قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون

كان قد انقطع عن كلامها منذ أن انقضت الامتحانات، حتى أنه لم يكن يرد لى مكالماتها التي كانت تقوم بها في الخفاء حتى لا تدرك جدتها بوجود هاتف معها، فهو الوسيلة الوحيدة بينهما للتواصل.
كادت أن تيأس، ربما هذه هي المرة الخامسة اليوم، التي رنت عليه فيها بأوقات مختلفة ولم يرد، ما الذي يحدث! أين ذهب! وعلى ماذا ينوي بالضبط!

همت بمد كفها لإغلاق الهاتف، واخفائه بموضعه الذي اعتادت تخبئته فيه، لتجد رسالة منه على الواتس أب، أسرعت وفتحتها في لهفة، قارئة: اتصلي دلوقتي.
لم تكن بحاجة لطلبه، بل إنها أسرعت وضغطت على اسمه الأوحد الموجود بالهاتف، ليرد في هدوء هامسا: إذيك يا أية!؟
دمعت عيناها، وهمست تجيب: الحمد لله، أنت كويس! أصل رنيت عليك كتير ومردتش! قلقت بجد.

تنهد مؤكدا: مفيش داعي للقلق، كل الحكاية إني مكنتش فاضي، ومش عايز اكلمك إلا لما يبقى عندي كل المعلومات، وأقولك اللي فيها.
هتفت بقلق: فيه إيه يا مروان! أنت كده قلقتني بجد.

أكد لها: بصي يا أية، أنا يوم ما قلت لجدتك إني مش هدخل بيتكم تاني إلا وأنا جدير بكِ، وطبعا من وجهة نظر الحاجة وجيدة، أني واحد عاجز ملقش بكِ، وهي عندها حق، وأي حد هيبقى عايز احسن راجل لبنته، راجل كامل من كله، مش نص راجل مش قادر حتى يقف على رجله.

هتفت به أية: متقلش كده، أنت فعيني راجل، وسيد الرجالة كمان، وعمري ما حسيت إن موضوع رجلك ده فارق معايا، ولا حسسني إني ناقصني حاجة، أنت حاجة كبيرة قوي فنظري يا مروان.
ساد الصمت بينهما، ليتنهد مروان من جديد، هامسا بصوت متحشرج تأثرا: وعشان اللي بتقوليه ده، أنا لازم اعمل اللي قررت اعمله.
هتفت به في اضطراب: قررت إيه يا مروان!؟ عشان خاطري، أوعى تكون حاجة فيها..

قاطعها مروان هاتفا في نبرة حازمة: قررت أعمل عملية، عشان أرجع أمشي على رجلي تاني.
ساد الصمت، الذي قطعته أية متسائلة في ريبة: هو فيه عملية تخليك تمشي تاني! طب لما كان فيه علاج من زمان! أكيد اللي خلاك متفكرش فيه، إنه..
هتف مروان بنبرة صارمة: مميت.
شهقت أية، وساد الصمت من جديد، قطعه نحيبها هذه المرة، هاتفة في توسل: بلاش يا مروان، عشان خاطري بلاش.

هتف مروان كأنه لم يسمع حرف مما قالت، مؤكدا: الفترة اللي فاتت، كنت منقطع عنك عشان كنت فمصر بشوف إيه إمكانية العملية بعد كل الفترة اللي فاتت دي، وهل فيه أمل فيها ولا لأ! ومدى الخطورة، والدكتور أكد لي إن العملية لسه في إمكانية لاجراءها، بس نسبة النجاح صغيرة للأسف، ومش كده وبس، ده ممكن أثناء العملية يحصل مضاعفات، ممكن أنها، يعني جايز مخرجش منها، العملية مجازفة ومخاطرة كبيرة، بس أنا لازم أعملها.

هتفت به أية من جديد، وقد علت وتيرة نحيبها، تتضرع أن ينصت لها، هاتفة في نبرة متوسلة: عشان خاطري يا مروان، لو كنت بتحبني بجد، بلاش العملية دي، أنت سمعت أنت قلت إيه! ده أنت ممكن تدخل متخرجش! حد عاقل يقول كده! أنا عايزاك كده، أنا مش فارق معايا، وحياتي يا مروان بلاش.

هتف بها مروان صارخا: بلاش ليه! أنا تعبت، لا أنا عايش وعارف أعيش، ولا أنا ميت ومرتاح من نظرات الناس وكلامهم! قوليلي ايه بلاش! عشان افضل عاجز، وابقى فنظر الكل نص راجل، قوليلي، بلاش لييييه!
صرخ بكلمته الأخيرة في قهر، جعلها تصمت ولا ترد بحرف.

ساد جو من التوتر بينهما، لم يقطعه إلا صوت نحيبها الذي تحاول كتمانه، وصوت تنفسه العالي بعد كل هذا الإنفعال، وأخيرا، هتف بنبرة هادئة، مؤكدا في عزم: خلاص يا أية، مفيش حاجة هتغير رأيي، يمكن أكون غلطان، بس في الأخر، مش هيكون اللي الصح، يا إما اعيش زي الناس، يا إما أموت وأنا بحاول، حياة النص نص اللي أنا عايشها دي مبقتش نافعة، يمكن مكنتش فارقة معايا قبل كده، لكن مع ظهوركِ فحياتي، لازم افكر فيكِ، أنا بعمل كل ده علشانك يا أية، عشان أنتِ تستحقي أحسن حاجة فالدنيا.

هتفت أية باكية في قهر: أنا، أنا خدت أحسن حاجة فعلا، متحرمنيش منها يا مروان.
هتف مروان مؤكدا: يمكن مقدرش أكلمك الفترة الجاية، أنا بجهز أوراقي، عشان العملية هتكون في ألمانيا، فبحضر للسفر وتجهيزات المستشفى والاتفاقات مع الدكاترة، واجرءات كتير.
لم تعقب بحرف، ما جعله يهمس في نبرة حانية: إيه! مفيش تروح وترجع بالسلامة يا مروان!
وغير لهجته مازحا، بصوت امرأة من منطقة شعبية: يجعل لك فكل خطوة سلامة يا خويا.

استطاع انتزاع الابتسامة لترتسم على شفتيها، وهمست به في محبة: تروح وترجع لي بألف مليون سلامة.
همس مشاغبا: ليه!
صمتت باسمة، ولم تعقب، لكنه أصر على الإجابة، هامسا بنبرة جادة هذه المرة: ليه يا أية! ليه عايزاني أرجع!
همست في اضطراب: يعني مش عارف!
همس متسائلا في جدية: عايز أعرف، عرفيني!
همست أية في أحرف متعثرة: عشان أية عمرها ما حست إنها عايشة ولها حق فالحياة، إلا لما..

همس في محبة: إلا لما وقعت في حجرك من فوق عنتر.
قهقه في سعادة، بينما اصطبغ وجهها في حمرة هاتفة معترضة: مروان!
هم بالحديث، لتهمس هي في توتر: سلام، حد جاي.
أغلقت الهاتف، دافعة به في سرعة تحت مرتبة سريرها، لتندفع وجيدة للحجرة في ثورة، هاتفة بنبرة غاضبة: جاعدة هنا ولا على بالك، وأني دمي محروج وهطج.
هتفت أية في اضطراب: ليه يا ستي! إيه في!؟

هتفت وهي تحدقها بنظرات غاضبة، كأنها تلومها لعدم معرفة سبب غضبتها: واد خالك مچاش، معاد أچازته عدي ليه كام يوم، وبرن عليه مبيردش، ومش عارفة إيه في! من يوم الفجرية بت الهوارية ما دخلت حياته، وهي خربطت راسه.
هتفت في تساؤل: طب وأني بيدي إيه يا ستي!
هتفت وجيدة في حنق: وأني إيه اللي هستناه منك من أساسه، خليكي ملكومة، وأنا رايحة أشوف إيه اللي أخر واد خالك عن مچيته.

تركتها وجيدة وحيدة، لتتنهد أية في راحة، واتسعت ابتسامتها فجأة عندما تذكرت مزاح مروان الذي قطعته جدتها، لكن عيونها برق بها الدمع، عندما تذكرت ما هو بصدده، فهمست في تضرع: يا رب.

سارت مرفوعة الهامة، مفرودة الكتفين، وهي تدخل إلى الشركة، ما هز ثباتها هذه النظرات التي كانت تتعقبها منذ أن دخلت إلى مقر مجمع الشركات، وحتى مكتبها، الذي ما أن دلفت إليه، حتى تطلعت بجنباته في شوق، لقد افتقدت أوقاتها بين أركان هذا المكتب الصغير، فقد اختارت كل قطعة به على ذوقها الخاص.
تنهدت في راحة ما أن جلست خلف مكتبها تتطلع لكل موضع على سطحه المرتب، تتذكر حماس المرة الأولى، لتبتسم في ثقة،.

مدت كفها تتطلع لتلك الملفات المتراكمة على أحد جانبيه، تزيل بعض الأوراق الروتينية بتوقيعها المتأخر، نظرا لإجازتها التي طالت، شعرت بافتقادها لأجواء النجع وكل من فيه، مدت كفها نحو الهاتف، وهمن بالضغط على أحد الأسماء، ليرن الهاتف باسم بدور، ابتسمت وفتحت الاتصال، هاتفة في محبة: أهلا بالغلاباوية، أذيك يا..

صمتت فريدة عندما تناهى لمسامعها صوت نحيب بدور الموجع، لتهتف في قلق: فيه إيه يا بدور! حصل إيه يا بنتي!
أخذت بدور، تسرد لفريدة كل ما كان من أمر منتصر، حتى هتفت فريدة في تأكيد: بس انا مش مصدقة الكلام ده على منتصر، معقول!
هتفت بدور في وجع: ما هو ده اللي مجنني يا فريدة، قلبي مش مصدق، وعقلي بيأكد قلبي، لكن الحقيقة اللي قدامي بتقول غير كده، أنا هموت من التفكير يا فريدة.

هتفت فريدة بها: تعالي على إسكندرية على طول، أنت محتاجة تفصلي شوية يا بدور.
أكدت بدور: عليا امتحانات يا فريدة، اخلص بس واجي، انا محتاجة ابعد فعلا.
أكدت فريدة: اهدي بس عشان تعرفي تركزي، وبعدين تعالي.
همست بدور: تمام يا فريدة، اسيبك لشغلك بقى.
همست فريدة: سلام، هكلمك تاني، خلي بالك على نفسك.

انهت فريدة المكالمة، وما أن تهم بالخروج من المكتب، إلا ورن الهاتف، ردت فريدة في سعادة وهتفت في ترحاب: القلوب عند بعضها، كنت لسه هكلمك والله.
هتفت نوارة في سعادة: أهلا بأهل إسكندرية العزاز، حمد الله بالسلامة، إسكندرية نورت والنچع ضلم أكيد.
اتسعت ضحكات فريدة هاتفة: إيه الرضا ده كله يا دكتورة! لا ده إحنا نمسك الخشب بقى ونقول يا ترى إيه السر!
هتفت نوارة متعجبة: هو أنا باين عليا جوي كده!؟

هتفت فريدة مازحة: شفتي، أنا مكشوف عني الحجاب، واضح إن فيه حكاية ولازم أعرفها.
همست نوارة في سعادة: فيكِ مين يكتم السر! رائف عايز يجي يطلب أيدي ومنتظر ردي.
هتفت فريدة في سعادة: بجد!؟ إيه الخبر الحلو ده! بجد رائف بيه انسان محترم وبن ناس فعلا، ربنا يهنيكم.
هتفت نوارة في نزق: بس أنا لسه موافجتش على فكرة!
قهقهت فريدة هاتفة: أيوه صحيح، ما هو واضح.
هتفت نوارة مؤكدة: ايوه طبعا مش لازما يغلب، هي بالساهل كده!

أكدت فريدة في نبرة هادئة: عندك حق يا نوارة، اللي بيجي ساهل بيروح بالساهل.
وتبدلت نبرتها مستطردة في فرحة: بس خبر بمليون جنيه، ألف مبروك مقدما يا دكتورة، بس مطوليش ع الراجل فالرد، لحسن يروح ميرجعش.
قهقهت نوارة مؤكدة: يروح فين! ميقدرش، هو دخول الحمام زي خروجه.
قهقهت فريدة هاتفة: يا عيني عليك يا رائف، والنعمة ما يستاهل اللي هيحصل له منك يا نوارة، ده..

همت بالحديث، ليقاطعها صوت ذو نبرة مازحة جانبها: إيه ده دي الدكتورة نوارة! سلميلي عليها.

‏كادت أن تسقط الهاتف من يدها، عندما استدارت نحو ذاك الذي كان يتعقب خطواتها منذ أن خرجت من مكتبها، متجهة صوب غرفة الاجتماعات، لحضور اجتماع هام، مع عملاء جدد تعاقد معها والدها، في فترة غيابها، واخبرها أن شراكتهما سيكون لها انعكاس إيجابي على الشركة في الفترة القادمة، ما اعتبرته بادرة خير، وخاصة بعد أن سحب نزار الغمري، اسهمه بالشركة، بعد ما حدث.

‏هتفت في نبرة مضطربة، مؤكدة لنوارة: طب يا دكتورة، مضطرة أقفل عشان الاجتماع هيبدأ، وعمك ما يعرفش ياما أرحميني فالشغل، سلام مؤقت، وهكلمك تاني.
أنهت الاتصال، وتطلعت في صدمة نحو ذاك الذي ظهر لها من العدم، هاتفة في لهجة رسمية، وهي تستدير لمقابلته: أهلا يا باشمهندس، خير!
تطلعت حولها باحثة عنه، هل كان هنا بالفعل! أم أنها تخيلت وجوده!

لم تعر الأمر اهتماما، فقد تأخرت عن اجتماعها بالفعل، دخلت غرفة الاجتماعات،
وما أن همت بالجلوس موضعها المعتاد، حتى اعتدلت واقفة، وأبوها يدخل الغرفة وخلفه شركائهم الجدد، أو بالأدق، شريكهم الجديد، الذي كان، ما الذي يحدث!
تطلع سامر لها كأنه لا يعرفها، ومد كفه يحييها في برود، وحمزة يعرفه عليها،
ويبدأ في تعريفه كذلك، هاتفا في نبرة رسمية: الباشمندس سامر شحاته العشري، رئيس مجلس إدارة شركات العشري.

هزت رأسها في تقبل، ولم تنبس بحرف، بينما استطرد حمزة، مشيرا لها في فخر: ودي فريدة الهواري، بنتي والمساعدة بتاعتي، تقدر تقول مديرة أعمالي والمسؤولة عن تعاقدات المشاريع الجديدة. ابتسم سامر ابتسامة دبلوماسية، قبل أن يهتف في نبرة رسمية بامتياز: تشرفنا أستاذة فريدة، أرجو التعاون بينا يكون مثمر.
استعادت فريدة ثباتها، هاتفة في لهجة امرأة عملية: أكيد يا باشمهندس.
وبدأ الاجتماع..

قهقه سعفان النادي، هاتفا لنغم أمرا: كفاية بقى يا بت يا نغم، يخربيت خفة دمك.
هتفت نفم، وهي تقطع تفاحة تعطيه بعضها مؤكدة: اضحك يا معلم، محدش واخد منها حاجة، علّي الضحكاية علّي.
ظهر منتصر قادما، يبتسم بدوره، وقد رأي سعفان غارق في ضحكاته، ليهتف منشرحا: إيه الضحك ده كله! ما تضحكونا معاكم.
أكد سعفان مشيرا لنغم: بت اللذينة دي، مشفتش فخفة دمها، والله يا نغم نسيتي الواحد قرفه ودنيته كلها.

ابتسمت نغم مؤكدة في دلال: خدامتك يا معلم، الله طبعا لازما انسيك أي تعب، ده أنا لو معملتش كده يبقى مليش لازمة بقى!
هتف منتصر مؤكدا: تدوم الضحكة يا معلم.
هتف سعفان متعجبا: وأنت مش هتدوم ولا إيه! ما تفك التكشيرة الصعبة اللي على وشك دي، والله السيما بوظت سمعتنا بين الخلق.
قهقه منتصر مؤكدا: الظاهر كده يا معلم، فكرني ارفع عليهم قضية تعويض، اهو اللي يجي من الحكومة كله مصلحة.

أكد سعفان هاتفا: لا يا سيدي، لا عايزين الحكومة ولا اللي يجي منها، الله الغني، يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز منك عسل، بقالي سنين، لا الحكومة عرفالي طريق، ولا قادرة توصل لي، ربنا يبعدهم عنا، ويجعل كلامنا خفيف عليهم.
هتفت نغمة مؤكدة: يا رب يا معلم.
سأل سعفان في اهتمام: اخبار العملية الجديدة إيه يا سيدنا! أنا قلت اسيبك بقى تتعامل بعد ما بينت كرامة فالعمليتين اللي فاتوا، وبيضت وشي.

هتف منتصر في جدية: ولا يكون عندك خبر يا معلم! سالكة بعون الله، بس انت شخشخ جيبك ع المظبوط، حاكم اللي ماسك منطقة التسليم ده أنا عارفة، منشار، طالع واكل، نازل واكل، مش بيعتق.
أكد سعفان في لامبالاة: إن ع الفلوس، فمقضية ولا يهمنا، المهم العملية تجينا مقشرة من غير خساير، ويبقى حلال عليه.
أكد منتصر: إن كان كده، حط فبطنك بطيخة صيفي، والعملية اعتبرها خلصت.

أكد سعفان في ثقة: طبعا خلصانة، ومعاها حصانة، ده إحنا الباشا كله معانا.
واستطرد ممسكا بجهاز التحكم في سماعات البهو الموجودين به، هاتفا: ياللاه بقى شوفوا حالكم، وسبوني اتسلط مع الست واعيش اللحظة.
استأذن منتصر، ليهتف سعفان في نغم أمرا: ياللاه يا نغم مع الباشا، والنبي تفكلنا التكشيرة اللي على وشه دي، أحسن أنا بتشائم.

ابتسم منتصر، ليهتف سعفان مبتسما بدوره: اهي ندعت أهي، ياللاه يا بت يا نغم، فرفشيلي الباشا ده، عايز صوت ضحكته يوصلي لحد هنا، ويكيفني فشر صوت الست.
أطلقت نغم إحدى ضحكاتها الماجنة، هاتفة في دلال: من عنينا يا معلم، مسافة السكة.

قهقه سعفان، تاركا إياها تجذب منتصر من كفه، لينهض سائرا خلفها في استسلام تام، وابتسامة مرسومة على شفتيه، وما أن اقتربوا من الغرفة، حتى تنحى منتصر جانبا، وجلس متنهدا على أحد المقاعد، متطلعا نحو الأفق البعيد، غير عابيء بتلك التي تقف موضعها، تنظر إليه متعجبة من حاله، سارت لتجلس جواره، ولم تنبس بحرف واحد، وصوت أم كلثوم العاتب يأتيه من البهو، حيث يجلس سعفان:
عيون كانت بتحسدنى على حبي..

ودلوقتى بتبكى عليّا من غٌلبى..
وفين إنت يا نور عيني يا روح قلبي..
فين! فين أشكى لك فين!
عندي حاجات وكلام..
فين دمعك يا عين!
بيريحنى بُكايا ساعات..
بخاف عليك وبخاف تنساني..
والشوق إليك على طول صحّانى..

أمسك منتصر هاتفه، يتطلع نحو شاشته، يغالب شوقا يدفعه ليرى صورتها فقط، أو حتى يدخل ليرى حالتها على الواتس أب، لكنه تنهد واضعا إياه جانبا، ودفع برأسه ما بين كفيه، ولازالت أم كلثوم تثير اوجاعه وتنكأ بكلماتها وصوتها الشجي العاتب جرحه النازف بروحه، ما دفع نغم لتضع كفها على كتفه مواسيه، هامسة بنبرة حانية: أنت بتحبها قوي كده!

انتفض منتصر، متطلعا نحوها، هاتفا في حنق: بحب مين! وكلام فارغ إيه اللي بتقوليه ده!
همست نغم متنهدة: يا باشا فضفض، اهو تخرج الهم اللي على قلبك ده، ده باين إنك غرقان لشوشتك.
اندفع منتصر ممسكا عضدها، يهزها في قوة، هاتفا في غضب مكبوت: إياكِ تجيبي سيرة الموضوع ده تاني، أنتِ نسيتي نفسك ولا إيه! أنتِ..

قاطعته في حسرة، هاتفة ودمع يترقرق بمقلتيها: عارفة أنا إيه يا باشا! كتر خيرك إنك فكرتني برضو، مع إن الواحد كان بيحاول ينسى.
ترك منتصر ذراعها، وزفر في حنق، مخللا أصابع كفه ما بين خصلات شعره في ضيق، هاتفا في لهجة حاول أن تبدو على هيئة اعتذار: خلاص يا نغم، محصلش حاجة.
همست به، وكأنها نسيت بالفعل، تسأله في لهفة: ألقولي يا باشا! هي اللي زيي كده ينفع تنحب!
هتف منتصر مؤكدا: ومتتحبش ليه! مش بني أدمة!

هتفت تفسر: يعني، أديك شايف اللي أنا فيه! ممكن حد يحبني فوسط القرف ده!
أكد منتصر مبتسما: لو عرف معدنك الطيب، وحبك بجد، مش هيهمك أي حاجة.
‏ابتسمت في سعادة، هاتفة في فرحة غامرة: ربنا يجبر بخاطرك يا باشا، والنعمة أنا طيبة وبنت حلال، بس لولا الحوجة ما..
‏قاطعها منتصر: أنتِ إيه اللي جابك هنا يا نغم! يعني، شكلك صغيرة وبنت ناس طيبين.

انفجرت ضاحكة على كلماته الأخيرة، ضحكات هيستيرية مخلوطة ببكاء روح موجوعة بلا دموع، واكدت ساخرة: دول ناس طيبين وولاد حلال مصفي، فاموليا معتبرة يا باشا.
لم يعقب منتصر، لتستطرد متنهدة تسرد قصتها: كنا تلت بنات، نصيب أبونا وأمنا من الخلفة، أبويا كان صنايعي وكسبب، بس ولاد الحرام جروه لسكة الكيف، وحبة حبة الدنيا باظت، وبقينا على الحديدة، والكيف ذل أبويا لدرجة إنه..

صمتت وقد غصت بوجيعتها، لكنها استطردت وهي تزدرد ريقها، مبتلعة ألمها كما تعودت، هاتفة: لدرجة إنه بادلنا بالكيف، بقى عنده استعداد يفرط فشرفه قصاد المزاج، أمي مقدرتش عليه وراحت طفشانة، وسابتنا منا له، كنا هنعمل ايه، وإحنا شايفين ابونا بيبيع فينا ويشتري، بقت كل واحدة فينا، تمن لقعدة كيف، ومن أيد لأيد، لقيت نفسي هنا من نصيب المعلم، وأهي ماشية يا باشا.

تنهد منتصر متأثرا بقصتها، وربت على كتفها في تعاطف، وقع ناظرها على كفه الرابتة في حنو، هامسة تسأله: ألا أنت ممكن تحبني يا باشا!
ابتسم منتصر ونكس رأسه ولم يحر جوابا، لكنها علمت الإجابة هاتفة بها: ده إيه السؤال الغبي ده! برضو الواحد أحيانا، هو مش احيانا يعني، هو كتير، بينزل عليه شوية غبا، اكسترا بعيد عنك يا باشا.

نهضت مغادرة، وهي تتمايل مع كلمات أم كلثوم، من يراها يعتقد أنها خالية البال، لا يشغلها هما، ولا يؤرقها فكرا، لا يدرك أن ألمها أكبر من أن تعبر عنه، وقد خزلها من كانوا، من المفترض هم السند والظهر.
تطلع منتصر نحوها مشفقا، وانتفض مغادرا نحو غرفته، هربا من أم كلثوم وكلماتها التي باتت تنغص مجلسه:
غلبني الشوق، وغلبني..
وليل البعد دوبني..

ناسيا هاتفه، الذي تسلل أحد الرجال، وانتشله من موضعه، دافعا به لعمق جيبه، مغادرا في سرعة..

كان يجلس بأحد المقاعد الموجودة، يتطلع نحو جسد راضي المسجى عبر ذاك الحائط الزجاجي، عاري الصدر إلا من لفائف شاش وقطن طبي، تغطي جرح بصدره، وهو غائب تماما عن الوعي.
ما أن وصله اتصال عمه حازم، وأخبره بما حدث لراضي، حتى أتى مهرولا، قاطعا الطريق في اقل عدد ساعات ممكن.

القلق يقتات على قلبه، وأخوه ممدد أمامه بهذا الشكل بلا حراك، خارج لتوه من غرفة العمليات، وقد أخبره الطبيب أن الجرح غائرا، والنزف كان شديد، وهو مشتت ما بين أمرين، أن يخبيء الأمر على أبوه وأمه وألا يخبرهما! وما بين أخبارها حتى لا يتحمل وحده عواقب التستر عن أمر كهذا!
ربتت كف على كتفه في تعاطف، جعلته يتنبه لوجود عمه حازم، هاتفا في نبرة مطمئنة: هايبقى كويس باذن الله.

هز يونس رأسه هاتفا: باذن الله يا عمي، بس حضرتك اتصلت بيا وجلت لي متبلغهمش في نچع الصالح، طب ليه!
أكد حازم: ملهاش لازمة تخضهم على أخوك، وأبوك وأمك مش حمل البهدلة ومسافة الطريق من هناك لهنا، أنا لسه جاي من عند الدكتور اللي بيباشر حالته، قالي حالته مستقره، وخلال ساعات هيفوق ويبقى زي الفل، بس الجرح هيحتاج له فترة عشان يخف، وده طبيعي.
هز يونس رأسه موافقا: يجوم هو بالسلامة، وأني كفيل بيه، بس يطمنا عليه.

ربت حازم على كتفه من جديد: والله هايبقى تمام، والولاد اللي عملوا الكلام ده، جابوهم، أنا مسبتش الموضوع، فضلت متابعه لحد ما بلغوني إن البلطجية دول مرميين دلوقتي فالقسم، وهايتعرضوا ع النيابة، وحقه هايجي تالت ومتلت.
هتف يونس مؤكدا: بس هو يجوم بالسلامة يا عمي، وبعد كده اللي يحصل يحصل.
اندفع نادر، ومعه ناصر يتعكز عليه متعبا، والذي هتف والسعال يشارك كلماته: أخباره إيه دلوقتي!

هتف حازم رابتا على كتف ناصر: اقعد يا ناصر أنت تعبان، وهو أهو ربنا يسلمه، ده يونس أخوه.
أشار حازم ليونس، ليهتف ناصر في نبرة متأسفة، شاعرا بالخزي: اهلا يا بني، كان نفسنا نشوفك فظرف أحسن من كده، وسامحنا على اللي جرى، كان المفروض إنه ضيفنا وبينا، وعمك حازم موصينا عليه، وربنا يعلم إننا مقصرناش، لكن النصيب بقى.

هتف يونس مؤكدا: ايوه هو فالاول والآخر نصيب، وأني متأكد إنه كان فعنيكم، وراضي ياما شكر فيكم، وجال انكم ناس طيبين ومتتخيروش عن أهله فالبلد، بس كيف ما جلت حضرتك، أهو النصيب، المهم يجوم لنا بالسلامة.

هتف نادر مؤكدا: هيقوم وهيبقى تمام والله، راضي ده أجدع راجل أنا قابلته فحياتي، بس البلطجية دول اتكاتروا عليه، واستغلوا اني مكنتش موجود وابويا تعبان مبينزلش الورشة بقاله شوية، وجدي مكنش موجود فالحارة، فاستفرودا بيه، لكن البوليس جه خدهم كلهم.
تطلع يونس من جديد على جسد أخوه الساكن، ولم ينبس حرفا، يموت قهرا على حال راضي، ولا حيلة له.
رن هاتفه، فاستأذن متخذا ركن قصي، وضغط زر فتح المكالمة، هاتفا: ألو..

همس ذاك الصوت المتحشرج على الجانب الاخر: كيفك يا يونس بيه!
تنبه يونس أن ذاك صوتها، الذي تحاول أن تغير من طبيعته، لكنها ظهرت جلية عبر الهاتف، ما جعل قلبه يرفرف بين جنباته،
مقررا مشاكستها: مين معاي!
أكدت سماحة هاتفة: أنا سماحة يا يونس بيه، كيفه أخوك، يا رب يكون بخير دلوجت، والله أمي من ساعة ما مشيت وهي بتدعيله ربنا يجومه بالسلامة.
هتف يونس متضرعا: يا رب، هو لسه مفاجش، ربنا يعديها على خير.

همست سماحة: هتعدي يا بيه، وهيجوم كيف الحصان، بس جولي، اتغديت يا بيه! ده أنت خرچت چري من غير ما تحط لجمة فبطنك.
ابتسم يونس، فاتصالها هون عليه الكثير، وتعجب كيف يمكن لصوت إنسان أن يكون حاجز صد عن احزان العالم فلا تطال قلبه، وإن طالته، يكون ذاك الصوت هو البلسم الشافي لكل اثر خلفته تلك الأحزان!
همس يونس مؤكدا: والله ما ليا نفس يا سماحة، منظر راضي وهو راجد كده، واچع جلبي، وسادد نفسي عن الدنيا.

حاولت أن تستجمع شتات نفسها الموجعة نيابة عنه، هامسة بنبرة حاولت أن تودعها ثبات تخلى عنها، وهي توصيه: لاه يا بيه، خلي بالك على حالك، عشان راضي بيه لما ربنا يكرمه، ويجوم بألف سلامة، يلاجيك شديد، مطاوعش روحك، وكل لك حاچة عشان خاطري.
فلتت منها كلماتها الأخيرة، لتضع كفها على فمها، مبعدة الهاتف قليلا، تتمنى لو لم يصله توسلها الأخير بهذا الصوت الناعم، الذي يفضح هويتها.

كان هذا كل ما يشغلها، غير مدركة أن ذاك الصوت الحاني الذي كانت تحاول مداراته، هو طوق نجاته من براثن الوجع الذي تتخطفه أشباحه، دافعا إياه ليهمس بصوت متأثر: حاضر، بإذن الله.
ردت مستعيدة صوتها الأجش، لكنها لم تفقد حسها الأنثوي الحاني، شاعرة بالاسى تجاهه: يحضر لك الخير، وترچعلنا بألف سلامة، البيت مضلم من غيرك يا بيه، ربنا ما يغيبك أبدا.

كانت كلماتها تلك، هي القشة التي قصمت ظهر بعير تحمله، ما جعله يهتف بها في صوت عصف الشوق بمجامعه: سماحة، لما أرچع، ليا كلام كتير معاك.
لم تعقب لبرهة، حتى همست في نبرة مرتبكة: تاچي بالسلامة يا بيه، مع ألف سلامة.

أغلقت الهاتف، متطلعة نحوه، وكادت أن تقذف به في حنق، فقد كانت تعتقد كبلهاء أن حديثها معه على الهاتف، وصوته الرحيم ذاك يصل حتى أعمق نقطة بروحها التي اشتاقت ما أن رحل عنها مغادرا، موقظا مكامن الشوق التي كانت تحاول تجاهله دوما في حضرته، فانتقم منها بقسوة في غيابه الذي يعذب فؤادها الملناع ذاك.

قذفت بالهاتف بقعر جيبها، مقسمة أن لا تحادثه على الهاتف مرة أخرى، وليكن ما يكون، غير مدركة أن محادثتها تلك، جعلته يتخذ قرار، كان يدعه لها، معتقدا أن هذا هو القرار الصحيح، لكنه ما عاد قادرا على الاختباء أكثر من هذا، وعليه أن يظهر من خلف استار التغافل التي يستتر خلفها، احتراما لرغبتها، عليه أن يقوم بالكثير، فما عاد يملك من الصبر ما يمكنه على الاحتمال أكثر من هذا.

همست حُسن جوار عمتها تشاكسها، وهي في تيه تام، مترنمة بإحدى الأغنيات، التي كان يعشقها زوجها الراحل: كنت بتحبيه قوي كده يا عمتي!
تنبهت عمتها متطلعة نحوها بأعين دامعة، هزها الشوق لذاك الغائب الحاضر دوما: محبتش حد قده فالدتيا، عرف يحببني فيه، لدرجة إن بقى عندي فايض من الحب اعيش عليه اللي باقي من عمري لحد ما أروح له.

دمعت عينا حُسن من عمق مشاعر عمتها، التي كانت جلية في كل حرف تنطقه، وسألتها: انتوا اتقابلتوا إزاي يا عمتي!

بدأ عمتها فالسرد هامسة: كان عمك سعد في إجازة بمصر، وأنا كنت بشتغل في مصنع كبير من بتوع الملابس، وأنا خارجة من المصنع كان هيخبطني بالعربية، قمت بقى ولسه هفتح فيه ماسورة التهزيق اللي قلبك يحبها، لقيته واقف يتأسف ويعتذر، لقيت الراجل محترم، رحت لميت نفسي وسكت، وقلت له حصل خير، سبته ومشيت، لقيته بعدها بساعتين جاي يخطبني من أبوكِ الله يرحمه، وده كان سبب الخلاف ما بنا.
هتفت حُسن: واتجوزتوا برضو!

أكدت عمتها: قعد يحاول يقنع سالم كتير، مكنش بيقتنع، كان فاكره هياخدني ويبهدلني، ومش هيصوني، وأنا كنت مطلقة، وخارجة من موال صعب مع جوزي الاولاني، ومن غير عيال، عشان مكنش ليا فالخلفة.
تطلعت لها حُسن متعجبة: أومال شعيل ده إيه!

قهقهت عمتها مؤكدة: ما هي دي المفاجأة، مش أنا طلعت بخلف، وطليقي هو اللي كان مش بيخلف، واهو ربنا نصفني، ورزقني بشعيل من عمك سعد، وربنا فتح عليه كمان وكمان، كان دائما يقولي، مش أني سعد، بس أنت وش السعد عليا، عشت معاه اللي عمري ما كنت أفكر إنه موجود من أساسه، يوم ما مات يا حُسن أنا موت وراه، اللي قدامك دي، فضلت فترة تتعالج بعد ما روح، لحد ما بقيت بصبر نفسي إنه مسافر وأنا هروح له.

سال دمع حُسن، ولم تعقب، لتستطرد عمتها في حنو: اوعي يا حُسن تدي قلبك إلا اللي يستاهله، واللي يقدره على حق ربنا، الراجل لو مقدرش الست اللي معاه، عمرها ما هتحس بالأمان جنبه، وهتفضل طول عمرها تدور ع الامان معاه ومش هتلاقيه للأسف، خدي الراجل اللي يحسسك إنك ست، وانك مالية عينه عن ستات الدنيا كلها، وانك ساكنة ومربعة فقلبه، ومفيش اي قوة فالدنيا تقدر تزعزعك من جواه، الراجل ده تعيشي معاه، وتبقى فعلا ست أنتِ نفسك هتستغربي نفسك، أنا دي! هو إزاي بيقدر بكلمة يخليني حلوة قوي كده! وست قوي كده! و بحبه قوي كده!

هتفت حُسن مؤكدة: ياااه يا عمتي، ده أكيد كان من نوع خاص من الرجالة، خلاص بقى مبقاش موجود.
أكدت عمتها: لا موجود، بس بقوا فعلا قليلين قوي، عارفة ليه، عشان خالفوا فطرة ربنا اللي خلق عليها البشر من أيام آدم وحواء، الست بتناطح وبقت ند وعند فالراجل، والراجل بقى بيعمل دماغه بدماغ الست.

ضحكت حُسن، لتستطرد عمتها: والنعمة حصل وبيحصل، ما هو كل واحد لو عرف ربنا خلقه للتاني ليه هنرتاح كلنا، الست مودة ورحمة وسكن، والراحل سند وضهر وقوامة، ربنا خلقنا عشان نبقى مع بعض على الدنيا، مش يبقى كل واحد فينا مع الدنيا على شريكه، لما كل طرف نسي دوره اللي ربنا خلقه له، باظ اساس العلاقة و بقت زي ما أنتِ شايفة، بقينا بنقول ع الطبيعي حاجة مش معقولة ونقول ع المش طبيعي، عادي، الدنيا اتقل خيرها، والفطرة اتقلب ميزانها يا بنتي.

أكدت حُسن هامسة: صدقتي والله يا عمتي، يا بختك بعمي سعد، ربنا يرحمه رحمة واسعة.
هتفت عمتها متأثرة: وحشني قوي يا حُسن، وأنا قاعدة كده، بيتهيء لي هلاقيه داخل عليا، وبيناديني فوز، زي ما كان بيحب دايما، عارفة! أكبر رزق ممكن واحدة تاخده فالدنيا، راجل زي عمك سعد، مفيش أجمل من الواحد يحب ويتحب بجد، ربنا يرزق قلبك الحب اللي بجد يا حُسن.

وصل شعيل في تلك اللحظة، متطلعا نحوهما في تعجب، وقد بدا أنهما باكيتان، فهتف متسائلا: وايش صاير!
لم ترد أمه، لكنها مدت كفها، ورفعت صوت مغنيها المفضل، صادحا بكلمات أغنيته:
يا طيب الجلب وينك، حرام تهجر ضنينك..
مشتاج لك يا حياتي، عسى يردك حنينك..
يا شوج عيني لعينك..

وأخذت تردد في انسجام، غير عابئة بوجودهما، ما جعل شعيل يتنبه لحاله الحنين التي تصيب أمه، فنهض في هدوء، وانحنى مقبلا هامتها، قبل أن يستأذن بدوره، وقد تنبهت أن ملامحه تغيرت للحزن بدوره، معتقدة أنه تذكر أبيه بالمثل، لا تعلم أن أمه نكأت جراحه التي يحاول تناسبها بدوره، لكن الجرح حي والأمل في شفائه ضعيف، يحتاج لمعجزة..

على الرغم من كل تلك الدلائل التي حصلت عليها، إلا أنها ما تزال غير قادرة على استيعاب حقيقة أن عاصم بكل هذا الوجوم والصمت الآسر الذي يحيطه، هو شيخ العاشقين الذي لطالما هامت بكلماته التي كانت تصف حال قلبها بشكل تعجز هي نفسها عن التعبير عنه، هو ذاك الشخص، من خلف شاشة هاتفها، الذي تجده يضع كل اقتباسات الكتب والروايات التي كانت تقرأها، معلقا روحها به لا شعوريا، فهذا التطابق في الاختيارات، وانسجام الذائقة، جعله المفضل لها، فتحت صفحة شيخ العاشقين، وإعادة النظر في تاريخ بعض المنشورات، لنتأكد من تاريخ النشر الذي كان مطابقا لقراءتها نفس الرواية موضع الاقتباس، والتي كانت تخط الأسطر المعنية بخط وردي، لأجمل اقتباس بالرواية، لتجده قد بدأ يضع هاشتاج يعكس ذاك اللون المفضل لها، الوردي،.

وضعت لتوها تلك الرواية التي كانت تطالعها بالأمس، واستترت خلف أحد الأشجار التي كانت بالقرب، فقد انتبهت أنه بالأعلى يتابعها من خلال نافذته كما هي عادته، لم يخب ظنها، فها هو قادم وما أن وصل غرفة القراءة حتى مد كفه متناولا الرواية التي كانت تطالعها بالأمس، وبدأ في فر صفحاتها في لهفة، تبحث عيناه عن الوردي الذي يتخطف نبضات قلبه، وأخيرا وقع ناظره على الاقتباس الوحيد الذي تعمدت اختياره بالرواية، ليخرج هاتفه ويصور ذاك السطر الوردي، تاركا الرواية بعدها جانبا، مندفعا نحو الأعلى من جديد، تنهدت وتطلعت لصفحة شيخ العاشقين، في انتظار الخبر اليقين، الذي تدرك تمام الإدراك، أنه قادم لا محالة، أضاءت الاشعارات بإشعار قادم من صفحته، لتفتحه بقلب وجل، ليسطع أمام ناظريها اقتباسها الوحيد.

انفجرت باكية، وأغلقت الهاتف لا تريد أن ترى تلك الحقيقة الساطعة كشمس، والتي كانت تحاول إنكارها، لتفرض نفسها جلية تخرج لها لسانها، ساخرة من غفلتها، لتهمس في وجيعة: ليه كده يا علصم، ليه تحملني أنت كمان ذنب قلبك!

واندفعت تصعد الدرج حتى غرفتها، تتحجج بصداع شديد، تختبئ من الحقيقة أسفل غطاء فراشها الذي تدثرت به، تبكي حال ابن عمها وحالها، تحاول الهرب من حقيقة مشاعر عاصم تجاهها، لكن أين المفر من قلبها ومشاعرها هي!

ساعات فقط، ساعات قليلة فاصلة عن حلم العمر، اجتماعه وسمية تحت سقف حجرة واحدة، وأن تصبح حلاله، تطلع سمير في أرجاء الحجرة بفرحة يخالطها رهبة البدايات.
حاول أن يبعد ناظريه عن الفراش الذي من المفترض أن يجمعهما ليلة الغد كزوجين، وهو ما يزال مذبذب الرأي فيما عليه فعله بعد ما سمع ما كان بينها وبين أخته سهام.

إنه يهواها، هذا لا شك فيه، ونبضات قلبه التي تتقافز لمجرد ذكراها تلك، تبرهن على هذه الحقيقة الجلية، لكن كرامته تثير مكامن الوجع بداخله، متسائلة، ما فائدة هواك، وقلبها معلق بغيرك!؟

لعن في حنق، وأبعد ناظريه عن كل مظاهر الفرخة المنثورة بالغرفة، مؤكدة أنها غرفة عروسين مقبلين على بداية حياتهما الزوجية، لكنه لن يكون، فقد قرر أنه لن يقربها ما لم يتأكد أنه الوحيد بقلبها، ما يعنيه هو ذاك القلب الذي حلم بامتلاكه منذ وعى أن له خافق نابض بين ضلوعه.

اندفع مبتعدا عن الغرفة، وعن مظاهر الفرح المعبق بها أجواء الدار، فحنة سهام، وحنته كذلك الليلة، ليته ما دخل الغرفة! ليته ما أثار تلك الحقائق الشائكة بصدره.
ابتعد عن الدار، تاركا إياها للحريم، من أجل مزيد من الحرية في إظهار الفرحة بعيدا عن وجود الرجال، مقسما على الصبر، فما بالغد قد يكون أفضل مما تمنى!

امسكت بهاتفها، وقلبها تتضاعف دقاته بوتيرة متصاعفة تكاد تصيبها باذمة قلبية، حاولت أو تخفف من وطأة الأمر عليها، وبدأت في الشهيق بعمق، حتى بدأت في تهدئة نفسها، قبل أن تفتح الواتس أب على ذاك الرقم الذي سجلته باسمه، وضغطت على الأحرف باصابع مرتجفة، جعلتها تخطىء موضعها عدة مرات، قبل أن تنهي كلمتها الوحيدة التي خطتها أنا موافقة.

كانت ترغب في قذف الكلمات والركض سريعا، لكنه كان هتاك، ينتظر على أحر من الجمر ردها، ولم يفلت الهاتف من كفه النهار بطوله، معذبته هي بالانتظار، حتى جادت بالرد في أخره، وبكلمات مقتضبة، جعلته يخط لها، وقلبه لا يقل عن قلبها اضطرابا: نمرة والدكِ، هتصل به اخد ميعاد، بعد ما افاتح أمي، اللي أنا متأكد انها هتكون موافقة جدا جدا، هتكون أكرم منكِ، كتبتي موافقة بس،.

انفجرت ضاحكة، وتألق الدمع بعينيها فرحا، ولم ترد بحرف، ليستطرد مرسلا: نوارة، أنا مش عارف اقول ايه، بس فيه كلام كتير لازم أقوله مينفعش إلا لما أشوفك، هتيجي الشغل بكرة؟
فكرت لبرهة قبل أن تكتب: معتقدش، أنت أول ما تكلم بابا، مش هقدر اجي الشغل تاني، أنت عارف العوايد
تنهد قبل أن يكتب: عندك حق، خلاص، نتقابل فبيتكم على بركة الله
كتبت في سعادة: على بركة الله.

أرسل لها ملصق يشير بكفه مودعا، لتظل نوارة محملقة في شاشة الهاتف، لا تصدق أن ما جرى، قد حدث بالفعل، تعيد قراءة الحوار بينهما، لتتنهد أخيرا، ضامة الهاتف لقلبها في سعادة مفرطة.
بينما نهض رائف متوجها لأمه، التي وجدها كعادتها تقرأ في المكتبة، دخل مقتربا منها، منحنيا يقبل هامتها، هاتفا في تساؤل: هعطلك عن حاچة!

أغلقت سميحة الكتاب الذي كانت تطالع، هاتفة في محبة: ولا عطلة ولا حاجة، هو في أهم منك! وخصوصي لما يكون عندك كلام كتير تقوله..
ابتسم رائف هاتفا: الواحد مبيعرفش يخبي عنك حاچة، بس هو الموضوع أصلا، أنتِ تقريبا حساه، موضوع خاص بنوارة وبيا.
اعتدلت سميحة متطلعة نحو رائف في لهفة، هاتفة في تعجل: قول أن اللي فبالي صح!

هز رأسه مؤكدا، لتنهض تضمه في سعادة، هاتفة في فرحة غامرة: يا زين ما أخترت، والله من أول ما شفتها وأنا اتمنيتها ليك يا حبيبي، ربنا يتمم لكم على خير، هتكلم بباها أمتى عشان نروح نطلبها!
أكد رائف باسما: دلوقتي حالا، أنا كنت منتظر موافجتك.
هتفت سميحة مؤكدة: أنا موافقة جدا، موافقة خالص، روح كلمه بقى.
قهقه رائف هاتفا: والله أنا قلت هتطلعي اكرم منها، هتقولي موافقة وبالثلث، مش هي بعتاها كأنها بتشاور روحها.

قهقهت سميحة مؤكدة: أنا كده اطمنت عليها، اصل انتوا الرجالة عايزين واحدة تغلبكم معاها.
ارتفعت ضحكاته وأخرج هاتفه، واستأذن ليحدث والد نوارة، تطلعت سميحة نحوه، تتمنى له دوام تلك الضحكات، والسعادة التي تستشعرها لأول مرة خارجة بصدق من قلب رائف، الذي تعذب كثيرا، ويستحق أن ينل الراحة والحب.

دخل رائف حجرة البيانو، وجلس قبالته، يشعر باضطراب عجيب ما استشعره سابقا، زفر يحاول الحصول على بعض من ثبات، قبل أن ينسخ رقم والد نوارة، وما أن وضعه على زر الاتصال، حتى أضاء اسمه على تطبيق التروكولر، لينتفض رائف مغلقا الهاتف، قبل أن يبدأ الإتصال، ترك الهاتف ونهض يجوب الحجرة، كليث جريح، وما أن تأكد أن أمه ليست بغرفة المكتب، حتى اندفع باحثا عن اوراق نوارة، التي وجدها اخيرا، فأخرجها باحثا عن خانة الاسم، ليسطع أمام ناظريه، نوارة مهران عاصم مهران، الاسم رباعي، ولا ذكر للقب العائلة، لو كان أدرك هذا من البداية، ما سمح لها بالبقاء لحظة واحدة تحت سقف السليمانية، إنها منهم، أي مصيبة حلت به وبقلبه!

وضع الأوراق موضعها، وجلس مصدوما، يضع رأسه ما بين كفيه، لا علم له كيفية التصرف في هذه الورطة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة