قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والعشرون

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والعشرون

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والعشرون

حيرة، ارتباكٍ، حسرة، غضب، خوف، كل تلك المشاعر اجتاحتها مرة واحدة حينما رأت أمامها مغتصبها، الذي نزع بيديه أحلامها رغماً عنها، كان لقاءٍ غير مستحب لها، فتراجعت للخلف بخوفٍ، ازداد حينما لامس جسدها شيئاً صلب خلفها، استدارت لترى ماذا هناك؟، فوجدت بدر يقف خلفها كالدرع المنيع، تلقائياً اتجهت عينيها تجاه الباب الذي يغلق من الخارج، فهرعت تجاهه وهي تصيح بانفعالٍ جنوني:
لا إفتحوا الباب...

أسرع بدر تجاهها ثم جذبها إليه وهو يخبرها بهدوءٍ:
إهدي، أنا جانبك..
وكأنها لم تستمع إليه من فرط خوفها، فعادت لتهمس بتوترٍ:
أنا عايزة أخرج من هنا..
شدد من ضغطه على يدها، وكأنه يبث لها الأمان:
وحقك!، مش هتعاقبي البني آدم القذر ده..
هزت رأسها بالنفي وهي تردد بهستريةٍ:
لا مش قادرة اشوف وشه..
عند هذا الحد انطلقت ضحكات ذاك السفيه ساخراً من سماعه لحوارهما المتبادل، فقال باستهزاءٍ:.

كيف ستنتقم وما حدث بيننا كان يروق لها، أليس كذلك رؤى؟
اشتعلت مقلتيها غضباً، فأسرعت تجاهه وهي تصرخ به بعصبيةٍ:
كداب وحيوان..
ضحك وهو يجيبها ساخراً:
بربك يا فتاة، لقد منحتك ما فشل به حبيبك السابق الا أستحق بعض الإحترام!

لعب على سرها الذي أئتمنته عليه منذ بداية علاقتهما، وزعت رؤى نظراتها المحتقنة بينه وبين بدر، فوجدته يتطلع تجاهه بنظرةٍ ملأها الشر والغضب ليجعله مخيفاً بكل ما تحمله معنى الكلمة، فتحرك ليقف مقابله دقائق إستقبلهما بسكونٍ عجيب كما يقال ما سكون ما قبل العاصفة الرعدية، وفجأة انهال على فكيه بلكمةٍ جعلت الدماء ترتد بشراشةٍ على وجهه، ومن ثم ركله أسفل بطنه ليتأوه ألماً، فمسك شعره بين يديه ليجبره على التطلع إليه، يرى بذاته قبره المفترش بالجحيم بعينيه، وليستمع صوته المقبض:.

قعدتك هناك نسيتك شهامة وجدعنة العرب اللي انت للاسف منهم، بس عشان أبقى كريم معاك وواجب الضيافة المعتبر يوصلك هترجملك...
وإنخفض لمستواه وهو يثقل من نطق كلماته القاسية:
كنت أتمنى أن ألقنك درساً لن تتمكن حينها من التطلع لأي فتاة، ولكني إخترت لك الأفضل..
وختم قوله ببسمةٍ شيطانية:
سأرسلك برحلةٍ سريعة لجهنم..

إبتلع ريقه بصعوبةٍ بالغة، حينما استمع لما تفوه به بدر، وإزداد خوفه حينما وجده يخرج من جيب جاكيته السلاح ليسلطه على رأسه، وكاد بأن يحرر رصاصته ولكنه توقف فور سماع صوت آسر الصارخ به بعدما ولج للداخل بصحبة أبيه وخاله:
بدر!

تحررت يديه عن الضغط المستمر على الزناد ثم استدار ليكون في مقابله، فأسرع تجاهه آسر، ثم التقط منه السلاح ليضعه على الخشب المسطوح بجانب احد الحوائط، ليستدير بجسده تجاهه وهو يعنفه بشدةٍ:
قولتلك الف مرة حاول تتحكم في أعصابك!
تنحى بدر جانباً إحتراماً لعمه الذي اقترب ليصبح مقابل هذا الخسيس، فرفع عصاه ليلكزه بصدره بقوةٍ وصوته يزلزل الأرجاء:
وقعت مع ناس مبيرحموش وخصوصاً اللي بيجي جنب حريمهم..

سال لعابه من فرط الخوف لهيبة هذا الرجل الذي بدى له من ملابسه بأنه من الصعيد، حاول خالد تخطي فهد لينال من هذا الوغد، ولكنه تراجع حينما منحه فهد نظرة تحذير واضحة، ثم رفع صوته تجاه من تقف وتراقب ما يحدث من على بعد مسافة آمنة لها:
تعالي يا بتي..
استحضرت ذاتها المغيبة ثم إقتربت مسافة طويلة لتصبح جوار فهد، فلف يديه حول كتفيها ثم قال:
مش عايز حد إهنه، اخرجوا كلتكم بره..

تعجب خالد من طلبه ولكنه على علم بأن الكبير يمتلك من الذكاء والحكمة ما يحيل ذاك الامر بطرفة عين، لذا خرجوا جميعاً للخارج وتبقت رؤى بمفردها معه هو وذاك الأرعن، بدت نظراتها مهتمة لسماع ما يود فهد قوله، وبالفعل ما هي الا دقائق من الصمت معدودة حتى بدأ بالحديث الصارم:.

اسمعي يا بتي، أنا خابر زين ان اللي حصل ده كان غصب عنك، بس اللي أني مش قادر استوعبه لحد دلوقت علاقتك بإنسان قذر زي ده، فجيه في بالي انك كنتي بتحبيه عشان اكده استغل الفرصة انه يعمل عملته، واني مش حابب انك تكوني مصغوطة في اختيارك لولدي...
قوست عينيها بنظرةٍ حائرة، تحاول فهم مغزى حديثه الغامض، فبسط فهد حديثه بلهجتها:.

قصدي من كلامي ده كله إنك لو بتحبي الكلب ده فأحنا نقدر نربيه كويس ونخليه يتجوزك على سنة الله ورسوله عشان متحسيش أن بدر ابني فرض نفسه عليكي، إنما بقا لو بتحبي بدر فهنا الكلام هيفرق...
ردت على الفور دون حتي أن تتمهل للتفكير: .
أنا محبتش في حياتي غير بدر..

ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجهه، فقد حصل على ما يريده، كان يخشى أن تتزوج بابن اخيه لتتخطى ما حدث لها، وحينها ستشعر بأنها انجبرت على ذلك، وربما ستسوء الامور فيما بينهما بعد الزواج، أما الآن فبات على ثقة تامة باقتناعها بالزواج الذي سيتم بعد الغد، سمح فهد لهما بالدخول بعدما حصل على ما يريد، فجلس على المقعد المتهالك القريب من باب الخروج، ثم أشار بعينيه لآسر، الذي اقترب منه هو ورجاله، فأمرهم قائلاً:.

فكوه...
انصعوا لأمره، وحلوا وثاقه فثار بدر غاضباً:
هتسبوه بالبساطة دي يا عمي!

منحه فهد نظرة تعمقت بمعانيها، وأسماها أن ينتظر ويرى بذاته ما سيفعله آسر، فراقبهما باهتمامٍ، ليجد آسر يخرج من حقيبته جهاز الحاسوب الخاص به ثم وضعه على الطاولة التي وضعت أمام المقعد الذي جلس عليه لتو، فأجبره على فتح حساباته من ذاك الحاسوب ومن ثم حذف جميع الفيديوهات التي وضعها بيديه، وما أن انتهى مما يفعله حتى قال بخوفٍ لبدر الذي يحدجه بنظراتٍ قاتمة:.

فعلت ما أمرتني به والآن دعني وشأني، أمر رجالك بحل وثاقي وأعدك بأنك لن ترى وجهي مجدداً..

راق لها رؤيته يتوسل لمحبوبها، فانتقلت نظراتها تجاهه، وجدته يمنحها رسالة غامضة عن طريقة اشارات عينيه ويديه، انعقد حاجبها بصدمةٍ فور تخمينها لما يريد، وخاصة حينما استدارت تجاه كا يشير، صفنت قليلاً بطلب بدر الشبه مستحيل لها، ولكن بنهاية الامر ذاك النذل يستحق ذلك وأكثر، لذا وضعت أمام عينيها ذكريات هذا اليوم البائس عنوة حتى تشجع ذاتها المرتجفة مما يلح عليها عقلها بفعله، رأت ما جعلها تبكي بصمتٍ وتستمع لآنين قلبها الخافت، استباح جسدها واستباح اسرارها التي ائتمنته عليها كصديق ظنته كذلك، ولكنها الان على علم كامل بأن ليس هناك علاقة تجمع بين رجلاً وامرأة، حتى وان كانت صداقه مثلما يدعي الغرب مثلما ارادت ان تصبح منهما، انهت طريقها القصير حتى وصلت لغايتها فحملت السلاح بأصابع مرتحفة واستدارت تجاهه، حاولت رقع السلاح ولكنها شعرت وكأنه ثقيل للغاية!

استمدت قوتها من نظرات بدر المحمسة لها مستغلاً انشغال آسر و خالد بتفحص حسابه على الحاسوب، بينما فهد يملي اوامره على رجاله بالتحفظ على هذا الوضيع لحين البت في أمره، فحكم بدر عليه من تلقاء ذاته وأمر محبوبته بالتنفيذ لتحرر طلقات السلاح الذي انطلق ليستقر بصدر ذلك الوضيع الذي استحقها، صوت الرصاص جعل الجميع في حالةٍ من الصدمة خاصة حينما وجدوها من قامت بذلك، فقد خمنوا أن بدر المتهور فعلها، صُدم خالد وهو يرى ابنته البريئة تتحول لقاتلة شرسة تدافع عن ذاتها، تعجب كيف امتلكت تلك القوة فجأة وهي رقيقة ضعيفة، فأتاه الجواب لحيرته حينما وجدها تتطلع لبدر بنظرة تتساءل عما فعلته، فأبشرها باسماً بأنها فعلت الصواب، اقترب آسر منه ليتفحص نبضه، ثم نهض ليشير لابيه المتساءل قائلاً:.

مات...
صاح خالد بتعصبٍ:
ليه عملتي كده يا رؤى؟ كنا هناخد حقك بس بطريقة تانية، أنتي عارفة انتي عملتي في نفسك أيه ضيعتي حقك كده وهتتحبسي...

كرجل قانون لا يفكر الا بما يرضيه وجد ابنته مخطئة، فمحى بدر ذاك الخطئ حينما اقترب منها ليحمل عنها السلاح، متعمداً غرس اصابعه حول الزناد لتصبح بصماته هي من تحتضنه، راقبه آسر بابتسامةٍ هادئة وقد علم توابع خطته الذكية، فمن الذي سيحاسب رجلاً نال لشرف زوجته وهناك الف دليل لفعلة ذاك الدنيء، لذا استدار تجاه خاله الذى بدى الامر يتضح له هو الاخر، فقال بثباتٍ وهو يربت على كتفيه:.

أظن فهمت كده هتتصرف ازاي يا خالي!
ابتسم وهو يردد:
فهمت..
نهض فهد عن مقعده وهو يخفي ابتسامته الماكرة حينما تصنع عدم رؤيته مفاوضات بدر ورؤى لقتله، فكيف كان سيسمح لذاك المغتصب بالفرار، ومن نهش لحمه هي احدى بناته، لكز بعصاه الارض بضربة كانت بمثابة اشارة لرجاله الذين اسرعوا لحمل جثمانه، ومن ثم قال وهو يهم بالخروج:
وجودنا اهنه مبقاش له عازة...

لأول مرة يشعر بالملل من زيارته للصعيد، كان ينتظر زيارته تلك بفارغ الصبر لعشقه أدق التفاصيل المتعلقة بجمال الطبيعة ولقاء عمه وأسرته، وخاصة جدته، هو الآن يشعر بوحدة قاتلة لا يسدها لقاء صديق أو قريب، ربما لانه اشتاق لرؤياها!
مل عبد الرحمن من الجلوس بالخارج، فنهض عن الأريكة ثم كاد بالولوج للثرايا الى أن استوقفه يحيى حينما سأله باستغرابٍ:
أيه يا ابني مالك كده؟
أجابه في سئم:.

حاسس اني مش مرتاح هنا يا يحيى..
ذهب تفكيره بعيداً عما يلمح به رفيقه، فسأله بلهفةٍ:
ليه حد ضايقك في حاجة؟
أخفض قدميه عن الدرج، ثم وقف مقابله ليرد عليه بحزنٍ:
بالعكس محدش بيعمل غير اللي يبسطني، بس أنا اللي مش عارف مالي، حاسس كده ان في حاجة ناقصاني.
علم ما أصابه وخاصة بعد نطقه تلك الكلمات الفاضحة، تعالت ضحكاته الرجولية وجذبه اليه ليحيطه بذراعيه ثم قال ساخراً:.

أمممم، قولتلي طب يا عم مش تهدأ شوية وتدي فرصة للكبير ومرات عمك انهم يستريحوا من السفر وبعدين يطلبوهالك من ابوها...
لوى فمه بتهكمٍ:
يا هنا عما ابوها يفكر ويرد عليهم، مهو لو هما قدامه كان استعجل بالرد لكن شغلة التليفونات دي مش بتأكل عيش..
غمز له بمشاكسةٍ:
أمال بتأكل ايه يا عبده، عموماً متزعلش ربك حس بيك وبعتلك الراجل لحد عندك..
لكزه بغضبٍ:
فايق للهزار وأنا خلقي في مناخيري...

ضحك على كلماته الاخيرة، ثم حاول الثبات بقوله الجدي:
أنا بتكلم جد على فكرة، والد تالين هنا في مصر...
تفاجئ بما استمع اليه، فهمس يحيى مستهزءاً:
متخلف ده ولا أيه!
ثم قال بصوتٍ مرتفع:
يا ابني مش الكبير قايل قدامك وانت قاعد انت عقلك بيروح على فين؟.
اتكأ بجسده على درابزين الدرج الذهبي وهو يهمس بعشقٍ:
عقلي وقلبي معاها، مش عارف عملتلي عمل دي ولا أيه؟
ضحك يحيى بصوتٍ مسموع، ليضربه على رأسه بمرحٍ:.

الأجانب ملهمش في الاعمال وشغل التلات ورقات بتاعنا ده، فوق وإرجع لهيبتك كده بدل ما عمك يرجعهالك بالتي أحسن...
وجذبه من تلباب قميصه وهو يستطرد:
ها، هتفوق ولا نخليه يفوقك؟
صاح بخوفٍ:
فوقت فوقت.
تركه وهو يشير له بتعجرفٍ:
تعجبني وأنت بتوزن الامور صح يا عبده..
وتركه وصعد للأعلى، فأبتسم الاخير وهام بذاكرها، فانتفض بجلسته فجأة حينما لمح الساعة الموضوعة بمنتصف الحائط العملاق من أمامه، فصاح بانفعالٍ:.

الدوا، ازاي نسيت معاده..
وهرع للاعلى راكضاً حتى ولج لغرفة والدته، فوقف محله مشدوهاً حينما رأى نواره و ريم تساندان والدته، وجدته هنية تناولها الدواء بذاتها، لمعت دمعة نبعت بحدقتيه البنية، حينما رأى ذاك المشهد الذي طعن الحزن بقلبه وعينيه، فظل يراقبهما بصمتٍ وعدم قدرة على الحديث.
انتهت هنية مما تفعله فأشارت لها قائلة:
بالشفا يا حبيبتي، نامي وارتاحي..

وضعتها ريم بفراشها مجدداً، ثم نهضت لتلحق بنواره فتفاجئوا بعبد الرحمن يقف أمامهما باكياً، فحرر صمته صوته المختنق بعباراته:
بعد كل اللي عملته فيكم!
لمعت عين ريم ذات القلب الأبيض بالدموع، فاقتربت منه لتتمسح بيدها على كتفيه، وبابتسامةٍ رقيقة قالت:
دي مهما كانت تبقى مرات أخوي وأمك، الدفر عمره ما يطلع من اللحم يا ولدي..
منحها ابتسامة صافية، بينما احتضنته نواره وهي تشير له بحنانٍ:
بتعتبرنا أغراب اياك...

ثم مسحت دمعاتها وهي تحذره بضيقٍ:
اوعاك تقول الكلام الماسخ ده تاني، سامعني!
هز رأسه ببسمةٍ زرعت من نبع الوجع الذي يحيطه، فأشارت لهما هنية بالخروج، ثم قالت بصوتٍ واهن:
تعالى يا ولدي اقعد جنبي..
دنا منها عبد الرحمن، ثم جلس لجوارها لينصت لحديثها:
أنت واحد منينا يا ولدي ومعزتك كيف آسر وولاد عمك بالظبط، أنت ملكش ذنب في اللي عملته امك وابوك زمان..
وبدموعٍ تلألأت بعينيها استكملت:.

تعرف لما أبوك مات جلبي اتوجع، فؤاد كان له معزة خاصة عندي يمكن لانه الصغير، ولما عرفت انه كان متجوز ومخلف من غير علمي زعلت بس لما حسبتها زين لقيت ان اللي حصل من رحمة ربنا بيا لاجل ما يسبلي حتة منه تفكرني بيه..
وقالت وهي توزع نظراتها بينه وبين مروج الباكية دون صوت:
يعني أنت بالنسبالي ولدي وحفيدي وكل حاجة في الدنيا..
احتضنها عبد الرحمن بحبٍ واحترام يزداد لتلك العائلة الذي يفخر كونه فرد منها...

ولج يحيى لغرفته فتفاجئ بعمر بالداخل، يجلس جوار ابنته التي تحتضن عروستها الصغيرة بين يدها، بعد أن غلبها النوم فور سماعها للقصة التي قصها عليها أبيها، مسد عمر على رأسها بحنانٍ وابتسامة كاذبة ترسم على شفتيه، رغم دمعته الخائبة التي تهبط في صمتٍ على حالها، وفور شعوره بوجود يحيى، لف وجهه للاتجاه الأخر ليزيح دموعه بيديه، ثم تطلع له بابتسامةٍ هادئة:
أخيراً جيت، ماسة كانت بتستناك..

دنا من الفراش، ثم جلس لجوارها وهو يجيبه بتأثرٍ على حاله:
كنت بتمم على المصانع في قنا..
أومأ برأسه، فقال وهو يحاول التهرب من التطلع اليه:
كويس انك روحت، يالا هسيبك تريح شوية تصبح على خير.

ونهض عمر ليتجه للخروج سريعاً قبل ان تخور قواه أمامه، أراد يحيى أن يلحق به ولكنه شعر بحاجته لأن يظل بمفرده بتلك الحالة، فنهض عن محله ثم دنا حتى أصبح قريباً منها، فتمدد لجوارها ثم جذبها برفقٍ لأحضانه، فطوفها بذراعيه وهو يهمس لها بعذابٍ يقتحم عالمه الوردي:
عندي ثقة كبيرة في ربنا انك هترجعي زي الأول وأحسن يا روحي...

ودفن رأسه بين خصلات شعرها التي يعطره زيت جوز الهند الذي يعشق رائحته، ليستسلم بعدها لنومٍ عميق..

توقفت السيارة بداخل ثرايا المغازية، فأسرع السائق ليفتح بابها قبل أن تنهال عليه بعتابٍ لن ينتهي، وربما ينتهي عمله ويحرم من فضل تلك العائلة الثرية، واهم ما يُوجب اتباعه ان يخفض نظراته طوال الوقت وخاصة ان اصطحبها لمشوارٍ، هبطت فاتن من السيارة بملامحٍ متخشبة، فعقدت الحجاب حول بعضه بعشوائيةٍ، ثم ضبطت جلبابها الأسود الفضفاض لتصعد الدرج متجهة للداخل بخطواتٍ شبه بطيئة، فما أن أصبحت بالداخل حتى أسرعت اليها الخادمة قائلة بحماسٍ وكأنها تنقل اليها خبراً تشتاق لسماعه منذ سنوات:.

البيه رجع وفي أوضته يا هانم..
تساءلت بعدم فهم:
بيه مين، تقصدي أيان ولدي!
هزت رأسها عدة مرات وهي تردف قائلة:
وصل من بدري ومن وقتها منزلش من اوضته..
حررت حجابها ثم أشارت لها بفرحةٍ:
طب جهزي الوكل عما أطلع أشوفه..
هرولت للمطبخ وهي تجيبها:
عنيا يا ست هانم..

اختفت من أمامها بينما هرولت الاخرى للاعلى بفضولٍ لمعرفة ما حدث بينه وبين ابنة الدهاشنة المبجلة، فما أن وصلت للطابق الأعلى حتى وقفت تلتقط أنفاسها الثقيلة بعدما صعدت الدرج بسرعةٍ لا تليق بعمرها، فطرقت على الباب عدة مرات، عدم سماعها لإذنه بالدخول دعها تخمن كونه يستريح قليلاً بعد سفره من القاهرة الى هنا، ففتحت الباب بحرصٍ ان لا تصدر أي صوتاً قد يقلق منامه، انعقد حاجبيها بذهولٍ حينما وجدت الفراش فارغ، فأضاءت الاضواء لتنير الغرفة القاتمة، فجحظت عينيها فزعاً حينما رأته يجلس على المقعد الهزاز، والدماء تتصبب من رأسه كالشلال، فأغرقت قميصه بدمائه التي أثارت رعبها، ونظرات عينيه الساكنة ببرودٍ قاتل كانت الاخطر لها كبداية للتفكير الكارثي الذي قد يوضح لها اقتراحات كل اقتراح ابشع مما يليه، أسرعت اليه فاتن لتهزه بقلقٍ:.

أيان ولدي، أيه اللي عمل فيك اكده، أنت عملت حادثة ولا ايه اللي حصل!

لم يجيبها على أسئلتها المتلهفة، بل استكأن بعرينه بصمتٍ، انقبض قلبها فتفحصت جرح رأسه بلهفةٍ، ثم أسرعت بتضميده ومازال هو يجلس محله بثباتٍ مخيف، وفجأة انطلق هاتفه يخبره بأن هناك رسالة هامة استلمها للتو، فتح الرسالة وخالته مازالت تقف خلفه تضمد رأسه جيداً، فتطلعت لشاشة الهاتف لتجد صورة آسر الدهشان مرسلة لشخص مجهول والرسالة المستلمة منه تنص على..

«علم وينفذ يا باشا، هنربيه ونعرفه مقامه وهنبعتلك فيديو مصور وهو بيتروق عليه، »
شهقت فزعاً فتركت ما بيدها ثم صاحت باندفاعٍ:
انت اتخنقت مع ابن فهد؟
نظرته تجاهها كانت اجابة كافية لها، فصاحت به:
اتقطعت ايده، أني مش عارفة انت هتفضل ساكت اكده لحد متى، خد بتارنا وبرد نارنا منيهم افضح بتهم النهاردة قبل بكره..

ربما الابتسامة شيء اعتيادي لاي شخص، ولكن ويحك ان تبسم الشيطان، حينها تفزع القلوب وتتخبئ بداخل الصدر خشية مما قد يحدثه، خاصة بأن وجعه ليس ملموساً، يستهدف المشاعر فيصبح الوجع في صميم القلب!
إتبع ابتسامته تلك رداً صريح منه حينما قال:
متستعجليش بوجعهم يا خالتي، الضربة اللي توجع هتوجع لما تكون في مقتل، الصبر كل حاجة في وقتها بتبقى أفضل الف مرة من التسرع..
جذبت المقعد القريب منه ثم جلست تساله باهتمامٍ:.

كيف وأنت ناوي على الحرب من دلوقت؟
لوى شفتيه بتهكمٍ:
الحرب لسه مبدأتش، أنا اللي هبدأها ووقت ما احب..
أشارت على الهاتف وهي تردد بدهشةٍ:
الحرب هتبتدي لما هتقتل ولد الدهشان، تفتكر فهد هيقعد ويتفرج عليك وأنت بتقتل ولده اكده!
بنفس الابتسامة اجابها:
مين قال اني هقتله، انا عايزه عايش للحظة اللي هكسر فيها ابوه قدام الكل، عايز اشوف نظرات الغرور والثقة دي هتتحول لأيه وقتها...
انعقدت حاجبيها وهي تردد بدهشةٍ:.

والله ماني عارفة أنت بتفكر ازاي ولا ناوي على ايه!
اسند رأسه على المقعد، وهو يردف بتسليةٍ:
استني وهتشوفي..

التزمت غرفتها منذ لحظة عودتها، تركت المياه تبلل جسدها بملابسها علها تغسل تلك اللحظة المؤثرة، كلما تتذكر ما فعلته ترتجف رعباً، كيف استطاعت قتله بتلك البساطة، ربما حاجتها للانتقام دفعتها لذلك، احتضنت رؤى ذاتها وبكت بتأثرٍ، بكاء زلزل قلبها الممزق، فاتاها صوت منادياً، صوت يطلبها للاقتراب، صوت حثها بأن الله قريباً منها، اذا ارادت لقائه تهم لرؤياه، فمن المؤكد هو من يعلم ما بداخلها من قبل ان تنطق به، نهضت عن الأرض ثم أغلقت مياه الدوش وجففت جسدها، وخرجت تبحث في خزاناتها عما تتمكن من ارتدائه لتصلي، وبالفعل وجدت فستان بأكمامٍ، محتشم واسكارف كانت تتزين يه وتضعه على رقبتها، ارتدته وحاولت ان تصلي ولكن لم تستطيع، بكت بانهيارٍ حينما تذكرت بأنها طوال سنواتها لم تحاول مرة واحدة الاقتراب من ربها او حاولت تعلم الصلاة، مرت أكثر من ساعة بعدما أذنت العشاء ولم تستطيع ايجاد حل لمأساتها، أتى على بالها بتلك اللحظة حور، لطالما كانت تراها تصلي وتسجد بخشوعٍ لربها، خرجت من غرفتها على الفور وذهبت لغرفتها، فطرقت بابها وحينما استمعت لأذنها بالدخول، ولجت للداخل، وفي ذاك الوقت كانت حور تجلس برفقة تسنيم التي شاركتها غرفتها، فتعجبت كلاً منهن حينما وجدوها تقف امامهن بتلك الثياب، فمنذ ان رأتها تسنيم وهي تراها تلبس ملابس متحررة هي وشقيقتها، رددت حور بتعجبٍ:.

رؤى!
اقتربت منها بحرجٍ وهي تقدم قدماً وتؤخر الاخرى حتى باتت مقابلها فقالت بدموعٍ مزقت قلوبهن معاً:
مش عارفة أصلي يا حور، ممكن تساعديني..
انهمرت دمعات حور بتأثرٍ لحالتها، فاحتضنتها وهي تردد بدموعٍ:
طبعاً يا حبيبتي هعلمك كل حاجة تخص الدين..
ابتسامة مشرقة اينعت من وسط دموعها، وخاصة حينما اقتربت منها تسنيم لتربت على ظهرها وهي تحمسها قائلة:
أنا صحيح مش عارفة كتير، بس هساعدك لو تحبي..

هزت رأسها كالغريق الذي يتعلق بقشة النجاة، فولجت مع تسنيم للمرحاض مرة أخرى، لتعلمها كيف تتوضأ لتستعد للقاء الله عز وجل، وخرجت معاها لتجد حور بانتظارها لتصلي بها وتعلمها اول خطوات الصلاة، شعرت براحة غريبة تحيط بها لأول مرة، كأن هناك هالة مضيئة احاطت بها لتضيء قلبها المعتم، قشعرة غريبة تمسكت بها مع كل كلمة ترددها خلف حور، وحينما لامست رأسها الارض استكأنت واخرجت ما يضيق صدرها من هم ووجع، وفور انتهائها من الصلاة، جلست لجوار تسنيم التي لم تمل أبداً من اسئلتها الفضولية تجاه الحجاب، فأول سؤالها كان:.

ليه بيقولوا ان الحجاب بيقصف الشعر وبيبوظه..
تطلعت تسنيم لحور ثم ابتسمت كلا منهن، فحررت تسنيم حجابها لينسدل شعرها الطويل الناعم على كتفيها، ثم قالت بابتسامةٍ رقيقة:
فين ده أنا مش شايفة كده..
نقلت رؤى نظراتها بين حور وتسنيم بانبهارٍ، فعادت تسنيم لتستكمل حديثها بحوار مشهور سبق ذكره من قبل حينما سألتها قائلة:
فين موبيلك يا رؤى..
أجابتها قائلة:
في اوضتي ليه؟
جذبت حور هاتفها لتضعه بين يد تسنيم قائلة بمكر:.

بس انا موبيلي موجود، اتفضلي..
تفحصته تسنيم بنظرة جعلتها حائرة للغاية، ثم اختصت رؤى بسؤالها:
الله الفون ده جميل بس ليه يا حور مبوظاه بالجراب ده، مخلي شكله وحش وباهت..
اقترحت رؤى اجابة:
اكيد لازم تحفظه بجراب لانه غالي وممكن يبوظ منها او يتوسخ...
اتسعت ابتسامتها ثم قالت:
عشان كده ربنا بيحمينا من العين، وبيحفظنا بالحجاب واللبس الواسع ده، عشان احنا غالين ومينفعش الرايح والجاي يتفرج علينا..

استطاعت بمثلها البسيط المعروف ان تسهل عليها، فاتسع صدرها وظلت طوال ليلها تستمع لحور تارة ولتسنيم تارة اخرى حتى باتت على يقين بقرارها بأنه صائب..

أشرقت شمس اليوم التالي، فتسلل أحمد لغرفة آسر بحرصٍ، حتى ولج للداخل، فوقف حائراً للغاية حينما وجد جسدين يلتف كلاً منهما بغطاء منفرد، فوقف يردد بحيرة:
مين فيهم آسر ومين فيهم بدر، يوووه انا هعمل ايه الوقتي في عمي اللي عايز ابنه ده..
حسم احمد قراره، وخرج لسليم، فسأله باهتمام:
فين بدر!
قال في ملل:
معرفش، اخاف اصحى آسر يقوم يقتلني، الله يكرمك يا عمي ادخل انت صحيه وتبقى عملت فيا الخير كله..

حدجه بنظرة صارمة اتبعه قوله الحازم:
خبر أيه يا احمد، هنقف نهزر على الصبح ونسيب مشاغلنا، ادخل صحيه وقوله يحصلني على تحت...
وكاد بالهبوط فأسرع احمد خلفه ثم قال بتوتر:
مهو حضرتك متعرفش ان بدر ابنك بيموت وهو نايم، يعني مبيصحيش بالساهل، اسر بقا نومه خفيف لو كحيت هيصحى وهينفخني يرضيك اتنفخ يا عمي!
احتدت نظرات سليم فلكزه بعصاه بحدة:.

معندناش حد بيخاف كيف الحرمة، تحب اصحيلك الكبير يتفرج على الخلفة اللي تفرح الجلب..
لوى فمه وهو يجيبه بتهكمٍ:
خلاص متصحيش حد هدخل وامري الى اللي لا بيغفل ولا بينام وشاهد وعارف الحق فين..
وجذب العصا من يد عمه قائلاً بسخرية:
لفيلي العصايا دي لما نشوف اخرتها ايه عاد..
وتركه ودنا من الغرفة ثم التقط نفساً مطولاً وهو يردد بهمسٍ استمع له سليم جيداً:
حسبنا الله ونعم الوكيل في كل ظالم حاقد..

وولج للداخل فابتسم سليم وهبط للاسفل قائلاً:
لا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم، صبرنا على الخلفة دي..

ولج أحمد للداخل، فاحتضن العصا ثم جلس على الأريكة يفكر ويحسم الامر، أي منهما بدر والاخر آسر، اتأخذ أكثر من نصف ساعة، فدق هاتفه للمرة الثانية وهو يعقد حسبته حول الطول والعرض، ومقارنة طالت ولم تنتهي، أجاب على هاتفه على مضضٍ:
أيوه يا عمي نازل رن رن في ايه!
أجابه سليم بغضب:
فين بدر يا ابني الله يكرمك اني مش نقصك على الصبحية...
اجابه بغضب:.

هو انت مديني فرصة اركز عشان اعرف مين فيهم الزفت ابنك، اصبر بس الله يكرمك وسبني اركز..
=تركز في ايه انت بتهبب ايه بالظبط!
اقفل بس وهتلاقي كل خير ان شاء الله...
واغلق احمد الهاتف ثم نهض عن الاريكة واتجه للفراش قائلاً:
توكلنا على الله.
ولكز بعصاه من يقبع بجوار الحائط وهو يردد بعصبية:
بدر أنت يالا أبوك مستنيك تحت بيقولك عايزك في موضوع مهم وانفرادي، هتقوم ولا اتوصى بيك..

لم يأتيه الرد، فرفع عصااه ليلكمه ضربة قاسية، انكمشت تعابير احمد المبهجة حينما رُفع الغطاء، ليكشف عن هوية صاحب المكان الحائطي، فردد بصوتٍ مرتعش:
آسر!
حدجه بنظرة نارية، فتراجع للخلف وهو يشير له قائلاً:
ماليش دعوة والله عمك سليم اللي قرفني من النجمة وعايز ابنه وانا هنا من بدري محتار بينكم..
صمته جعله يخمن باسباب اخرى قد تنقذه اليوم:
على فكرة احنا مش ولاد عم بس احنا بينا نسب ولا ايه..

ترك آسر الفراش ثم اتبعه حتى حاصره بين الحائط، فلكمه بقوةٍ وهو يهدر به بغضب:
في حد يصحي حد كده يا متخلف..
تأوه وهو يردد بالم:
مهو بدر مش حد، ده قتيل بدليل انك كسرت كل جاجة في الاوضة فوق دماغي ولسه بيشخر وعادي الدنيا عنده ده حيوان صدقني بينام مبيحسش بحاجة...
لم تكن حجته مقنعة لاسر الذي عاد ليلكمه من جديدٍ، وهو يصيح بشراسةٍ:.

اعمل فيك ايه، انا منمتش طول الليل بسبب الزفت اللي بالع تكييف ده، وتيجي انت وتكمل عليا..
ابتسم احمد قائلاً:
كنت سبله الأوضة وتعالى نام جنبي انا الجنب اللي بنام عليه بصحى تاني يوم عليه..
اتاهم رد بدر وعينيه مغلقة:
ابويا اللي واخد اوضتي اطردوه هو وسبوني انا اعيش..
اتجهت نظراتهم معاً تجاهه، فاستكمل بدر حلمه الواقعي:
كل اللي ييجي بيطردني بره اوضتي وبيجبوني هنا في اوضة الزفت، مبعرفش اخد راحتي على السرير..

تعالت ضحكات احمد وهو يردف ساخراً:
متقلقش ده احنا هنريحك على الاخر..
وهجم كلاً منهما عليه، فتأوه بدر بألم شديد، لينقلب الثلاثة أرضاً، فتح عينيه بنومٍ ليجدهما امامه، فصاح بفزعٍ:
أيه، يا ساتر يارب في ايه؟
لكمه احمد بسخرية:
احنا الملايكة وانت في جهنم الحمرا هتقوم ولا نطعنك بقوس قزح، ولا اقولك استنى..
واشار لآسر قائلاً:
خلص عليه يا آسر الواد ده ابن حلال ويستاهل..

اتجهت نظراته لآسر المحتقن وجهه، لتنتهي بصراخه المفزع:
بره، اللي هشوفه هنا هعلقه في النجفة..
أسرع أحمد للخارج بينما جذب بدر الغطاء ليستكمل نومه على الارض وكأن شيئاً لم يكن، فركله آسر بقوة جعلت جسده يرتد بعيداً عن الغطاء فنهض سريعاً ليلحق بابن عمه للخارج، بينما تمدد على الفراش وهو يردد بغضب:
رجعنا للقرف تاني...

بشقة الفتيات..
شددت رواية على رؤى و تسنيم ، بأن تستعدن للخروج بصحبة بدر وآسر لاختيار فستان بسيط لحفل عقد القران التي ستتم بالغد، فقدمت حور لرؤى فستان وحجاب حتى تستعد للخروج بصحبتهم، اما تسنيم فوقفت امام المرآة شاردة، يخفق قلبها بوجوده فكيف ان خرجت بصحبته بمفردهما لا تعلم بأن سيحدث ما يجعلها تقترب منه الف خطوة، وحينها ستعلم بأنه من يستحق عذرية قلبها وعشقها، والفضل يعود لما سيفعله رجال أيان!..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة