى.
تساءل على الفور والشكوك بدأت تتلاعب بحدقتيه:
غريبة أنك تطلعي ل ماسة الصبح كده.
أجابته باسمةٍ:
مهو أنا مش جاية لماسة أنا عايزاك انت.
بكل جدية قال:
في حاجة ولا أيه؟
ردت عليه بهدوءٍ:
لا مفيش، ده عمو فهد كان عايز حد يكون بالمطار باستقبال تالين و رؤى.

عند ذكر إسمها قال بلهفةٍ واضحة بحديثه:
أوعي تبلغي بدر بالموضوع ده.
حدجته بنظرةٍ غريبة، فلعق شفتيه وقد إستعاد ثباته المتزن ليستطرد بهدوءٍ مخادع:
أصله عنده شغل كتير النهاردة في المصنع، أنا هأخد عبد الرحمن ونروح نجيبهم.
قالت بعدم مبالاة:
تمام، أنا كده كده قولتله وهو قالي أبلغك.
تهجمت معالمه وهو يسألها:
قولتي لبدر؟

أومأت برأسها، فعبث بحاجبيه شارداً بالحالةٍ التي قد يكوت بها ابن خاله بتلك اللحظة، أفاق من شروده على صوت حور المنادي، فانتبه لذاته هامساً:
كنتِ بتقولي حاجه يا حور؟
قالت بابتسامةٍ ساخرة:
ده أنا قولت حاجات مش حاجة واحدة وأخرهم أني حضرلتكم فطار ملوكي.
ابتسم وهو يجيبها بحبورٍ:
طول عمرك ست بيت شاطرة، بس للاسف عندي اجتماع كمان ربع ساعة ومش هلحق فخدي ماسة و طارق وانزلوا إفطروا بألف هنا.

انكمشت ملامح وجهها بحزنٍ، فابتسم وهو يشير لها بحبٍ:
طب خلاص متزعليش، إعمليلي سندوتشات عما أبص على بدر وأنا هاخدها وأنا نازل.
ركضت على الدرج قائلة بصوتٍ مرتفع:
حمامة.

ابتسم على طريقتها الطفولية عن التعبير عن سعادتها، ثم هبط ليتجه لشقة الشباب، ليخرج مفتاحه الخاص ثم دثه بالباب ليدلف للداخل باحثاً عنه، وجده جالس جوار الشرفة، يتطلع على المارة بنظرةٍ ساهمة، وكأنه يحاول أن يستكشف نفسه بأوجه من أمامه، منحه نظرة حزينة قبل أن يقترب ليقف جواره، فجلى أحباله الصوتية قائلاً:
واقف كدليه يا بدر؟
تسللت بسمة صغيرة لثغره، وهو يجيبه باستنكارٍ:.

مش معقول مبلغكش أن الهانم هتشرق مصر.

قال بعدم مبالاة:
وماله تيجي وتشرف بيت الكبير عمره ما بيتففل في وش الغرب هيتففل في وش اللي مننا!
منحه نظرة قاتمة فاستكمل يحيى حديثه بإتزانٍ:
اللي فات انتهى مع سفرها يا بدر، حاول تنسى وبص لقدام، حب وإتجوز وإنساها لا هي شبهنا ولا إحنا شبهها.
هز رأسه بإقتناعٍ، ثم جذب جاكيته الأسود من على المقعد المقابل له، ليشير بيديه:
يلا عشان إتاخرنا.

اتبعه للخارج، ثم دق جرس الشقة المقابلة له، فخرجت حور بالأكياس المغلفة ثم أشارت بغمزة مرحة لأخيها:
عملت حسابك.
منحها ابتسامة صافية، ليتبع يحيى للأسفل، ثم صعد بسيارته ليغادروا سوياً لمصانع عائلة دهشان.

عاد بفرسه الجامح كالفهد لمنزله، فسلم لجامه لأحد العاملين بالأسطبل الخاص بعائلته، ثم ولج للداخل لتحوم عينيه المكان بأكمله باحثاً عن والدته أو أي أحداً، تسللت رائحة الخبز الطازج لأنفه فأتبعها بابتسامةٍ مشرقة، حينما وجد جدته تجلس أرضاً ولجوارها زوجات أعمامه يعدن العجين الطازج على المطرحة الخشبية، ومن ثم تلتقطه منهما والدته لتضعه بالفرن المصنوع من الطين، فعلى الرغم من إمتلاكهما لثروة لا تعد ولا تحصى الا أن جدته مازالت تتمسك بالعرف القديم، مازالت تؤكد لهما بأن الخبز الذي يعد بذاك الفرن له مذاق خاص، جلس آسر لجوارها ومن ثم امسك بيدها لتنتفض بفزعٍ: .

إكده يا ولدي شيبت شعري من الرعب!
ابتسم وهو يشاكسها:
أنتِ لسه شباب يا نينا ولا أيه يا عمتو؟
ضحكت ريم وهي تؤكد لها:
امال، طب ده أنتي كيف البدر في تمامه.
اتسعت ابتسامة هنية حتى كشف عن أسنانها القليلة التي تتحلى بفكيها، ثم قالت باستهزاءٍ:
هتأكلوا بعقلي حلاوة أنت وهي إياك!
تداخلت راوية بالحديث المرح فيما بينهما، قائلة باحترامٍ:
والله يا ماما الحاجة ما بيكدبوا أنتي لسه فعلاً زي القمر.

وكالعادة لم يخلو الحديث من مشاركة نادين بحديثهما حينما قالت:
أنتي بس يا حاجة لو تسمعي كلامي وتلعبي شوية زومبا تروشك هترجعي شباب من أول وجديد.
تساءلت باستغرابٍ:
زومبة دي أيه هي قمان؟
إنفجرت راوية و آسر من الضحك، فتماسك وهو يخبرها بصعوبةٍ:
ده نوع من الموسيقى التقيلة يا نينا بس حاجة مية فل وعشرة.
رفعت حاجبيها باستنكارٍ:
هو في يا ولدي زي شادية وأم كلثوم، كل ده مسخرة وميتسمعش واصل.

هز رأسه بضحكةٍ يحاول التحكم بها، فقاطعهما أحمد الذي جلس على الحصير ليضع السمن البلدي والجبن من أمام نوارة و ريم، مشيراً لهما بيديه:
أهو جبتلكم المطلوب عشان تظبطوني في كان أبوري فلاحي معتبر.
التقطت منه نوارة الجبن ثم قالت بحنانٍ:
بس إكده، عنيا ليك يا ولدي.
أضافت هنية بحزمٍ:
كتري شوية عشان يأخدوا منه للعيال وهما نازلين مصر.
أشارت لها بحبٍ:
عنيا يا حاجة.

ولج أحد الخدم للداخل، ثم وضع عينيه أرضاً ليحفظ حرمة بيت كبيره قد وضع عدة قوانين لا يتخطاها الصغير قبل الكبير، ليبلغهما سريعاً:
الكبير عايزك بالمندارة يا بشمهندس آسر.
رد عليه بدهشةٍ:
عايزني أنا!
أومأ برأسه، فنهض آسر عن الأرض ثم لحق به ليرى ماذا هناك، ولج للمندارة باحثاً عنه حتى وجده يجلس على مقعده بهدوءٍ مخيف، إقترب منه وهو يتساءل بحبورٍ:
حضرتك طلبتني؟

رفع فهد حدقتيه تجاهه، فسكن الصمت فيما بينهما قليلاً، ثم رقع عكازه ليطرق به على المقعد الخشبي من جواره:
إقعد.
بهدوءٍ إنتقل للمقعد الذي أشار عليه، ومن ثم جلس ليتطلع له باهتمامٍ لمعرفة سبب منادته له، عاد الصمت ليستحوذ عليهما من جديدٍ إلى أن مزقه فهد قائلاً:
مالك ومال وهدان المغازي يا ولدي؟
ابتلع ريقه الجاف وهو يحاول السيطرة على انفعالاته بحضور والده، ثم قال بتريثٍ: .

هو اللي بدأ يا كبير وأكيد اللي بلغك بلغك باللي حصل كله.
نهض وهو يطرق بعصاه الانبوسية الأرض بطرقة قوية تدل على غضبه:
اللي حصل ده ميتكررش تاني، أني مش مستعد أخسرك أنت كمان!
نهض آسر هو الأخر، وقد احتدت لهجته دون أن يعي لذلك:
لا هيحصل مرة واتنين ومليون لو أي حد حاول يهين فرد من الدهاشنة وأنا مش ضعيف ولا جبان عشان اسمعه بيتمسخر عليا وأقف ساكت!
صاح فهد بانفعالٍ: .

ومين قالك إني هسكت، لو كنت جيت وخبرتني كنت طربقتها فوق دماغه ودماغ اللي جبوه لكن وأنت بعيد.
بتحكم عظيم بغضبه قال:
وأنا مش عيل صغير عشان أجي اشتكيلك من حد أزعجني، أنا أعرف أرجع حقي ازاي وأوقف كل حد عند حده.
احتدت نظرات عينيه، ليشير له بغضبٍ جامح:
بتتحداني إياك؟
باحترامٍ أجابه:
ما عاش ولا كان اللي يتحدى كبير الدهاشنه، بس حضرتك مزرعتش فينا الجبن ولا ربتنا على كده، منتظر مني أعمل كده ودلوقتي؟

أخفى بسمة إعجابه خلف صلابته ووجوم وجهه، فأشار له بهدوءٍ:
اسمع يا ولدي المغازية بيحاولوا يأخدوا علينا أي سبب عشان العهد اللي بينا ينقطع والدم يرجع يسيل تاني بين العيلتين فمتبقاش أنت السبب ده..
هز آسر رأسه باحترامٍ لكلماته، ثم أردف:
هحاول أتجنبهم.
ربت بيديه على كتفيه بابتسامةٍ تنبع بالفخرٍ:
عاقل طول عمرك وبتحسبها زين.
ثم أشار له قائلاً:
روح إرتاحلك ساعة ولا تنين قبل ما تسافر.
أجابه بهدوءٍ: .

لا يدوب أغير هدومي ونسافر عشان نوصل قبل بليل.
ببسمةٍ صافية أجابه:
ربنا معاك يا ولدي.
منحه ابتسامة صغيرة وإحتضنه بحبٍ وإحترام قبل أن يصعد ليغير ملابسه ثم صعد لسيارة أحمد ليتوجهوا للقاهرة.

بمكتب يحيى
كنظرات الأفعى السامة التي تنتظر الفرصة المناسبة لتبخ سمها القاتل كانت تراقبه، ومن ثم أخرجت من حقيبتها القطرة الطبية التي وضعتها بعينيها لتضمن بأنها تمنحها مظهر الباكية بحرقةٍ والمحطم فوادها، ابتسمت يمنى بشرارٍ يلمع بعينيها، ومن ثم حملت الملفات الموضوعة من أمامها لتتجه لمكتبه، طرقت أولاً وحينما استمعت لآذنه ولجت للداخل لتضع الملفات من أمامه، ثم قالت بصوتٍ حرصت لجعله حزيناً للغاية: .

الملفات اللي حضرتك طلبتهم.
تلقائياً رفع وجهه إليها حينما استمع لصوتها الغريب، فضيق عينيه باستغرابٍ وهو يتأمل عينيه اللامعة بالدموع، ليتساءل باهتمامٍ:
أنتي كويسة؟
أومأت برأسها وهي تزيح دمعاتها اللامعة بأهدابها لتجعله يثق بشكوكه تجاهها:
مفيش حاجة أنا كويسة.
نهض يحيى عن مقعده ثم دنا منها ليشير لها على المقعد المقابل لها:
طب اقعدي نتكلم شوية.

تراقص قلبها طرباً حينمل طلب منها ذلك، فجلست وهي تتصنع الحياء والرقة المصطنعة، فبدأ هو بالحديث:
حد من البيت مزعلك ولا أيه؟
اجابته بحدةٍ مصطنعة:
صاحبك مقالكش ولا أيه؟
هز رأسه بالنفي:
لا والله مقاليش حاجة.
ثم أضاف:
أنا أساساً مشوفتش عمر من شهرين تلاته لان زي ما انتي شايفة انا تقريباً مش بفضى ساعة واحدة!
ردت عليه بحزنٍ مصطنع:
عمر كل يوم والتاني بيعمل مشاكل معايا.
تساءل في دهشةٍ:
وليه بيعمل كده؟

أجابته باستياءٍ: .

لاني برفض أي عريس بيتقدملي رغم أن أغلبهم ولاد ناس وميتعيبوش.
بعمليةٍ باحتة قال:
طب وليه بترفضي عريس متقدملك مدام ابن ناس ومحترم!
منحته نظرة جعلتها غامضة، فقال بعد تفكير:
أنتي بتحبي حد تاني مثلاً؟
تعمقت بالتطلع إليه وهو يترقب إجابتها، ظنت بأن تلك الفرصة مناسبة للغاية للبوح عما بقلبها، قاطع الهاتف تلك اللحظة الذهبية، فأشار لها بحرجٍ:
ثواني بس أشوف الموبيل.

ونهض ليقترب من المكتب، ثم رفع الهاتف ليردد بعدما استمع للمتصل:
طيب اهدي اهدي أنا جاي حالا.
وجذب جاكيته الموضوع على جسد المقعد، ثم هرول للخارج وهو يشير لها:
أنا لازم أرجع البيت حالا، هنكمل كلامنا بعدين.

جزت على أسنانها بغيظٍ من تلك الفرصة التي ضاعت هباءاً، فجلست تلعن نفسها على هذا الحظ البائس، أما يحيى فهرع لسيارته في محاولة للوصول لشقته مسرعاً فقد إعتاد على مواجهة مثل تلك المواقف حينما تزورها دورتها الشهرية فتنتكس حالة ماسة حينما تتذكر الماضي الذي جلدها بسوطٍ قاسٍ!

بمنزل عبد الرحمن
انتهى من إطعامها، ثم حمل صينية الطعام للمطبخ، ليشمر عن ساعديه ليجلي الأطباق، ومن ثم اعاد تنظيف الشقة من جديدٍ، وحينما انتهى إقترب من الفراش ليسألها بابتسامةٍ حنونة:
خلصت كل حاجة يا ست الكل، عايزاني أساعدك بقى تغيري هدومك قبل ما أنزل؟

بصعوبةٍ هزت مروج رأسها الثقيل لتشير له بالنفي، فجلس جوارها ليربت بيديه على وجهها، تلألأت الدموع بعينيها فحتى الحديث لا تقوى عليه بعدما أصيبت بشللٍ نصفي جعلها قعيدة الفراش، ربما تدفع ثمن الشر الذي كانت تحصده منذ سنوات وبالرغم من ذلك منحها الله عز وجل ثمرة ممتلئة بالخير، الابن البار الذي يخدمها على كفوف الراحة، مازالت تتذكر كيف رواغها الشيطان لقتل جنينها حينما علمت بحملها من فؤاد شقيق فهد ؛ ولكنها تراجعت خشية من أن تلاقي حتفها وهي بغرفة العمليات، وها هو الآن كل ما تمتلك بالحياة، السند والظهر الذي لم تختبره من قبل، كم أرادت شكره وضمه لصدرها ولكن حتى هذا حرمت منه، انتبه عبد الرحمن لقرع باب المنزل فنهض وهو يشير لها بابتسامةٍ هادئة: .

دي أكيد الممرضة.
ثم هم بالخروج وهو يشير لها:
متقلقيش مش هتأخر ساعتين وهرجع بأمر الله.
وفتح باب الشقة للممرضة ثم غادر على الفور.

صعد يحيى لشقته، فانخطف لونه حينما وجد إلهام تقف بالخارج وتطرق باب الحمام بخوفٍ شديد، فدنا منها ثم سألها بهلعٍ:
في أيه؟
قالت بخوف سكن خلايا نبرتها المرتعشة:
بقالها ساعة بالحمام مش راضية تفتح.
أشار بيديه:
طب ادخلي أنتي حضرلها هدوم نضيفة تلبسها.
أومأت برأسها ثم ركضت للداخل، أما هو فاقترب من الباب ليطرق وهو يردد بصوتٍ عذب:
ماسة، إفتحي الباب أنا يحيى!

لم يستمع لأي رداً منها، حتى تلك اللهفة التي تحاوطها حينما تعلم بعودته لم تعتريها بتلك اللحظة، ارتبك للحظة وهو يفكر بكسر الباب فخشى أن تتدهور حالتها مجدداً فلم يكن بوسعه الا التحلى بالهدوءٍ، فعاد ليناديها مجدداً:
ماسة حبيبتي إفتحي عشان تشوفي أنا جبتلك أيه النهاردة وأنا جاي؟
لم يستمع تلك المرة أيضاً لأي رد منها، فعاد ليناديها مرة تلو الأخرى دون ملل من عدم استجابتها له..

بالداخل.
كانت تجلس أرضاً خلف باب الحمام، تضم ساقيها معاً لصدرها، ونظراتها تتوزع على الدماء التي القابعة بفستانها الأبيض، فتلامسها ذكرى غريبة لم ترأها من قبل، وكأن هناك شاشة بيضاء تنير بلقطةٍ غير واضحة، ترى بها نفسها ببطنٍ منتفخة، وفجأة ترى سيارات كثيرة ومن ثم صراخ عاصف ومن ثم دماء انسدلت من أسفلها كعمقٍ من البحر، لتستمع كلمة غريبة على مسمعها
«فقدت الجنين!، ».

لم يستوعب عقلها الصغير مواجهة تلك الذكريات الغريبة، فكان جسدها يتخشب خوفاً مما ترأه، وفجأة وسط تشتتها التقطت آذنيها صوت نجدتها، آمانها القابع من خلفها لا يفصلهما سوى باب صغير، سمعته يناديها فنهضت عن الأرض وهي تردد بسعادةٍ:
يحيى!

ومن ثم حررت المفتاح القابع بجسد الباب لتزداد ابتسامتها حينما وجدته يقف مقابلها بالفعل، ركضت ماسة إليه، متشبثة بأحضانه كالغريق الذي يتمسك بقشة تنجده مما يواجهه، أغلق يحيى عينيه بقوةٍ وقد عاد الهواء لينعشه من جديد حينما وجدها تقف أمامه، فرفع أصابعه ليقرب رأسها من صدره لدقائق تحيه مجدداً، ثم أبعدها عنه وهو يتفحص ملابسها بهدوءٍ، ليشير لها بحكمةٍ: .

شوفتي ماسة رجعت تعبت تاني عشان مبتسمعش الكلام ومش بتأخد ادويتها.
ورفع صوته لإلهام قائلاً:
خديها غيرلها هدومها واديها أدويتها وأنا هستناها هنا.
أومأت المربية برأسها في طاعةٍ ثم اصطحبتها لغرفتها لتنفذ ما قاله لتو.

بشقة الفتيات.

علمت حور من أخيها، بأن آسر و أحمد بطريقهما، فولجت لغرفة روجينا لتوقظها كي يتمكنوا سوياً من إعداد بعض الطعام المناسب لإستقبالهم من سفرٍ طويل هكذا، تفاجآت بالغرفة فارغة فعلمت بأنها غادرت كعادتها دون أن تخبرها بذلك، بيأسٍ تام تحركت حور تجاه المطبخ لتعد ما أمكن من الطعام الشهي، ساعة تصطحب الأخرى حتى خيم الليل ومازالت روجينا لم تعد بعد، ارتعبت حور من وصول آسر قبلها وحينها لن يمرر ذاك الأمر بخيرٍ، فحاولت الوصول إليها عبر الهاتف، وحينما فشلت بذلك رددت بغضبٍ: .

كالعادة قافلة تليفونها!، ربنا يستر.
أتاها صدق حدثها حينما طرق بدر الباب، وحينما فتحته وجدت آسر و أحمد من أمامها، استقبلتهم بابتسامة صغيرة انقلبت لتشتت عظيم حينما التقت نظراتها بعينيه، لا تعلم ما الذي يحدث معها حينما تراه، وفي كل مرة تحاول بها أن تقتنع بأنه إن لم يكن ابن عمها فهو خطيبة ابنة عمها والتي تعد بمثابة شقيقة لها، أفاقت من شرودها على صوت آسر الذي قال بانبهارٍ: .

أيه كل الأكل ده انتي عازمة حد ولا أيه يا حور؟
أتاه الرد من خلفه، حينما قال يحيى:
إحنا أهم من المعازيم يا سيدي!
التفت خلفه ليردد بفرحةٍ:
يحيى!
تعانق كلاً منهما بمحبةٍ، ليعاتبه الأخر:
إتاخرت كده ليه؟
أجابه آسر ساخراً:
وأنا لحقت مش لسه سايبك من يومين يا ابني!
قطع أحمد الحديث المتبادل فيما بينهما حينما قال:
فككوا من جو السلامات ده وتعالوا كلوا الأكل طعمه يجنن.
ثم التفتت تجاهها ليشير لها بابتسامةٍ ساحرة: .

تسلم أيدك يا حور.
على استحياءٍ قالت:
الف هنا.
جلس بدر لجواره ليضربه بيديه على رقبته قائلاً بسخطٍ:
طول عمرك همك على بطنك.
قال بحدةٍ أطاحته:
همي على بطني أحسن ما أكون مدورها مع مزز خلق الله نسيت ماضيك ولا أيه يا دنجوان؟
حدجه بنظرةٍ قاتلة، فردد آسر في يأسٍ:
رجعنا تاني لنقطة الصفر.

ابتسم يحيى وهو يتابع الحوار المشاكس فيما بينهما، فتمسكت ماسة به، لينتبه لهبوطها، فجذبها لتقف جواره، تعلقت عين آسر بها فكلما يرآها يحزن على الحالة التي أصبحت بها، وعلى الرغم من العشق الذي احتفظ به لها منذ الصغر؛ ولكنه تناسى كل الشيء في اللحظة التي أصبحت بها زوجة ابن عمته، نهض أحمد ليقترب منها سريعاً فضمها لصدره وهو يخبرها بشوقٍ:
ماسة وحشتيني أوي؟
لوت شفتيها وهي تبعده عنها مرددة بسخطٍ: .

مفيش حد بيحضن ماسة غير يحيى.
تعالت ضحكات الجميع على تلقائيتها، فالجميع يقدر ما تمر به ويتعامل معها بحذرٍ، رفع بدر صوته قائلاً بشماتةٍ:
جدعة يا ماسة إديله فوق دماغه.
جذب أحمد، يحيى من تلباب قميصه وهو يلكزه بغيظٍ:
بتعصي أختي عليا مكنش العشم يابو نسب.
تعالت ضحكاته وهو يحاول تخليص ذاته قائلاً:
يعني أسيب اللي يسوى واللي ميسويش يحضنها!

جز على أسنانه ليعود لكمه من جديد، جلس آسر على طاولة الطعام بمللٍ من تغيرهما، فاستغلت حور انشغالهما واقتربت منه، ثم قالت:
على إتفاقنا يا آسر؟
تذكر وعده لها بترتيب عمل لصديقتها، فمنحها ابتسامة صافية قبل أن يضيف:
متقلقيش يا حور، خليها تجيني المكتب بكره الصبح وأنا هرتب الأمور.
شكرته بسعادةٍ ثم قالت:
منحرمش منك أبداً يا اعظم أخ في الدنيا كلها.

ازدادت ابتسامته وهو يرى فرحتها، ثم سألها باهتمامٍ وهو يتفحص المكان من حوله:
أمال فين روجينا؟
ازدردت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، ثم قالت بتوترٍ:
آآصل، آآ.
رفع حاجبيه باستغرابٍ من ارتباكها الغريب، فتحولت نظراته تجاه باب الشقة الذي فتح من الخارج لتظهر من أمامه، سحب نظراته المتعلقة بها ليتطلع لساعة يديه ثم نهض ليقف من امامها، فكادت الدماء بالتجمد بعروقها حينما قال بغضبٍ لاحق لهجته الصارمة: .

كنتي فين لحد الوقتي؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة