قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثالث عشر

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثالث عشر

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثالث عشر

في ظروف غير تلك ستكون أسعد إنسان في الدنيا، بل إنها ستصل للسماء بقفزه واحدة من فرط الحماسة، قطعة تجمع بينهما تتكون بداخل أحشائها، سيأكل ويشرب معها؛ سيشاركها لحظاتها كافة، سيتحرك وتستشعره وينبض قلبه بداخلها، ستهتم بأقل تفصيله، تجهيز ملابسه وحاجياته قبل الولادة وتذهب برفقة زوجها العزيز للتسوق من أجل ابنهما وتختار تصميم غرفة خاصة له بنفسها.

كل هذا السيناريو تخيلته في لحظة شدوه واحدة، و عيناها المتسعتين عالقة على الطبيبة التي شعرت بالتوجس من هذه الملامح الغريبة التي لم تكن تتوقعها مع خبر مفرح گهذا، حاولت لفت انتباهها ولكنها كانت في عالم آخر تمامًا، اقتربت منها ووضعت كفها على كتفها تسألها: - انتي كويسة؟
لم تجب ونظراتها مسلطة على الفراغ، ف أعادت الطبيبة سؤالها وهي تضغط بخفة على كتفها: - مدام وتين!
- ها.

انتبهت لها ورفعت بصرها نحوها: - بقولك انتي كويسة؟
هزت رأسها عدة مرات بدون التفوه بكلمة، ف تابعت الطبيبة: - أبلغ جوزك و...
ف انتفضت وتين من جلستها بذعر جلي و: - لأ، انا اللي هبلغه بعدين
تعجبت من موقفها ذلك ولكنها لم تبدي، فبررت وتين: - آ، أصلنا متخانقين يعني و، آ، هقوله في الوقت المناسب.

فحاولت الطبيبة أن تفسر وتحلل لها ما رأته: - أن شاء الله الأمور تتصلح، على فكرة ده بيحبك أوي، باين على عينه وهو بيسألني عنك.

رمشت وتين وهي تخفي نظراتها المضطربة، وتلقائيًا وجدت كفها يتحسس الجزء الأسفل من معدتها، موضع الرحم تحديدًا، وأطبقت جفونها وهي تطرد زفيرًا مختنقًا أعقبته ب: - أنا عايزة امشي من فضلك
- أرتاحي وانا هكتبلك الروشتة حالًا وبعدها تقدري تخرجي
وأجلستها ثانية على الفراش، لتغيب بذهنها عن هذا الواقع لدقائق معدودة.

صفق نائل باب السيارة عقب أن استقر مكانه بجوار مقعد القيادة ثم صاح بنبرة خشنة: - خلص ووديني ال?يلا يابدر، مش هتقعد متنح في وشي كتير
مازالت عينا بدر الحانقة عليه، ومن ثم قال: - لو مكنتش عرفت توصل لأمن الكومباوند وتتصل بيا كنت هتعمل إيه؟
ثم أشار بعينيه لثيابه: - مين كان هجيبلك هدوم وييجي ياخدك يابيه؟

فصاح به نائل وهو يضرب الباب بمعصمه: - يوه، هتفضل تسمعني الكلام ده للسنة الجاية ولا إيه يابدر؟!، انا غلطان إني كلمتك يعني!

ف وجد الرد جاهز وسريع: - انت غلطان في كل اللي حصل، وانا شايل معاك الليلة دلوقتي، أبعد عن وتين يانائل، بلاش تضطرني أخسرك وساعتها مش هخليك تشوف وشي تاني.

وأدار المحرك من بعد ذلك منطلقًا باندفاع، غير راضي عن أيًا مما يحدث، وكيف يرضى بهذا الظلم البيّن الذي طال تلك المسكينة ومازالت عواقبه مستمرة، حتى إنه لا يمهلها فرصة للراحة، وما يؤرقه أكثر هو تأثر علاقته بحبيبته الوحيدة كاميليا بانهيار وتين وما حدث لها، ربما تكون قد رأت في بدر مسخًا من نائل وجزءًا منه أيضًا.

- مستحيل، مش هيعرف ولا ليه أي حق يعرف
كانت مصرة للغاية، مُصرة حد الموت، قالتها وتين متمسكة برأيها عقب تأكدها من حملها بطفلها الأول، حاوطت بطنها بكفيها وكأنه ملكها وحدها وتابعت: - نائل مش هيشوف ابني ولا هيلمسه، حتى لو وصلت إني أخبيه عن عيون كل الناس
لم توافقها داليدا على فكرتها تلك مبررة: - الموضوع كدا كدا هيتعرف ياوتين، مش يمكن الطفل ده هو اللي يرجعلك حقك، مش يمكن لما يعرف تفكيره بيه يتغير؟

فأجابت وتين بدون تردد: - حتى لو هيغير تفكيره، هو ميستاهلش البيبي ده، ميستحقش يكون أب، وانا مش هدخل ابني في حرب ضد نائل.

جذبتها داليدا لتجلس بجوارها، ثم ربتت على كتفها بحنو و: - ورحيم؟
تنهدت وتين وهي تهز رأسها بالسلب: - ولا رحيم، ده ممكن يلغي كل حاجه ويعقدها لو عرف إني حامل، وأنا مقدرش أستغنى عن وجوده جمبي.

ثم نظرت حيال والدتها: - جه عليا اليوم اللي محسش فيه بالأمان غير جمب الراجل اللي في يوم رفضته، أنا مشفقة على نفسي أوي.

وجال بخاطرها ما حدث لتتابع: - أنا كنت بموت وهو اللي لحقني، خايفة، خايفة من بكرة أوي ياماما.

ضمتها داليدا لأحضانها مواسية إياها: - متخافيش ياحببتي، أنا جمبك وربنا مش هينساكي أبدًا، يمكن يكون رحيم هو الحل الوحيد اللي ربنا بعته عشان يساعدك بجد.

ثم نهضت وسحبتها برفق: - قومي ارتاحي، الشهور الأولى من الحمل محتاجة راحة
وتمددت على الفراش وهي تتحدث لصوت قلبها الداخلي: - آه لو كان بجانبي!، لو استطاع لمس بطني وهمس لي أن عشقه يتضاعف لي يومًا بعد يوم، وأن تلك النطفة سيعشقها لأنها من دمي، ليت ما حدث لم يكن، ليته ظل بجانبي، لي، معي، كما كان دائمًا، ولكني أبحث عن سراب، عن شبح لا وجود له سوى في الماضي...

استلم رحيم كافة المتعلقات الخاصة ب نائل من هذا الغريب الأطوار الذي تعرف عليه عن طريق محاميه نبيل، ثم تركها على المنضدة و: - شكرًا، حسابك كام!
رمقه الضخم بنظرات متعجبة و: - شكرًا وحسابي!، شكلك زوء أوي ياهندسة وملكش في السكك دي، إيه اللي حوججك لينا؟

ذمّ رحيم شفتيه وردد ب اقتضاب: - مقولتليش حسابك وحساب رجالتك كام؟
دعس الرجل سيجارته بالمنفضة ونفخ الدخان من فمه و: - فهمت، اللي تدفعه مش هكلم معاك فيه، انت من طرف المتر نبيل يعني متوصي عليك
أخرج رحيم دفتر شيكات نقدي وقلم حبري من جيب سترته، ف عارضه الرجل قائلًا: - لا لا، كاش الله يخليك عشان أراضي الرجالة اللي معايا.

لم يعيره رحيم اهتمامًا واستمر فيما يفعل، ف ارتفع حاحبيه باستنكار بينما مد رحيم له الشيك الورقي وهو يردد: - شيكاتي مش بترجع ولا بيرفضها البنك، متقلقش
التقطه منه ونظر في الرقم المدون بداخله بتشوق، لتجحظ عيناه بذهول حينما رأى (250. 000) ربع مليون جنيه مصري فقط لا غير، وعاد ينظر ل رحيم بتحمس، ليتابع الأخير: - دي مش آخر مرة هنتعامل فيها مع بعض، سيبلي رقم تليفونك ولما احتاجك هكلمك.

ف ضحك الرجل ملء شدقيه وهو يقول بدون تردد: - أنا تحت الأمر، أديني أشارة بس، ولو عايزين مندوب عزرائيل لأيها حد انا موجود
- لأ ان شاء الله متوصلش لعزرائيل
ثم نهض و: - تقدر تمشي دلوقتي وانا هوصلك عن طريق نبيل.

ثم توجه نحو الباب وفتحه له ليعبر من خلاله وهو من خلفه، كان صفوت يقف بالقرب من الباب يتطلع لكل ما يحدث بعدم رضا، حتى اختفي هذا الغريب، فلم يتماسك صفوت أكثر من ذلك وعنفه: - هي وصلت للبلطجة يارحيم؟ هي دي أخرتها!؟
فبرر موقفه بهدوء مستفز: - كنت عايزني اتفرج عليه وهو حابسها و...
وزفر زفيرًا حارًا وهو يبتر حديثه هنا، ثم استطرد: - مكنش ينفع اشوفها بتستنجد بيا بعنيها واسيبها وامشي.

ف ابتسم صفوت بسخرية و: - ما هي سابتك ومشيت؟، اشمعنا انت هونت عليها!
ف ارتكز بؤبؤيه على صفوت وهو يجيب: - أنا غيرها، عمومًا اطمن، أنا مش هلوث أيدي ولا هستخدم الطرق دي غير في الطوارئ بس.

وقبل أن يتابع صفوت حديثه قاطعه رحيم: - بكرة عندي موال كبير لازم ابقى فايق له، تصبح على خير
وصعد غرفته كي يتفادى أي نقاش سيكون فيه صفوت هو الفائز، ف ليس لديه حجه قوية ومقنعة يواجه بها استفساراته، هو الآن يتصرف بتوجيه من قلبه أولًا وإلا كان تركها.
أوصد الباب ونظر نحو فراشه تحديدًا كان رابط شعرها ملقى عليه وقد حصل عليه على غفوة منها...

((عودة بالوقت للسابق))
كانت وتين ممدة على فراش المشفى عندما نزعت الطبيبة هذا الرباط الزهرى الذي تجمع به شعرها وهي تقول: - مينفعش يبقى عندك صداع وتلمي شعرك لورا بالشكل ده، سيبيه حر عشان فروة راسك ترتاح.

ف سحبه رحيم من يدها ودسه بجيب بنطاله وهو يقول: - خلاص ماشي، هاتيه
((عودة للوقت الحالي)).

تلمس ملمسه المخملي الناعم، ثم قربه من أنفهِ، وإذ برائحتها تهاجم خلايا وأنسجة أنفه منتقلة مباشرة لمراكز الاستشعار والحس بالمخ، أطبق جفونه لتأتي صورتها أمام مخيلته بشكل متتالي گشريط عرض سينمائي، أماكن وأشخاص ومناسبات، كان آخرها في حفل عرض أزيائها ب مدينة العين السخنة، حينها كانت ترتدي ثوب أحمر ناري خطف أنظار الجميع إليها وتسبب في ثلاثة كوارث مع ثلاثة من معجبيها الذين تلقوا الرد على إطراءهم لها فوريًا من رحيم.

كانت هذه المرة الأخيرة التي رآها سعيدة تضحك وتمرح، وآخر مرة تمكن من الأستمتاع برائحتها عن قرب، عندما دعاها للرقص في بداية حفل نجاح العرض.

غرز رحيم أصابعه في خصلات شعره وهو يضغط بعصبية على فروته، ثم أبعد هذا الرباط عن أنفه وأطبق عليه إطباقًا أبرز عروق يده وساعده، وتقدم من غرفة تبديل الملابس خاصته والمرفقة بزاوية الغرفة، فتح أحد الأدراج وأخرج منه صندوقًا يبدو عليه العراقة، قديم إلى حد ما، ولكنه گالتراث الذي تراه ف تنبهر بتصميمه العتيق والمنفرد، فتحه ليجد بضع أشياء يحتفظ بها، جميعها تخصها، حتى هي لا تعلم إنه يحتفظ ببعض الأشياء الخاصة بها.

أسوارة ذات خرزات القواقع النادرة والتي ابتاعتها من سواحل أنطاكيا، ومرآتها ذات اليد الخزفية التي انكسرت منها ذات مرة، ومناديلها الورقية ووشاح صغير أسود، بجانب قرط قد سقط منها وبحثت عنه كثيرًا ولم تجده، فكان من دواعي سروره أن يجده هو ويحتفظ به، وحتى زجاجة عطرها الفارغة التي ألقتها عندما نفذت لم يتركها.

عبث في تلك الأشياء التي تمثل له قيمة كما لو كانت سبائك من ذهب، ثم ضم إليهم عضوًا جديدًا، هذا الرباط الذي يحمل شعيرات ساقطة منها ورائحة غنية انبعثت من شعرها وطبعت عليه، ثم أغلق الصندوق وأعاده مكانه، وعندما استمع لصوت هاتفه بالخارج أسرع إليه، لعله يكون إتصالًا ينتظره.

تقريبًا ينظر نائل لساعة يده كل خمس دقائق منذ أن تحدث إليه رحيم هذا الصباح وأبلغه بقدومه المفاجئ، منذ هذا الحين وهو متشوق لسبب مجئ هذا الأخرق عقب ما فعله به ليلة أمس.

ماذا يفعل، هل ينصب له فخًا هو الآخر؟ ولكن أمر گهذا يحتاج وقت أضافي لتدبير الأمر وحياكته جيدًا، فلم يكن أمامه سوى الصبر هذه المرة، منع دخول أي أحد إليه وألغى اجتماع هام لديه من أجل هذه المقابلة أيضًا، ومع هذا لم يستطع الجلوس بهدوء دون حركة..

انفتح الباب وعبر منه رحيم عقب أن كانت التعليمات مسبقة بدخوله على الفور، وقف رحيم بمحله دون يتقدم منه، وكتف ذراعيه للخلف وهو يتسائل بفضول مستفز: - روحت بيتكوا ازاي امبارح ياعريس؟
يرميه نائل الآن بنظرات حانقة منفعلة متماسكًا بدون أن يتفوه بكلمة، بينما تقدم منه رحيم وهو يدس يده في جيبه قائلًا أثناء طرد الزفير من صدره: - أنا عارف إنها كانت حركة رذلة، بس انا جاي اعوضهالك.

نهض نائل بهدوء وهو يردد: - خير؟، جاي ترجعلي مراتي اللي خطفتها من بيتي مثلًا؟
- تؤ تؤ تؤ عيب يانائل
كان مظهره ساخرًا وهو يقطب جبينه هكذا متابعًا: - لو عايز اخطفها كنت عملتها من زمان، بس انا مش الراجل ده
وأثار غيظه عبر نبش رجولته قائلًا: - هي اللي جت معايا بأرادتها
ثم مطّ شفتيه ب ازدراء: -سيبك من كل ده.

أخرج رحيم علبة مخملية من جيب سترته ووضعها على سطح المكتب: - دي هديه متواضعة بعد ما عربيتك الجديدة اتسرقت منك امبارح، يارب تعجبك
ارتكزت نظرات نائل الثاقبة على تلك العلبة يأكله الفضول ليعرف ما تحويه، ثم رماه بنظرة مستخفة وهو يلتقطها، فتحها ليجد مفتاح سيارة، فعاد ينظر إليه وكأنه يسأله، ليبتسم رحيم ابتسامة خبيثة: - هتلاقي الهدية تحت الشركة، تقدر تبص عليها بنفسك.

انطلق نائل نحو النافذة ونظر هنا وهناك باحثًا عن تلك الهدية المريبة، فوجد سيارة ذات طراز قديم قد عفا عنه الزمن وملصق على سطحها أنشوطة حمراء ضخمة، رسميًا يستهزء به بداخل مقر شركته بدون اهتمام بأي عاقبة، وكأنه لم يكتفي مما حدث بالأمس بسرقة أحد أغلى سياراته..
التفت نائل على حين غرة وقد وصل الغضب لذروته وهو يسبه علنًا: - ياابن ال...

وبتر عبارته حينما وجد الغرفة فارغة والباب مفتوح، هرع نائل للخارج ليلحق به وتسائل بصوت جهوري أثار انتباه الجميع: - فين ال اللي كان عندي
ازدردت موظفة الأستقبال ريقها و: - لسه خارج يافندم
وقف رحيم بداخل المصعد يتخيل وجه نائل عندما سيتطلع لهديته الفاخرة التي أهداه إياها، حتمًا سينفجر من الغيظ، ضحك رحيم غير قادر على كبح ضحكته، ثم أخفض نظراته منتظراً وصول المصعد للطابق الأسفل، وعندما انفتح...

وجد فضل أمامه مباشرة، تصلب رحيم في مكانه وهو ينظر لهذا البغيض الذي يكرهه، وبدون مقدمات سأله: - بتعمل إيه هنا يافضل؟
ستر فضل هذا التوتر الذي اعتراه وهو يجيبه: - وانت مالك، كنت مسؤل عن تحركاتي وانا معرفش؟
جذبه رحيم من ساعده وهو يتوعده بنبرة تهديدية واضحة: - عارف لو طلع اللي في بالي صح انا هعمل معاك إيه؟!

جذب فضل ساعده بإنفعال وقد بدأت تظهر عليه بوادر التوتر: - بقولك إيه يارحيم شكلك فاضي وعايز تتخانق مع دبان وشك، انا بقى مش فاضي
ف كشر رحيم عن أسنانه وهو يقول بسخافة: - أنا فاضي فعلًا، وخلي بالك، المرة دي مش هتردد
أنحنى عليه برأسه قليلًا لتكون نظراته أكثر حدة: - قبل كدا وتين بس هي اللي منعتني عنك، المرة دي والله العظيم ما هيرحمك مني حد.

ثم تركه وشأنه عقله يعصف ذهابًا وإيابًا مما قد يحدث بالفعل إن انكشف أمره، خاصة أمام هذا المجنون الذي يتوقف العقل والمنطق لديه ما دام الأمر يخص وتين، أسرع ليصعد للأعلى حتى ينهي مقابلة اليوم ولا يعود هنا مرة أخرى، في كل الأحوال الأمر وصل لنقطة سيئة للغاية عندما استغاثت وتين ب رحيم.

خرج رحيم من الشركة وبدأ يتصل بها: - أيوة، ألبسي وانا هبعتلك السواق ياخدك، عايزك في موضوع مهم، أيوة ميستناش، سلام.

ترك رحيم كأس مشروب البرتقال وقد ارتشف نصفه أو ما يزيد عن ذلك، ثم ألتقط سجائره وبدأ يشعل النيران في إحداهن، فتح درج المكتب خاصته ونظر فيه، أول شئ تقع عينك عليه إطار يحمل صورة فوتوغرافية تجمعهم أثناء حفل الخطبة، أطال النظر إليها وهو يزفر هذا الدخان من بين شفتيه، حتى لمح ظلها عبر الباب الزجاجي الذي يحيل بينه وبين الخارج، ف أغلق الدرج وظل ثابتًا في مكانه منتظرًا دخوله، كانت راكدة حركتها ثقيلة، ويبدو إنها غلفت بشرتها بطبقة من سائل للبشرة خافي للعيوب كي لا تظهر هالات عيونها وهذا الشحوب الواضح..

أحاد بصره عنها ورفع سماعة الهاتف ليضغط على رقمين: - واحد برتقال لوتين هانم
ف جلست في مقابلته وهي تقول: - مش عايزة
- خلص يابني وابعته على فوق
ثم أغلق الهاتف وسألها مباشرة: - آخر مرة شوفتي فيها عمك كانت أمتى؟
عقدت وتين ما بين حاجبيها بذهول وهو تتسائل: - ليه السؤال ده؟
لم يجيب واكتفى بنظرة صامتة، ف تابعت هي أثناء تنهيدتها الممتعضة: - من أسبوعين أو أكتر تقريبًا، جه يطمن عليا بعد ما اتنقلت لشقة الزمالك.

طرد رحيم دخان السجائر أفقيًا وهو يسأل: - مفيش حاجه لاحظتيها عليه؟
سعلت وتين بقوة أثر هذا الدخان اللعين، ف أطفأ رحيم صبابة السيجارة بالمنفضة وقام بتشغيل خاصية تنقية الهواء بالمكيف ثم تابع تلون عيناها بالاحمرار وقد امتلأت بالدموع، ف نهض فجأة وراح يتفحصها بقلق بيّن: - وتين! انتي كويسة؟
تنحنحت و: - آه.

ولج عامل البوفية وهو يحمل كأسين من المشروب والماء، تناولها رحيم بنفسه تاركًا إياها على سطح المكتب وأشار له بالخروج، ثم ناولها الماء لترتشف ما يقرب من ربع الكأس، جلس أمامها على طرف المنضدة ثم ناولها عصير البرتقال، أبعدت بوجهها عنه باشمئزاز و: - لأ مش قادرة، ماليش نفس
أجبرها على الإمساك به و: - أشربي ياوتين، انا مش هقدملك سم
- عارفه، بس مش ق...
ف على صوته قليلًا وهو يرمقها بحزم: - قولتلك أشربي.

تناولته منه، وأجبرت نفسها على ارتشاف رشفة صغيرة، ثم عادت تسأله: - ماله عمي فضل، بتسأل عنه ليه؟
- عشان شوفته النهاردة عند نائل في الشركة
دققت وتين حواسها وتركيزها معه مكافحة شعور الغثيان الذي انتابها فجأة، ثم تسائلت بذهول: - وهو بيعمل إيه هناك؟
فكان المعنى الذي يرمي إليه بنظراته واضحًا: - أكيد فاهمة أقصد إيه
هزت رأسها رافضة وجود احتمال گهذا بكل قوة: - مستحيل، عمي ميعملش كدا فيا، أنا بنت أخوه.

رفع أحد حاجبيه بتعجب و: - غريبة، مش عمك ده اللي مد أيده عليكي وكان عايز ينهب حقك في ورث أبوكي وانا اللي وقفتله!، مستغربة ليه دلوقتي؟

لم تعد تتحمل نوائب أكثر من ذلك، داهمها دوار شديد مصحوب برغبة قوية بالغثيان لا تقوَ على كبحها أكثر من ذلك خاصة مع سماع هذا الحديث، تغير لون وجهها واضطربت أنفاسها، أسقطت كأس العصير من يدها وقد ارتعش جسمها وأسرعت بالنهوض، ركضت نحو دورة المياه المرفقة بغرفة مكتبه وصفعت الباب من خلفها، ف ركض خلفها وهو يردد بقلق وتوتر: - وتين!، فيكي إيه؟!

استمع صوتها وهي تتقيأ مثيرة بداخله الخوف أكثر وأكثر، وفي لحظة واحدة..
اختفت علامات القلق تلك وحل محلها الوجوم، هناك شئ خاطئ، واستشعر هو ذلك، أستعاد برأسه تغير لونها وحركتها الراكدة، عدم رغبتها بالمشروب، وتقيؤها الآن، إنها أعراض واضحة وضوح الشمس، رجع رحيم خطوة للخلف وهو يضع كلتا يديه خلف رأسه وهو يهمس: - معقولة!

تسارعت ضربات قلبه وهو يرفض وجود احتمال گهذا: - مستحيل، مش هسمح ب ده يحصل، مش هسمح تضيعي مني مرة تانية أبدًا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة