قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل العشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل العشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل العشرون

اطمئن كل من عاصم وزهرة أن فريدة ركبت قطارها، وبدأ يتحرك في هوادة، ملوحة لهما من النافذة، حتى غادر القطار محطته، تحركا سويا دون أن ينبس أحدهما بحرف واحد، حتى وصلا العربة، كان عليها أن تجلس إلى جواره، فليس من اللائق أن تجلس بالخلف ليقود هو موضع سائقها، ترددت لحظة قبل أن تفتح الباب وتستقر على المقعد جواره، بعد أن جلس هو خلف المقود، لا تعلم لما استشعرت بشفافيتها أن ذبذبات التوتر بالعربة قد زادت، أدار السيارة وانطلقا، كان يراقبها بطرف لحظه، حتى أنها ما انتبهت وهو يبتسم في سعادة، لكونها تشعر بالراحة وهي تتطلع للشوارع في حبور، كان لها فترة طويلة ما بين سرير المشفى، وسرير غرفتها، منعزلة تماما عن العالم، ويوم أن فكرت تخرج، كانت غرفة القراءة هي ملجأها كالعادة، اللحظة يراقب انتشائها في فرحة داخلية غمرته، أعطته أمل يود لو كان صادق هذه المرة، بأنها بدأت تنسى كل ما مر بها، وأن ذكرى محمد قد بدأت تتلاشى بعض الشيء بداخلها، مد كفه يشغل راديو العربة، ليصدح أحد المغنيين متأسيا:.

هوصلك حتى لو عارف إني ممكن أموت، هوصلك ولازم تحسي باللي حبك موت..
ولو أيديكي ما لمستش أيديا، كفاية عليا أموت وأنا شايف، لهفتك علياااا..
هتف عاصم مازحا: أهو الأخ ده بيفكرني بالإخ التاني بطل الحب في زمن الكوليرا.
هتفت زهرة متسائلة بتعجب: إيه وجه الشبه بينهم!
هتف عاصم وابتسامة على شفتيه: الاتنين فجريين.

قهقهت زهرة، حتى دمعت عيناها، ما جعل سيطرته على العربة، بعد هذا الاضطراب الحادث في أوصاله، درب من تحمل مستحيل، اجتازه بنجاح، وهو يسيطر على مقود العربة في احترافية، هاتفا يكمل حديثه، بنبرة حاول السيطرة كذلك على ثباتها: والله صح، الاتنين فجريين، واحد عايز يوصل لما بجي بتاع تمانين سنة، والتاني يوصل وعايز جال يموت، مفيش حد عايز يوصل وهو بصحته، وفعز شبابه، وهو حي يرزج!

علت ضحكاتها من جديد، ليلعن ذاك الخلل في ثباته، الذي يثيره مجرد ضحكات بريئة، كزلزال ضرب الأرض بغتة دون مقدمات،
هتفت فجأة تستوقفه: أوقف هنا بسرعة.
ما دفعه لينتقض مطرودا خارج جحيم خواطره، هاتفا في ذعر: إيه في!
ضغط على المكابح، لتتوقف السيارة جانبا، تطلعت نحوه في تعجب، وهمست متأسفة: أنا خضيتك! مكنش قصدي والله..

هتف وهو يعلم أن شروده وتيهه كان السبب فهتافها لم يكن بهذه القوة، لذا هتف مبتسما: محصلش حاچة، خلتينا نوجف ليه!
أشارت لمحل على أحد جوانب الطريق، مؤكدة: هنزل أجيب حاجة من المحل ده وجاية على طول.
هتف يهم بالنزول معها: متروحيش لحالك، أنا چاي معاكِ.
هتفت به معاتبة: عاصم، أنا كويسة والله وهقدر أصرف أموري بنفسي، ولو احتجت حاجة هرجع لك.

هز رأسه موافقا، ولم يجرؤ على التفوه بحرف، منتظرا إياها خلف مقود العربة، عيناه تتبعها حتى دخلت إلى وجهتها، لا تعلم أنها نطقت اسمه بطريقة جعلته أشبه بأنشودة ترنح قلبه على أنغامها كما السكير،
أمسك بهاتفه، وفتح صفحة ملاحظات يدون بها خواطره المبعثرة قبل نشرها، وبدأ يخط مشاعره اللحظة، كاتبا:
قلبي، كغيمة هوى حبلى بعشقها، فمتى يا مطر العشق على أرض قلبها تهطل!؟

تنهد مغلقا الهاتف بعد أن كتب الخاطرة، لتعاود نظراته التطلع نحو موضع غيابها، لا يعلم أنها في انتظار تغليف مشترواتها، دفعت حسابها، وأسرعت للخارج حتى لا تتأخر عن عاصم أكثر من هذا، تنبه لخروجها فشعر بالراحة، وأدار العربة ليستأنفا رحلتهما من جديد، لكن بعد شارعين تقريبا، توقف مرة أخرى، تطلعت إليه مستفسرة، ليهتف مؤكدا: المرة دي دوري أنا، هدخل اچيب حاچة من محل هنا ع الناصية، وأجي بسرعة، تحبي تاچي معاي.

قدم عرضه الأخير بلا حماس، ما دفعها لتهتف نافية، رغبة في إعطائه بعض الخصوصية: لا، روح أنت شوف عايز تجيب إيه، وأنا هستناك هنا.

هز رأسه متنفسا الصعداء، فلم يكن يرغب في قدومها معه بالفعل، اندفع إلى حيث اراد، بينما ظلت هي تتابع الناس بالشارع العامر، توقف أمامها صبي صغير، يطلب الإحسان، لم تكن تملك بعض الجنيهات، فقد قضت على كل ما كان معها بالفعل، تنبهت لموضع هاتف عاصم الذي تركه هنا، فوجدت بعض الجنيهات أسفل موضعه، رفعت الهاتف وتناولت النقود دافعة بها للصبي، الذي اقتنصها واندفع مبتعدا، وما أن همت بوضع الهاتف، حتى شعرت بالفضول نحو محتواه، ارتجفت كفها وهي تخترق خصوصيته بهذا الشكل السافر، لا وعي لديها لما تفعل ذلك، إلا أنها تفعله، كان الهاتف بلا كلمة سر، أو أي حواجز، ما جعلها تدخله بسهولة، فُتح الهاتف على أخر صفحة أغلق عليها، تطلعت في دهشة نحو صفحة الملاحظات، وتساءلت، هل يكتب عاصم مثل هذه الخواطر التي تحتوي على كلمات العشق والهوى!

أعادت قراءة الخاطرة من جديد، واعجبتها كثيرا، يمكن أن يكون قد نقلها من أحد الصفحات، أعجبته كلماتها، فأحب الاحتفاظ بها، شعرت بمنطقية استنتاجها، فأغلقت الهاتف بسرعة، تضعه مكانه، عندما لمحت عاصم يخرج من ذاك الذقاق الجانبي، حاملا كيس مشترواته، التي وضعها بالخلف، وهو يلقي التحية، معاودا إدارة السيارة، منطلقا نحو النجع، وصلا في غضون الربع ساعة، والتي كللها الصمت التام، فقد كانت مأخوذة تماما بفكرة أن يكون عاصم محب للأشعار والخواطر مثلها، تبتسم في رضا داخلي، أن بينهما أمرا مشترك واحد على الأقل، استأذنت في هدوء، لتندفع لداخل السراي في خفة اسعدته، فقد بدأت تستعيد زهرة القديمة إلى حد كبير، أما هو فقد ترك العربة لعبدالباسط، ليصفها موضعها، قبل أن يعود بها بعد ساعتين للسليمانية، ليحضر نوارة من عملها، حاملا كيس مشترياته الثمينة، صاعدا بها لحجرته، ليضعها في قاع أحد الإدراج، مغلقا عليها بمفتاح احتفظ به معه، في سلسلة مفاتيحه، فما بداخل هذا الدرج لن يخرج إلا بأوانه، جلس متنهدا في راحة، وما أن فتح جواله، حتى طالعته خاطرته التي كتبها بالعربة، استعادت ذاكرة قلبه صوت ضحكاتها من جديد، ما جعله يبتسم في سعادة بالغة، ناقلا الخاطرة لصفحته التي أهملها منذ فترة، بعد كل تلك الأحداث المتلاحقة التي مرت بهم، وضغط زر النشر، مزيلا إياها بلقبه، شيخ العاشقين، وألقى الهاتف جانبا، ليتمدد قليلا.

بينما هي اندفعت من داخل الحمام نحو الهاتف، عندما جاءها إشعار ما، تطلعت نحو الهاتف في سعادة، فها هو شيخ العاشقين يعاود نشر خواطره على صفحته من جديد، بعد انقطاع دام لفترة، شعرت فيها بالخواء الشديد، فقد كانت خواطره دوما ما توافق اختياراتها إذا ما كانت مقتبسة من بعض الأعمال التي قرأتها، أو توافق هوى نفسها إذا ما كانت من وحي إبداعه الشخصي، فتحت الصفحة، وبدأت في قراءة الخاطرة، لتفغر فاها في صدمة، أليست هذه هي الخاطرة التي قرأتها منذ الساعة تقريبا في ملاحظات هاتف عاصم!، ماذا يعني هذا!؟، شهقت في ذهول، وهي تقرأ الخاطرة للمرة الثالثة هذا اليوم..

تنهد في تعب، وهو يتطلع لها، جالسة بمقعدها جوار نافذة القطار، وأحدهم يجاورها، ما دفعه ليهتف في نبرة عاتبة: كده يا بت خالتي! طب مش تقولي إنك مسافرة النهاردة! اعرف كده من رائف فجأة، كنتِ قولتي، كنا حجزنا سوى بدل ما كل واحد فعربية كده!
تطلعت فريدة إلى سامر في صدمة، ما الذي أتى به إلى هنا! وها هو يمثل في براعة مدعيا قرابتهما..

هتف الرجل الذي كان يجاور فريدة، مقترحا: والله يا استاذ، معنديش مانع لو تحب نبدل كراسينا سوى!
هتف به سامر في امتنان: ده يبقى ذوق كبير من حضرتك، اتفضل تذكرتي أهي، وكتر ألف خيرك.
نهض الرجل في هدوء، تاركا مقعده لسامر، الذي زفر في راحة، متطلعا نحو فريدة في سعادة، يهتف مازحا: سلامات يا بنت خالتي!
ابتسمت فريدة متطلعة نحوه، هاتفة في تعجب: كان ليه كل التمثيلية دي!

هتف سامر متعجبا بدوره: اسيب حد غريب يقعد جنبك وأنا موجود، طب ما أنا أولى..
أمسكت ضحكاتها ولم تعقب، لكنها تنبهت فجأة لأمر ما فهتفت متسائلة: قولي صحيح، هو أنت ليه اصلا هتسافر على إسكندرية، عندك حاجة مهمة هناك!
تطلع نحوها مبتسما: أه، رايح أزور خالتي.
هتفت ضاحكة: هي مش دكتورة سميحة دي تبقى خالتك برضه!
أكد سامر: أه، خالتي الأولانية، أنا رايح بقى أزور خالتي التانية، أصل أنا فصلة الرحم معرفش ياما أرحميني.

ضحكت فريدة محاولة أن تضبط مستوى ارتفاع ضحكاتها داخل القطار، فخرجت الضحكة رقيقة ناعمة، اورثته اضطرابا، لتهتف هي متسائلة: بس فين شنطتك! أنت مجبتهاش معاك من الكرسي التاني على فكرة!
أكد مقهقها بدوره هذه المرة: أنا مجبتهاش معايا من النجع على فكرة!

تطلعت نحوه متعجبة، ليستطرد هو مؤكدا في إيماءة إيجاب من رأسه: ايوه مجبتهاش، أصل أول ما عرفت إنك مسافرة، نطيت في عربية رائف، ورمتهاله عند المحطة، ودخلت أجري اتاكد أن القطر بتاعك ممشيش، حاولت احجز ملقتش للأسف حجز، طبعا ما أنا جاي على آخر لحظة.
هتفت متعجبة: اومال التذكرة اللي بدلتها مع الراجل دي إيه!

أكد سامر: ما انا ربنا بيحبني بقى، ولقيت راجل بينده عليا وبيقولي يا أستاذ، أنت يلزمك تذكرة، أنا هبيع لك تذكرتي، عشان حصلت لي ظروف ومش هقدر أسافر النهاردة، قلت يا فرج الله، اشتريت منه التذكرة ونطيت فالقطر، وقعدت أدور عليكِ.
هتفت مبتسمة: كويس إنك لقيت تذكرة.
أكد مبتسما بدوره: حتى لو مكنتش لقيت تذكرة، كنت هركب برضو.
أكدت وقد اتسعت ابتسامتها: بس مكنتش هاتقدر تعمل التمثيلية الهايلة اللي عملتها من شوية!

قهقه مؤكدا: وحياتك أنتِ متعرفنيش، ده أنا كنت قلبت لهم قرد هتا، لحد ما اخد الكرسي اللي جنبك، ويبقى اللي يقومني يفرجني.
أمسكت ضحكاتها، التي كانت تكتمها هذه المرة، ليشعر بالاضطراب اللذيذ من جديد، متطلعا لوجهها الذي زاد تورده، ما جعله يهتف مقترحا: إيه رأيك نروح عربية البوفيه نشرب حاجة!
هزت رأسها موافقة، لينهض تاركا إياها تسبقه، محاوطا إياها، وهي تسير في ذاك الممر الضيق بين صفي المقاعد المتوازية.

قاومت كثيرا أن تفتح الرواية داخل العربة وهي قادمة من نجع السليمانية، حتى أنها ألقت بها في جوف حقيبتها حتى لا تكون في متناول يدها، تكاد تقسم ما أن وصل عبدالباسط لعتبات السراي، أنها الفترة الأطول على الإطلاق، التي قضتها بالعربة، قاطعة المسافة بين نجعيهما، دفعت باب حجرتها في لهفة، وحمدت الله أن ما من أحد بالغرفة سواها، أخرجت الرواية من قلب حقيبة يدها، التي وضعها جانبا، والتقطت شهيقا قويا، عبأت به صدرها، محاولة أن تضبط انفعالها، ودقات قلبها المتزايدة في اضطراب، لكن بلا جدوى.

فتحت الرواية، لتجد خطابا بالداخل، مطوي في عناية، فضته على مهل، وبدأت تقرأ في تمهل، محاولة التركيز على كل كلمة، بعد أن كاد يطيش صوابها، مع قراءة أول كلمة، نوارة الروح..
نوارة الروح،
مش عارف إزاي كتبت كده، ولا المفروض عليا إني اكتب ده من أساسه! بس كان لازم أقول لك، إن ده لقبك عندي من أول مرة شفتك فيها، أيوه، يمكن متصدقيش كلامي، لأن دايما كانت مقابلاتنا فيها شد وجذب، بس دي الحقيقة..

نوارة، مبقاش ينفع خلاص مقولكيش ع اللي فقلبي، أنا بحبك، أيوه، بحبك..
توقفت عند هذا الاعتراف، وما عادت قادرة على كبح جماح دموعها، لا تعلم لم تبك من الأساس! فهو يعترف لها بحبه، عليها أن تكون الإنسانة الاكثر فرحا وصخبا، لكن بعض الدموع هي التعبير الاصدق عن حالة القلب المدله عشقا، مسحت دموعها، التي كانت تشوش عليها رؤية الكلمات، لتستكمل اعترافه:.

أنا عايز اتقدم لك يا نوارة، لو موافقة، ابعتي لي على الرقم ده، إنك موافقة، وأنا هتصل أخد ميعاد من أهلك، واجيب الدكتورة دلال واجي، ولو مفيش نصيب، مش عارف أنا ممكن اعمل إيه عشان اخليكي توافقي، بس قلبي بيقولي إنه هيكون، يا ترى قلبي صادق ولا موهوم!، في انتظار ردك أكيد..
قطعت نوارة القراءة، هاتفة في غيظ وبنبرة تحمل غيرة واضحة: يا سلام، والست مهرة دي، إيه حكايتها، هي مش خطيبتك!

أكملت القراءة، لترى ماذا يقول:
وملاحظة صغيرة عارف إنها هاتيجي على بالك أكيد، أنا مفيش بيني وبين مهرة أي ارتباط، دي كانت قراية فاتحة ومن سنين، ومتفقناش، وكل واحد راح لحاله.
ابتسمت في سعادة كبلهاء، عندما أجابها على وضع مهرة بحياته، سعيدة أنه قرأ أفكارها كأنه أمامها، واستطردت من جديد:.

كده أنا جاوبتك على كل اللي جه فبالك، أنا عارف إنك مش جاية بكرة السليمانية عشان كده قلت أديكِ الجواب النهاردة، عشان تخدي وقت تفكري، حلو قوي عليك يوم بحاله تفكري وتقرري، كفاية إني هستنى فيه على نار لحد بكرة بالليل، في الانتظار، رائف
أنهت نوارة قراءة الخطاب، متطلعة نحو أحرفه وكلماته بعدم تصديق، ولولا اسمه الذي يزيل نهاية الخطاب، ما صدقت أبدا أن رائف هو صاحبه.

ضمت الرسالة لصدرها، ثم لثمتها عدة مرات، تكاد تندفع لترسل له موافقتها، لكنها تريثت، حتى تبدو بمظهر الفتاة الحكيمة، هاتفة لنفسها بصوت مسموع: اهدي يا نوارة، متبجيش هبلة، اتجلي شوية، خليه يستنى مواجتك، ويعرف انها مش بالساهل،
وكفاية عرفتي إنه بيحبك..
اتسعت ابتسامتها عند إدراك هذه الحقيقة.

دخل يونس إلى الدار من موضع دخوله، حيث ذاك الدرج الذي يوصله الطابق العلوي دون المرور على الطابق السفلي، حيث سماحة وأهلها، حاملا كيسا بلاستيكيا قيما.
فتح الباب الذي يطل على السلم الداخلي الرابط بين الطابقين، هاتفا: يا سماحة، يا واد يا سماحة.
ردت سماحة في عجالة: ايوه يا يونس بيه!
أكد عليها يونس: أطلع عايزك..

اندفعت سماحة، صاعدة الدرج حيث يجلس يونس بالداخل، تقدمت نحو مجلسه، هاتفة: أوامرك يا بيه، نچهزوا الغدا.
هتف بها يونس: سيبك من الغدا، وخد ده.
تطلعت سماحة نحو كفه الممدودة بهذا الكيس الأنيق، متسائلة في ريبة: إيه ده!
تطلع نحوها يونس، هاتفا في حنق: ما تاخده وتعرف، بدل يدي الممدودة دي!

تنهت ليده الممدودة إليها بالفعل، فاندفعت تتناول الكيس، وتطلعت داخله في حذر، ما دفع يونس ليهتف مازحا: متخافش يا حزين، هيكون إيه يعني، صاروخ! طلعه وشوف.
مدت سماحة كفها داخل الكيس، لتخرج علبة قيمة، مرسوم على واجتها، صورة هاتف محمول قيم، ما دفعها لتهتف في سعادة: ده محمول يا بيه!
قهقه يونس مؤكدا: والله وطلعت نبيه يا سماحة، ده إيه المفهومية دي كلها!

زمت سماحة ما بين حاجبيها، ليدرك يونس أنها غضبت لسخريته منها، لكنها هتفت في نبرة مهادنة: مبروك عليك يا بيه، تعيش وتچيب.
وهمت بأن تمد كفها نحو يونس، تعيده إليه، إلا أنه هتف مؤكدا: ده مش ليا، ده ليك يا سماحة.
تطلعت نحو يونس متعجبة، وهتفت: ليا أني! ليه يا بيه تكلف روحك! هعمل بيه إيه!
هتف يونس في هدوء: مفيش تكلفة ولا حاچة، وبعدين ده لزوم الشغل برضك.

هتفت سماحة ساخرة في رعونة: شغل إيه يا بيه اللي هعوز فيه محمول، هراجب الأسهم فالبورصة، ولاه الحسابات اللي فسويسرا.
تنبه يونس أن كلماتها الأخيرة لا تخرج من امرأة جاهلة كما اوهمته، وأدركت هي خطأها الفادح، فهتفت في اضطراب، مؤكدة: ملوش عازة يا بيه، أنت أولى بتمنه.
هتف بها يونس، محاولا أن يبدو طبيعيا في رد فعله: بجولك إيه يا واد! أني مليش فالمناهدة، أجولك خده تاخده، سامعني!

توقفت بلا حراك، ولم تنبس بحرف، ما دفع يونس ليهتف متسائلا في حنق: خبر إيه يا واد الجناوي! إيه في!
تطلعت سماحة نحوه، متسائلة: البتاع ده فيه خط ومشحون رصيد، ولاه هنغرموا يا بيه!
تطلع يونس نحوها لبرهة، ثم انفجر مقهقها حتى دمعت عيناه، وهتف أخيرا ما أن هدأت وتيرة ضحكاته: لاه فيه خط يا حويط وعليه نمرتي، ومشحون كمان رصيد يكفيك تكلم سويسرا تتطمن على فلوسك يا فجري.

هزت سماحة رأسها في امتنان، هاتفة: تسلم يا بيه وتهادي، نردهالك يوم فرحك يا بيه..
تطلع يونس نحو سماحة، وهمس متخابثا: أنت هترد لي أكتر من كده يوم فرحي يا خفيف..
اضطربت سماحة، لا تعلم لما، واندفعت تستأذن متعللة بنداء أمها لأمر مجهول، كالعادة عندما ترغب في الهرب من أمامه، ليتبعها بقهقهاته التي لحقت بها حتى حجرتها، لتضم هديته لصدرها في سعادة لا يمكن وصفها.

خرجت من الجامعة بعربتها بعد أن أنهت محاضراتها في ألية، كل ما كانت تفعل في الفترة الماضية كان بألية رهيبة أشبه بجسد نزعت منه روحه، أثار ذلك تعجب كل من يعرفها، لكن ما من أحد يعرف سر ذاك التغير العجيب، وكأنما تم استبدالها بأخرى إلا بعض المقربين منها فقط، أ
إن ذاك العشق الذي يمسك بتلابيب قلبها يكاد يزهق روحه وجعا، ما عادت بقادرة على التظاهر بعكس ما تشعر..

غامت الرؤية أمام ناظريها بفعل بعض الدمع الذي تجمع بمآقيها، سحبت شهيقا قويا لعله يهدىء بعض من ذاك الأتون المستعر بفؤادها، ومدت كفها لمشغل الأغاني ريما يلهيها قليلا عن ذاك الوجع..
صدحت الأنغام مترنمة:
وسط الشوارع ناس كتيرة مروحين
والناس ياقلبي هما هما وهو فين؟
وأنا ماشية بتلفت وبسأل كل يوم
بيعمل إيه دلوقتي وبيحلم بمين؟

لم يعد بإمكانها الصمود أكثر فانساب سيل الدمع وشهقت في قهر ما دفعها لتصف عربتها جانبا لتنخرط في بكاء مرير تفرغ فيه كل أوجاع الهوى التي تثقل القلب..

أشار هو لإحدى سيارات الأجرة متلحفا بمعطفه الثقيل وتلك القبعة الصوفية، كان يخفي وجهه خلف إحدى الكوفيات زاعما تظاهره بالبرد الشديد في هذا الجو الماطر.

توقفت إحدى العربات ليندفع داخلها في المقعد الخلفي متنهدا، فما كان له القدرة على التحرك عارِ الوجه، أكد منتصر للسائق على وجهته، أومأ برأسه موافقا ومد كفه ليرفع من مستوى صوت المذياع والذي كان يترنم بأغنية أعادت له ذكراها، عندما كان يقف مبتعدا في ركن قصي يتظاهر بأنه لا يراها بينما كان يراقب كل تصرفاتها وجنون أفعالها مع صديقاتها..

ذكرته الأمطار بما فعلت يوم أن هطلت بشدة، اندفعت كل صديقاتها للاحتماء تحت بعض الأسطح والمظلات، إلاها، كانت تقف في تحدي أسفل زخات المطر ترفع وجهها في مواجهة السماء تستقبل قبلات المطر على وجنتيها الندية في شغف، كان يقف يبهره منظرها وتأسره شقاوتها..
دمعت عيناه بلا وعي منه وكلمات الاغنية تنساب إلى مسامعه وهو يتطلع نحو الشارع الموحل:
كنا فأواخر الشتا قبل اللي فات..
زي اليومين دول، عشنا مع بعض حكايات.

تاه في ذكرياته معها حتى أنه لم يتنبه للسائق الذي هتف به، ربما للمرة الثالثة، أنه وصل لوجهته المطلوبة، أنقده الأجرة واندفع خارج السيارة يفر من ذكرياته التي تؤرق مضجع القلب..

لا يعلم لمَ لم يندفع كعادته موبخا نعمة على رفع صوت المذياع بهذا الشكل الذي يفقده تركيزه للمذاكرة!؟، تنهد مستندا بمرفقيه على سطح مكتبه لا يعلم ما دهاه، وبشكل لا إرادي مد كفه ليفتح أحد الأدراج ممسكا ذاك التذكار الوحيد الذي يحمله منها، تطلع لذاك العقد الرخيص الذي تذكر أنه كان هدية يوم مولدها، كان قد اشتراه لأجلها من مصروفه الأسبوعي..

نهض من موضعه في اتجاه النافذة يتطلع من خلف زجاجها لذاك الجو الماطر، وعقدها الغافي على كفه كأنه جمر يحرق باطنه..
فتح ضلفتي المصحف الصدىء المدلى من العقد ليجد صورة لهما كانا قد التقطاها يوما ما، لا يذكر متى كان ذلك، لكن يبدو أنه كان في أحد الأعياد، كانت تضع صورته بجانب وصورتها بالجانب الأخر..

ظل يتطلع لصورتهما لبرهة قبل أن يطبق على العقد كفه في حسرة ورفع ناظره ليقع على نافذتها المقابلة المغلقة منذ مدة وكأنها دهر، وبلا وعي انسابت عيناه على الطريق أمام عتبات منزلها ليذكرها تمرح في شقاوة وتجذب الفتيات لتضربهن، أدرك أنها ما كانت تفعل ذلك إلا غيرة لاهتمامه بهن دونها..

ابتسم في شجن رغما عنه وصورتها وهي بعد طفلة تتقافز بين الأمطار اللحظة وكذلك وهي تمسك بكفه تقفز معه جنبا لجنب، في تلك اللعبة، من أجل الوصول لنقطة النهاية وقد ربطا قدميهما سويا، واتسعت ابتسامته وهو يبصرها بعين خياله تهلل للنصر، لا تعرف أنها انتصرت منذ أمد بعيد، وفازت بقلبه دون أن يدري حتى، بينما هو كان الخاسر الوحيد، كان خاسر لحب بهذا العمق وقلب بهذه الروعة..

تنهد من جديد وهو يفتح كفه متطلعا لعقدها الذي يضم صورتهما، موقنا أنه كان مخطئا إن ظن أن هذا العقد هو التذكار الوحيد الذي يحمل منها، فقد تأكد له أنه يحمل أيام عمره كلها برفقتها، ذكرى منها تعذبه في بعادها بشكل ما كان يتوقعه أبدا..
تنهد من جديد وكلمات أغنية المذياع المنسابة الآن إليه من حجرة نعمة تقلب عليه مواجع ما هجعت من الأساس:
على سهوة ليه الدنيا بعد ما عشمتنا..
وعيشتنا شوية رجعت موتتنا..

والدنيا من يوميها يا قلبي عودتنا..
لما بتدي حاجات قوام تاخد حاجات..
عاود الجلوس لمكتبه محتفظا بعقدها داخل ذاك المخبأ بداخل أحد الأدراج حتى لا تطاله يد، وقد بات على يقين، إن رغب في تذكر حُسن فما عليه إلا تذكر أيام عمره الماضية، ليجدها ماثلة هناك، تشاركه كل ذكرى في عمره الماضي، فهل ستشاركه كذلك بأيام عمره القادمة!؟.

كان يجلس موضعه في تلك الردهة الطويلة، حيث ينتظر توزيع اوراق امتحانهم الأول، ظل يتطلع نحو مكان دخول الطلبة، يأمل أن يرق قلب جدتها وتتركها تستكمل امتحاناتها لسنتها الأخيرة، لكن مر الوقت وجلس الجميع، وبدأ المراقبون في توزيع أوراق الإجابات، وها هم يوزعون عليهم ورق الأسئلة، تنهد شاعرا بإحباط كبير، كان يتمنى لو حضرت، وضع رأسه في الورقة أمامه، يشعر بالذنب تجاهها، فكره بدوره قد توقف، فما عاد لديه رغبة في إكمال الامتحان، لكنه تحامل على نفسه، مؤكدا أنه كان يتوقع رد فعل جدتها، رفع رأسه يحاول أن يهدئ من روعه قليلا، حتى يستطيع أن يكمل الإجابة على الأسئلة، ليقع ناظريه عليها، وهي تلهث مهرولة، تحاول أن تسوق الأعذار لتأخرها، حتى يسمح لها المراقب بدخول الامتحان، تنفس مروان الصعداء ما أن ادخلها المراقب، ووضع أمامها أوراقها، التي تناولتها وبدأت في الإجابة في سرعة، ولم تنس أن تلقي ببعض النظرات هنا وهناك ما بين دقيقة وأخرى، حتى ارتاحت وارتسمت ابتسامة على شفتيها ما أن أدركت موضعه، ورأته أخيرا.

على الرغم من أن ذاك الهاتف السري الذي أوصله لها عن طريق عنتر، يكفيهما شر الشوق، لكن رؤيتها له أمرا أخر، فقد شعرت أن الحياة قد دبت في أوصالها من جديد، وهو لم يكن بأقل منها شوقا لمحياها، لكن ما أن انتهى الامتحان، حتى حاولت الاقتراب منه، لكنه ألقى لها بنظرة محذرة، خوفا من أن تكون جدتها قد أرسلت خلفها الجواسيس لتدرك أنها بالفعل جاءت لإنهاء اختبارها فقط، ما دفعه ليمر بها، دافعا كرسيه الدولب، دون أن يهمس بحرف، حتى وصل لموضع بقاء خفيره، الذي ساعده في الوصول للعربة، وكذا هي سارت حتى سيارتها..

خرجت السيارتين للطريق، وكانت أية تحاول تجاهل وجود سيارته جوارها، لا تحيد بناظرها نحوه حتى لا يذهب خفيرها مبلغا جدتها عن كل شاردة وواردة قامت بها، ما قد يدفعها بالفعل هذه المرة لحرمانها نهائيا من استكمال اختباراتها..

كان خفير مروان، يدرك الأمر، فما أن يسبق خفير أية حتى يوازيه مسرعا، وما أن يبطئ حتى يبطىء بدوره، لكن مروان ربت على كتفه، أمرا إياه بترك سيارة أية تمر، دون اعتراضها، ليدخلا النجع للمرة الأولى، متعاقبين، لا متلازمين خوفا على أية من بطش جدتها، والتي حادت بناظرها تجاه عربة مروان، قبل أن تختفي في ذاك التقاطع مبتعدة، تعزي روحها، أنها ستراه خلال فترة اختباراتهما وهذا يكفيها، مؤقتا.

هتفت سهام في تعجب: هو إيه اللي بتجوليه ده! كيف يعني مش بيكلمك ولا بياچيكِ! طب خليكي معايا كده يا سمية، أمي بتنادم عليا، متجفليش..
اندفعت سهام نحو سمير، الذي ظهر قبالتها اللحظة، وكأن القدر قد أرسله لتهتف به لائمة في حنق: يعني كلنا عارفين إنك رايدها، كيف يعني لا بتكلم الغلابة ولا بتروح لها!
تطلع لها سمير متعجبا: إيه في!

هتفت سهام: أنا اللي مفروض أسأل، إيه في! سمية بتجول إنك لا بتكلمها ولا بتروح تزورها، كنك نسيت إنك خاطبها، وخلاص كتب كتابكم بعد كام يوم!
هتف سمير مضطربا: هي اشتكت لك!
هتفت سهام مؤكدة: ايوه، واهي معايا ع التليفون، خد كلمها وطيب بخاطرها.
ألقت سهام له الهاتف، بعد أن فتحت السكة، تاركة إياه غارقا في تيهه، قبل أن يهمس في نبرة كساها بالثبات على قدر استطاعته: السلام عليكم، كيفك يا سمية.

اضطربت بدورها، فقد كانت تلك المرة الأولى التي يحادثها فيها تليفونيا، وهمست في رقة اذابته: الحمد لله، كيفك أنت!
رد في هدوء مصطنع: أني بخير، بجولك، أني چاي لكم النهاردة.
هتفت مرحبة: تشرف فأي وجت، ده بيتك.
أكد في هدوء: طب أنا هستأذن عمي ماهر، وهكون عندكم كمان ساعة.
ردت في رقة: هنستناك، مع السلامة.
رد بدوره: الله يسلمك.
واغلق الهاتف، ملقيه جانبا، واندفع يعد نفسه لزيارتها، حاملا معه ما لذ وطاب،.

وما أن وصل لدارها، حتى استقبله عبدالله، هاتفا في حفاوة: أهلا يا سمير، عاش مين شافك يا عم، ده إحنا كنا بنشوفوك اكتر من كده جبل ما تخطب البت سمية، ولا شكلها مطفشاك من دلوجت!
جلس سمير ولم يعقب، ترتسم على شفتيه ابتسامة لمزاح عبدالله، لكن تلك الابتسامة اختفت، ما أن هلت سمية، تقف على أعتاب الباب في وداعة، ليقفز قلبه من بين أضلعه، مهرولا إليها، يكاد يحتضنها شوقا.

غض الطرف عنها، رحمة بفؤاده، بينما دخلت هي ملقية السلام في رقة: السلام عليكم يا سمير.
كاد أن يولي هاربا، بعد أن سمع اسمها ينطق من بين شفتيها بكل هذه العذوبة، علم الآن لم كان يتهرب من القدوم لزيارتها، أو حتى الحديث إليها هاتفيا! فهذه الوداعة والرقة تأثره كليا، فلا يعود قادرا على الفكاك، رقة فطرية لا تصطنعها، تذيب بدمه أطنان من حمض حارق تكاد ترديه قتيلا وهي لا تدري من أمره شيئا.

رد السلام بصوت متحشرج، ما استطاع تبديل نبرته المشبعة بالاضطراب، ليهتف عبدالله مازحا: طب أجوم أنا عشان مبجاش عزول، أعمل لي كام سندوتش كده لحد العشا، اعمل لك معاي يا سمير!
ابتسم سمير، وهتف مازحا: لو سندوتشات لحمة معنديش مانع، غير كده خليهملك.

تحسر عبدالله هاتفا: لحمة! والله أنت طيب يا نسيبي، جال لحمة جال، مااشي، والله لما انچوز لأخلي البت مرتي تعمل لي لحمة فطار وغدا وعشا وسحور كمان، اومال إيه، مش لازما نتأوتوا.
قهقه سمير على أقوال عبدالله مؤكدا في مزاح: ايوه صح، أصلك هي بتربي أسد مش بتأكل چوزها.

قهقه عبدالله، وكذا سمية، ليفقد قلبه بوصلته، وترتبك كل مفردات الكلم، وما عاد مدركا يسراه من يمناه، إلا أن عبدالله استأذن مغادرا، تاركا كلاهما معا.
ساد الصمت بينهما لبرهة، وهم كل منهما بالحديث في نفس اللحظة، ليصمتا من جديد وعلى شفتي كلاهما ابتسامة خجلى، ليهتف سمير مشيرا نحوها: جولي كنتِ عايزة تجولي إيه!

هتفت في هدوء، وعلى شفتيها ابتسامة باشة لا تنمحي: مفيش، بس كنت هجول، أنت بتحب إيه فالأكل، يعني أعرف.
أكد مبتسما بدوره، وقد راقه اهتمامها: كل خير ربنا حلو، معنديش حاچة أجول عليها لاه، المهم إنه من يدك.

اضطربت خجلا، ولم تعقب على كلماته الأخيرة، التي استشعر عليها الندم بدوره، ما كان هذا ما وطد النفس عليه، أكد لنفسه مرارا أنه سيعاملها بما يرضى الله، لكن لن يمد لها يد القلب قبل أن يتأكد أنها ستمسك بها ولن تفلتها، لن يفعل حتى يطمئن لرغبتها في ذلك، سيقمع ثورة مشاعره الصاخبة تلك، ويخمد نيرانها عنوة، حتى تشعل هي الفتيل، و تصبح بلا منازع، سيدة الثوار الأولى، بل هي الثورة ذاتها.

لا يعرف ما الذي دفعه للحاق بها وترك الورشة، شيء ما يدفعه ليفعل، رغم غياب نادر بالجامعة لتأدية امتحاناته، وكذا وجود المعلم ناصر بالأعلى مريضا، حتى المعلم خميس جدها، قد أغلق المقهى اليوم، لموعده مع الطبيب الذي ذهب لزيارته بصحبة أمها، لكن ها هو يسير خلفها، تاركا الورشة في عهدة الصبي.

خرجت من الحارة، ليخرج خلفها موقنا أن الأمر سيمر بسلام ما أن تصبح بالشارع الرئيسي، الذي تسلكه للوصول للسوق، عاد فقد كان كل شيء على ما يرام، وقف فالورشة يعمل، لكن خاطره كله ينصب على محياها، لا يعرف ما الذي يجعله بهذا الضعف الأحمق قبالتها هي بالذات!؟
انتفض مسقطا أحد المفكات، وكاد أن يسب في حنق، عندما اندفع أحد الصبية هاتفا في عجالة: إلحقوا نعمة بت الأسطى ناصر، قدورة وصبيانه، ب...

لم يكن الصبي في حاجة لإكمال كلماته، فقد كان يكفيه أن يعلم أنها تتعرض لخطر ما حتى يهب مندفعا لنجدتها، وخاصة في غياب أخيها الأكبر، ومرض أبيها.
وصل حيث صمّت أذنيه صرختها المذعورة تلك وقدورة، ومعه بعض من صبيانه، يحاولون التجروء عليها، ما جعلته ينتفض مسرعا، يزود عنها، وقد غلى الدم بعروقه، يقف دافعا إياها خلفه، لتحتمي به، هاتفا بقدورة في ثورة: أنت محرمتش يا نچس! شكل العلجة اللي فاتت مكيفتكش.

جز قدورة على أسنانه في غضب، هاتفا: أنا كنت عارف إنك هاتيجي جري ورا السنيورة، وهتعملي فيها الواد المجدع، هي متخصنيش فحاجة، بس أنت بقى، ليك لازمة كبيرة عندي، أوعى تفتكر أن الصعايدة بس اللي مبيسبوش تارهم، وأنا كمان مبسبش تاري، وكنت مرقد للموضوع ده من بدري، وأهو جه أوانه، لا أخوها ولا أبوها هيقدر يجي يدافع عنك، ومحدش هيقدر يعارضني من اللي واقفين دول، يبقى أنت جيت لقضاك يا جميل.

كان راضي ما يزل يقف محاوطا نعمة بجسده، حيث كانت تقف متشبثة بظهره، ترتعد رعبا، استشعره، وهي قريبة منه بهذا الشكل، فهمس بها مطمئنا: متخافيش.
هتف قدورة في غل، أمرا رجاله: عايزكم تأدبوه كويس، وبعدين ترحلوه، ياللاه.

اندفع رجال قدورة، كالثيران الهائجة، تنفيذا لأمر ولي نعمتهم، حاول راضي، دفع نعمة بعيدا عن أرض الصراع، حتى يتفرغ لهم، لكن قدورة كان لها بالمرصاد، لتعود بعد أن همت بالخروج مندفعة من الدائرة التي تحيط بهما من رجاله، لتلوذ مرة أخرى براضي، محتمية بظهره، وقد بدأت في النحيب في ذعر.

بدأ العراك، وسدد راضي اللكمات والضربات للرجال في بسالة، لكن الكثرة تغلب الشجاعة مهما كان قدرها، اوسعوه ضربا، بعد أن دفعوا نعمة بعيدا عنه، سقط في إعياء، لكنه هم بالنهوض متحاملا على أوجاعه، ليستأنف المعركة، إلا أن أحد رجال قدورة، حصل على الإشارة المطلوبة، ليندفع نحو راضي، طاعنا إياه بمدية حادة، نازعا إياها من موضعها بجسده في لامبالاة، راحلا مع قدورة وباقي رجاله، كأن شيئا لم يحدث، تاركين نعمة تندفع نحو راضي الذي سقط من جديد على ركبتيه، ممسكا موضع جرحه النازف متأوها، لتتلقفه بين ذراعيها، وهي تصرخ في قهر، تنادي باسمه، لكن لا مجيب، وقد غامت الدنيا أمام ناظريه، وارتاحت رأسه على صدرها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة