قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس

ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، فجاهدت لإستحضار الكلمات التي قد تكون مخرج لها من هذا المأزق، فقالت بتلعثمٍ:
كان في محاضرات فيتاني وكنت بجبها من صاحبتي.
منحها نظرة قاسية، طوفتها من شعرها حتى أخمص قدميها، ليختمها بقوله الحازم:
محاضرات أيه دي اللي الساعة١١، أنا مش قايلك أخىك برة الساعة ٨، ٨ونص!
بترت الكلمات عن لسانها، فمررت يدها على جبهتها في محاولةٍ بائسة للتصدي له، فقالت:.

الوقت سرقنا وإحنا بنتكلم.
هز رأسه ساخراً وهو يستمع تلك الحجة السخيفة، فاستدار تجاه الشباب وهو يتساءل بغضبٍ يتلاشى خلف حاجز ثباته:
ويا ترى بقا أخدتي إذن حد من رجالة البيت اللي فايقين للأمانة اللي برقبتهم؟
كان سؤالاً ساخر لمن يقف خلفه، فخشى بدر أن تتطور الأمور للأسوء وخاصة بعد أن اشتعلت النيران بمقلتيه، فقال:
أخدت إذني بس أنت مسألتش عشان أقولك هي فين؟

ضيق عينيه بشكٍ، جعل الأخير ينسحب من مناطحة تلك النظرات الفتاكة، قطع آسر المسافة بينهما ليصبح مقابله، ثم أشار له بإصبعيه بتحذيرٍ صريح:
لو طلعت بتداري عليها غلطها يا بدر صدقني ردي على التصرف ده مش هيعجبك.
رد بثباتٍ مصطنع:
أنت مكبر الموضوع ليه يا آسر إتاخرت بره شوية ومش هتكررها تاني عادي يعني بتحصل!
استدار آسر تجاهها ثم قال بتعصبٍ شديد:.

مهي مش هتتكرر تاني والا وقسماً بالله ما عادت هتعتب برة البيت ده خطوة واحدة وترجع البلد أحسنلها، حور أهي عمري ما جالي شكوة منها ولا شوفتها راجعة متأخر من بره!
وبحزمٍ أضاف:
من هنا ورايح مفيش دخول ولا خروج الا بأذني أنا حتى لو كنت مسافر أو مش بالبيت سامعة؟

هزت رأسها والدموع قد تسربت على وجنتها لشعورها بالحرج الشديد أمام أبناء عمها، فولجت لغرفتها تختبئ مما حدث، ليتها تعلم أن أحياناً تلك القسوة يصطحبها خوفاً وحب حتى ولو غلفها شراسة الحديث.
لطف يحيى الأجواء، حينما أشار على المائدة:
أيه يا جدعان الكلام أخدكم والأكل زمانه برد.

وجذب أحد المقاعد ليعاون ماسة على الجلوس ثم جلس مقابلها، أما حور فجلست جوارها من الناحيةٍ الأخرى لتطعمها بحنانٍ، جلس بدر مقابلهم ومن جواره جلس آسر الذي أشار لأحمد بدهشةٍ:
ما تقعد واقف ليه؟
قال وهم بالتحرك تجاه غرفتها:
هشوف روجينا وراجع.

أشار له آسر بتفهمٍ، فإن كان قد قسى عليها لابد من وجود من يمنحها العاطفة ويوضح لها سبب هذا الجفاء حتى لا تزداد الأمور سوءاً، وضع يحيى الهاتف على الطاولةٍ بضيقٍ شديد، فسأله آسر باستغرابٍ:
في أيه يا ابني مالك؟
قال بضجرٍ:
عبد الرحمن قالي ساعة وهجيلك عشان نطلع المطر وبقاله أكتر من ساعتين مختفي وموبيله مقفول.
قال بهدوءٍ:
هتلاقيه في مكان مفيهوش شبكة، أو يمكن يكون بيطمن على والدته.
ثم عاتبه قائلاً:.

وبعدين أنت مكنش ينفع تطلبه في مشوار زي ده أنت مش عارف ظروف والدته وإنه مش بيتحرك من جنبها!
تعلقت نظرات يحيى ببدر الذي تصنع إنشغاله بتناول الطعام، فقال وهو يمضغ ما بفمه:
بمناسبة موضوع والدته، ما تحاول يا آسر تقنع الكبير إنه يسمحلها تقعد بالسرايا أنت عارف ظروف شغلنا وبيضطر يسافر كتير ويسبها ومهما كان هي بالنهاية مرات عمنا ولا أيه؟
هز رأسه وهو يشير له:
حاضر هكلمه.

منحه ابتسامة صافية، فقاطعهم الجرس الذي دق مرتين متتاليتين، فأسرع بدر بفتحه ليجد ابن عمه من أمامه يخبره بضيقٍ:
أنتوا هنا وأنا قالب الدنيا عليكم فوق وتحت.
أشار له يحيى بالدخولٍ، قائلاً:
حماتك بتحبك تعالى.
ولج عبد الرحمن للداخل وهو يردد بسخريةٍ:
مهي طول عمرها بتحبني.
واتسعت ابتسامته حينما وجد آسر يجلس من أمامه فرفع كفيه ليصافحه بحرارةٍ مردداً:
الدنيا بتبقى بؤس هنا من غيرك وعهد الله.

تسللت الإبتسامة على ثغره لتمنحه وسامة لا تليق سوى به:
اركن بس جنب أخواتك وبعدين نشوف حكاية البؤس دي.
إنصاع له وجلس جوار بدر، ليقابل حدة نبرة يحيى:
أنت يالا مش قولتلي ساعة وهكون عندك الساعة بقت ١١والطايرة هتوصل ١٢ونص، هتحرك أمته!
أجابه بعدما جذب الطبق وأحد الملاعق ليبدأ بتناول طعامه:.

الا معاه ربنا ميقلقش يا عمهم، أحنا وحوش الأسفلت ساعة زمن وهتكون قدام المطار واقف وماسك يافتة عريضة مكتوب عليها ويلكم تو إيجبت.
تعالت الضحكات الرجولية فيما بينهما، ليشير لهم آسر بصرامةٍ مصطنعة:
لا كلام على طعام يا سادة، إنجزوا عشان تلحقوا مشواركم.
وضعت حور قطع الدجاج المشوي مقابل كلا منهما، فأشار لها عبد الرحمن بتلذذ:
أنا مجيش هنا وأكل حاجة من أيدك الا وتبقى خطيرة يا حور، بجد تسلم أيدك.

ابتسمت وهي تضع له المزيد:
الف هنا.
رد عليه بدر بضجرٍ:
إمروعوها علينا بقا معتش هتعملنا وكل خالص.
لوت شفتيها بغضبٍ، فلكزه آسر ثم قال بإعجابٍ:
الأكل بيتكلم عن نفسه، إتشملل إنت ياخويا وهاتلنا طباخة فيف ستار!

تعالت ضحكات حور بشماتةٍ، أما يحيى و عبد الرحمن تعلقت نظراتهم الحزينة به ليلاحظ كلاً منهما تهجم معالمه الحاقدة على تذكره لما يخصها، دقائق مبسطة وانتهى عبد الرحمن من طعامه فأشار ليحيى بتتبعه ليغادروا سوياً للمطار.

طرق أحمد الباب مرة تلو الأخرى قبل أن يدلف للداخل، وجدها تجلس على الفراش أمام الشرفة التي تحده، الصمت والحزن يغلفها معاً، بحث بعينيه عن أحد المقاعد ومن ثم جذبه ليجلس جوارها، تحلى بالصمت قليلاً ثم قطعه قائلاً بصوته الرخيم:
آسر خايف عليكي، متزعليش منه أنتِ المفروض تاخدي بالك من مواعدك بعد كده إحنا هنا مش في بلدنا يا روجينا فواجب علينا نأخد بالنا من تصرفاتنا خصوصاً لو أنتوا البنات!

تجمع غضب العالم بحدقتيها فالتفتت إليه ثم قالت بإندفاعٍ:
لو جاي تبررله اللي عمله فوفر نصايحك يا أحمد لإني مش شايفاها غير تسلط هو على طول مستقصدني.
منحها نظرة مطولة، قبل أن يفيض به الصمت فقال بتريثٍ:
أنتي ليه شايفة الناس كلها كده يا روجينا؟
ابتسمت وهي تجيبه ساخرة:.

هما فين الناس دول، هما مش شايفين غير حور وتصرفاتها المثالية حتى أنت كل ما بتتكلم دا عملت كذا وكذا معرفش مدام معجب بيها أوي كده مخطبتهاش وخلصت ليه.
احتدت نظراتها الغاضبة، ليجيبها بحدةٍ وإنفعال:
و آسر و يحيى معجبين بيها برضه!، هي اللي بتجبر الكل يحترمها ويخدوها مثال أما أنتي فصدقيني رصيدك قرب يخلص عند الكل بسبب طريقتك وأسلوبك ده.
ونهض عن المقعد ثم كاد بالخروج، فاستوقفته حينما نادته بصوتٍ باكي:
أحمد.

التفت تجاهها، فاستطردت بدموعٍ غلبت صوتها الباكي:
أنا مش وحشة كده على فكرة.
قرص أرنبة أنفه وهو يحاول التحكم في انفعالاته، ثم دنا منها من جديد، ليجلس على الفراش مرعياً مسافة أمانة بينهما، ليردد بابتسامةٍ أشرقت وجهه الرجولي:
عارف، أنتِ جواكِ طيبة وبراءة صعب حد يكتشفها بسبب لسانك ده.
ابتسمت رغم الدموع التي تتساقط من عينيها، فاستكمل بحنانٍ:.

محدش بيكرهك يا روجينا، بيكروهوا تصرفاتك وهنا الفرق إنك بايدك تغيري نفسك وتكوني أحسن من حور نفسها.
أومأت برأسها بتفهمٍ، فمنحها ابتسامة صافية، ثم أشار لها قائلاً بمزحٍ:
طب يلا نلحق العشا، لحسن كان في طاجن بامية باللحمة لو طلعت لقيته اتنسف هتعملي غيره.
ضحكت وهي تعقد حجابها جيداً لتخرج معه، فما أن رآها آسر حتى أشار لها بالجلوس لجواره، ليضع الطعام لجوارها وهو يهمس لها:.

متزعليش مني أنتي عارفة أني عصبي بس حنين.
منحته نظرة مشككة فتعالت ضحكاته، ليجذب السكين الصغير المجاور اليها، ثم أشار بتحذيرٍ:
شايفة غير كده؟
ضحكت روجينا وهي تشير له بالنفي، فشاركها الابتسامة لتتناول طعامها بفرحةٍ وسعادة.

وصل عبد الرحمن بزمنٍ قياسي، فولجوا للداخل بانتظارهم، مرت الدقائق سريعاً إلى أن وصلت الطائرة الخاصة بهم، نهض يحيى ليقف باستقبالهم، وما أن لمحهم حتى لوح بيديه ليتمكنوا من إيجاده، انتبه عبد الرحمن لإشارة يحيى فعلم بأنهم باتوا أمامه، فأنضم له، وقف مشدوهاً للحظةٍ بتلك الفاتنة التي تدفع العربة بصعوبةٍ تجاهه، ليتها ترفع عينيها عنها ليتمكن من رؤية لونها الساحر، نعم يعلم بأن بنات خال آسر فاتنات؛ ولكن ليس لهذا الحد، والأجمل من كل ذلك الحجاب الذي ترتديه، رفعت تالين عينيها السوداء لتتطلع تجاههما ويليتها ما فعلت، أصابته بسهامٍ عشق النظرة الأولى القاتل، فسلبت نبضات قلبه ببطءٍ، وكأنه يرى غائب يعرفه منذ زمن بعيد!

ابتسمت وخفق قلبه مع تلك البسمة، وكأنها تمنحه الحياة، وقفت تتبادل الحديث مع يحيى إلى أن أشار بيديه تجاهه، قائلاً:
ده عبد الرحمن ابن خالي فؤاد الله يرحمه.
تلقائياً انتقلت نظراتها تجاهه، فقالت بابتسامتها الرقيقة:
أزي حضرتك يا أستاذ عبد الرحمن؟
ما الذي سيتمناه أكثر من ذلك، ابتسامتها ومنادته بصوتها الرقيق، اتسعت ابتسامته وهو يتأملها شارداً، فأخفضت عينيها عنه في حرجٍ، أسرع يحيى إليه فهزه وهو يناديه بذهولٍ:.

عبد الرحمن!
انتصب بوقفته وهو يجييه بعد استعادته لإتزانه:
أيوه.
ضحك يحيى ساخراً:
أيوه أيه يا عم أنت سرحت في أيه، تالين بتكلمك وأنت في دنيا تانية!
تحولت نظراته إليها وهو يردد بحرجٍ:
أنا بخير الحمد لله، حمدلله على سلامتك.
أجابته بابتسامةٍ صغيرة:
الله يسلمك.
تساءل يحيى باستغرابٍ:
هو أنتي جيتي لوحدك ولا أيه؟
أشارت له بالنفي وعينيها تبحثان عن شقيقتها الصغرى من خلفها:
لا رؤى كانت ورايا!

ظهرت تلك الفتاة من أمامهما، شعرها الأصفر يتدلى على كتفيها كعباد الشمس الساطع، عينيها الزرقاء رغم جمالهما يكسوها طبقة لامعة من الدمعٍ الخارق، كانت ترتدي بنطال أسود اللون طويل وقميص وردي، دنت لتصبح قريبة منهما فأشار لهم يحيى تجاه باب الخروج:
اتفضلوا، العربية بره.
كادت تالين بأن تدفع العربة من جديدٍ، فجذبها عبد الرحمن منها وهو يشير لها بابتسامةٍ هادئة:
عنك..

وجذب العربة منها ليدفعها تجاه باب الخروج، حتى وضع الحقائب بالسيارة، ثم صعدت الفتيات بالخلف ومن ثم انطلقت السيارة للعمارة التابعة لعائلة الدهاشنة.

بالصعيد وخاصة بسرايا المغازية.
كانت تجلس على المقعد القريبة من الهاتف الأراضي، تستمع بحرصٍ لوعد ابنها القاطع بقرب الانتقام من فهد دهشان، فقالت بلهجةٍ حملت كل معاني الحقد:
أمته يجي اليوم اللي أشوفه فيه مزلول، ورأسه في الأرض.
استمعت لما قاله بابتسامةٍ رضا، طاف بها الشر حينما أخبرها بخطته التي ستضربه في مقتل.

ومن خلف الستار كانت هناك أعين تتلصص بمراقبة ما يحدث باستمتاعٍ، هدفه الأساسي اضرام النيران بين الطرفين فإذا خمدت كشف عن قناعه هو، لذا كان يحرص على امتداد العداء بين المغازية والدهاشنة!

بشقة الفتيات.
كان يتفحص بدر ساعة يديه بين الوقت والأخر، فأغلق الحاسوب ثم وجه حديثه لآسر المنشغل بمراجعة الحسابات:
ما كفايا كده ونكمل بكره أفضل.
رفع عينيه عن الملف الذي يراجعه ثم قال:
وفيها أيه لما نسهر ونخلصهم النهاردة.
وبنظراتٍ شك قال باستنكارٍ:
وبعدين مالك كده مش على بعضك من ساعة ما قولتلك تعالى نراجع الحسابات مش طبعك يعني أنك تحب تأجل الشغل في أيه؟
إختار حجته المناسبة، ثم قال:.

مفيش بس تعبان ومحتاج أريح شوية.
منحه نظرة صلدة تعمقت داخله قبل أن يشير له بغموضٍ:
روح نام يا بدر.

ما أن إستمع أذنه الصريح بالمغادرة، حتى نهض سريعاً خشية من أن يرآها مجدداً، وليته تمهل قليلاً والا لما سيضع بالمواجهة الغير محببة لقلبه الجريح، فما أن فتح باب الشقة ليغادر لشقته المقابلة وجد عبد الرحمن و تالين مقابله، تلقائياً توجهت عينيه تجاه الدرج، ليلمحها وهي تصعد هائمة به، توهجت حدقتيه بترنيمةٍ يصعب تميزها، وقفت بمنتصف الدرج يدها تتعلق بالدرابزين، تتأمله بسكونٍ عجيب، فرغم سكون الأجساد وهدوئهما الا أن الأعين تتحدث بحديثٍ لا نهاية له، اشتياق ينبع من الداخل لا يقدر كلاً منهما على التصدي له أو مواجهته، فالنظرات هو الوصال بين القلب ومبتغاه، توصل ما يريد بمنتهى الشفافية، دون أن تجمله أو تنكر ما يخفق بداخله!

مرر عينيه عليها في ذهولٍ تام، وكأنه يرى فتاة أخرى لا يعرفها، وزنها الهزيل، نظراتها اللامعة بالدموع المصحوبة بسحابة مظلمة من الحزنٍ، ملابسها التي باتت محتشمة لحداً ما مما كانت ترتديه بالرغم من تحرر خصلات شعرها الأصفر من خلفها، بصعوبةٍ بالغة سحب نظراته المتعلقة بها، لينتبه لتالين التي تخاطبه، فمنحها ابتسامة مصطنعة فقالت وهي تشير لرؤى:
أنتي لسه عندك اطلعي يلا؟

صعدت الدرج الفاصل بينهما لتقف بالقرب منه، منحها بدر نظرة قاسية تحمل التقزز بين طياتها، فغادر من أمامهما قبل أن يمنحها فرصة الحديث معه، ولج للشقة المقابلة لهما وعينيها تتبعه كالظل الذي يتبع صاحبه، فما أن أغلق الباب حتى أغلقت عينيها بقوةٍ حررت تلك الدمعة الحبيسة بداخلها، وكأنها الآن تحصد نتائج ما ارتكبته بحقه، انتبه لها يحيى فقال وهو يتحاشى التطلع لها حتى لا يحرجها:
ادخلي يا رؤى.

أومأت برأسها بهدوءٍ ثم اتبعتهما للداخل، فحاولت رسم ابتسامة مصطنعة حينما هرولت روجينا اليها تحتضنها وهي تردد بفرحةٍ:
وحشتيني أوي.
أجابتها بصوتٍ واهن:
وأنتي كمان وحشتيني أوي.
جذبتها لغرفتها سريعاً ليتبادلن الحديث العالق بينهما منذ قترة، أما تالين فجلست جوار حور بسعادةٍ امتسحت معالمها شوقاً لها، فخرج آسر ليشير لها بابتسامة عذباء:
حمدلله على السلامة يا تالين.
ردت عليه ببسمةٍ رقيقة:.

الله يسلمك يا آسر، طمني عمتو عاملة أيه والبلد عاملة أيه لسه زي ما هي ولا أتغير فيها حاجة؟
ابتسم وهو يجيبها:
عمتك يا ستي زي الفل وعشرة، أما البلد فزي ما هي متغيرش فيها كتير، وعموماً يا ستي احنا كلنا كده كده هنسافر في أجازة أخر الأسبوع البلد وأكيد أنتوا معانا.
اتسعت ابتسامتها بحماسٍ، فأشار يحيى لحور ثم قال:
زمانها راجعة تعبانة، خديها يا حور تستريح في اوضتك.
نهضت لتجذب يدها قائلة بفرحةٍ:.

تعالي ده أنا عندي حاجات كتيرة عايزة أقولهالك.
ابتسمت تالين وهي تلحق بها بحماسٍ لسماع ما لديها، انتقلت نظرات آسر لعبد الرحمن الذي يتابعها منذ أن دخلوا سوياً، فرفع يديه أمام وجهه ليشير له ساخراً:
عبد الهادي أنت نمت مكانك ولا أيه؟
تعالت ضحكات يحيى ثم تابع بقول:
من أول ما شافها وهو مهنج كده.
ضبط معالمه وهو يردد بارتباكٍ من محاصراتهم له:
أيه يا عم روميو أنت وهو اول مرة تشوفوا واحد شارد وحزين!

انفلتت ضحكة مرتفعة من يحيى فقال باستهزاءٍ:
شارد حزين في أوجاعي ومبقولش لحد!
وأضاف بسخريةٍ:
يا عم فكك من الحوارات دي أنت من ساعة ما شوفت البت وأنت مش على بعضك.
ارتبك بصورةٍ ملحوظة فجذب هاتفه ليضعه بجيب بنطاله ثم أشار لهما:
الوقت إتاخر سلام.
وغادر على الفور، فابتسم آسر ثم قال بضيقٍ مصطنع:
أحرجت الراجل!
ضحك يحيى وهو يشير له بمرحٍ:
هو ده بيتحرج!، ده أنت تشوفه وهو مبلم قدامها منظره مسخرة.

تعالت ضحكات آسر ثم قال بحزمٍ:
طب يلا يا خفة على شقتك ميصحش وجودنا هنا لحد الوقت ده.
نهض هو الأخر ليتبعه، ومن ثم صعد للأعلى ودلف هو لشقة الشباب المقابلة لهما..

صعد يحيى لشقته ومن ثم ولج لغرفته، خلع رابطة عنقه بضيقٍ شديد، ثم حرر أزرار قميصه الأبيض عنه، جلس على أقرب مقعد مقابل له، فهامت عينيه على الفراش، ليراها غفلة بعمقٍ، الهواء الذي يتسلل من الشرفةٍ المفتوحة يحرك خصلات شعرها الأسود ليتدلى على وجهها، إقترب يحيى منها والعشق يجري بأوردته كلهيب الجمر المتأجج، تهاجمه الرغبة كالوحش الشرس الذي يفتك به، ويهاجمه الأخر بقدر ما إستطاع، قرب أصابعه من خصلاتها الناعمة ليبعدها عن وجهها وهو يتأملها عن كثبٍ، تحررت أصابعه لتلامس وجهها الناعم والابتسامة ترتسم على وجهه، تخشبت يديه على وجهها حينما وجدها تضيق عينيها بانزعاجٍ، اقترب ليطبع قبلة على جبينها ثم داثرها جيداً وأغلق الشرفة جيداً ليتجه بعد ذلك لحمام غرفته عله ينعم بحمامٍ بارد تطفئ نيران الشوق لها!

تخفى القمر خشية من ضوء الشمس التي إحتلت عرشها الصافي لتنتشر أشعتها الدافئة، ومن بينهما شرفة غرفته، تنعكس أشعتها على زجاجه لتمنح بضيائها التفاؤل والنشاط، وأمام تلك المرآة وقف آسر يصفف خصلات شعره بعدما ارتدى بذلة أنيقة من اللون البني، منحته مظهر رجولي جذاب، ثم وقف ليضع عطره المفضل ليتأمل طالته الأخيرة بنظرةٍ رضا ومن ثم انطلق للمصنع، فما أن ولج لمكتبه حتى طلب من الساعي قهوته التي يعشقها بالصباح الباكر قبل أن يدخل جوفه الطعام، ساعات وهو منهمك بالعمل على ما فاته طوال اليومين الذي انشغل بهما بالسفر للبلد، فرك جبينه بأرهاقٍ ومن ثم جذب الحاسوب لينهي ذاك الملف الشاق، دق هاتف مكتبه فرفعه وهو يردد بثباتٍ:.

أيوه يا مصطفى.
ضيق عينيه وهو يتساءل في دهشةٍ:
مين؟!
وبتذكر قال:
آه صديقة حور، تمام دخلها.
وضغط على الازرر ليتصل هاتفياً بيحيى ثم أبلغه باستياءٍ:
أيه كل الأخطاء دي يا يحيى ده لو عيل صغير مش هتعدي من تحت أيده، أنت عارف لو الكبير نزل في الأجازة وشاف الدنيا معكوكة كده هيولع فينا.
طب تمام مستنيك.

الحديث المتبادل بينه وبين يحيى أنساه عن من تجلس مقابله بعدما ولجت للداخل ورآته يتحدث بالهاتف، فجلست على المقعد المقابل له بصمتٍ، أغلق آسر الهاتف ومن ثم التف بمقعده المتحرك ليجد من تجلس مقابله، تلاشت الكلمات عن لسانه بتلك اللحظة، ود لو بتلك اللحظة لو تسائل من تلك؟، عينيها الخضراء تشكل أكبر نقاط ضعفه، عشقه للطبيعة والاراضي الخضراء يجري بدمائه، في تلك اللحظة التي تلاقت عينيه بعينيها شعر وكأن فرسه الأصيل يحمله بين جنات خضراء مرساها عينيها التي يشعر بأن اللقاء الذي يجمعهما ليس الأول!

ارتبكت تسنيم للحظة من تطلعه بها، ففتحت حقيبتها لتخرج منه الملف ثم وضعته امامه وهي تخبره بإرتباكٍ:
دي السي ڤي بتاعي..
سحب نظراته المتعلقة بها، ليخطف نظرة سريعة للملف، فقال بعد صمت أطبق عليه:
من غير ما أشوفه أنا بثق بكلام حور ومش عايز أكتر من أنك تكوني أمينة لأسرار المكتب وتعاملات التجار.

ابتسامتها الصغيرة تلك أينعت فؤاده، فألتاع القلب رجفة جعلته لا ينصاع الا لها، تخلى عنه الإتزان وحكمته بذاك الوقت العصيب فقال بثباتٍ مصطنع:
أنا محتاج حد يساعدني في الحسابات ومراجعة الملفات أول بأول وكبداية هديكي ملف ترجعيه وتقدميه بكره إن شاء الله وبكده تقدري تستلمي شغلك.
اتسعت ابتسامتها وهي تردد بفرحةٍ:
إن شاء الله.
ثم قالت بترددٍ واضح:.

أنا بس كنت عايزة أقول لحضرتك أني مش هقدر أكون موجودة لوقت متأخر عشان سكن الطالبات بتاعي بعيد عن هنا، كمان مش هقدر أكون موجودة لا الجمعة ولا السبت لأني بكون في البلد.
أومأ برأسه بتفهمٍ:
ولا يهمك، كل اللي بتقوليه ده بالنسبالي مش صعب.
وبابتسامةٍ أشرقت وجهه الوسيم:
تقدري تستلمي شغلك بكرة يا آنسة تسنيم.
أجابته بفرحةٍ لحقت صوتها المتلهف:
شكراً لحضرتك يا بشمهندس.

وأبعدت المقعد عنها ثم نهضت لتغادر فاوقفها صوته حينما نادها قائلاً بمكرٍ:
الملف يا ريس!
تخشبت محلها حرجاً فتلك الكلمة دفعتها للتأكد بأنه كشف كنايتها، تأكدت بأنه يعلم بأنها نفسها الرجل الملثم الذي ساعده، لعقت شفتيها بتوترٍ قبل أن تستدير إليه، لتقترب منه على استحياءٍ، التقط الملف منه فقال بابتسامةٍ مهلكة:
الحمد لله أن الأحبال الصوتية بخير ومفهاش مشكلة.

ابتسمت رغماً عنها على دعابته، ثم همت بالرحيل وهي تردد بصوتٍ شاحب عكس خجلها المميت:
عن أذن حضرتك.
وغادرت من أمامه، كالنسمة الباردة التي ازالت حرارة الصيف بعد عناء، وتركته شارداً بها، ليهمس لذاته ساخراً:
وبيتريق على عبد الرحمن!

بالصعيد وبالأخص بالسرايا.
تسللت نادين للمطبخ بالأكياس التي تحملها بيدها، فبحثت عن مكانٍ آمن، فجلست أسفل المنضدة لتخرج ما جلبته بفرحةٍ وسعادة، أخرجت محتويات العلبة وقبل ان تشرع بتناوله، فزعت حينما سمعت صراخ هنية المصدومة:
بتعملي أيه يا بوومة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة