قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية شيخ في محراب قلبي للكاتبة رحمة نبيل الفصل الثاني والعشرون

رواية شيخ في محراب قلبي للكاتبة رحمة نبيل الفصل الثاني والعشرون

رواية شيخ في محراب قلبي للكاتبة رحمة نبيل الفصل الثاني والعشرون

كان المكان هادئ بشكل كبير يتخلل ذلك الصمت صوت مضغ الطعام وتصادم الملاعق...
نهضت الام لتحضر طبقا ما من المطبخ كانت قد نسبته بالخطأ ليتحدث الشاب الكبير الذي يترأس طاولة الطعام وهو ينظر لأخيه الأصغر بنظرات تبدو كما لو أنها تخترقه:
مش صاحبك كان منورنا انهاردة؟
انتبه مصطفى من طعامه على حديث أخيه الأكبر ليكرمش ملامحه بتعجب متسائلا:
صاحبي؟ صاحبي مين؟

ابتسم جمال بسمة باردة وهو يتناول طعامه ببطء مثير للأعصاب خاصة على مصطفى:
رشدي، مش هو صاحبك برضو؟
ابتسم مصطفى بسخرية وهو يكمل طعامه: اه صاحبي فعلا، بس كان عندك يعني بيعمل ايه؟
كان جاي يشوف مراته لأنها كان مقبوض عليها في خناقة في مؤتمر كده...
ماسة؟

كانت ردة فعل سريعة من مصطفى على حديث أخيه الأكبر ليندم بعدها على ما نطق وهو يرى نظرات أخيه ترتفع من طبقه ثم توجه إليه وهناك بسمة مخيفة ترتسم على جانب فمه وهو يهتف بنبرة قد تبدو عادية للبعض لكن بالطبع ليس له هو:
وانت عرفت اسمها منين؟
ابتلع مصطفى ريقه وهو يحاول أن يدعي انشغاله في الطعام: ما انت عارف إن رشدي صاحبي واكيد يعني اعرف عيلته وووو
بس مش مراته يا مصطفى...

نظر مصطفى لأخيه يحاول ادعاء الثبات: قصدك ايه يا جمال؟ بتلمح لايه؟
عاد جمال بظهره للخلف هو ينظر لأخيه نظرات مرعبة ثم قال بتقرير: بقالك اسبوعين تقريبا بتسهر بشكل مريب ومعظم اتصالاتك بيتذكر فيها الاسم ده، ماسة، يا ترى دي صدفة ولا...
ترك جمال كلامه معلق ليشعر مصطفى بأن الهواء نفذ من حوله فاخيه ليس سهل البتة وإن اكتشف ما يفعل بقسم أنه سيقتله بابشع الطرق:.

دي دي هي واحدة اعرفها كانت قصداني في خدمة وده تشابه اسماء يعني مش...
صمت مصطفى لا يعلم ما يقول ليبرر موقفه لكن فجأة اخترق مسامعه صوت أخيه الذي يبدو كما لو أنه فحيح:
اتمنى يكون فعلا تشابه اسماء لأن لو طلع شكي صح صدقني مش هيكون عندك حتى فرصة تندم.

أنهى جمال حديثه ليضرب الطاولة بعنف ثم نهض تاركا خلفه اخيه يكاد قلبه يتوقف من الرعب مفكرا أن جمال قد يعلم عن أفعاله انتفض فجأة على صوت رنين هاتفه ليمسكه وهو مازال يرتجف رعبا مجيبا بخفوت:
الو...
الو يا برنس اخبار الدنيا عندك ايه؟
زفر مصطفى يحاول تهدئة نفسه: اسكت بالله عليك عشان قلبي كان لسه هيقف من شوية.
ايه ده؟ ليه كده؟ حصل ايه؟

كان الرعب ظاهرا في صوت رفيقه ليجيبه مصطفى وهو ينظر لغرفة أخيه: جمال بقى ينخرب ورايا وشاكك بالموضوع إياه بتاع رشدي.
انطلق ضحكة من الجانب الآخر تبعه صوته: يا اخي اخوك ده كان مشروع جن بس فشل حقيقي مرعب ده انا لما بقف قدامه بحس اني عايز اعترف بكل البلاوي بتاعتي من هيبته.
ارتسمت بسمة سحرية على جانب فم مصطفى: شوف يا اخي انتم الاتنين نفس الاسم بس شتان ما بينك وبينه.

ضحك الاخر وهو يجيب: سيبنا من اخوك وقولي هتيجي امتى عندي؟
اغمض مصطفى عينه مجيبا بحيرة: كنت الاول مقرر اخلص من حوار ماسة ده واسافرلك بس شكلي كده هسرع الموضوع المهم انت ظبطلي الدنيا عندك...
علت بسمة خبيثة وجه الاخر وهو يجيب: عيب عليك يا برنس انت بتكلم جيمي مش واثق في جيمي ولا ايه؟
ضحك مصطفى وهو يردد بخبث: لا عيب ازاي وهو انا ليا غير جيمي؟ ربنا يخليلي جيمي رفيق السوء وكل المصايب...

تحركت بخفة في الحارة وهي تحمل بيدها مصحفها الخاص متجهه صوب منزله بسعادة نادرا ما اعتلت ملامحها ونادرا ما زارت قلبها وكيف لا وقد أصبح هو يسكن جسدها كله...
تحركت فاطمة بحركات سريعة وخفة جهة المنزل الخاص بزكريا وهناك بسمة جميلة ترتسم على ملامحها فاليوم ستعود مجددا لشيخها لكن تلك المرة بقلب مطمئن مرتاح وليس قلق مرتاب...

دقت فاطمة جرس الباب وانتظرت قليلا بشوق كبير حتى اطل وجه وداد البشوش وهي ترحل بها مضيفة:
فاطمة بنت حلال والله لسه عاملة كيكة عسل ادخلي نأكل سوا لغاية ما زكريا يرجع من المدرسة...
كده كل شيء واضح؟
أنهى زكريا كلامته وهو يضع قلمه في حقيبته بعدما انتهى للتو من حصته منتظرا أي سؤال من أحد، لكن لم يصدر من أي فتاة شيء ليهز رأسه برضا وهو يبتسم لهن بسمة صغيرة:
تمام اشوفكم الاسبوع الجاي...

أنهى زكريا حديثه وحمل حقيبته وخرج من الفصل سريعا يعدل في وضع ثيابه ينفض بعض الغبار الذي لا يعلم مصدره عن قميصه لكن أثناء ذلك اصطدمت به مجموعة فتيات بعنف شديد مما أسقطه ارضا وفوقه فتاة ما ليصرخ بفزع شديد رافعا يده للأعلى:
رباه...
نهضت الفتاة سريعا من فوق زكريا وهي تكاد تبكي خوفا وحرجا تعتذر بشدة:
والله آسفة يا مستر آسفة ماخدتش بالي والله العظيم ما قصدي.

كان زكريا ما يزال ساقطا ارضا يغمض عينه بغضب يحاول الهدوء فيبدو من صوت الفتاة أنها لم تقصد فعلا، استغفر ربه ثم تحدث دون أن يرفع نظره للفتاة:
مفيش مشاكل اتفضلي على فصلك يا آنسة...
أنهى حديثه وهو ينهض وينفض ثيابه مستغفرا ربه ثم انحنى وحمل حقيبة ظهره الشبابية وهو يكاد يرحل ليسمع فجأة همسة مرتجفة:
مستر...
توقف زكريا واستدار بتعجب ليجد الفتاة تنظر ارضا بخجل وخزي متحدثة:
انا آسفة والله...

حاول زكريا الابتسام فتلك الفتاة هو يعرفها بالفعل ويعلم جيدا تفوقها وهدوئها وليست من الفتيات المشاغبات واللاتي قد يفعلن شيئا كهذا عن قصد:
ولا يهمك يا آنسة اميمة اتفضلي على فصلك.
أنهى كلمته ثم استدار سريعا وهو يرحل صوب غرفة المعلمين ينفض ثيابه وهو يشعر بذراعه يؤلمه وقد أدرك أن هناك جرحا قد حدث به جراء احتكاكه بالارضية...

ضحكت وداد بشدة وهي تمد يدها بقطعة كعك اخرى لفاطمة مضيفة: كان شيطان وهو صغير والله كنت دايما اقوله الله يعين اهلك عليك يا ابني، يقولي ايه يا خالتي وداد هو انا عملت ايه؟
ابتسمت فاطمة باتساع وهي تهز رأسها بيأس فيبدو أن هادي من صغره كان مشاغبا سمعت وداد تكمل حديثها:.

رشدي بقى كنتِ تحسيه عجوز صغير عيل اروب كدة كان يحشر مناخيره في كل حاجات الكبار ويقول أنا كبير ومش صغير عشان كده عارف كل حاجة وهو يا عين امه كان اهبل.
ضحكت فاطمة من قلبها تتخيل رشدي الصغير وهو اهبل كما تصفه وداد وتقارنه برشدي الحالي ذو الهيبة والحنكة و ذو الهالة المخيفة، صمتت تحاول الهدوء بسبب الضحكات:
طب وزكريا؟
خرج اسمه منها بحنين وحب شديد لتبتسم وداد وهي تقص عليها طفولة صغيرها:.

زكريا هو كان فيه زي زكريا يا قلبي كان عيل مع نفسه وهادي ولا تسمعيله حس، عمره ما غلبني في صغره كنت احطه في أي مكان وأحط معاه اي لعبة يقوم يسكت ولا يعيط ولا غيره لدرجة اني كشفت عليه قولت الواد لاقدر الله فيه حاجة ولا دماغه فيها حاجة.

ابتسمت فاطمة باتساع تتخيل زوجها وهو صغير لتكمل لها وداد: كبر ولسه على حاله هادي ومسالم بقيت اوديه لشيوخ يحفظ معاهم وبقى يقرأ كتب كتير اوي من صغره و أي كلمة ميعرفهاش يجي يسألنا كان شبه مثالي الا من عناده وعصبيته، رغم هدوءه ده كله إلا أنه كان لما يعاند على حاجة ويتعصب عينك ما تشوف إلا النور، والله لو قطعتيه حتت كده برضو هينفذ اللي في دماغه.

صمتت قليلا لتبتسم بعدها وهي تتذكر أحدى ذكرياتها: في مرة لقى قطة في الشارع وكان شكلها كأنها جربانة جبها البيت معاه وكان بيعيط عليها ويقولي القطة تعبانة يا ماما وقتها كان عنده 6 سنين باين، يومها عملت مشكلة كبيرة عشان يطلع يرميها في الشارع ويجي يغسل ايده بس هو ابدا قعد حاضنها ويعيط ويقولي هتموت لو طلعت خليها معانا.

سقطت دمعة من عين وداد وهي تتذكر تلك الأيام: وقتها لؤي قالي خليها معاه عشان مش هيسيبها، وهو كأنه ما صدق أننا وافقنا قام دخل جري على التلاجة لم كل الاكل اللي فيها وحطه قدامها وقالها شوفي عايزة تأكلي ايه وكليه.

ضحكت وداد وهي تمسح دموعها: ساعتها خلا لؤي يوصي نجار يعملها بيت صغير وبقى يجبلها علاج واكل على طول وياخد باله منها وبقى يحبها اكتر مننا ويلعب معاها هو ورشدي وهادي لحد ما جه في يوم صحي لقاها ميتة بعد ما قعدت معاه شهور اليوم ده قعد يعيط عليها ويقول إنه اهملها وماتت بسببه وهيدخل النار عشان موتها.

صمتت وداد وهي تنظر لفاطمة التي كانت تبتسم بحب شديد رغم تلك الدموع الصغيرة التي تتوسط رموشها ثم قالت بحماس شديد:
تحبي تشوفي شكله وهو صغير.
ودون أن تشعر فاطمة كانت تهز رأسها بحماس شديد ترغب في رؤية كتلة اللطافة تلك وهي تحاول تخيله صغيرا، نهضت وداد سريعا واتجهت لغرفتها تاركة فاطمة خلفها تتذكر كل تصرفات زكريا لتقول:
هو انا ممكن يجي يوم ويبقى عندي ابن زيه كده؟ وليه لا لو هو أبوه؟

ابتسمت فاطمة بخجل تتخيل زكريا ك اب يا الله سيكون الطف واجمل اب في العالم على الاقل من وجهة نظرها هي، خرجت من شرودها على عودة وداد وهي تحمل البوم صور كبير وتجلس جوارها بحماس وهي تفتحه...

نظرت فاطمة بلهفة لاول صورة لزكريا وقد كان يبدو بعمر سنتين تقريبا، يالله كم يبدو صغيرا وجميلا، قلبت وداد الصور لتجد فاطمة صور له وهو أكبر قليلا لتبتسم وهي تلاحظ أنه حقا لم يختلف كثيرا فها هي بسمته الجميلة تبدو كما هي اليوم ونظرته الحنونة هي نفسها فقط الجسد كبر قليلا وعدا ذلك هو كما هو، لكن شعور بداخلها أنها تود لو ترى زكريا الطفل أمامها فتقبله من خدوده الشهية الصغيرة تلك، تمنت بداخلها لو تحصل على طفل يشبهه، ابتسمت وهي ترى صورته وهو يحمل القطة الصغيرة وجواره كلا من رشدي وهادي واللذان تعرفت عليها سريعا بالطبع فرشدي هو صاحب العيون الملونة وهذا الطويل هو بالطبع هادي...

ابتسمت فاطمة وهي تهمس: ياربي لو شوفته قدامي وهو بالشكل ده هقطعه بوس...
ولم تدرك فاطمة أن صوتها كان عاليا إلا بعدما سمعت صوتا خلفها يظهر فيه غضب ووعيد:
هو مين ده اللي هتقطعيه بوس؟
والله يعني انت استأذنت من رشدي؟

نظر هادي ببراءة لشيماء وهو يهز رأسه: هكدب عليكِ يعني؟ انا استأذنته طبعا وهو وافق على طول، أنتِ عارفة رشدي ميرفضليش طلب، بعدين يعني معلش انا استأذنت من عمي ابراهيم الأول وهو قال ماشي فبطلي رغي كتير ويلا...
نظرت شيماء له بتفكير لا تعلم هل تطيعه وتذهب معه فهي حتى الآن تخجل من الذهاب معه في أي مكان وحدهما...
ابتلعت شيماء ريقها وهي تتجه صوب غرفتها: طيب استناني اغير هدومي واجيلك.

ابتسم هادي لها وهو يراقبها تدخل غرفتها ليتذكر مكالمته مع رشدي...
هخرج مع اختك.
نعم يا خويا تخرج معاها فين إن شاء الله؟
قلب هادي عيونه بملل مجيبا: اي حتة يا اخي انت مالك مراتي وعايز افسحها شوية.
زفر رشدي بضيق شديد: هادي تعرف اني منمتش طول الليل؟
الف لا بأس يا غالي
تعرف تسيبني في حالي بقى؟
ابتسم هادي: هاخد اختك افسحها طيب.
لا
تسلملي يا ابو النسب.

اغلق هادي المكالمة سريعا قبل أن يسمع كلمة واحدة من رشدي وهو يبتسم بخبث شديد...
خرج هادي من أفكاره على صوت عالي بجانبه...
يا اطرش مش بكلمك؟
اغمض هادي عينه بغضب ثم همس بغيظ: ولما اقوم اديكِ على وشك دلوقتي مين ينجدني من تحت ايد جوزك؟
لوت ماسة شفتيها بحنق ثم تحدثت بحسرة: وهو فين جوزي ده يا خويا؟
فزع هادي وهو يردد اول ما خطر في رأسه: طلقك؟

رفعت ماسة يدها وكأنها على وشك ضربه: جاك طلقة تدخل من دماغك تطلع من قفاك، هو بس حطني في البلاك ليست عشان كده بقالي ساعة بقولك اديني تليفونك أكلمه منه.
ابتسم هادي بشماتة عليها: اه لما الإنسان يتحوج بيتأدب.
معلش إن كان لك عند الكلب حاجة بقى...
رفع هادي حاجبه بحنق ثم قال بغيظ شديد منها وهو يراقب خروج شيماء: كلب؟ طب ابقى شوفي مين اللي هيعبرك.

أنهى حديثه وهو يتجه لشيماء يسحبها من يدها بغضب ثم خرج تاركا ماسة خلفه وهي تكاد تحترق مفكرة في طريقة للوصول بها إلى رشدي...
تحدثت شيماء بحزن: كده يا هادي كسرت بخاطر البنت؟ طب كنت ساعدها يا اخي دي هتتجنن من الصبح وهي مش عارفة توصل لرشدي حتى كلمته من عندي ومن كل تليفونات البيت بس مش بيرد عشان عارف انها هي اللي بتتصل.

ابتسم هادي بسخرية وهو يشير لإحدى سيارات الأجرة: كان على عيني يا ختي بس اخوكِ حطني انا كمان في البلاك ليست من الصبح من بعد ما قعدت ازن على دماغه عشان نخرج سوا واخر مرة قفلت في وشه قام حطني فيها...
نظرت له شيماء بتفاجئ لتجده يبتسم لها ثم غمز لها: خلينا نخلص مشاورنا بقى قبل ما انشغل بليل مع بثينة...

سارت شيماء خلفه وهي ترمقه بصدمة لحديثه وبعدها تذكرت أن اليوم عقد قران بثينة وايضا سفرها زفرت وهي تشعر أن الأمور مع بثينة تسير بسرعة البرق وبشكل مثير للشك...
يعني ايه يا بنت بطني؟ عايزة تفضحينا مش كفاية عمايلك؟

نظرت بثينة لوالدتها بقهر شديد وهي تشعر ببداية عقابها على كل ما سبق وهي للحق كانت تتوقع هذا العقاب بل اسوء منه لكن توقعت أن تعاقب وهي مع هادي توقعت أن تأتي فترة معاقبتها بعدما تظفر بما حلمت به طويلا...
أثناء شرود بثينة لمحت بعينها من نافذة غرفتها التي تقف أمامها معطية ظهرها لوالدتها، شيماء تسير رفقة هادي وهو يمسك بيدها وكأنها طفلته الغالية ثم صعدا سويا لإحدى سيارات الأجرة:.

وهو ايه اللي هيفضحك يا اما؟ اني البس فستان غير اللي الدكتور جايبه؟
لا يابثينة مش لانك هتلبسي فستان غير اللي فرانسو جايبه لكن عشان عايزة تلبسي فستان اسود، فستان اسود يوم كتب كتابك يا بنتي؟ حرام عليكِ هتموتيني من عمايلك دي، انا تعبت والله.
استدارت بثينة لوالدتها بملامح جامدة ثم قالت وهي تكظم غيظها: وعلى ايه يا ما سيبي الفستان وانا هلبسه خلينا نعدي الليلة على خير...

لا لقد جهزت للسفر اليوم، ارجوك تدبر أمر جلسة الحكم باسرع وقت فأنا لا أود أن أرهق زوجتي بتلك الأمور كثيرا كما أنني ارغب في الحصول على طفلي والعودة سريعا لمصر، حسنا حسنا لا بأس بأسبوع لكن ليس أكثر من ذلك مستر البيرت، اشكرك جزيلا واعتذر عن ازعاجك كل دقيقة باموري، حسنا اراك غدا سيدي.
اغلق فرانسو المكالمة ثم استند برأسه على المقعد خلفه وهو يتنهد بضيق شديد هامسا:
واخيرا اقترب الوقت وستكونين ملكي بثينة.

استدارت فاطمة بعنف شديد ورعب لذلك الصوت الذي صدر من الخلف لتجد زكريا يحمل حقيبة شبابية على ظهره مكتفا يديه عند صدره وهو يرمقها بغيظ يردد سؤاله مجددا:
عيدي بقى كنتِ بتقولي ايه معلش؟ لاحسن شكله كده يوم مش هيعدي.
ابتلعت فاطمة ريقها بخجل شديد ولم تعرف ماذا تقول لذا نظرت سريعا لوداد تتوسل مساعدتها في ذلك المأذق...
ابتسمت وداد وهي تتحدث لابنها حاملة البوم صوره تتجه للداخل مجددا:.

ايه يابني مالك داخل زي القطر كده دي كانت بتتكلم عليك وانت عيل صغير.
نظرت فاطمة بفزع لوداد وهي تغمض عينها بخجل شديد تتمنى بداخلها لو تنشق الأرض وتبتلعها، ابتسم زكريا لرؤيته لها بهذا الشكل وهي تكاد تحترق خجلا.
اقترب منها وهو يبعد حقيبته عن ظهره مبتسما بحنان ثم اتجه الأريكة جوارها وجلس عليها بهدوء وهو يقول بمشاكسة قليلا:
عايزة تبوسيني وانا صغير؟

شعرت فاطمة بوجهها يحترق خجلا وهي تبعد نظرها عن زكريا تكاد تترجاه أن يتوقف لكنه لم يأبه لذلك الصراع الذي تعيشه واقترب منها قليلا ثم همس لها بحب:
ألاّ تمُني عليّ بقبلة تطفئ لهيب ذلك المسكين الذي يخفق لأجلك؟
ابتلعت فاطمة ريقها وهي تهز رأسها برفض متحدثة بصوت جاهدت لاخراجه طبيعي:
هو إنت و إنت صغير يعني كنت كيوت وكده عشان كده يعني هو انا قولت يعني...

كانت تتحدث بتوتر شديد وهي تفرك يدها تحاول تبرير ذلك الحديث الغبي الذي سمعه منها ليبتسم زكريا ويقرر أن يكف عن ازعاجها لذا ابتعد عنها وهو يضحك بخفة:
شوفتيني وانا صغير؟
هزت فاطمة رأسها لزكريا ليبتسم وهو يميل برأسه لتراه هي من الجانب الآخر حيث كانت تجلس معطية ظهرها له لكنه مال برأسه لتراه ويتحدث بنبرة جعلتها تتخيل زكريا الصغير وكأنه هو من يحدثها:
وايه رأيك كنت عسول مش كده؟

ابتسمت فاطمة بسمة واسعة وهي تهز رأسها بنعم ليبتسم هو الآخر لها هامسا بحب:
إذا هل لي أن اراكِ وأنتِ صغيرة؟
فكرت فاطمة لثوانٍ ثم هزت رأسها بنعم وهي تخبره: المرة الجاية لما تيجي عندنا فكرني اوريك صوري وانا صغيرة...
ابتسم لها زكريا وهو يقول بيقين: متأكد أنكِ كنتِ نجمة صغيرة لامعة لتضحي في شبابك قمرًا منيرًا تدورين في فلك قلبي.
ابتسمت له فاطمة وهي تقول بتفكير: هو إنت بتكتب شعر!؟

لم يفهم زكريا سؤالها ليعتدل في جلسته وهو يقول بتعجب: لا، لما السؤال؟
اصل ساعات بحس كأن كلامك شعر يعني لما تقول كلام اللي هو...
صمتت ولم تعلم ماذا تقول ليكمل هو ببسمة: قصدك الغزل؟

هزت رأسها بإيجاب ليضحك هو بخفة ثم أضاف: امممم اصل انا من صغري وانا بشوف إن مفيش لغة في العالم ولا لهجة تصلح للتعبير عن المشاعر قد اللغة العربية عامة والفصحى خاصة عشان كده دايما بغازل بالفصحى لاني بحس انها بتضيف للغزل طعم غير كده بحس الكلام ملوش طعم، أنتِ مش عجبك كده؟
أنهى كلماته بتساؤل التسارع هي تنفي برأسها شكه: لا لا ابدا بالعكس ده جميل اوي وانا بحبه اوي...

ابتسم زكريا بخبث وهو يقترب منها: هو ايه ده اللي بتحبيه اوي؟
العزل بالفصحى.
ابتسم زكريا اكثر: طب وصاحب الغزل؟
خجلت فاطمة من اقترابه منها لتحاول دفعه وهي تغير الموضوع: مش هنبدأ ولا ايه عشان متأخرش و...
توقفت فاطمة عن التحدث وهي تنتبه لانكماش ملامح زكريا بألم وهو يبعد يدها برفق عن ذراعه، فزعت بشدة وهي تنظر له بعدم فهم:
مالك انت متعور؟

هز زكريا رأسه بنفي وهو يحاول ابعاد ذراعه عن يدها: لا لا انا بخير هو بس وقعت في المدرسة على دراعي و اتعورت.
نهضت فاطمة بفزع وهي تقترب منه تحاول رؤية جرحه لكن لم تستطع، لذا مدت يدها دون وعي تفك أزرار قميصه لينتفض زكريا من المفاجأة مما جعلها تعود للخلف برعب:
ايه فيه ايه؟
أنتِ اللي فيه ايه؟
نظرت له فاطمة بتعجب لتصرفه: هشوف الجرح عشان اعقمه...

ضيق زكريا عينه بريبه وهو يعود للاريكة مجددا ليسمح لها بالتقدم منه وهي تسأله بخجل شديد قبل أن تشرع في نزع قميصه:
هو يعني انت لابس حاجة تحت القميص؟
ابتسم زكريا بخبث ثم غمز لها قائلا: ولا مش لابس ما أنتِ سبق وشوفتي كل حاجة.

خجلت فاطمة بشدة وهي تتذكر ذلك اليوم الذي استيقظت به لتراه لا يرتدي سوى ثيابه السفلية لتبدأ في فك الأزرار دون كلمة إضافية وهي تنادي وداد لتحضر علبة الإسعافات لكن أثناء أبعادها للقميص عن زكريا وجدت شيء يسقط منه لتنحني قليلا وهي تحمل الورقة التي سقطت ظنا أنها تخص زكريا لكن أثناء التقطاها رأت ما جعل عينها تتسع بصدمة وهي تقول:
ايه ده يا زكريا؟
تمام شكرا اتفضل إنت واقفل الباب وراك ومش حابب حد يزعجني.

أدى العسكري التحية وهو يستأذن رشدي ويخرج تاركا إياه يعود بظهره للمقعد مطلقا زفره طويلة من صدره تعبر عن مقدار التعب والارهاق الذي يكمن داخله، ثم نظر لهاتفه بتعجب فمنذ رفض اتصالات العائلة كلها منذ ساعات لم تحاول ماسة الاتصال به من عند أحد مجددا هل يأست بهذه السهولة؟ لا يعقل هذا فليست ماسة من تتركه غاضبا منها طوال هذه الفترة.

في الخارج كانت تتحرك في القسم وهي تنظر حولها ببرود شديد حتى وصلت لأحد المكاتب لتتحدث للعسكري الذي يقف أمامه ببسمة مغفلة قليلا:
لو سمحت هو الظابط أباظة جوا؟
فتح العسكري عينه بتعجب لذلك الاسم الذي تنادي به رشدي ورغم ذلك هز رأسه لها:
ايوة بس هو مانع أي حد يدخله ولو عندك اي شكوى أو قضية تقدري تروحي لعصمت باشا هو حول كل القضايا عليه.
نظرت له ماسة بعدم رضى وهي تضع ما تحمله بيدها ارضا: هو متعصب اوي؟

زفر العسكري بضيق وهو يجيبها: اوي وياريت تمشي دلوقتي بدل ما يسمع الصوت ويطلع يتعصب أكتر...
ابتلعت ماسة ريقها وهي تنظر حولها ثم وفي غفلة عن أنظار العسكري مستغلة عنصر المفاجأة حملت ما وضعته في الأرض واقتحمت مكتب رشدي وهي تصرخ بصوت عالي:
اباظة...
ايه ده؟
ابتسم هادي باتساع وهو يشير بيده وكأنه يقوم بخدعة سحرية: دي الملاهي...
نظرت له شيماء بصدمة مصطنعة وكأنها لم تكن تدرك ذلك ثم قالت بنبرة مختنقة قليلا:.

انا مش بحب الملاهي ليه جايبني هنا؟
ابتسم هادي يتذكر حديث رشدي القديم عن كره شيماء للملاهي بسبب تعرضها للعديد من المواقف الغير مرغوبة بها وهو لم يرغب أن تظل خائفة من مواجهة أحزانها...
ايوة بس انا بحبها واكيد أنتِ كمان هتحبيها...

كاذب، يعرف فهو لا يكره في حياته قدر تلك الألعاب السخيفة التي تصعد الفتيات لها خصيصا للصراخ بشكل بشع قد يسبب الصمم له أو بقدر الالعاب التي تسبب شعور بالغثيان، لكن لأجل شيماء قد يحبها فقط لأجلها...
تعالي يلا نبدأ باللعبة اللي هناك دي.
أنهى حديثه وهو يجذبها خلفه قبل حتى أن يعطيها فرصة للرفض بينما هي تنظر لظهره بتعجب وهي تفكر فيما يفعل هو...

ركض هادي ووقف في طابور شباك التذاكر وقد جعل شيماء تقف بعيدا قليلا عن الازدحام حتى يحصل لهما على تذاكر و كل ثانية ينظر لها مانحا إياها بسمة جميلة منه، واحيانا يشير لها بإبهامه أن كل شيء على ما يرام...

كانت شيماء تقف أسفل إحدى الأشجار تراقب هادي وما يقوم به لأجلها وهي تفكر إن لم تتزوج بهادي وعاندت وتزوجت بغيره هل كان ليفعل كما يفعل هادي؟ والإجابة كانت واضحة وهي لا، لم يكن أحد ليفعل ما يفعله هادي لانه ليس هادي ببساطة، هي لا تملك ثقة بنفسها ولو بمقدار ذرة واحدة، لكن مع هادي تعلمت أن تستمد ثقتها منه هو، من نظراته وبسماته الموجه لها خصيصا.

استطاع هادي واخيرا الحصول على تذكرة له ولشيماء ليبتسم بفخر وهو يرفع التذكرتين عاليا راكضا للجهة الأخرى حيث تقبع شيماء في انتظاره بمرح لدرجة لم ينتبه لذلك الطفل الذي كان يحمل مسدسا ملئ بالذخيرة التي تتمثل في كرات صغيرة قد تصيبك بالشلل من كثرة الالم الذي تسببه عندما توجه لك، وأثناء ركض هادي لم ينتبه لتلك القذيفة التي تتوجه صوب ذراعه العاري بسبب ارتدائه لقميص ورفعه للكم الخاص به مظهرا جزء من ذراعه وفي ثواني كانت صرخات هادي هي من تصم اذان الجميع...

ايه دي؟
لم يفهم زكريا ما تقصد فاطمة حتى رفع نظره عن ذراعه متسائلا بعدم فهم لسؤالها الذي انطلق للتو:
ايه؟
رفعت فاطمة الورقة في وجه زكريا وهي تلوح بها متحدثة بنبرة حادة قليلا تحاول أن تتماسك حتى تفهم:
ايه دي يا عزيزي زكريا؟
عزيزي زكريا؟ ده دلع ولا تهديد؟
ابتسمت فاطمة بسخرية ثم أشهرت الظرف في وجهه وهي تقول مشيرة للاسم المكتوب على ظاهره بسخرية شديدة تحاول منع دموعها من الهبوط:
إلى العزيز زكريا...

انكمشت ملامح زكريا بعدم فهم وهو يدقق النظر في المظروف الوردي الذي يتوسط يد فاطمة يحاول التذكر متى حصل عليه أو من أعطاه له، لكن لا شيء لا يتذكر حتى أنه حصل على هكذا ظرف وردي طوال حياته.
ايه ده؟
انت بتسألني انا؟
انتبه زكريا للنبرة الشرسة التي تتخلل حديث فاطمة ليدرك أنها لا تمزح ابدا لذا تحدث بجدية كبيرة وهو يشير لها برأسه:
خلاص افتحيه وشوفي ايه ده لاني مش هقدر أفيدك واقولك هو ايه؟ ببساطة لاني معرفهوش.

نفخت فاطمة بضيق وغضب شديد وهي تفتح الظرف بغضب شديد حتى كادت تقطع الرسالة معها ثم فردت الورقة وهي تقرأ بحنق وغضب شديد:
إلى العزيز زكريا من حبيبتك المجهولة...
فتح زكريا عينه بصدمة شديدة وهو يستمع لتلك الكلمات ونهض سريعا يقترب من فاطمة ينتظرها أن تكمل قراءة:
اعلم جيدا أنك تحب الفصحى لذا أحببت أن أكتب لك بها واعبر لك بها عن مشاعري...

ابتلع زكريا ريقه وهو يشعر وكأن المكان أصبح ضيقا عليه يسمع صوت فاطمة الساخر:
وكمان عارفة انك بتحب الفصحى؟
ياحبيبتي أنا مدرس لغة عربية يعني يوم ما هحب لغة هحب ايه يعني هيروغليفي؟
نظرت له فاطمة بشر: انت بتهزر؟ واحدة كاتبة ليك جواب غرامي يا استاذ وانت بتهزر؟
أبعدت فاطمة عينها عن زكريا وهي تكمل القراءة وعيونها تمر على الكلمات بشر كبير:.

قد تتعجب سبب كتابتي لتلك الكلمات وقد لا تتعرف عليّ لاني لم اكتب اسما لكن يمكنك أن تسأل قلبك فسيعرفني أو أن تسأل عينيك التي لا ترى سوايّ طوال الوقت.
أشار زكريا لنفسه بعدم تصديق لتلك الكلمات وهو يفتح فمه بصدمة كبيرة هو يوما لم يرفع نظره في امرأة أو يفكر بها بشكل كما تصفه تلك الفتاة...
عن ذلك الجزء رفعت فاطمة عينها بشر شديد وهي تهمس بنبرة مخيفة: لا ترى سواها طوال الوقت؟

اقسم بالله الذي لم اقسم به كذبا طوال حياتي اني حتى لا ارفع عيني بأمرأة قصدا...
هبطت دموع فاطمة بغيظ وهي تلقي الرسالة ارضا دون حتى أن تكمل قرائتها تشعر بنار تشتعل داخلها ودموع لا تعرف مصدرها تخرج بغزارة من عيونها وهي ترفع صوتها تصرخ به دون التحكم في نفسها:
مين دي؟ وازاي تكتب كده ليك؟ هي متعرفش انك متجوز؟ وهي اساسا ليه ت...

لم تكمل فاطمة حديثها بسبب زكريا الذي جذبها بعنف لاحضانه وهو يدفن وجهها بصدارة يحاول تهدئتها وتهدئه بكاء:
ولما البكاء اميرتي فإن لم تكن فاطمة هي من كتبت تلك الرسالة فلا حاجة لي بها...
بكت فاطمة بشده وهي تدفن نفسها أكثر بزكريا هامسة: هي بتكتب ليك ليه اساسا؟ هي متعرفش إنك جوزي انا؟
ابتسم زكريا وهو يقبل أعلى رأسها: ايوة يا قلبي انا جوزك أنتِ خلاص اهدي بعدين أنتِ غيرانة ولا ايه؟

أنهى زكريا جملته الأخير بمزاح شديد لتفاجئة فاطمة وهي تجيبه بجدية:
ايوة بغير
أبعدها زكريا عنه بتعجب وهو ينظر لها بعدم فهم: بتغيري؟
بغير...
ابتسم لها زكريا بسمة غير مصدقة وهو يتحدث بأمل شديد وقد بدأ قلبه ينبض بعنف:
معنى كده انك...
بحبك؟ يا زكريا انا مبقتش طالبة إلا وجودك...
تنفس زكريا بعنف وهو يود لو يختطفها الآن ويخفيها داخل صدره تلك الجميلة البريئة التي كسرت بسبب بعض البشر عديمي الضمير...

ضمته فاطمة وهي تستند برأسها على صدره ثم قالت وهي تتذكر حديثه عن حبه للغزل بالفصحى:
كنت أتجنب كثافة العالم، لأحظى بإزدحامك...
صمتت ثم قالت بعدها وهي تنظر لعينه: ممكن اقولها بكل لغات العالم عشانك بس خليني اقولها بلغة غزلك انت، اعشقك زكريا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة