قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والعشرون

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والعشرون

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والعشرون

صوته الصارم قيد حركة ابنه الذي لم يعتاد سوى على طاعته، نظراته بمثابةٍ إنذار له بالا يرتكب ما يمليه عليه عقله، لم يعتاد على مخالفة أمر حازم نبع من والده، لذا تراجع للخلف ثم وضع المقعد محله بهدوءٍ، كسر فهد تصلب حركته وتقدم بخطواتٍ منتظمة وبطيئة تليق بوقاره المحفوظ حتى بات أمامهما، إتكأ أيان بمعصمه على الأرضيةٍ ثم نهض ليقف أمام أكثر إنسان يبغضه على وجه الكرة الأرضية، تقابلت نظراتهم كصراعٍ قوي غير متكافئ الأوزنة، استطاع به فهد أن يرى حقداً مدفون بحدقتي هذا الشاب الذي يعد من عمر ابنه، فحرر كلماته التي خرجت باتزانٍ وعقلانية لا تليق سوى به:.

اسمع يا ابن المغازي، أني بعدت والدي عنيك المرادي بس المرة الجاية متلومش غير نفسك، بعد عنينا إحنا كيف النار اللي بيقرب منيها بيتحرق وأنت دوقت نارنا قبل اكده..
اقترب أيان منه حتى بات مقابله لا يفصلهما شيئاً، لم يبالي بدمائه المتصببة على عينيه، بل اهتم بقوله المنتقم:
قولتهالك قبل كده يا فهد وهرجع اقولهالك تاني، مش هرتاح غير لما ادمرك أنت وعيلتك كلها..

أثار غضب آسر، فأسرع ليفصل بينه وبين أبيه كالحاجز البشري، ومن ثم رفع معصمه ليضعه على رقبته، ليخبره وعينيه تتحداه في نظراتٍ سافرة:
لو راجل بجد والرجولة ناقحة عليك وريني اخرك..
كاد بأن يحرر ذاته منه، ولكنه تفاجئ بامرأة تراقب ما يحدث بينهما ببكاء شديد، ومن ثم قالت بخوفٍ:
آسر ابني..

ما ان استمع لصوت والدته حتى أخفض يديه عنه، واستدار تجاهها، يعلم جيداً كيف يشكل التار حالة من الرهبة إليها، أسرعت رواية تجاهه لتندث بأحضانه وصوتها يخفق بضعفٍ:
ابني...
انقبض قلب فهد وبات ناقماً على من تسبب ببكائها، فتدخل على الفور حينما واجه أيان قائلاً:
أعلى ما في خيلك اركبه..

منحه ابتسامة غامضة، قبل أن يعدل من جاكيته الغير منظم، فتطلع تجاه آسر بنظرةٍ أخيرة قبل أن يغادر المطعم، وفور مغادرته اتجه فهد تجاه صاحب المطعم الذي أتى سريعاً ليرى حالة الشغب الحادثة بمطعمه، فقال بثباتٍ:
أني بعتذر على سوء التفاهم اللي حصل، ومش عايزك تقلق أني هتكفل بكل الخساير اللي حصلت بالمكان...

لخص الرجل مظهره الآنيق وطريقته اللبقة بالحديث بكونه رجلاً من كبار عائلات الصعيد، فيكفيه اعترافه بالخطأ وتحمل نتائجه، لذا بصدرٍ رحب قال:
ولا يهم حضرتك المهم ان الامور اتحلت.
أخرج فهد من جيب جلبابه الأسود، دفتر شيكاته ثم دون مبلغ ضخماً، وقدمه للرجل:
الحمد لله اتحلت...
وتركه واتجه تجاه زوجته وابنه، فسُلطت نظراته عليه ليشير له بغموضٍ:
خد الوكل وروح لنسايبك، ميصحش تسيبهم اكده..

بدى حائراً من تصرف أبيه، وكأن شيئاً لم يكن بالنسبة اليه، ولكنه بالنهاية لديه كل الحق، فحمل الحقائب ثم اتجه لسيارته، تاركاً والدته في مواجهة أبيه...
بالخارج..
كانت زوجة خالها تشعر بالحر الشديد، لذا فتحت نافذة السيارة، فانتبهت لمن لا يغفل عنه أحداً، فجذبت ذراع شقيقة زوجها وهي تتساءل بذهولٍ:
مش ده أيان المغازي؟
تطلعت فاطمه و تسنيم للخارج، فانعقدت ملامحهما بذهولٍ، فقالت فاطمة بقلقٍ:.

بيعمل أيه هنا، يا خبر ليكونوا اتخانقوا جوه عشان اكده الكبير نزل هو ومرته على جوه..
انتباتها عاصفة من القلق، غزت جسدها لتشعر بربكةٍ تضرب أسوارها لمجرد تخيل السوء به، ففتحت باب السيارة وهي تهم بالنهوض قائلة:
هنزل أشوف في أيه وهجي.

وصعدت الدرج القصير المودي لباب المطعم المتحرك القصير، دفعته بيدها فلامست أحداهما دون رؤيا منها، مرت هي الأخرى فوجدت يدها تستند على صدره وبالأخص موضع قلبه، ارتعشت أصابعها حينما شعرت بنبضات قلبه أسفل أصابعها، وعينيها لا تفارق لقاء عينيه التائهة بخضرة عينيها.

ثوانٍ، دقائق، لا يعلم كم من الوقت بات متصنماً كالأبله أمامها، يشعر وكأن لمسة يدها تلك تخفف عنه حدة ما تعرض له منذ قليل من مشاحنةٍ قاسية، شعر وكأن بملمس يدها شفاء يجاهله، كأنها تنفذ لقلبه دون وسيط، التقطت عينيها بقعة الدماء على يديه فعادت لأرض واقعها مفزوعة مما رأته، فتمسكت بيديه وهي تسأله بلهفةٍ:
أنت بتنزف!
تطلعت إليه حينما وجدته مازال شارداً، فصاحت بإسمه بخوفٍ:
آسر..

أغلق عينيه بابتسامةٍ منحته وسامة خاصة به، سماع إسمه دون ألقاب تسبقه أسعده كثيراً، فتطلع لها مطولاً بنظراتٍ مستمتعة برؤية قلقها الساكن بعينيها قبل أن يسكن تعابيرها، صمته جعلها تخمن بوجعه الشديد أو ربما تعرض لشيءٍ سيء، فتدفقت دموعها على وجنتها وكأنها بذلك سكبت عليه المياه الباردة التي أعادته لواقعه، فردد بتلهفٍ:
تسنيم!
ثم أسرع باطمئنانها:
أنا كويس، ده مجرد خدش بسيط.

رمقته بنظرةٍ معاتبة لصمته الذي جلدها، وجعلها تخمن تخمينات أسوء من بعضها لما حدث معها، لكزته بقوةٍ على صدره ثم استدارت لتعود للسيارة فتوقفت عن الحركة حينما جذبها من معصمها لتقف مقابله من جديدٍ، أخفضت وجهها للأرض لتتهرب منه، فما حدث مخجل للغاية، ملامستها صدره ويديه، نظراتها البلهاء تجاهه، بكائها خوفاً عليه، عشقها دفع مشاعرها لتصبح كالكتاب المفتوح أمامه، ودت لو امتلكت جرأة مشابهة لتلك حتى تتطلع اليه مجدداً، علها تلامس ذاك الدفء من نظراته، وجدته يقترب منها قليلاً ليهمس بصوته الرجولي الرخيم:.

بتخبي اللي شايفه في عيونك مني ليه يا تسنيم؟
تطلعت اليه باستغرابٍ لما يقصده بعينيها، فتساءلت:
أيه اللي في عنيا؟
رسم بسمة ساحرة على طرفي شفتيه وهو يجيبها:
لهفة وحب وخوف، أحاسيس كتيرة وصلتني من نظراتك ولمسة أيدك.
ارتبكت للغاية، فبللت شفتيها بارتباكٍ، وكمحاولة للتهرب منه عدلت طرف حجابها الطويل على كتفيها، ثم قالت:
هروح أشوف ماما ومرات خالي..

قاطعهما النادل الذي خرج اليهما حاملاً عدة حقائب، ليشير لآسر قائلاً:
الاوردر جاهز يا فندم..
قال وهو يدنو منه ليحمل عنه أكياس الطعام والمشروبات:
طب ساعديني طيب ده أنا مجروح وبنزف!
كبتت ضحكاتها وهي ترى غمزته المشاكسة، وبالرغم من ذلك الا أنها اقتربت منه لتحمل عنه بعض الأكياس، ثم قالت ساخرة:
أحسن كده ولا أشيل باقي الاكياس..
رفع كتفيه بغرورٍ:
عيب عليكي ده احنا رجالة صعايدة وبنفهم في الواجب..

ضحكت بصوتٍ أثلج صدره، فأشار لها بتتبعه، هبط الدرج ولجوارها كان يهبط عدد من الشباب بعدما انتهوا من تناول طعامهما، فأسرع آسر ليفصل بينها وبينهما، لوهلة كفت عن استكمال الدرج وتأملته باسمة، شعرت بأنها أصبحت تمتلك حامي لا يقصر أبداً بحمايتها حتى في أتفه المواقف، وصل للسيارة، فاندهشت حينما وجدت والدتها تجلس بالخلف جوار زوجة خالها، وبضحكة خبيثة قالت:.

خليكي انتي قدام يا تسنيم، لحسن انا مرتحتش في القعدة قدام..
تلقائياً انتقلت نظراتها اليه، فوجدته يبتسم لها بمكرٍ، ومن ثم ناولهما الطعام قبل أن يصعد للسيارة، فتحرك بهما سريعاً لاستكمال الطريق، فتسائلت فاطمة بدهشةٍ:
امال فين الكبير والست رواية..
اجابها بابتسامة جعلها طبيعية حتى لا ينشغل بالهما كثيراً:
شوية وهيحصلونا..
اومأت برأسها، ثم تطلعت تجاه ابنتها لتشير اليها قائلة:.

افتحي الاكل لعريسك يا بنتي زمانه جاع..
ببسمةٍ ماكرة قال:
حاسة بيا يا حماتي..
ثم تطلع تجاه تسنيم ليشير لها بعينيه على جرح يديه، وبمكرٍ همس بصوتٍ منخفض:
مجروح وكده..
منحته نظرة مغتاظة قبل أن تحرر غطاء كرتون البيتزا، ومن ثم التقطت احدى القطع لتضعه على المقعد الصغير الفاصل بينهما، رفعها آسر لفمه وهو يغلق عينيه بتلذذٍ اتبعه قوله المشاكس:.

هتعود أكل من ايدك على طول، البيتزا دي طول عمري بطلبها من نفس المطعم ده بس عمرها ما كانت بالحلاوة دي..
ابتسمت بخجلٍ ثم الهت ذاتها بالنظر من باب السيارة، فتتبعتها عينيه ولم تترك لها حرية البعد حتى وان كانت قريبة وعلى بعدٍ منه!

بالداخل
ما أن تأكدت من رحيل آسر حتى أسرعت رواية بخطاها حتى أصبحت مقابل زوجها، فمسحت دمعاتها العالقة بأهدابها قائلة بتلعثمٍ:
ابني بره كل ده يا فهد، أنا قولتلك قبل كده خرجه من اللعبة دي..
أغلق عينيه يجاهد صداع رأسه الذي سيطرق بابه بعد قليل مما سيحدث الآن، فقال بهدوءٍ زائف:.

أنا بعده عن أي حاجة يا رواية وأنتي عارفة كده كويس، كان ممكن أعيد الغلطة اللي عملتها قبل كده وأنا بأخد تار أبويا وتبقى بحور دم بس انا اتراجعت وحسبتها بالعقل، تاري ممكن أخده من غير نقطة دم ممكن تأذي ابني بعد كده، وده اللي بعمله بس للاسف الولد ده مش ناوي يجبها لبر، ولازم يتحطله حد وفي أقرب وقت...
انهمرت دمعاتها الساخنة على وجهها، فأصابته في مقتل، فأمسك يدها ثم همس لها بحنانٍ:.

حبيبتي خليكي واثقة فيا أنا مستحيل اسيب الكلب ده يأذي ابننا، حتى لو التمن كان روحي..
رفعت وجهها تجاهه، ثم رفعت كفة يدها الأخرى لتتمسك بيديه، وببكاء تمهل بحديثها المرتجف قالت:
ليه حاطط في حساباتك انه ممكن يأذي آسر، فكر كمان في روجينا، لازم نحميهم الاتنين منه يا فهد..
رفع يدها اليه ليطبع قبلة رقيقة، قبل أن يجيبها بابتسامةٍ صافية:.

ولادي الاتنين وانتي في عنيا وجوه قلبي يا رواية، وأي كلب من دول هيقربلكم لازم يعدي على جثتي الاول..
وضعت يدها على فمه بغضبٍ:
أيه اللي بتقوله ده بعد الشر عليك..
استغل الفرصة مرة أخرى فطبع قبلة أخرى، ثم غمز لها وهو يردد بصوتٍ منخفض:
طيب مش يالا بقا، لحسن كده هيبة الصعيدي هتروح سابع دولة لو لقوني بتكلم زيهم وأحسن منهم كده ولا أيه؟

نجح في رسم الابتسامة على وجهها، فعدلت من حقيبتها على كتفيها ثم مسحت وجهها جيداً، لتتحرك تجاه باب الخروج:
يالا...
حرك يديه ليعدل من جلبابه ووشاحه الاسود الضخم المتدلي من خلفه، ليلحق بها بالخارج، فاستقبله السائق بفتح باب السيارة...

أعدت نادين الكثير من أصناف الطعام الشهي على الغداء بمساعدة حور و تالين، فاليوم ستجتمع افراد العائلة بعد غياب، انتهت نادين من سكب أكواب العصائر ثم استدارت تجاه ابنتها التي تعد السلطات بأنواعها، قائلة:
روحي يا حور أسالي اخوكي وقوليله قربوا يوصلوا ولا أيه؟

جففت يدها ثم ارتدت حجابها المنسدل حول رقبتها، متجهة للشقة المقابلة لهم، طرقت عدة مرات، وبالرغم من أن الباب كان نصف مفتوح لم ترغب في الولوج قبل أن تطرق مرات متعددة، وحينما لم تنتظر رداً ولجت للداخل وهي تنادي بتوترٍ:
بدر، بدر..

لم يأتيها رده، فاتجهت لغرفته ثم حاولت فتح بابها ولكنه كان موصود من الداخل، تعجبت للغاية من اغلاقه للباب بالمفتاح، فاتجهت لغرفة أحمد بقلقٍ من أن يكون أخيها بسوءٍ، وجدت باب غرفته مفتوح على مصرعيه، لتراه أمامها يؤدي صلاته بخشوعٍ تام، وصوت في الترتيلٍ سحرها لدرجةٍ جعلتها تجلس على مقربةٍ منه لتسمع صوته الخاشع في تلاوة القرآن الكريم، وبعد أن انتهى من صلاته نهض يثني سجادته وهو يتطلع اليها بابتسامةٍ مرحة:.

إنسيه لما بينام بيبقى شبه المقتول بالظبط، لو عايزاه في حاجة مهمة وكده ممكن أجازف واعديله من البلكونة ورزقي ورزقك على الله..
شرودها بها لم يجعلها تستمع لما قاله، فخرجت كلماتها تلقائياً دون حساب منها:
صوتك جميل أوي يا أحمد ما شاء الله، أول مرة اعرف انك صوتك حلو في قراية القرآن.
ابتسم على مدحها الرقيق، ثم قال:
مش أوي كده، احنا على قدنا..
ضحكت وهي تجيبه:
متخفش انا مش حسادة بس برضه صوتك حلو..

ضحك هو الأخير ثم قال:
ماشي يا ستي متشكرين، المهم هنأكل ايه النهاردة لحسن انا واقع!
قالت بحماسٍ سبقها بالحديث فلم يضع لها حداً:
عملتلك طاجن ورق عنب بالكوارع انما ايه عجب..
تطلع لها بفرحةٍ:
ايه ده بجد!
هزت رأسها، فوضع سجادة الصلاة على الاريكة القريبة منه ثم قال مازحاً:
أنا خسيت النص من بعد ما تعبتي، محدش بيفتكرني بأي صابع كفتة تايه حتى...
تعالت ضحكاتها على مزحته، فانتفضت بوقفتها وهي تردد بتذكرٍ:.

يا خبر دي ماما هتولع فيا، كانت قايلالي اخلي بدر يشوفوهم بقوا فين وانا بحاول من ساعتها اصحيه مش عارفة.
أخرج هاتفه من جيب بنطاله وهو يردف بابتسامة عذباء:
اهدي بس كده ولا هتقتلك ولا هيحصل حاجة، هجبلك أرارهم وحالاً..
ابتسمت وهي تردد بامتنانٍ:
تسلم يا أحمد..
منحها نظرة هادئة قبل أن يحرر زر الاتصال، ليأتيه صوت آسر، فقال الاخير:
فينك يا ديزل!، كل ده في الطريق!
أتاه صوت الساكن بغيمة عشقه المجاور له:.

لا خلاص يا أحمد دقايق وداخلين عليكم ان شاء الله
=توصل بالسلامة أنت واللي معاك، أنا هستناك تحت..
تمام يابو حميد، سلام
وأغلق الهاتف ثم أشار لها قائلاً:
على وصول يا حور..
همت بالخروج قائلة بابتسامة رقيقة:
الحق اكمل السلطة قبل ما يوصلوا..
ابتسم وهو يجذب مفاتيحه ثم قال:
وأنا هنزل استناهم تحت..

وأغلق باب الشقة ثم هبط للاسفل وعينيه تراقبها وهي تدنو من باب الشقة المجاورة، حتى اختفت تماماً من أمامه، فاستكمل طريقه للاسفل بابتسامةٍ مرسومة على وجهه رغماً عنه..

بغرفة روجينا
زفرت بتأففٍ حينما حاولت الاتصال به للمرة التي تعدت الخمسة عشر مرة ولم ياتيها رده، بات القلق يستحوذ عليها بشكلٍ كبير، فأرسلت اليه رسالة مسجلة والحزن والقلق كفيل بجعل صوتها مرتعش كالرعد الذي يضرب القمر فيجعله يرتعد خوفاً:.

أيان أنت فين من الصبح بكلمك مش بترد عليا، أنت زعلان مني في حاجة، يمكن أكون عملت حاجة تزعلك وأنا مخدتش بالي، أرجوك رد عليا أنا قلقانه عليك، آآ، أنت وحشتني أوي، مشفتكش امبارح ولا النهاردة، أرجوك حاول تطمني عليك، أنا حاسة اني هيجرالي حاجة من كتر تفكيري بيك.

على الجانب الأخر..

فتح هاتفه ومن ثم فتح الريكورد المسجل وعينيه منصوبة على الطريق بنظراتٍ خالية من الحياة، مازال يتذكر مواجهته بألد عدو له، كان يقف أمامه ويتحدث إليه وتركه دون أن ينتهي منه، لكم مقود السيارة بغضبٍ كفيل بجعل السيارة تنقلب في حادث مزري تجاه عصبيته الدامية، ولكن لولا مهاراته بالقيادة لانقلبت به بالفعل، استمع أيان لصوتها الباكي فشعر بوهلة بتخبطٍ بمشاعره، ما بين الفرحة والغرور بأنه سيقتص منهما قريباً، وما بين التوتر والارتباك من شعوره بشيءٍ حاد يخترق قلبه لسماع صوتها الباكي، ثمة شيئاً غريباً يلامس قلبه حينما يستمع لصوتها، والأغرب من ذلك مشاعره التي تتحرك حينما تكون معه وبين يديه، ظنها بالبداية غريزته الذكورية هي من تحركه تجاهها ولكن بات الأمر الآن غير مفهوماً بالنسبة اليه، فأغلق الهاتف في تحدٍ لذاته بأنه لم يتغير، بل هو مثلما كان عليه، حتى انه لن يهتم برسالتها مثلما كان يفعل سابقاً، فبات طريقه للصعيد بمثابةٍ حرب غير منصفة له ما بين الاتصال بها والثبات باتزانه الرزين!

وصلت سيارة آسر أولاً، ليجد أحمد وعمه سليم باستقبالهم، حتى حور اسرعت للاسفل، لتضم رفيقتها بشوقٍ وترحاب تشاركت به نادين التي رحبت بزوجة خالها ووالدتها، واستقبلتهما أفضل استقبال، ومن بعدهما لحقت بهما سيارة فهد، فهبط منها ليسرع احمد باحتضانه، ربت على ظهره بحنانٍ وهو يردد:
اتوحشتني يا ولدي، كيف أحوالك!
أجابه بابتسامةٍ متسعة:
بخير يا عمي..
ثم اشار له بالصعود:
اتفضل..

صعدوا جميعاً للأعلى فجلسوا بالردهة المطولة، لتستقبلهما تالين بالمشروبات الباردة، ومن ثم اسرعت تجاه عمتها لتحتضنها بشوقٍ:
وحشتيني أوووي يا عمتو، كان نفسي اشوفك..
احتضنتها الاخيرة بقوةٍ ثم قالت:
حبيبة قلبي وانتي كمان والله وحشتيني انتي ورؤى..
وتساءلت باستغرابٍ:
هي فين؟
قالت ويدها تشير على غرفتها:
جوه هي وبابا..
انعقد حاجبها بذهولٍ:
هو خالد نزل من السفر!
هزت برأسها بنعم، فتساءلت بدهشةٍ:
أمته ده وازاي ميقوليش!

تطلع لها فهد بإشارة فهمتها رغم عدم استيعابها ما يحدث، التقطت اذنيها صوت صغيرتها المنطلق بفرحةٍ:
حمدلله على سلامتك يا بابا..
ابتسم فهد وهو يتطلع لها، فترك العصا عن يديه ثم أشار لها بأن تسرع لاحضانه، وبالفعل هرولت ليحتضنها باشتياقٍ تتبعه قوله المعاتب:
كده متساليش عن أبوكي طول الفترة اللي فاتت دي، حتى الاجازات اللي بتاخديها مبقتيش تنزلي فيهم البلد، شكل عيشتك هنا عجبتك يا روجين..

ابتعدت عن احضانه وهي تجيبه بدلالٍ:
حضرتك عارف اني بكره الجو في الصعيد، هنا بكون مرتاحة أكتر..
ربت على رأسها بحنان:
وأنا مبحملش غير اللي يريحك يا روح قلبي المهم تكوني مبسوطة..
ابتسمت بفرحةٍ وهي تستند على صدره:
حبيبي يا بابا ربنا ما يحرمني منك يارب..
ضمها اليها ببسمةٍ صغيرة، تلاشت حينما وجد الدموع تلألأ بعين زوجته، فأبعد ابنته عنه ثم قال ويديه تحتضن رأسها:
مش هتسلمي يا ماما ولا أيه؟

انقلبت تعابيرها للضيق، وبالرغم من ذلك حاولت ان تبدو ثابتة حتى بقولها:
لا هسلم.
ونهضت لتقترب منها ثم قالت بجمودٍ:
ازيك يا ماما عاملة ايه..
نهضت رواية عن مقعدها وان كانت لم تقدم ابنتها على احتضانها فاقدمت هي، ضمتها لصدرها بوجعٍ وشوق يتلحمان بمعركةٍ قاسية، ثم همست لها بدموعٍ:.

كده يا روجين، أهون عليكي تسيبني كل ده من غير ما حتي ترفعي عليا سماعة التليفون، حتى مكالماتي مش بتردي عليها غير كل فين وفين طيب ليه يا بنتي!
ابتعدت عنها ثم قالت بابتسامة زائفة:
معلشي يا ماما انتي عارفة اني من فترة كنت بمتحن وانشغلت بالمذاكرة حقك عليا..
ربتت على كتفيها بحبٍ:
ولا يهمك يا حبيبتي المهم انك تبقي بخير دايماً.

حاولت رسم ابتسامة اخرى والدموع تكبتها داخل عينيها، فمن سيصدق ان رواية كانت الاقرب دوماً لروجينا ولكن الآن باتت الامور معقدة بفضل اصدقاء السوء وعلى رأسهم تقى التي سمحت لهما روجينا بالتدخل بحياتها، فسيطروا عليها سيطرة كاملة ليقتلوا بها كل زرع طيب زرعته رواية بداخلها، فباتت مهيئة لاستقبال ذاك الشيطان الذي ارسل لها اتباعه بالبداية ليمهدوا له طريق للدخول، وها هو الآن يستحوذ عليها قلبا وقالباً..

انتبهت روجينا من غفلتها على يد آسر التي تحيط كتفيها، ليشاكسها بمزحٍ:
مستانية الأذن عشان تسلمي عليا ولا مستانية الكبير اللي يجي ويسلم على الصغير..
قالت بابتسامة مشرقة:
لا وانت الصادق بفضيلك دور خصوصي عشان أسلم وأبارك وأعين..
جذبها لاحضانه ثم استدار بها للخلف، ليهمس جوار اذنيها وعينيه على تسنيم الجالسة جوار حور وتالين تتبادل الحديث معهم بانشغال:
عيني براحتك، هاا..
ضحكت وهي تهمس له بالصعيدي:.

عينت قبل سابق ياخوي، مهي تبقى صاحبة حور الروح بالروح بس برضك الاحتياط واجب ولازمن نعينوا تاني وتالت ورابع ولا أنت رأيك أيه!
هوى على جبهتها بضربةٍ خفيفة وهو يستفزها بالحديث:
من رأيي انك تقعدي جنب خطيبك وتقيميه هو أفضل..

انقلبت معالمها فور دفعه لها برفقٍ لتجلس على مسافةٍ من أحمد، فارتبكت للغاية وانتفض جسدها بتوترٍ غير محبب، وبالرغم من حلقة المزح بينه وبين اخيها الا انها لم تفكر الا باختيار مكان اخر تجلس به بعيداً عنه..
انضم لهما خالد بعدما خرج من غرفة ابنته، فاسرعت اليه راوية لتحتضنه بدموعٍ وشوق، ثم قالت بعتاب:
كده يا خالد تنزل من السفر واختك أخر من يعلم..
أجابها بصوتٍ مشحون بالهموم الموجوعة:.

غصب عني والله يا رواية، مكنتش فايق لاي حاجه خالص.
تساءلت بقلقٍ:
ليه حصل أيه؟
تفحص اوجه الجميع ثم قال:
لما نبقى لوحدينا هحكيلك..
ثم تركها وتبادل السلام الحار مع فهد الذي ما أن رأى اشارة منتظرة من وجه بدر الذي ولج من الخارج لتو، حتى همس لخالد قائلاً:
اللي قولتلك عليه حصل..
ابتعد عنه وهو يتطلع له بصدمةٍ من سرعته في تلبية ما قاله، فاسرع بالحديث الغاضب:
خدني ليه عايز اشفي غليلي..

أمسك يديه وهو يحثه على الجلوس قائلاً:
أعقل، أنا ما صدقت اعقل بدر، هناخد حقنا منه بس بالعقل..
ثم رفع عينيه تجاه بدر ليشير اليه بهدوءٍ، فتابعهما خالد بعدم فهم، وخاصة حينما ولج بدر لغرفة ابنته، فنقل نظراته لسليم الذي قال بحزمٍ:
بعد ما الضيوف ياخدوا واجبهم هنروح للمصنع وتشفي غليلك منه..
هز رأسه بتفهمٍ، ثم قال:
طيب وبنتي..
أجابه فهد بغموض:
هي اللي هتختار بنفسها حياتها..
تساءل بعدم فهم:
ازاي!
قال بايجازٍ:.

سيبها لبدر هو عارف هيعمل ايه بالظبط..
ثم أشار لهما قائلاً:
يلا الأكل اتحط..
ونهضوا جميعاً ليجتمعوا على المائدة الضخمة التي اعدتها حور ونادين لاستقبالهم بما لذ وطاب..

بغرفة رؤى..
طرق بابها قبل أن يدلف للداخل، فسكن الحزن تعابير وجهه باجتيازٍ حينما وجدها ساكنة على فراشها، كأنها تستسلم للموت الذي بات الاقرب اليها وأسمى امنياتها، شرودها وبكائها الدائم جعلها بدوامة بعيدةٍ حتى انها لم تشعر بمن يقف أمامها، انحنى حتى جثى على ركبتيه أمام فراشها، ثم نادها بصوته العذب:
رؤى..

رفعت عينيها تجاهه، فكانت حجتها لزهق تلك الدمعات العالقة، لم يتردد في مسح ما يؤلمها فازاح دمعاتها بعيداً عنها، ثم عاونها على الاستقامة بالجلوس على الفراش، ليسألها بنبرة ختمت بوجع سكن كلماته كالشبح:
ليه عاملة في نفسك كده، مطلعتيش ليه تقعدي معانا بره؟
بابتسامة باهتة يتبعها دمعة خائنة قالت:
أطلع فين يا بدر، أنا مش قادرة ارفع عيني في عين حد..
وببكاءٍ مرير قالت:
أنا خلاص اتكسرت وكبريائي كمان انكسر معايا..

جز على شفتيه يحتمل وجع قلبه الباكي عليها، فرفع كفة يديه يطوف به وجهها، ثم أجبرها باصابعه بأن تتطلع اليه، ليردد بهيامٍ تزين بالعشق:
ما عاش ولا كان اللي يكسرك وأنا عايش وعلى وش الدنيا، ياريت الوجع اللي جواكي ده يتنقل كله فيا وأرجع أشوف ابتسامتك وشغفك بالحياة تاني يا رؤى، بعدك عني مكنش عقاب أد ما حزنك ده أقسى عقاب ليا...

ثم زفر عدة مرات وهو يحاول التحكم بذاته، وبالفعل تمكن، فنهض ليجذبها عنوة لتقف أمامه وتنصت اليه حينما قال بصلابةٍ اكتسبها فجأة:
بس خلاص جيه الوقت اللي أشيل كل اللي جواكي ده وبأيدك يا رؤى..
لم تفهم مغزى حديثه جيداً، فقالت بدهشةٍ:
تقصد أيه؟
أمسك يدها واجبرها على ان تلحقه للخارج وهو يردد بثقةٍ:
هتعرفي دلوقتي...

وخرج بها للاسفل مستغلاً انشغال الجميع بغرفة الضيافة، ومن ثم صعد بها لسيارته التي تحركت تجاه المخازن الخاصة بتوريد المصنع، توقفت سيارته أمامها فهبط ثم أشار لها قائلاً:
انزلي..
طوفت المكان بنظرة خوف، ثم قالت:
ليه!

لف اليها، ثم فتح بابها ليشير لها بالهبوط، فتتبعته بالاسفل، ومن ثم اتبعته فسلك شارع رفيع يفصل المصنع عن ذاك المخزن، فوجدت رجلين باجساد كالدبابات المدرعة يقفون أمام باب حديدي يفتح من الاعلى، وفور رؤياهما لبدر قال احداهما:
الامانة مشرفة جوه من بدري يا بشمهندس، لو تحب نخلصوا منها احنا أي خدمة..
أشار له بحزمٍ:
لا محدش يتعامل معاه بدون أذن مني...
ثم قال بصرامةٍ:
افتح الباب..

دوي صوت الباب جعلها تتمسك به بخوفٍ، فما ان ولجت للداخل حتى سألته برعبٍ:
أنت جايبني هنا ليه يا بدر!
وجدت نظراته قاتمة مخيفة، تتجه خلفها بثباتٍ قاتل، فاستدارت للخلف لتتفاجئ بأخر شخص تتوقع رؤياه، وجدته مقيد ووجهه ينزف دماءٍ لا مثيل لها، فقالت بصدمةٍ:
أنت!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة