قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس عشر

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس عشر

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس عشر

مع هذه القرعات العنيفة على الباب والتي كادت تكسره، ركضت سوسن لتفتحه بهلع ومن خلفها داليدا، ليجدن نائل ممسكًا ب وتين هكذا، شهقت داليدا بصدمة جلية وحاولت التدخل كي تخلصها من قبضته وهي تصيح فيه: - سيبها انت ماسكها كدا ليه؟
وضربت على ذراعه عندما كان هو يدخل ساحبًا إياها خلفه ولكن دون جدوى: - سيب البنت، سيبها
التفت نائل يواجه داليدا بينما وتين خلفه وصرخ في وجهها صرخة أفزعتها: - متدخليش.

ودفع زوجته لداخل الغرفة وبقى هو معها عقب أن صفق وأوصد الباب لينفردوا معًا..
لم تحاول وتين حتى التملص منه، وإنما كل مجهوداتها ومحاولاتها ستكون لحماية طفلها، كانت تتحرك معه محافظة على ألا تسقط أو ترتطم بشئ.

أبعدت نظراتها عنه متحاشية هذه الشظايا التي تنفلت من بين جفونه، ف استشعرت اقترابه منها، تثبتت في مكانها ولم تتحرك قيد أنملة، حتى وجدته يجلسها فجأة على الفراش ويعيد سؤاله بلهجة أشد حزمًا: - كنتي بتعملي معاه إيه؟ عايزة إيه من ابن نصار.

ازدردت ريقها ملتزمة الصمت، لن تحاول استفزازه أو استثارة رجولته، ستكون هي الخاسرة لا محالة، وقد تكون الخسارة هي طفلها الذي لم يولد بعد، انتظر جوابًا منها ولكنها لم تفعل، ف صاح فيها وقد احمرّ وجهه: - ردي عليا
- أفتح الباب يانائل، أفتح احسن هلم عليك الناس، أفتح
كانت داليدا تحاول فتح الباب بشتى السبل، حتى إنها استخدمت أدوات حادة من المطبخ لتفتحه أيضًا ولكن دون فائدة..

جذبها نائل من ذراعيها لتقف أمامه، هزها بهمجية عنيفة وهو يعاود تساؤله: - ردي، لسانك الطويل راح فين؟
حاولت أن تمتص غضبه، أن تحول تفكيره لاتجاه آخر كي يبتعد عن هذه المنطقة الحساسة في الموضوع، ف نظرت لداخل عينيه مباشرة، ثم سألته بصوت مختنق: - انت دوست عليا، دهستني، لسه شايف حاجه تانية متبقية مني عايز تدوس عليها؟

لم تترك له فرصة التحدث أو الأجابة، وعادت تتابع بعد لحظتين صمت: - عايز مني إيه تاني يانائل!، مش حققت غرضك وخدت كل حاجه؟، طلقني، سيبني وانا هنساك وهعتبر إني كنت بحلم وصحيت.

فزادت كلماتها من عناده و: - عايزة تطلقي عشان تروحيله!، ده بعينك انتي وهو، مش هيحصل
- مش هروح لحد، مش عايزاه، أنا عايزة ارجع لنفسي ولحياتي، لو طلقتني مش هضطر أحط نفسي قدام رحيم عشان يساعدني.

ف ابتسم بسخرية من زاوية فمه و: - انتي بتحطيني انا قدام الأختيار!؟
لم تكن هادئة هكذا من قبل، حافظت بقدر استطاعتها على هذا المستوى من التعامل لتفادي أي تهور غير محبوب الآن تحديدًا، فصدر صوتها خافتًا وهي تنطق عبارتها الأخيرة بتحسر وحزن شديدين: - انت مسبتليش حل تاني، مفيش حد أقدر ألجأ ليه ولا حتى عمي.

انفتح الباب واندفعت داليدا للداخل، جذبته من ملابسه ليبتعد عنها ووقفت أمامه لتجأر فيه بشراسة: - عايز إيه منها تاني؟، مش كفاية اللي حصلها من تحت راسك انت والحرباية أمك
فأشار بسبابته محذرًا إياها ونظراته مليئة بالحقد: - أحسنلك متغلطيش ومتدخليش، بدل ما تغلطي كنتي عرفتي بنتك الحقيقة وقولتلها إن ابوها حرامي وسرق أمي وكل اللي انتوا كنتوا فيه ده حقي أنا.

فصرخت فيه وهي تضرب على صدره ليرجع للخلف: - كداب، وأمك كمان كدابة، سامي مسرقش منها حاجه
واندلعت گالنيران لتبثق في وجهه كل ما تعرفه من حقائق: - أمك كانت داخله شريكة في كل حاجه، ولما عرفت إن سامي اتجوزني صممت تصفي الشراكة ويطلقها، أمك كانت عايزة تكوش على كل حاجه، ولما لقت نفسها بقت مطلقة وحتى المعارض معرفتش تاخدها عملت كل ده.

تشنجت عضلات عنقهِ وهي يقول ب غلّ: - كل اللي بتهري فيه من الصبح مش داخل راسي
ونظر نحو وتين ليستطرد: - وبرضو مش هسيبك تعملي اللي في دماغك
والتفت ينصرف وعواصف غضبه تحاوطه گمثلث الدوامة، بينما اهتمت داليدا بمساعدة وتين كي تنزع ملابسها ووضعتها بالفراش وهي تردف بلهجة منزعجة: - ارتاحي ياحببتي.

وما أن رأت دموع ابنتها حتى آلمها قلبها أكثر: - حرام عليكي نفسك ياوتين، سيبيه ياكل في نفسه كدا، هو هيتجنن عشان حاسس إنك هترجعي لرحيم تاني.

دلفت سوسن وهي تحمل كأس من الليمون البارد بقطع الثلج وأوراق النعناع الطازج، وأقتربت منها وهي تقول: - اشربي يابنتي، اشربي وروقي بالك، منه لله.

التقطته منها وارتشف بعجالة، حيث تمكن منها الظمأ وأصبح حلقها علقمًا، لم يكن اليوم سهلًا عليها ومازال الليل لم يحلّ، سيكون طويلًا كئيبًا بائسًا عليها، ناولتها الكأس فارغًا وأخذت تبحث في حقيبتها عن هاتفها الذي استمعت لصوته الخفيض، نظرت نحوهن، ف انسحبت سوسن بهدوء، وهزت داليدا رأسها بتفهم وهي تغادر أيضًا موصدة الباب من خلفها، لتتحدث هي براحة: - أيوة
فآتاها صوته: - عايز عقد ملكية بيت الأزياء بتاعك
- ليه؟

- محتاج اشوف حاجه فيه
- حاضر، بكرة هجهزه وابعت السواق بتاعك ياخده
نبرتها لم تكن جيدة على الأطلاق، أحس بذلك من الوهله الأولى ولكنه تصنع عدم الإهتمام، وتصنعه هذا لم يدوم طويلًا، ف سألها مباشرة: - بتعيطي ليه؟
- مفيش، عايزة انام
نظر في ساعة يده وقال مستنكرًا: - انتي عمرك ما حبيتي النوم بالنهار، في حاجه حصلت ومش عايزة تقوليها؟
- لأ
- براحتك، سلام.

ثم أغلق المكالمة، لحظات وسيسقط هذا القناع الجليدي ويذوب عن وجهه، رغبة جامحة في الذهاب إليها الآن ولا يتركها حتى يشفي قلبها تمامًا، ليت بإمكانه استعادة الأيام الغابرة فلا يتركها لهذا المخادع اللئيم الذي بددها كليًا وتركها في حالة مزرية هكذا.

ما يزيد عن أربعة عشر ساعة كاملة وهي نائمة بدون أن تستيقظ، منذ وقت طويل لم تنام هذا القدر الكبير بدون أن تصحو، ولولا اتصالات رحيم المتكررة ما كانت استيقظت الآن، أجابت وهي مازالت مغمضة عيناها ليظهر صوتها الناعس: - ألو
- انتي لسه نايمة؟ دي الساعة 4 العصر؟
- مقدرتش أصحى
ثم اعتدلت في جلستها و: - أنا جهزت عقد الأتيلية امبارح و...
- هبعتلك السواق يجيبك عندي، نص ساعة وتلاقيه عندك.

رفعت الغطاء عنها وهي تنفخ بضجر، وقبل أن تنهض وجدت داليدا تدخل عليها: - كويس انك صحيتي ياوتين، بدر برا وعايز يشوفك
ارتكزت عيناها على والدتها وهي تردد: - بدر!، قوليله مش فاضية، أنا مش عايزة اشوف حد
فقالت بقنوط: - حاولت ومعرفتش، مصمم يشوفك بأي شكل.

هي الوحيدة التي سيكون لها كلمة مسموعة لدى كاميليا، فقد وصل معها لمرحلة متأخرة للغاية ولا يستطيع إيجاد حل لهذه المعضلة التي وقع فيها، جلس منتظرًا إياها بفارغ الصبر، معتقدًا إنه سيرى وجهها الجميل مبتسم في وجهه گالعادة وستقوم بمساعدته قبل أن يطلب حتى..

وقف حينما رآها تقبل عليه، وتجمدت عيناه عليها حينما رأى هذا الوجه الذابل الشاحب، يبدو إنها فقدت عدة كيلوات من وزنها أيضًا، بسط يده ليصافحها، فصافحته ببرود: - أزيك ياوتين؟
- كويسة
ثم جلست على طرف المقعد وسألت: - خير يابدر؟
تجاهل هذا الجفاء ولم يكترث، ومباشرة قال: - أنا وكاميليا على وشك إننا نخسر بعض، مفيش غيرك هيقدر يتدخل في الموضوع ده.

فكرت سريعًا في استغلال هذا الموقف لصالحها، فلم تتردد في عرض هذا الأمر عليه: - أنا كمان خسرت كل حاجه، ومحدش غيرك هيقدر يتدخل في الموضوع ده
اعتدلت في جلستها وتابعت: - مستعدة أوافق لو هتكون الخدمات متبادلة
وبالرغم من مضايقته من هذا التعامل الجديد، إلا إنه أظهر موافقة مبدأية: - إيه اللي اقدر اقدمهولك؟

تمعنت النظر لعيناه لترى عاشقًا أجبره عشقه على اللجوء لأعتابها، وصمتت لهنيهه قبل أن تردف: - أنا عايزة توقيع نائل على عقود بيع وشراء لكل المعارض والمصنع بتاعي.

ارتفع حاجبيه بذهول من هذا الطلب المرعب، تطلب منه رسميًا خيانة نائل خيانة مباشرة، هذا الصمت جعلها توقن إنه لن يفعل، تركته يفكر مليًا ونظراته مرتكزة عليها، وقطع هذا الصمت بوقفته، مضى في طريقه نحو الخروج دون التفوه بكلمة زائدة، ف اعتبرت ذلك بمثابة رفض قاطع منه، وماذا كانت تتوقع من أقرب الناس له، بالتأكيد لن يكون خائنًا مثله، ذمت شفتيها وابتسمت بسخرية، ثم صاحت: - هاتي شنطتي عشان انزل ياسوسن.

كان رحيم يجلس برفقة تلك السيدة الأربعينية في مكتبه بداخل معرض السيارات الخاص به، قام بتقديم سيجارة لها ثم أشعلها بنفسه حينما كانت وتين تطرق على الباب الزجاج من الخارج، التفت وهو يسمح لها بالدخول، دلفت وعيناها على تلك السيدة، ف استقبلها رحيم بحرارة و: - أزيك ياوتين؟
وصافحها بكلتا يديه محتضنًا كفها، ثم التفت نحو السيدة و: - ثانية واحدة يامدام نهلة وراجعلك
- اتفضل ياأستاذ رحيم.

اصطحبها رحيم معه للخارج، وعندما تأكد من خلو المكان سألها وقد عادت طريقته كما كانت: - معاكي أوراق ملكية الأتيلية؟
فعقدت حاجبيها بتعجب وهي تجيبه: - آه، بس آ...
- كويس، المحامي جاي دلوقتي وهنتمم إجراءات بيع الأتيلية النهاردة
- إيه؟!
قالتها وقد نفذت قدرتها على التحمل لأكثر من هذا، ثم أتبعت ذلك قائلة: - مستحيل ابيعه، ده الحاجه الوحيدة اللي فضلالي حرام عل...

كتم صوتها، وبذراعه الأخرى كان يجتذبها لتكون أقرب، تقريبًا ملامسه لصدره، تسارعت ضربات قلبها ولم تحاول إصدار رد فعل، والتأثير الأكبر كان عليه هو، توهجت بشرته وصب تركيزه على ملمس جلدها، وتحركت أصابعه قليلًا وهو يقبض بهما على خصرها قائلًا بصوت هامس: - هعوضك عنه.

أومأت رأسها بحركة رافضة، ف استطرد رحيم: - اسمعي كلامي ياوتين، لازم تبيعي الأتيلية ده ودلوقتي، وأنا هعوضك بأحلى منه مليون مرة، وبكرة تشوفي أنا محضرلك إيه.

نزع كفه عن وجهها و: - مدام نهلة هي اللي هتشتري وهتدفع المبلغ كاش دلوقتي، أسبوع بالظبط والأتيلية الجديد يكون عندك.

أطرقت رأسها وهي تطبق جفونها باستسلام، فوجدته يسحبها برفق من خلفه..
كانت أسرع بيعه رأتها، حتى أن المبلغ المدفوع كان أضعاف قيمة بيت الأزياء خاصتها، تم كل شئ وخسرت أيضًا بيتها الثاني، لا تعلم لماذا كانت بهذا اللين ووافقت على هذا الجنون؟!، ربما لأنها أصبحت لا تثق سوى بخياراته، آمنت بإنه سيأتي بحقها إيمانًا لا يقبل الشرك أو الكفر، وتركت نفسها له يتصرف كيفما شاء.

أغلق رحيم حقيبة النقود السوداء ثم تركها جانبها: - دي فلوسك، واستني مني أوفي بأول وعد ليكي
دخل أحد موظفيه بعد أن طرق الباب، ثم ناوله مفتاح سيارته وهو يقول: - عربية حضرتك خلصت يارحيم باشا
- امشي انت وانا هقفل المكتب
- حاضر
نهض عن جلسته و: - يلا بينا، هنروح نتعشا وبعدين أوصلك
- لأ انا عايزه اروح، محتاجة انام.

ف نظر نحوها بنظرات ماكرة وهي يرمي بكلمة مقصودة: - بتنامي كتير اليومين دول!، بس المرة دي مش هينفع تعتذري
فتح باب المكتب لها لتعبر أمامه، ثم خرج من خلفها حاملًا حقيبة نقودها و...

خرجت نداء من بناية منزلها ممسكة بهاتفها، ثم انحرفت يسارًا وهي تنظر باتجاه الطريق، حاولت إيقاف سيارة أجرة ولكنها مرت بسرعة البرق من أمامها، ف نفخت بانزعاج وهي تنتظر أخرى، حتى وجدت هذه السيارة تقترب منها، لم تهتم وانحنت قليلًا لتتفاداها، ولكن السيارة توقفت أمامها مباشرة وترجل منها زوجها هشام، اضطربت نداء وهي تحاول الإبتعاد عنه ولكنه قيد حركتها تمامًا وهو ينطق: - أمشي معايا بالزوء يانداء.

صرخت فيه محاولة الفكاك من بين يديه و: - أبعد عني احسن هصرخ و...
فوجدت ضربة عنيفة تتلقاها على مؤخرة رأسها تفقدها وعيها في الحال، ف عنف هشام صاحبه قائلًا: - إيه اللي هببته ده يابني! كدا كدا كانت هتيجي معايا!
- ياعم هتفرج علينا الدنيا، خلصنا.

وفتح له باب السيارة الخلفي كي يضعها، ساندها هشام جيدًا وهي فاقدة وعيها هكذا، ثم وضعها بالخلف وأغلق باب السيارة، استقر في الأمام و هو يردد: - ماانتي مش هتيجي بالزوء بقى يابنت الناس، يبقى مفيش غير العافية
ونظر لها عبر المرآه الأمامية ليطمئن على هدوء الأوضاع التي ظن إنها في صالحه..

وضع رحيم آخر صحن على مائدة الطعام، ثم سكب عصير الفواكه لها وجلس قبالتها بدون أن يتحدث، فبادرت وتين وهي تنظر للطعام: - مكنتش اعرف إنك بتعرف تطبخ؟
- مش أوي، انا اضطريت بس النهاردة عشان صفوت مش موجود
وضع أمامها قطع الدجاج و: - كلي يلا.

بدأت بالفعل في تناول الطعام، أحست بمذاق فريد ومختلف لم تتذوقه من قبل، وما حمسها أكثر هو عصير الفواكه الذي أحست بأنه ذا مذاق مختلف، استشعرت طعمه وهي تتسائل: - طعمه غريب أوي
فرفع بصره يتطلع إليها بتمعن وهو يؤكد: - مش هتدوقي العصير ده غير هنا.

رآها تأكل بشهية مفتوحة عقب أن ظلت عاكفة عن التناول لعدة أيام، كان يتابعها من حين لآخر وهو يتناول لقيمات بسيطة، حتى وجد تعابير وجهها تتغير، راقبها جيدًا، حتى وجدها تتحسس بطنها وهي تتأوه: - آه
فسألها: - مالك؟
- معدتي وجعتني فجأة
ثم شعرت برغبة شديدة في التقيؤ، حاولت ضبط أنفاسها وقد بدأت تتعرق بشدة، ف عرض عليها وهو يشير نحو الدرج: - الحمام في الدور الأول على اليمين.

نهضت على الفور، وسارت نحو الدرج متجاهلة هذا الدوار الشديد الذي تمكن من رأسها، قاومت لأقصى درجة هذا الشعور الذي انتابها..
بينما كان هو بمكانه، ينظر لساعة يده التي تدق وهو يتمتم: - تمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ت...

واستمع هنا لصوت ارتطام مفاجئ جعله يلتفت برأسه، كانت ملقاه على الدرج عقب أن فقدت وعيها، نهض رحيم وأمسك بكأس العصير الذي امتزج بأقراص مخدرة، ثم ألقاه في حوض المطبخ وعاد إليها مهرولًا، انحني وحملها عن الدرج وهو يعتذر: - سامحيني على اللي هعمله، بس صدقيني ده لمصلحتنا.

وصعد بها لأعلى، كان يتهادي في خطواته لعلها تمكث بين أحضانه وقت أطول، متشبثًا بها وكأنها ستقع، حتى دخل بها غرفته، مددها على الفراش ولم يتركها، بل ظل محتضنًا إياها وهذه الدمعة تترقرق على صدغه لتختفي بين شعيرات ذقنه، دفن وجهه في عنقها يتنفسها، وهنا سالت دموعه گالشلال وهو يضمها إليه أكثر وأكثر، سكونها يريبه وفي نفس الوقت يريح قلبه لقربها الشديد هذا.

رفع وجهه ينظر إليها بتدقيق، ثم طبع قبلة طويلة بشفاهه على رأسها، ومسد برفق على بشرتها وهو يهمس: - أنا آسف ياوتيني، مفيش حل تاني، انتي هتبيعي الدنيا كلها لو العيل ده شاف النور.

وأغمض عيناه وهو يستند بجبهته على وجنتها قائلًا: - وانا مش هستحمل تبيعيني تاني
استمع لصوت بالأسفل، ف اعتدل بعجلة وهو يمسح دموعه، ثم نزع عنها حذائها وقام بتغطية جسمها بالغطاء، وخرج.
أسرع بخطاه نحو الباب ليفتحه، وإذ بتلك السيدة تدخل بصحبة أخرى تمسك بحقيبة جلدية كبيرة: - أنا جيت في المعاد
أغلق رحيم الباب عقب أن دلفت، وقبل أن تتحرك استوقفها قائلًا بحزم: - لو غلطتي غلطة واحدة، مش هرحمك.

فقالت بغطرسة فارغة: - عيب ياأستاذ رحيم، انا دكتورة نسا مش جاية من الشارع، هي فين؟
- تاني أوضه على الشمال
أشارت الطبيبة لمساعدتها و: - أطلعي حضريها لحد ما اجي
- حاضر
كان قلبه منقبضًا وهو يقدم على مثل هذه الخطوة، وكلما أحس ب اقتراب تنفيذ مخططه في إجهاضها يخشى أن يصيبها مكروه أكثر، ولكنه أصر ألا يترك هذا الطفل لها، مجرد تركه يهدد تواجده في حياتها ويهدد بقائها معه..

لم يكن لديه بديلًا، فهو لا يضمن ظروف الغد.
اختفت الطبيبة بداخل الغرفة بصحبة مساعدتها، بينما بقى هو واقفًا هكذا بتصلب، أصبح الخوف من خسارتها يخيفه أكثر من خوفه من الموت، بل أن حياته لا تعني شيئًا مقابل حياتها هي وبقائها بجانبه.

نفث في تلك السيجارة بشراهة حتى أنهاها وكاد أصبعه يحترق بصبابتها، فقذف بها ودعسها وهو ينظر لساعة يده، مرّ خمسة وعشرون دقيقة ولا يوجد خبر، فكر في الصعود إليهم ولكنه تراجع، حتى مجرد نغزها بأبرة لا يتحمل أن يراها، فما بالك بتلك الجريمة التي تقام بالأعلى على مرأى ومسمع منه.
ضحكتها، صوتها، رائحتها، ملمسها، عطرها، كل تلك الأشياء تهاجمه الآن، تدفعه للعودة من هذا الطريق الذي سلكه، ولكن لا فائدة.

استمع لصوت الباب، ف هرع نحوهم وهو يلتهم الدرج التهامًا، فوجدها تومئ رأسها بالإيجاب وهي تقول: - خلاص، خلصنا
ازدرد ريقه وهو يتسائل بتوجس: - الجنين آ...
- نزل
راحة يصاحبها ألم، نصر يرافقه خسارة، ونجاح يصاحبه فشل، شعر بكل ذلك في آن، بينما رددت هي: - باقي الحساب عشان الحق العيادة بتاعتي
فأخرج شيك نقدي ناوله إياها، وقبل أن يتسائل بادرت هي: - كل الأدوية اللي هتحتاجها على التسريحة جوا، نستأذن احنا.

ولحقت بها المساعدة خاصتها، وكأنهن يركضن بسرعة للخروج من هنا، حتى تمتمت المساعدة: - هنعمل إيه لو جه العيادة يادكتورة!
ف لكزتها وهي تردد بصوت خفيض: - أخرسي خلينا نمشي من هنا
وخرجن سويًا گاللاتي افتعلن جريمة ويهربن منها..
دنى منها، ورغم أن الشحوب يكسو بشرتها إلا إنه لم يلاحظ ذلك، تلمس وجهها ليجده باردًا، وهمس ب: - كل حاجه هتكون كويسة.

كانت شفتاها الزرقاوتين ترتعشن وهي غائبة عن الوعي هكذا، فنهض يحضر غطاء إضافي من الخزانة ظنًا إنها تشعر بالبرد.
رفع عنها الغطاء الخفيف وكاد يدثرها بالآخر، ليجد بركة من الدماء تحاوط بها ونصفها السفلي مغلف بالدماء، تجمدت الدماء في عروقه وسقط الغطاء من بين يديه، توقفت أنفاسه لحظة وهو ينطق: - وتين!
وهزها بعنف محاولًا إيقاظها بأي شكل قبل أن يدفنها في أحضانه وهو يصرخ بأسمها صرخة مدوية: - وتين...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة