قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

طوال يوم عملها المرهق لم يشغلها سوى معاملة آسر الراقية، لوهلةٍ تساءلت هل يوجد رجل شهم كما ظنت بأن لا يوجد سوى أبيها، غيمت عينيها بالدموع حينما رأت شبحاً من أشباح الماضي التعيس كاد بأن يخيم عليها، فزفرت الهواء العالق برئتيها على مهلٍ حتى لا تفقد السيطرة على أعصابها المتوترة، ومن ثم حملت تسنيم الحاسوب لتتجه لمكتب آسر المجاور لها، طرقت بابه وولجت حينما استمعت لآذن الدخول فوجد أحد السكرتارية بالداخل، فأغلقت الحاسوب الصغير ثم ضمته لصدرها ووقفت تتابع حديثهما بصمتٍ وترقب، فما كان من آسر الا أن قال بضيقٍ:.

مهو بالنظام ده مفيش حاجة هتمشي صح، وأنا حالياً الفترة الجاية مضطر انزل البلد أكتر من مرة بالأسبوع لو رجعت لقيت الأمور بالشكل ده مش عارف هقدر أسيطر على كل ده ولا لا..
ومشط الغرفة بعينيه حتى وقعت على من تقف على قرب منه لتكن هدايته بطريقه الضال، فقال بعد تفكير:
لقيتها.
ثم أشار لها بأن تقترب، ليسألها بجديةٍ:
تسنيم أنتي بتنزلي البلد كل أسبوع صح؟
باستحياءٍ لسماع اسمها منه للمرة التي تناست عددها، أجابت:.

أيوه بنزل كل أخر أسبوع وبرجع على السبت أو الأحد حسب الجامعة.
ابتسم وهو يشير بيديه لمن يقف جواره:
اتحلت يا مصطفى ، تسنيم هتبقى حلقة التواصل بينا، كل أخر الأسبوع تظبط الملفات والحسابات وتبعتهم معاها وأنا هوقعهم وأبعتهم.
ابتسم السكرتير ثم قال باستحسانٍ:
حلو أوي الكلام ده وبكده مش هيكون في شغل واقف لرجوعك.

وحمل الملفات ثم اتجه للخروج، فانتبه آسر لنظراتها المرتبكة تجاهه، فرفع يديه إليها مما زادها توتراً، فوزعت نظراتها بين عينيه ويديه الممدودة، إلى أن استوعب اشارته للاب الذي تحمله، فبللت شفتيها بلعابها وهي تضعه بين يديه بارتباكٍ، فتح آسر الحاسوب وهو يشمله بنظرةٍ متفحصة، فهز رأسه وهو يردد بصوتٍ منخفض؛ ولكنه مسموع:
براڤو، فهمتي الشغل كله بسرعة أهو.
ردت في تلعثم:
بحاول..

أغلق الحاسوب وهو يجيبها بابتسامةٍ مرحة:
لو المحاولات هتجيب نتائج مبهرة كده استمري.
ثم رفع عينيه تجاهها ليشير لها بهدوءٍ حازم:
اقعدي يا تسنيم، عايزك..
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي تتطلع للمقعد من أمامه، جلست وهي تترقب ما سيقول بعدما التهى بهاتف المكتب لتستمع لصوته الرجولي يكسر قاعة الصمت وهو يتحدث للهاتف:
هات عصير وقهوة يا ابني.
وأغلق الهاتف ثم سلط نظراته عليها ليبدأ بالحديث المختار بعنايةٍ:.

أنا إختارتلك أنتي توصليلي الملفات عشان تكون فرصة ليكي إنك تكوني جنب والدك ووالدتك بالبلد وخصوصاً إني عارف ظروف مرضه.
ابتسمت بفرحةٍ لتفكيره بهذا الشطر بالتحديد، فأجلت أحبالها، قائلة:
شكراً لحضرتك بجد.
وكأنه لم يستمع لكلماتها من الاساس، فكانت حدقتيه شاردة بها إلى أن كرر البوح بما يعتريه من سؤال محير، فقال:.

أيه اللي بيخليكِ تتنكري وأنتي نازلة الغيط، أنا شايف أن اللي بتعمليه عمل عظيم، نازلة بتساعدي والدك اللي ملهوش غيرك!
رغم احساسها بالحرج للحديث عن تلك النقطة بالتحديد الا أنها قالت:
حضرتك أكتر واحد عارف يا أستاذ آسر أن في ناس عندنا بالبلد قاعدة للكلام عن غيرها وبس، وأنا كنت بحاول أرضي والدي أن محدش يتكلم عليا وفي نفس الوقت أرضي نفسي إني مسبهوش بالظروف دي فرضيت باللبس ده لو هيحميني من القيل والقال.

ابتسم وهو يتمعن بكل حرف نطقته، فتحرك لسانه ناطقاً:
الناس دي موجودة بكل مكان يا تسنيم مش بس عندنا، بس لو فكروا صح هيلاقوا أن شرف ليهم أن النماذج المشرفة دي تكون واحدة منهم.
تسللت الحمرة لتستحوذ على وجهها الأبيض، فنهضت عن المقعد ثم جذبت الحاسوب لتشير له بتوترٍ:
طيب، هروح أنا بقا عشان ألحق أخلص قبل ما أمشي.

ودعها بابتسامةٍ لم تفارق وجهه يوماً حينما يرآها، تلك الابتسامة التي تعد ميثاق للقاء مجدداّ، وكأنها تجدد الأمل بعودة اللقاء، تاركة شرفة القلب موربة لتدفقها من جديد..

إعتاد كل يوم الذهاب لعمله مبكراً؛ ولأول مرة يخالف عاداته فظل حبيس غرفته، الغرفة التي كانت تتراقص طرباً حينما تخطوها، طرح يحيى رأسه على مقدمة المقعد الخشبي وعينيه متعلقة بباب غرفته تارة وبفراشه تارة أخرى، يتذكر تلك الليلة بوضوحٍ وزاد وجعه أضعافاً حينما تذكر البشارة السعيدة منذ عامين، وجد ذاته غافل على فراشه، ووجدها تقترب منه على أطراف أصابعها، ومن ثم انحنت لتعبث بخصلات شعره وهي تهمس بحبٍ:.

يحيى قووم كل ده نوم، يلا في حاجة لازم تعرفها وحالا.
عبث بعينيه وهو يجيبها بنومٍ:
بعدين يا ماسة، النهاردة يوم اجازتي سبيني أنام براحتي.
ابتسمت بخبثٍ:
ده مش هيحصل يا حبيبي، لأن أنت ملكي في يوم الأجازة ده..
رفع جفن عينيه الثقيل وهو يمنحها نظرة عابثة، ساخرة:
يعني مينفعش أخطف ساعة وأبقى ملكك بعدها!
هزت رأسها بنفيٍ وهي تجيبه بدلالٍ:
No.
زفر بضيقٍ ثم جلس باستقامةٍ على الفراش، وهو يردد باستسلامٍ:.

مفهاش نوم أنا عارف، تحت أمرك يا حبيبتي، طلباتك اللي بتكوميها ليوم الجمعة الحيلة.
ابتسمت ماسة ثم نهضت لتشير له بيدها على الغرفة:
لا متقلقش مفيش طلبات كتير، في حاجة أنا مخبياها بالأوضة والمفروض انك هتلاقيها وهتفرح بيها.
كبت غضبه بصعوبةٍ، ثم قال:
طيب مينفعش تطلعيها وأنا هتفاجئ وهفرح برضه.
دفعته بغيظٍ:
وبعدين بقا يا يحيى، الله!

حدجها بنظرةٍ جافة وهو يتحرك بآليةٍ تامة، يبحث بالخزانة ومن ثم الادراج، فجلس على الأريكة وهو يشير لها بنومٍ:
مفيش حاجة، هبقى أدور بعدين.
جذبته ماسة بغضبٍ ثم دفعته ليجلس على مقعد مكتبه الصغير بجانب الغرفة، ومن ثم فتحت الدرج العالق من أمامه ليجد علبة مغلفة، أخرجها يحيى وهو يتفحصها بدهشةٍ:
أيه ده؟
قالت بتعصبٍ:
افتحها وشوف بنفسك.

أزاح الغطاء الذي يفصله عنه ليجد زوج من الأحذية الصغيرة، عبث بحاجبيه وهو يسألها بسخطٍ:
ده أيه!، متهزريش وتقوليلي إن ده ليا ده ميدخلش في صابع رجلي الصغير يا روحي!
نظراتها الجادة المسلطة عليه جعلته يفكر بشكلٍ جادي، اتنقلت نظراته لبطنها وقد بدت الأمور تكون أكثر وضوحاً، لمعت عينيه بفرحة وعدم استيعاب عظيم فتساءل بجديةٍ:
بجد يا ماسة!، أنتي آآ، حامل؟

أومأت برأسها بابتسامة جعلت وجهها منيراً كالبدر، تعالت ضحكاته وهو يحتضنها بقوةٍ وسعادة، سعادة تركت أثر لطيف على وجهه الهائم بتلك الذكرى الصغيرة، لتترك له ألم يختلج صدره وزوج حذاء بين يديه وضعه يحيى بالدرج ثم أغلقه وهو يحاول ان يتخطى تذكره لتلك الفرحة التي قلبت لغم لا يقوى حتى تلك اللحظة بتخطيه!

بالصعيد..
رؤية غروب الشمس بهذا الوقت بات عشقها، فإعتادت أن تخطو بباحة منزلها لتأمله، عقدت راوية الحجاب جيداً حينما دفعه الهواء برفقٍ فخشيت أن يكشف عن شعرها الطويل المخبئ بعنايةٍ من خلفه، انتبهت لصوت صهيل الخيل بجوارها فاستدارت باحثة عنه وكأنها تعلم جيداً أين ستجده؟

تمعنت بالتطلع لذاك الفارس الذي يعتلي ظهر جواده بثباتٍ وثقة، فعلى الرغم من أن كبر السن قد شق الطريق على معالمه الا أنه مازال يحتفظ ببعض الخصال، هبط فهد من أعلاه ثم إقترب منها ليقطع حديث الصمت فيما بينهما حينما قال:
واقفة كدليه؟
ردت عليه بابتسامةٍ صغيرة:
حسيت اني مخنوقة فخرجت أتهوى شوية.

خلع جلبابه الخارجي والعمة التي تقيده، ومن ثم قدمهم للخادم الذي يقف لجواره، فأشار بيديه لتتبعه، تمشوا سوياً وسط الزرع الأخضر الذي يحيط بالمنزل من جميع الإتجاهات وكأنهم عشاق مراهقين، فما أن وصلوا لأريكة صغيرة موضوعة بأحد الزوايا حتى جلست راوية تاركة الصمت يضع معالمه إلى أن قطعته حينما قالت بشرودٍ:
تفتكر يا فهد لو أنا مكننش عملت كده باليوم ده كان أيه اللي هيحصل؟

منحها نظرة مشتتة لعدم تمكنه من فهم ما تقصده، فقالت بإيضاحٍ:
كنت هتكمل في جوازتك؟
تبدلت قسمات وجهه للحدة، ثم قال:
وأيه لزمتها السيرة دي يا بنت الناس، ما خلاص اللي فات اتدفن!
ابتسمت وهي ترد عليه:
اللي فات مش بيتنسى يا فهد بنفتكره وبيبقى ذكرى وأنا بقا مش قادرة أنسى اليوم ده أبداً لأن بسببه الكل محملني ذنب العداوة اللي بينك وبين المغازية.
وبحزنٍ أضافت:.

بس أنا ميهمنيش حد. ، تعادي الدنيا كلها على أني أشوفك مع واحدة غيري، إنشالله يبقى بينك وبين الناس كلها طار.
ضحك حتى برزت أسنانه، ثم قال:
وده اللي حوصل، عشان تتأكدي إن أهم حاجة عندي أنتي وبس يا راوية..
وأمسك يدها فالتفتت يساراً ويميناً وهي تهمس بخجلٍ:
فهد إحنا تحت بطل حركاتك دي..
قرب وجهه منها وهو يهمس بخبثٍ:
لما تبطلي أنتي كمان حلاوتك الزايدة دي ابقى أفكر بالموضوع.

ابتسمت بفرحةٍ واستسلمت ليديه التي تحتضن يدها، لا تعلم ما الذي دفعها بفتح أبواب الماضي بذاك الوقت بالتحديد علها تشعر بأن ابنتها هي من ستدفع الثمن باهظاً لما فعلته والدتها منذ٢٥ عاماً.

وأخيراً انتهت ساعات دوامها، فنهضت ترتب حقيبتها الصغيرة لتغادر قبل أن يغلق باب السكن من جديد، وضعت تسنيم ما يخصها بداخل الحقيبة الجلدية الصغيرة، فانتبهت لهاتفها الصغير يعود للرنين مرة أخرى، رفعته لتعبث بأزراره القديم ثم رفعته على أذنيها قائلة بفتورٍ:
أيوه يا ماما، بابا كويس ولا في أيه؟

أتاها صوتها يطمنها على والدها، ثم تابعت برغبتها بالإتصال بها لتخبرها بأن خالها وزوجته وأولاده أتوا اليوم بزيارةٍ للبلد ومثلما اعتادوا سيكونوا باستقبالهم أسبوعاً كاملاً، فقدت تسنيم النطق للحظات وهي تحاول باستيعابٍ ما استمعت إليه، فخذلتها قدميها عن حملها فأستقر جلوسها على المقعد القابع خلفها، شعرت بذات اللحظة بأن سوط الماضي يجلدها بقوةٍ، كل ذكرى ربطتها بهذا الدنيء جلدتها بقوةٍ لتجعل جلدها ملتهب وكأنها تلقت الضربة فعلياً، أغلقت الهاتف بأصابع مرتعشة، وصدرها يعلو ويهبط بانفعالٍ، مجرد تذكر ذاك الشطر الخفي تعيقها الآلآم..

انهى عمله هو الأخر، فخرج ليهبط لسيارته، كاد باجتياز الطرقة المطولة أمام مكتبه، ولكنه توقف حينما لمحها بالخارج، تجلس على مكتبها شاردة للغاية، إقترب منها آسر رافعاً حاجبيه بدهشةٍ:
أنتِ لسه هنا؟!
لم تنتبه له ولا لما يقول، فعاد ليرفع صوته مجدداً:
تسنيم!
انتبهت له، فنهضت وهي تتساءل بتوترٍ ملحوظ:
بتقول حاجة يا بشمهندس!
قال باستغرابٍ:
أنتي مش معايا خالص، في حاجة ولا أيه؟
بارتباكٍ قالت:.

لا آآ، أنا كنت بحضر حاجتي ونازلة.
وحملت الحقيبة ثم توجهت بالمغادرة، لتتوقف خطاها حينما ارتفع صوته الرجولي منادياً:
تسنيم.
توقفت عن المضي قدماً ثم عادت لتقف أمامه، فأشار بعينيه على الهاتف الموضوع على سطح مكتبها، التقطته وهي ترسم بسمة مرتبكة لم تنجح بإقناعه بأنها على ما يرام، غادرت ومازال شبحها يلتهم عينيه، طيفها مازال يلازمه، بداخله شيئاً يؤكد له بأن لها بقلبه شيئاً!

ابتلع الظلام الضوء بجوفه، ليظل ضوئه المرصع هو القائد لتلك الليلة الحاسمة، فانسدل بضوئه الأبيض على أمواج البحر المظلم ومن أمامه جلست رؤى تتأمله بأعين قاتمة تعكس ما يدور بداخلها، شرودها طال لدقائق ومن ثم امتد لساعة كاملة، لم تشعر بها من يراقبها من الأعلى، الفتاة التي يشعلها النشاط والحماس منطفئة كالرماد الباقي من جمرات الشعلة الموقدة، عادت لتشغل تفكير بدر من جديد؛ ولكن تلك المرة مما أصابها، لم يشعر بقدميه التي سلكت الدرج الجانبي حتى بات قريباً منها، يقف لجوارها وبالرغم من ذلك لم تشعر به، فاض به الصمت والترقب فجذبها من معصمها لتقف أمامه فانتفضت بفزعٍ وخاصة حينما صرخ بها باندفاعٍ:.

أنتي أيه حكايتك بالظبط، من ساعة ما رجعتي وأنتي ساكتة مش بتتكلمي، فيكِ أيه؟
نظراتها وألف آه مما تحمله بين دمعاتها اللامعة بأعينها البندقية، صوتها الذي كان يبغضه تمنى سماعه ليتأكد فقط بأنها على قيد الحياة، فحتى الآن مازالت تتطلع له بصمتٍ، أخفضت رؤى نظراتها الياكية لتتعلق بذراعيه المتمسكة بمعصمها بقوةٍ، انتبه بدر لذاته وابعد يديه عنها ليسألها بحدةٍ:
أيه اللي حصلك خسرتي لسانك ولا اتقطع؟

ببسمةٍ تحمل ألم كون بأكمله قالت:
لا خسرت الأهم منه.
منحها نظرة مهتمة، فاردفت بانكسارٍ:
خسرت نفسي.
وتركته وكادت بالرحيل، فجذبها لتقف أمامه مجدداً ليخبرها باستهزاءٍ ساخر:
ومتأثرة ليه انك خسرتيها مش دي كانت رغبتك، أنك تسلمي نفسك لأول شخص تحبيه!

كلماته اللازعة عمقت من جرحها، حاولت التراجع للخلف، الابتعاد عنه وعن ما يفيضه من ألم تحاول العيش قليلاً بدونه، ولكنه حاصرها كلما حاولت الرحيل أو الهرب، فعاد ليسمعها أبشع ما تتغاضاه:
الغريب انك متأثرة جداً، هو مش ده عندكم شيء عادي ولا أنا غلطان؟
انهمرت دموعها، فرددت بصوتٍ مذبوح:
سيب أيدي.
رفض تركها وتعمد الضغط على جرحها بأوسع ما امتلكه فقال:.

لما أفهم انتي مالك بالظبط، شايفك مكسورة وضعيفة ها الانسان اللي كفئتيه بنفسك طلع ما يستاهلش ولا أيه؟!
انهمرت الدموع من عينيها فحاولت دفعه بكل ما امتلكته من قوة وهي تصرخ به:
قولتلك سبني.
ظل متمسك بمعصمها كلما حاولت التحرر، ليستكمل حديثه:
قولتلك مهما حاولتي تتشبهي بينا عمرك ما هتكوني واحدة مننا..
حدقت به لدقائق قبل أن تخبره بثباتٍ رغم انهيار دمعاتها:.

مش عايزة أكون واحدة منكم، فخور أوي بنفسك وبثقافتكم الشرقية اللي أنا كنت ضحيتها، ممكن يكون تفكيري كان غلط لكن لما فوقت فوقت بعد فوات الاوان..
محاولته لفهم ما ترميه على مسمعه مؤلم أكثر مما قد يخيل له، تحررت اصابعه رويداً رويداً حتى صارت حرة طليقة، أما هو فوقف محله يحاول محاربة عقله الذي خمن معاني كلماته، هل من المعقول أنها تعرضت لحادثة إغتصاب مثلما اوحت كلماتها أم انه طعم جديد لتوقعه في شباكها!

الرغبة بالإنتقام عجلت الهدف ليحصل على مبتغاه سريعاً، لذا أنهى أيان اتصاله ليختتمه بقوله الآمر:
النهاردة تنفذي.

لمعت حدقتيه بشرارة مخيفة وهو ينهي مكالماته الهامة مع تقى ثم خرج لشرفة غرفته يراقب البحر الساكن خلسة، وكأنه سيشهد على خطته التي ستستهدف عصب عائلة الدهاشنة، وبالفعل شرعت بالتنفيذ فأرسلت رسالة نصية لروجينا تحثها على الهبوط لليخت القريب من الشاطئ لحاجتها للحديث معها سريعاً، نهضت روجينا عن فراشها وهي تبرطم بضيقٍ:
موضوع أيه ده اللي عايزني فيه وش الفجر ده!

وبحثت عن حذائها لتلتقطه من أسفل فراشها ثم جذبت حجابها لترتديه بنومٍ، ومن ثم ألقت نظرة متفحصة على السرير المجاور لها لتتأكد من أن رؤى يغلبها النعاس، ثم جذبت مئزرها لترتديه على ثيابها، هبطت للأسفل حتى وقفت أمام المياه تراقب اليخوت بحيرةٍ، حتى اهتدت نظراتها على يختٍ قريب من الشاطئ، يحمل نفس المواصفات التي القتها على مسمعها، لم تفكر روجينا كثيراً وصعدت على متنه ثم بدأت برحلة البحث عنها..

أما بالاسفل، وقفت تقى جوار كريم لتشير له بابتسامةٍ خبيثة:
قولتلك هقدر اقنعها انها تديك فرصة وأديك شوفت بنفسك أهو.
أجابها بفرحةٍ:
لسه بحاول استوعب، هروح اتكلم معاها وأقنعها تديني فرصة، أنا بحبها أوي.
كاد بأن يغادر فأمسكت تقى يديه ثم قدمت له زجاجة المياه وهي تستطرد بمكر:
هتسمعك، اشرب بس كده وافهمني.

التقط زجاجة المياه وإرتشف منها والأخرى تراقبه بابتسامة مكر بعدما تجرع ما وضعته من أدوية ذكورية، لتبدأ بالحديث الماكر:
هو أنا لو مش واثقة انك بتحبها كنت ساعدتك، المهم أنت متحاولش تخليها تنزل من اليخت من غير ما تقولها كل اللي عندك، فاهم.
أشار لها بتأكيدٍ، ثم أسرع لليخت، ليشغل محركه ويتجه به لقاع البحر حتى يضمن محاصرتها لتستمع لما يود قوله..

بحثت روجينا عنها بالأسفل، ففزعت حينما شعرت بحركة اليخت، فأسرعت للأعلى وهي تنادي بغضبٍ:
تقى انتي فين الله؟!
تراجعت للخلف بخوفٍ شديد حينما رأته يقف أمامها يقود اليخت لمسافة بعيدة عن الشاطئ، لعقت شفتيها وهي تردد بتوترٍ:
كريم أنت بتعمل أيه هنا؟!
أوقف اليخت بمنتصف المياه ثم اقترب منها وهو يردد بهدوءٍ مخادع:.

دي الطريقة الوحيدة اللي هتسمعيني بيها يا روجينا، أرجوكي ادينا فرصة نتكلم ونسمع بعض صدقيني أنا بحبك أوي.
ارتعش جسدها خوفاً مما يهاجمها بتلك اللحظة بالتحديد ومع ذلك بدت قوية متماسكة وهي تردد بحزمٍ:
مفيش بينا اللي أسمعه يا كريم من فضلك ارجع بينا الشط حالاً، أنا أكيد ركبت اليخت الغلط، لو سمحت رجعني.
مسك يدها وهو يترجاها:
روجينا اسمعيني أنا استحق فرصة، مستعد أسافر الصعيد لابوكي واطلبك منه بس أنتي توافقي.

جذبت يدها زهي تصرخ به:
وأنا مبحبكش ومخطوبة لابن عمي وفرحي أخر الشهر أنت مجنون ولا أيه!
عاونته الحبوب على استحضار شيطان رغباته بتلك اللحظة، فلم يرى سواه، سيطرت عليه طاقة شر لا مثيل لها، فجذبها اليه وهو يردد بفحيحٍ مخيف:
لو مش هتبقي ليا مش هتبقي لغيري.
رددت بخوفٍ:
يعني أيه؟!

إجابة سؤالها طرحت مع محاولته الصريحة بالاعتداء عليها، صرخت حتى يستمع لصوتها أحداً ولكن من الذي سيقدم العون لها بقاع البحر وبذاك الوقت، ابتلعت ريقها الجاف وهي تحاول أن تتفاداه، فركضت للأسفل سريعاً ثم أغلقت باب الغرفة السفلية، وهي تحاول البحث عن هاتف أو ما يمكن استخدامه حتى تنجو بذاتها، شهقت رعباً حينما وجدته يحاول كسر الباب الذي بدى لها هاش للغاية، لن يصمد مطولاً أمام ركلته، فصرخت ببكاءٍ:.

كفايا بقا حرام عليك.
انكسر أخر أمالها حينما تحطم باب الغرفة فوجدته يدنو منها، أمسك كريم بها ثم حرر حجابها محاولاً خلع ملابسها، فنجحت يدها بالوصول للمزهرية الموضوعة على الكومود لتصيبه برأسه باصابةٍ بالغة ومن ثم ركضت لسطح اليخت مجدداً لتصرخ بصوت مرتفع:
الحقووني، حد يلحقني.

لم يستمع لصياحها أحداً ورغم تأكدها من ذلك الا أنها لم تستسلم وحاولت أكثر من مرةٍ عل أحداً يستجيب لها، استغل انشغالها بالصياح وانقض عليها، ليقيد حركتها ومن ثم دفعها أرضاً ليهاجمها من جديدٍ، بكت روجينا وحاولت بكافة السبل الدفاع عن نفسها؛ ولكنه كان يفوقها بقوته الجسمانية، فحاولت خدش وجهه بأظافرها، وصرخت ألماً حينما هوى بصفعاتٍ متتالية على وجهها جعلت رأسها يدور، وأخر ما رأته أمامها هذا الشاب الذي رأته امس، يحيل بينها وبين هذا الوغد، رأته يكيل له اللكمات القاتلة، فحاولت النهوض بالاستناد على حافة اليخت فخانتها يدها لتستقر بأحضان المياه الباردة، تواجه الموت وتحاربه بكل ما امتلكته من رغبة بالنجاة!

كاد عقله بالتوقف عن التفكير في أمرها، مازال يرفض سفرها الغير مبرر دون أن تعلمه بذلك، خرج أحمد لشرفته يستمتع بالهواء النقي بعد آذان الفجر، فتسلل لمسمعه صوت عذب يرتل القرآن الكريم ببراعةٍ، أنصت إليه واتبع مصدره فوجد حور تجلس بشرفة غرفتها المجاورة لشرفته، ترتدي اسدالها الأسود وبين يدها المصحف الشريف تقرأه بصوتٍ مسموع، لا يعلم لما أختار التخبئ ومراقبتها، ليجدها بعد أن انتهت من واردها تحمل الكتب لتذاكر لاختباراتها، استوقفته تلك الفتاة بخصالها الطيبة، تمنى بتلك اللحظة لو كانت هي من ستصبح زوجته، لطالما كان الصديق الوفي لروجينا؛ ولكن الآن بات الامر مختلف فأصبح لا يعلم ما الذي تريده حتى الصداقة بينهما لم تصبح كسابق عهدها.

انتبه أحمد من غفلته ليجدها تقف أمامه لا يفصلهما سوى السور الفاصل بين الشقتين، وتسأله بدهشةٍ:
أحمد أيه اللي مصحيك دلوقتي!
بلل شفتيه بلعابه وهو يحاول التحكم بانفعالاته، فقال:
نفس سؤالي، أيه اللي مقعدك بالجو ده!
ردت عليه بابتسامةٍ أشرقت وجهها:
عندي إمتحان وبذاكر وأنت؟
عبث بخصلات شعره الطويل بحيرةٍ مما سيجيبها، فقال بوجومٍ عابث:
مفيش حسيت نفسي مخنوق فقولت أطلع أشم هوا.
بلهفةٍ واضحة تساءلت:
مخنوق من أيه؟

راق له لهفتها وتعجب لذلك، ولكنه تماسك بقوله المتزن:
مش عارف يمكن لأن أخوكِ عملها وسابني وسافر.
ضحكت وهي تجيبه ساخرة:
أنت فيها ما تسافرله وأهو بالمرة تكون جنب روجينا وتقضوا وقت لطيف.
اكفهرت معالمه حينما ذكرتها، فقال بضيقٍ:
وهي كانت مهتمية بأمري عشان أسافرلها، دي حتى مهتمتش تعرفني بسفرها وأتفاجئت بيه من برة..
شعرت بضيقه الشديد، فقالت بابتسامةٍ هادئة:.

لا والله أكيد كانت فاكرة تقولك بس تلاقيها نست ما أنت عارفها عندها زهايمر.
قال بجفاء:
ممكن.
ثم أشار لها كمحاولة للتهرب من الحديث عما يضايقه:
أنا هدخل أريح شوية قبل ما أنزل المصنع وأنتي ادخلي ذكري جوه الجو برد.
ابتسمت وهي تشير له بالنفي:
لا موعدكش لو دخلت جوه على السرير هنام، هنا الهوا هيفوقني وهيخليني أركز أكتر.
بابتسامةٍ ساحرة قال:
ربنا يعينك.

وتركها وولج للداخل، فبقيت محلها عينيها ساهمة بباب شرفته، ليت هذا الحب الأعمى يبصر بداخل قلوبهما ليريهم كم خفق القلب خلسة للاخر!

عادت حور لمقعدها، لتحاول بائسة التركيز بمذكراتها مجدداً، فمرت الدقائق وهي تدون ملاحظاتها وفجأة وجدت ذاتها تدون بالقلم إسمه على احدى الصفح البيضاء ومن جواره تضع اسمها، مجرد رؤيتها لأسمائهما جوار بعضهما البعض نبت بداخلها ارتباك عظيم وكأنه يقف لجوارها ويتأمل ما تفعله، وازدداد الامر سوءاً حينما انطلق صوته يغرد:
حور.

رفعت رأسها مقابل شرفته، فما أن رأته حتى سقطت الكتب والأقلام أرضاً من فرط ارتباكها، فضحك وهو يردف:
أيه يا بنتي شوفتي شبح ده أنا إنسان عادي!
بصعوبةٍ رسمت ابتسامة وهي تجيبه بتخبطٍ:
لا أنا بس كنت مركزة بالمذاكرة ومخدتش بالي انك واقف!
أومأ برأسه ثم رفع الصينية التي يحملها ليناولها لها، التقطتها منه بتلقائية دون ان تعي ما تحمله، فتساءلت بذهولٍ:
ده أيه؟
حك طرف انفه بتوتر، ثم قال بثباتٍ جاهد التحلي به:.

كنت بعمل لنفسي فطار خفيف كده وكوبية قهوة فقولت أعملك معايا.
ابتسمت وهي تردد على استحياءٍ:
الف شكر يا أحمد، أنا فعلاً كنت جعانه ومكسلة أقوم أعمل حاجة.
رد عليها مازحاً:
حاولي تشبعي من الرومي واللنشون بقا لاني مبعرفش أعمل غيرهم..
وأشار بيديه بمرحٍ:
ومتخديش عليها ها، تشيدي حيلك كده قوام قوام عشان لما تخلصي امتحانات تعمليلنا رز معمر وشوية ورق عنب من اللي بتعمليهم دول.
بسعادةٍ كبيرة أجابته:.

بس كده عيوني، أمتحن بس وهظبطكم.
ابتسم وهو يضيف بجديةٍ:
ربنا يوفقك..
ثم تراجع للخلف ليشير لها على باب الشرفة:
طب هسيبك بقا عشان تركزي.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة ثم عادت لتجلس على المقعد وهي تحتضن الصينية بفرحةٍ تكسو قلبها قبل شفتيها!

أنا مش منبه عليكي يا ماسة تخفي من السفر الكتير عشان اللي في بطنك، انتي بتستغلي اني مسافر برة مصر ومش واقفلك بالمرصاد يعني ولا أيه؟!
يا يحيى افهمني لازم اسافر القاهرة عشان الامتحانات قربت ولازم أنقل شوية محاضرات فايتني..
قولتلك الف مرة متكلمنيش وانتي بتسوقي، لما توصلي كلميني..

مهو انا مش بلحق اكلمك من يوم ما سافرت وانت مش بتفضلي أصلاً معرفش ليه عمي فهد بعتك وأنا على وش ولادة المفروض كان يبعت عبد الرحمن زي ما بيعمل.
والدته تعبانه المرادي مش هيقدر يسيبها، يلا اقفلي نتكلم بعدين.
ترنح لمسمعه صوت شهقاتها ومن ثم صوت صراخها وهي تصيح بألمٍ:
يحيى..
تمزق قلبه حينما سمع من بعدها صوت حطام السيارة ليفقد من بعدها الاتصال نهائياً..
افاق من نومه وهو يردد بفزعٍ:
ماسة!

مرر يديه على عرقه النابض على جبينه، ومن ثم جذب كوب المياه الموضوع على الكومود من جواره ليبلل ريقه الجاف، الحلم بذاك الحادث المؤلم اصبح يلاحقه كاللعنة، فلا يكفيه ما عاناه بتلك الفترة التي فقد بها ابنه وزوجته لا بل تعانده الذكريات لتعهده بتذكره كلما عصف به الألم!

حركت رأسها الثقيل بصعوبةٍ لليسار تارة ولليمين تارة أخرى، أخر ما تذكرته المياه الباردة التي ابتلعت جسدها، وضعت روجينا يدها على جبينها تتحسس الصداع المؤلم الذي يهاجمها، فجاهدت ذاتها بفتح عينيها، لتستقر بجلستها، انتفضت حينما وجدت ذاتها على فراش بغرفةٍ وبدون حجابها، حتى ملابسها لم تكن ذاتها التي ارتدتها بالامس، الافكار التي رسمتها بمخيلاتها بتلك اللحظة كانت كفيلة بجعلها تفعل ما فعلته حينما جذبت السكين الموضوع على طبق الفاكهة القريب من الطاولةٍ، ثم فتحت باب الغرفة وخرجت تبحث عن هذا الحقير الذي نبت بداخلها الرغبة بقتله بالحال، شل جسدها باكمله حينما قيدها أحداً من الخلف فكادت بالصراخ لتجد من يهمس له بصوته الرجولي:.

اهدي.
ومن ثم عاد نفس الصوت ليهمس:
سيبي السكينة وانا هبعد.
هزت رأسها باستسلامٍ فأبعدت السكين عن يدها ليحررها، ابتعدت عنه ثم استدارت لتجد أمامها نفس الشاب الذي رأته ينقذها على متن اليخت، رأته يقف أمامها، لم يكن بأوسع مخيلاتها بإنه نفسه أيان المغازي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة