قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

اضطر بالجلوس لجوارها بعدما جلست روجينا بالخلف جوار إحدى رفيقاتها، جلس على مضضٍ وكأن هناك أشواك تنهش جسده، كان يتوقع أن تستغل الفرصة للحديث معه أو الإعتذار منه، أو على الأقل تريه بشتى الطرق إنها لا تطيق الجلوس لجواره مثلما لم يرغب هو، ولكن ما حدث جعل بدر في دهشةٍ وحيرة، فكانت رؤى تستند برأسها على نافذة الباص الضخم، تتابع المارة بنظراتٍ ساهمة متصلبة، وكأنها بعالم منعزل لا بشر به ولا شيء غير الخذلان، تحول السخط الذي بداخله تجاهها لذهولٍ من حالتها الغريبة، شعر وكأنها ليست ذاتها الفتاة التي حطمت قلبه منذ سنتين!

ترى ماذا حدث لها لتفقد بهجتها وابتسامتها التي لم تغادر وجهها أبداً، إنقلب الأمر برمته من الكراهية للحيرة فباتت أعينه تراقبها طوال الطريق للإسكندرية وهي بغفلة حتى عن ملاحظة ذلك.

بشقة يحيى.
وقف الجميع أمام غرفة النوم بإنتظار خروج الطبيبة التي ما أن انتهت من فحصها وإعطائها الأدوية المناسبة، خرجت فهرع أحمد إليها ليتساءل بلهفةٍ:
خير يا دكتورة، ماسة مالها؟
تجاهلته الطبيبة ثم دنت حتى إقتربت من يحيى، فقالت بتعصبٍ شديد:.

أستاذ يحيى أنا من البداية شرحتلك حالة ماسة الحرجة، وقولتلك إنك هتتعامل معاها كطفلة مش كزوجة، وأنا كنت سعيدة جداً إنك بدأت تستوعب ده لكن باللي عملته النهاردة فأنت رجعتنا لنقطة الصفر..
وقطعت روشتة الدواء ثم قدمتها لآسر لتغادر على الفور، انتقلت نظرات أحمد المحتقنة تجاه يحيى الذي تنسدل دمعاته في صمتٍ تام، فقطع المسافة فيما بينهما ليجذبه من تلباب قميصه الابيض، صارخاً به بقسوةٍ:
أنت عملت أيه؟

إهتز جسد يحيى بعنفٍ تجاه دفعة أحمد له، فشدد من قبضته المحاطة بجلد رقبته وهو يصيح به:
وصلت بك الوقاحة لكده، أنت دمرت كل حاجة عملناها.
تدخل آسر على الفور ليحيل بينهما، فقال بحزمٍ:
خلاص يا أحمد اللي حصل حصل.
لم ينصاع إليه وحاول أن يمسكه من جديدٍ، وهي يصرخ باندفاعٍ:
أبقى قابلني لو عرفت تحل اللي أنت عملته.
وقف آسر مقابله، ليصده للخلف وقد إرتفعت نبرته بعصبيةٍ شديدة:.

ما قولتلك خلاص هو واحد من الشارع وغلط معاها ده جوزها، فووق.
انتقلت نظراته إليه ثم قال بإلمٍ:
وأنت شايف حالتها تسمح بكده!
بصرامةٍ أجابه:
قولتلك خلاص إقفل الموضوع.
في أيه، صوتكم عالي ليه كده؟
كلمات لاهثة خرجت من عبد الرحمن الذي أتى ككل صباح فهرول للأعلى حينما استمع لصوت شجارهم الصاخب، وفور رؤيته دفع آسر، أحمد بيديه تجاهه وهو يشير إليه:
خده تحت يا عبد الرحمن.

لم يستوعب ماذا يحدث بينهما، ولكنه تفهم بحاجة آسر لإبعاده بذاك الوقت، فجذبه للأسفل عنوة، فأغلق آسر الباب ثم دنى ليجلس قريباً منه، طافته نظراته قبل أن يسأله بهدوءٍ:
أيه اللي حصل يا يحيى وليه عملت كده؟
رفع عينيه الحمراء من أثر كبته لدموعه المتحجرة فترة طويلة، ليخرج صوته الشاحب كحال قلبه:
غصب عني والله يا آسر أنا معرفش عملت كده إزاي؟، يمكن مقدرتش أسيطر على نفسي بسبب اللي بنت ال عملته.

ضيق عينيه وهو يتساءل بدهشةٍ:
عملت أيه؟
أخذ يحيى بقص ما حدث على مسمع آسر الذي تفهم ما دفعه لفعل ذلك، فقال بغضبٍ:
بلغ أخوها بوساختها لو معرفش يربيها يقعده جانبه.
قال بحزنٍ شديد:
والدتها ممكن تروح فيها لو عرفت حاجة زي كده، أنا كفايا عليا إني طردتها من المكتب وخلاص.
رد عليه آسر قائلاً:
معتقدش إن البت دي هتسيبك في حالك يا بحيى، لازم تعملها وقفة وحاجز قبل ما تفكر تأذيك تاني.

شرد بحديثه المتعلق بها، ولم يفق الا على صوت إلهام الباكي:
ماسة فاقت بتصرخ وبتعيط وأنا مش عارفة أعملها أيه يا أستاذ يحيى.
ابتلع تلك الغصة المؤلمة التي عصفت برئتيه فور سماعه لما قالت، فإنتقلت نظرات لآسر الذي حثه على النهوض قائلاً:
حاول تاني تقرب منها، هتواجه شوية متاعب بس أنا متأكد إنك هتقدر تقربها منك تاني.
أومأ برأسه بهزة خافتة، ثم تحرك تجاه غرفتها يقدم قدم ويؤخر الأخرى حتى ولج للداخل..

بالأسفل..
فتح عبد الرحمن باب الشقة ثم دفعه للداخل بحدةٍ من عدم استجابته إليه:
اللي بتعمله ده غلط يا أحمد، معرفش أيه اللي حصل بينكم بس مهما كان مينفعش تتكلم بالأسلوب ده مع يحيى.
رفض أحمد دخول الشقة ثم صاح بعنفوانٍ:
ما أنت متعرفش هو عمل أيه؟
رد عليه بعقلانيةٍ:
ومش عايز أعرف، بالعقل والتفاهم الأمور هتتصلح لكن مش بالخناق وعلو الصوت يا أحمد.
خرجت تالين على صوتهم المرتفع، فدنت منهما، تتساءل في حيرةٍ:.

في أيه، بتتخانقوا ولا أيه؟

ظهرت فاتنة القلب من أمامه، فارتج ثباته أمامها، تباً لتلك الأعين التي هوست التطلع لها، وبالرغم من مراقبته بكل شاردة وورادة تخص تعابير وجهها الا أن شروده لم يمكنه من سماع حوارها المتبادل مع أحمد الذي يؤكد لها بأن الأمور على ما يرام، لمحته تالين فتسللت تلك الربكة الخافتة لدقات قلبها فتوترت نظراتها تجاهه، ثمة شيئاً بداخلها يشعر بالرضا من نظرات إعجابه، إلى أن أفاق لنفسه فقال وهو يتهرب من مرمى بصرها:.

يلا يا أحمد غير هدومك عشان ننزل المصنع.
إنصاع له أخيراً، فتركهما وولج للشقة فترك بابها مفتوحاً، وحينما أختلت الطرقة الفاصلة بين الشقتين بهما إرتبكت فشددت على أصابعها بتوترٍ، بحث عن كلمات مناسبة يفتتح بها الحوار بينهما فبدا كالأبله حينما قال:
عاملة أيه؟
أجابته على إستحياء:
بخير الحمد لله..
وأضافت بخجلٍ:
وأنت كويس.
هز رأسه بابتسامةٍ ساحرة، فأومأت برآسها ثم أشارت على باب الشقة وهي تدنو منه بتعثرٍ:.

هشوف حور فين، عن إذنك.
راق له خجلها وذاك التشتت الذي طغى عليها، فأشار لها بثباتٍ، ببطءٍ شديد أغلقت الباب وكأنها بحيرة من أمرها بأن تغلقه والأخر مازال بالخارج أو تتركه مفتوحاً، فالحالة التي تستحوذ عليها مذرية للغاية، أغلقته ومازالت تسأل ذاتها هل تصرفها صحيح أما ماذا؟
حتى عقلها استحضر ردودها عليه ليؤنبها على حمقاتها بالرد المختصر، ولكن عادت لتشير بعدم مبالاة مصطنعة:.

الله وأنا هصحبه يعني قالي عاملة أيه قولتله كويسة وإنتهينا!
وتوجهت للمطبخ لتتسع ابتسامتها وهي تتأمل السفرة العامرة من أطيب وألذ الطعام وخاصة كعك البرتقال الشهي الذي يميز حور، فانتهت الأخيرة من وضع القهوة على السبرتاية الذهبية، لتردد براحةٍ:
كده كله تمام.
اقتحم صوت تالين المطبخ حينما تساءلت بذهولٍ:
أيه الجمال ده كله يا حور؟
ارتسمت بسمة مشرقة لا تفارق شفتيها الوردية:.

بنت حلال كنت لسه هدخل أصحيكِ، يلا اقعدي إفطري عما أصحي تسنيم..
ضيقت عينيها باستغرابٍ:
تسنيم مين؟
اجابتها وهي تدنو من باب البراد لتخرج زجاجة من المياه:
دي صحبتي وبايتة معايا من امبارح، فرصة اعرفكم على بعض ده أنا قرفها بيكي وبالكلام عنك.
قالت وهي تتذوق قطعة من الكعك:
ياريت..
وبالفعل تركتها وولجت لغرفتها، فوجدت تسنيم ترتدي حجابها أمام المرآة وتستعد للخروج، فحملت حقيبتها سريعاً ثم قالت بإصرارٍ:.

مفيش خروج من غير فطار يا هانم.
عقدت تسنيم الحجاب حول رأسها جيداً ثم قالت بضجرٍ:
يا بنتي قولتلك ماليش نفس ليه مش بتصدقي، أنا يدوب أجري ألحق الشغل.
ثم أبعدتها عن طريقها لتجذب الحذاء، فقالت حور بغضب:
قولي اللي تحبيه بس بالنهاية هعمل اللي أنا عايزاه..
فتحت باب الغرفة ثم جذبت الحقيبة من يدها لتشير لها باستعطاف:
مرة تانية عشان متأخرش بالله عليكي يا حور.

تركت الحقيبة فحملتها تسنيم وإتجهت سريعاً لباب الشقة قبل أن تتمكن من إيقافها مجدداً، فإتبعتها لتجذب اسدالها المعلق جوار الباب ثم خرجت لتوقفها على الدرج، فعاتبتها بحزنٍ:
أنتي بجد هيجيلك قلب تمشي وتزعليني!
استدارت تجاهها ثم قالت:
غصب عني والله هتتعوض مرة تانية، لازم أنزل عشان ألحق المواصلات والا كده هتأخر خالص عن الشغل يرضيكي أترافد من أول إسبوع كده!
هتترفدي على التأخير ومديرك لسه مرحش!

ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي ترفع عينيها لأعلى الدرج، لتجد آسر يقف من أمامها، ومع كل درجة كان يهبطها للأسفل كاد بها قلبها أن يتوقف أكثر من مرةٍ وخاصة حينما أصبح مقابلهما، فشكت له حور قائلة:
إتكلم أنت يا آسر لحسن أنا ريقي نشف معاها..
سلطت عينيه البندقية عليها، ليبتسم رغم جدية حديثه الصارم:
مفيش حد بيدخل بيت من بيوت كبير الدهاشنة وبيخرج من غير ما واجبه يكون كامل يا تسنيم.

يا الله، سماع نبرته تردد صوتها زرع الخجل برعشة جسدها الغريبة، بللت شفتيها بلعابها وهي تجاهد بالثبات من أمامهما، فليس ذاك فصل الشتاء القارص ببرودته لترتعش هكذا، فما تلك البرودة التي تضرب أطرافها عكس تلك الحرارة التي تمزق وجنتها، رفعت عينيها تجاهه فوجدته مازال يستكمل حديثه مبتسماً:
متقلقيش مش هرفدك على سبب تافه زي ده الا لو ناوية على تقيل؟

نفت برأسها عدة اشارات جعلت ابتسامته تتسع حتى برزت أسنانه البيضاء على مظهرها الطفولي، تعجبت حور من الحالة الغريبة التي تسيطر على صديقتها وتراها هي لأول مرة، ولكنها تغاضت عن ذلك بوجود آسر، فانتبهت له حينما قال:
نازلة الجامعة النهاردة يا حور؟
اجابته بتذكرٍ:
أيوه ربع ساعه ونازلة إن شاء الله.
اومأ برأسه ثم هبط الدرج ليستكمل حديثه الحازم:
نص ساعة وانزلوا هوصلك للجامعة ونطلع على المصنع.

ثم استدار تجاهها ليشدد عليها بصرامةٍ وعينيه تقصد تسنيم:
متنزلش من غير أكل، سامعة.
جذبتها من معصمها بالقوة وهي تشير له:
عنيا يا عمهم، هنأكل وننزل هوا.
منحها ابتسامة صغيرة قبل أن يستكمل الدرج تاركاً الف علامة استفهام تطوف بتلك الشاردة برجولته ووسامته الشرقية.

حينما يتعلق الطفل بشخصٍ ويراه بأفضل صورة ومن ثم تتمزق من أمامه ليراه بشكلٍ لم يعهده من قبل، يتحول الحب بداخله لشعلةٍ من الكره والخوف من محاكاته، وها قد استحوذ هذا الشبح على ماسة، فحينما رأته يدلف لغرفتها تجمد جسدها على الفراش، حتى صرخات استغاثتها تحجرت على لسانها، فدثت وجهها بين قدميها المتكورة على جسدها وأخذت تراقبه برهبةٍ وخوف لا مثيل له، يعز عليه رؤيتها هكذا؛ ولكنه لم يتوقف فمضى قدماً حتى صار قريباً منها، فجاهد لرسم بسمة آمنة علها تتسلل لأعماقها مثلما كانت تفعل كل مرة، ثم أجلى صوته ليردد:.

ماسة مش عايزة تشوفي أنا جبتلك أيه؟
قال كلمته وهو يخرج من جيب جاكيته شوكولا من النوع الذي تعشقه، حدجته بنظرة جافة، فحتى ما يحمله لم يعنيها كثيراً، تحررت تلك الدموع المحتسبة فرغم إنه ترعرع ببيئة أعز قوانينها بأن دمعة الرجل لا يراها عزيز، ولكنها أعز العزيز على قلبه، ماسته الثمينة كاد بأن يحطمها بيديه هو، دمعاته تساقطت لتحرر ما يشعر به بداخله، فصارع حتى الرمق الأخير فتحررت أحباله الصوتية أخيراً:.

يحيى غلطته كبيرة أنتي لازم تسامحيه وهو مش هيعمل كده تاني..

كلماته لم تسكن جفاء النظرات، ليتها البلسم لشفائها أو ترياق تتمكن من تجاوز ما تمر به، أخذ خطوة جريئة وإقترب منها أكثر ثم سمح لذاته بملامسة وجهها، ارتعبت وتحرر صوت بكائها الخافت، حتى جسدها انتفض بعنفٍ بين يديه، تراجع يحيى للخلف على الفور، وأخذ يراقب تشنج جسدها ورهبتها بوجوده، لم يحتمل أن يتابع حالتها تلك، فأسرع بالخروج ليردد بخذلان لمن تقف أمامه:
خليكي جنبها يا إلهام متسبهاش.

اللي تؤمر بيه يا بشمهندس.
قالت كلماتها ثم ولجت للغرفة لتغلق الباب من خلفها، لتختفي من أمام أعينه خلف الباب الموصود وكأنها إشارة لبعد مؤقت سيحتم لفتح طريق ربما به صلاح ولكن لابد من وجود عقبة ستعرقل ساقيه!

رفضت روجينا الصعود لنيل قسط من الراحة مثلما فعل الجميع، وصممت على الجلوس أمام المياه التي تتلاطم أمواجها في سباقٍ عاصف لملامسة الشاطئ، تمددت على المقاعد المريحة أمام المياه والفرحة تزين وجهها، فهمست بصوتٍ منخفض:
وأخيراً حققت حلمي أني أقعد قدام البحر وأزور كل حتة في اسكندرية.

وأخرجت هاتفها سريعاً لتلتقط عدد من الصور السلفي لنفسها أمام المياه، توقف إصبعها عن الضغط على زر التصوير حينما لمحت بهاتفها إنعكاس ذاك الشاب الذي يسبح بمهارةٍ أسفل المياه، دقيقة تليها الأخرى حتى أصبح قريباً من الرمال، فاستقام بقامة جسده الرياضي، ومن ثم خلع القناع الذي يحجب عينيه الرمادية عن المياه، تدلى فكيها السفلي وهي تتأمله بإنبهارٍ، يقال إن إمتلكت المرأة سحراً تتباهي به ولكن الرجل سحقاً لما يتمكن من فعله حينما يتملكه الغرور والثقة الزائدة من نفسه، هكذا ضرب أيان عصفوره الذي يراقبه من بعيدٍ بالخفاء، يبتسم خفية مما ينوي لفعله حينما يطبق يديه عليه سيكون هو بنفسه سجان العصفور الأخرق!..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة