قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والعشرون

ثلاثة أيام مرت، ولا حس ولا خبر منه، كأن ما جرى محض خيال، لدرجة أنها كانت تفتح الدردشة على تطبيق الواتس بينهما، ليتأكد لها أنه وعدها بمحادثة ابيها، لتحديد موعد حتى يأتي لخطبتها، وكذا تعيد قراءة ذاك الخطاب الذي تحتفظ به بين طيات كتبها، التي تدرك أن ما من أحد غيرها، سيفتحها مستطلعا.

ماذا هناك! هل هو مريض!؟ أو ربما الدكتورة سميحة! والاختمال الأكبر هو جده، ربما أصيب بوعكة صحية، دفعته لتأجيل الأمر قليلا!؟
لكن لو كان الوضع على هذه الحالة! لما لم يتصل ليخبرها، أو حتى أرسل رسالة ما ليطمئنها، فقد اتفقا على عدم الحضور للعمل، وانتهى الأمر، لكنها حاولت الإتصال به، والهاتف مغلق ولا أحد يصبرها ويخبرها أن الأمر خيرا، حتى الدكتورة سميحة لا ترد على هاتفها الوحيد.

إن في الأمر سرا ما، وعليها اكتشافه، لكن كيف لها ذلك!
عقلها مشوش وقلبها مضطرب، ولا حيلة لها إلا الدعاء، فكل ما يعنيها اللحظة، أن يكون رائف بخير، وجميع أفراد عائلته.

تناهى لمسامعها صوت سجود، وهي تتغنى من داخل الحمام كعادتها، فقد الكل يستعد من أجل عقد قران سمير وسهام وسمية ومؤمن، النجع كله في حالة تأهب تام، والفرحة تكسي القلوب جميعها، إلا قلبها الذي ما كانت تشغله أمور الهوى وأوجاع العشق، بات منذ عرفته قلب أخر لا ينتمى لها، وكأنه لا تعرفه، ولا يعرفها، قلب لا يشبها أبدا.

خرجت سجود من الحمام، متطلعة نحوها وهي على هذا التيه، تقف أمام النافذة تحول ناظريها في البراح أمامها، لعلها تهديء من ثورة صدرها، لتسألها متعجبة: إيه يا نوارة، مش هتحضري نفسك عشان نروح بيت عمتك سهام عشان الحنة!
هزت نوارة رأسها، وهمست في لا مبالاة: اه، هچهز أهو، متقلقيش لسه معانا وقت.
هتفت سجود: طب تمام، ياللاه عشان نروحوا سوى، وانا مش بحب افضل قاعدة بعد ما اخلص لبس، هروح واسيبك.

ابتسمت نوارة مؤكدة: لا خلاص هلبس أهو.
اتجهت نوارة للحمام، لإعداد نفسها لحفل الليلة، وحملت معها اوجاع قلبها الذي لا يعلم لها خلاصا الا الله.
كانت منكبة على كتبها، تحاول إنهاء كل هذه التفاصيل التي ارسلتها نعمة لها، والتي فاتتها في الشهور الماضية، حين دخلت روبى مهللة كعادتها: كل دي مذاكرة، بكفي يا حُسن، عيونك يا حبيبتي.
قهقهت حُسن مؤكدة: لازم أخلص، الامتحانات قربت، وأنا مفتحتش كتاب من شهور.

أكدت روبى في عجالة: طب قومي قومي، خلينا نخرج شوي، نغير جو، وناكل أي شي، وبعدين ارجعي كلي كتبك، ما دخلني.
أكدت حُسن باسمة: مش هينفع، والله المذاكرة كتير قوي، متلتلة يا أختى.
همت روبى بالحديث، لكن تناهى لمسامعهن صوت موسيقى قريبة، تطلعت حُسن في تعجب هاتفة لربى: أول مرة عمتي تفتح حاجة غير خليجي.
أكدت ربى متنهدة: دي مش فوز، ده شعيل، واضح إن حالة كل سنة هلت.

زمن حُسن ما بين حاجبيها هاتفة في تعجب: حالة إيه اللي بتجيله كل سنة!؟
همست روبى: يا بنتي بيدخل في حالة نفسية مش مظبوطة ويفضل حابس نفسه الحبسة السودا دي، عشان كده كنت بقولك تعالي ننزل، اهو لو اتحايلنا عليه، وخاصة انتِ، ممكن يخرج عشان يوصلنا، اهو نحاول نخرجه من الحالة دي بأي طريقة.
هتفت حُسن متسائلة: طب ليه أصلا، اللي يشوف شعيل مش ممكن يصدق إنه ممكن يوصل لحالة زي اللي بتقوليها دي!

أكدت روبى متنهدة في وجع: إنه العشق، ووجع الفراق.
تعجبت حُسن ولم تعقب، لتستطرد روبى شارحة: شعيل كان بيحب بنت زميلته فالجامعة، اتعلق بها كتير، و كان بينهم قصة حب ولا فالأفلام، اجتمعوا أخيرا وتزوجوا.
هتفت حُسن مصدومة: اتجوزوا!؟
أكدت ربى: إيه، اتزوجوا، وكانوا في سعادة منقطعة النظير، ما اعتقد إن في حب امرأة متل ما حب شعيل رهف، لكن كيف ما بيقولوا، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

تطلعت لها حُسن، هاتفة في تعجل: إيه اللي حصل!
أكدت ربى، وقد بدا عليها التأثر: كانت حامل بشهرها الثالث، تعبت كتير، كانوا مفكرينه تعب الحمل، لكن مع التحاليل والفحوصات، اتاكد أن معها كانسر، وفحالة متقدمة، وطبعا مش محتاجة أشرح الباقي، وايه اللي حصل عشان شعيل يوصل للحالة دي.
هتفت حُسن مصدومة: ماتت!

هزت روبى رأسها في تأكيد، وتحشرج صوتها هامسة: إيه، ماتت، هي وجنينها، ودخل شعيل في حالة نفسية رهيبة، وبكرة ذكرى وفاتها، ودايما يدخل فالحالة دي مع اقتراب الموعد.
تسمعا ليصلهما غناء هامس:
وكأن الوقت في بعدك واقف مبيمشيش
وكأنك كنت معايا، بعدتي ومبعدتيش.
دمعت عينى حُسن تأثرا لحاله، وتطلعت لربى التي بدأت تبكي في قهر.
اقتربت منها حُسن، وضمتها لصدرها مواسية، هامسة متسائلة: بتحبيه يا ربى!

هزت ربى رأسها إيجابا، وهي بأحضان حُسن، ليرتفع نحيبها، فيزداد ضم حُسن لها، ومن مثل حُسن يدرك لوعة العشق، وأوجاع العشق من طرف واحد، محبوبه لا يدرك بمعاناته، ولا علم له كيف يقاسي في بعاده كما بقربه، لأنه يدرك أن لا أمل في خلق حكاية بينهما.
همست حُسن متسائلة: طب ما يمكن هو صعبان عليكِ بس، مش حب يا روبى!

أكدت ربى وهي ترفع راسها من أحضانها، هاتفة: لا بحبه، بحبه من قبل حتى ما اعرف أنه عاشق لرهف، بحبه من يوم ما وعيت ع الدنيا وما في إلا شعيل، لكن ما بعرف، ليش ما عم يتنبه لإلي، أني بموت شوقا وعشقا، وهو لوح من الثلج، كأنه فقد قلبه برحيل رهف.
ربتت حُسن على كتف ربى في تعاطف، تشاركها وجعها الذي تدركه جيدا حد المعاناة.

همست ربى تمسح دموعها: عطلتك عن درسك، بكفي دموع وأوجاع، أنا هروح أعمل نسكافيه، اعمل لك معاي.
هزت حُسن رأسها موافقة، لتمسك روبى هاتفها، وتضغط على إحدى أغانيها المفضلة لتدرك حُسن لما تحبها بالأساس، نهضت من موضعها تضغط على زر الاتصال بنعمة، تحاول أن تعرف أية اخبار عنه، عن مالك القلب الذي لا يدرك أنه مالكه من الأساس،
ظل الرنين متواصل، ولكن لا إجابة، كانت على وشك إغلاق الخط.

ارتفع الرنين داخل حجرة نعمة، التي ما رغبت في التواصل مع أحدهم، كانت تبكي وجعا على حال راضي، تستشعر أن الجميع يطمئنها، لكنها لن تطمئن إلا إذا رأته بعيونها.
ارتفع الرنين، ليندفع نادر لداخل الغرفة، لتدعي نعمة النوم، فيجذب نادر الهاتف هاتفا في حنق: كل ده نوم، ما تردي عليه يا إما تقفليه.
كاد أن يضغط زر اغلاق الخط، لكنه رأى اسم حُسن، فلم يدرك إلا وهو يضغط زر التواصل، هاتفا في قلب مضطرب: ألوو.

ترددت حُسن للحظة، قبل أن ترد على ذاك الصوت الرجولي العميق، الذي رد على الجانب الأخر، إنه صوته، ذاك الاضطراب بخفقات فؤادها يخبرها بل يؤكد لها يقينا أنه هو، لكن لم يجيب على هاتف نعمة!؟
همست في توتر: السلام عليكم، إزيك يا باشمهندس.
هتف نادر في محاولة للثبات بعد أن وصله صوتها الذي لم يكن يتخيل أنه افتقده هذا الحد الذي يقهره وجعا: ازيك يا حُسن، اخبارك إيه! بخير!

أكدت حُسن وهي متلبكة، وكلمات أغنية ربى تتسلل إليهما، تفقدها ثباتها المبعثر من الأساس:
مانيش رايداه، ومانيش رايده إلا هو..
ومفيش فايدة، مفيش فايدة..
فالبعد عشقاه، فالقرب عشقاه..
استجمعت أحرفها، وهي تشعر بالحنق من ربى، التي قررت رفع صوت أغنيتها، في هذا المقطع بالذات، وهتفت: الحمد لله، هي نعمة فين!

أكد نادر: كانت نايمة، ومسمعتش رن الموبيل، رديت بدلها عشان اقولك اني وصلت البحث بتاعك للجامعة مع البحث بتاعها، متقلقيش.
ابتسمت شاكرة: تعبناك يا باشمهندس.
أكد نادر: مفيش تعب،
وسأل في تهور: هو أنتِ مش هاتنزلي تمتحني، ولا إيه!
صدمها السؤال، لكنها أجابت في هدوء: مش عارفة لسه إيه الظروف، ما الامتحان ممكن يكون اونلاين، ومنزلش.
هتف في شوق لم يستطع مداراته: إن شاء الله تقدري تنزلي ونشوفك، ولا الحارة موحشتكيش!

هتفت في اضطراب لكلماته، . التي كانت تحمل لطف غير معتاد، ورقة غير متعمدة، تخرج في سلاسة تطبطب على كتف القلب الذي كان يتنتحب في زاوية الصدر منذ زمن بعيد، ولا يعلم بحاله إلا الله: وحشتني طبعا، هو حد ينسي أهله.
دخلت ربى في هذه اللحظة، لتضع أمامها كوب النسكافيه، لا علم لها انها تتحدث على الهاتف، لتهتف في أريحية: كوب نسكافيه وصاية، عشان محدش هيقنع شعيل إنه يخرج إلا أنت، مش بيرفض لك طلب.

كان كل هذا يصل على الجانب الأخر، يجعل نادر يغلي غيرة وحنقا، لكنه لم ينبس بحرف واحد، يحاول السيطرة على غضبه الذي يعرف إلى أي حد يمكن أن يصل، لتهتف هي في ارتباك: طب اقول سلام مؤقت يا باشمهندس، وهتصل تاني.
هتف في حنق، لم يستطع مداراته: اه طبعا، ما الاستاذ شعيل منتظر، ربنا يعين ويساعد.

لا تعلم هل كان عليها الانفجار ضحكا، أم البكاء قهرا لسوء ظنه! لكنها استأذنته في هدوء حاولت التمسك به حتى أنهت المكالمة، ومن ثم انفجرت ضاحكة ودموع تكلل مقلتيها، وقد استشعرت أخيرا، أن ثمة غيرة استشعرت ذبذباتها بحديثه، ما أشعرها بفرحة غامرة لم تكن يوما بالحسبان.

وصل لحضور زفاف سمير وسهام، لم يكن ليتخلف عن حضور حفل عائلي بهذه الحميمية، صف سيارته خارج سور الدار، وتلك الزغاريد والموسيقى الصادحة، تصل مسامعه تخبره أن الإحتفال على أشده.
دخل متطلعا حوله بالحديقة، باحثا عن سمير والشباب، حتى ينضم إليهم، فقد أخبروه أن اليوم هو يوم عقد القران، وما يوم، يوم ماذا! لقد أخبروه الاسم، لكنه نسي ما يعنيه، فقط عرف أنه اليوم الذي يسبق الزفاف.

لا يعلم ما الذي يحدث، تقدم للداخل، وخطى نحو موضع ما بمنتصف القاعة، صوت الطبل والغناء صادحا، حتى أن صوته لن يكون ظاهرا كفاية إذا ما فكر فالنداء واستدعاء أحدهم.

تقدم في حذر نحو أحد القاعات، التي ما أن وصل بالقرب من مدخلها حتى اندفعت من داخلها إحدى الفتيات، والتي كانت تتحدث مع أحدهم بالداخل لا تنتبه لموضع خطواتها، فاصطدمت به في شدة، كانت في سبيلها للسقوط، حاول بالفعل إنقاذها، لكن للأسف، فشل فشلا ذريعا، لتسقط أسفل قدميه، من براهما اللحظة من على بعد، قد يعتقد أنها تتوسله لأمر ما.

انتفض مندفعا نحو الفتاة التي ما زالت هناك موضعها أرضا، منحنيا في ذعر يعتقد أنها قد أصيبت بالضرر، ما دفعه ليهتف متسائلا: أنا آسف يا آنسة، مكنش قصدي، أنا..
زعقت سجود في غضب: أنت إيه اللي دخلك هنا من أساسه!، المفروض..

رفعت ناظريها نحو من صدمها، لتخرس وتبتلع لسانها، عندما اكتشفت أنه يوسف، مد كفه ليساعدها على النهوض، لكنها تجاهلت الكف الممدودة، ونهضت تتطلع نحوه في تعجب: دكتور يوسف! هو حضرتك بتعمل إيه هنا!؟
أكد يوسف في براءة: أنا جاي احضر كتب كتاب سمير وسهام، وزي ما انا سامع أهو، أنا جيت فالوقت الصحيح.
ابتسمت سجود مؤكدة: اه الوقت الصح لكن المكان الغلط.

تطلع نحوها لا يستوعب ماذا تقصد، لتؤكد سجود: كتب الكتاب فالجامع يا دكتور، لكن هنا حنة الستات.
هتف يوسف مؤكدا: ايوه حنة، سمير قالي تعالى احضر كتب الكتاب والحنة.
قهقهت سجود رغما عنها، ما دفعه ليتطلع فيها متعجبا، شعرت بالخجل هاتفة: اكيد سمير كان يجصد كتب الكتاب، اصل الحنة بتبجى للعروسة، ومش مسموح اصلا بوچود راچل هنا، ولو حد شافك، هتجال عليك كلام مش ظريف خالص.
تطلع نحوها في ريبة: كلام إيه!

ابتسمت مؤكدة: هيتجال إنك داخل عشان تشوف الحريم، وهم واخدبن راحتهم بيغنوا ويرجصوا، أنت إيه رأيك!
اضطرب يوسف متسائلا في مزاح: طب واللي عايز يحترم نفسه، ويكون بين الرجالة، عشان السمعة مش ببلاش، يعمل ايه!
اتسعت ابتسامتها مؤكدة: اتفضل معايا، اوصل حضرتك للجامع، عشان نلحق كتب الكتاب.

أومأ برأسه موافقا، مفسحا الطريق لها، لتخرج من دار عمتها سهام، ومنه للخارج، ينبعها، حتى إذا ما اقتربت من المسجد، إلا وأشارت له مؤكدة: اهو الچامع يا دكتور.
همت بالرحيل، لكن يوسف استوقفها متسائلا: آنسة سجود!
تطلعت نحوه مستفسرة، ليهتف متسائلا: هو حضرتك في جامعة إيه!
تطلعت نحوه متعجبة للحظة، قبل أن تهتف في هدوء باسم الجامعة، ليهز رأسه متفهما، وأخيرا استأذنها متجها صوب المسجد، لحضور عقد القران.

رن جرس هاتفها، تنبهت للطريق أمامها قبل أن تتناوله مجيبة في حماس: ايه يا فرفر، جاهزة ولا الدنيا معاكي مش تمام!؟
أكدت فريدة على الجانب الأخر: كله تمام، ساعة وهكون بالقاهرة ونطلع ع القطر مع بعض، اوعي تتأخري ع المحطة، يا دوب الوقت حاكم أنا عرفاكي.
هتفت بدور ضاحكة: لا متقلقيش، مقدرش أتأخر، رغم إني مكنتش عايزة اعتب النجع تاني برجليا، لكن ده فرح سهام وسمية ومينفعش منحضرش.

أكدت فريدة: ايوه طبعا، منحضريش ده إيه، وبعدين مال النجع وموضوع منتصر! أنتِ بدخلي الأمور فبعضها على فكرة.

أكدت بدور متنهدة: لا يا فريدة، أنا فاهمة إن مفيش علاقة، بس النجع فيه ذكريات كانت معاه، وأنا مش حاسة إني لسه مؤهلة لمواجهة الذكريات دي، مش عايزة اضعف يا فريدة، لسه في حتة جوايا بتقولي أن الموضوع بينا منتهاش، وحتة تانية بتلومني اني بفكر فيه من أساسه، وأنا ما بين الدوشة اللي دايرة جوايا دي مش قادرة أقرر، مين فيهم الصح، أنا فين بالظبط!؟

هتفت بدور بسؤالها الأخير، بصوت متحشرج، أثار وجيعة فريدة بالتبعية، متذكرة حالها مع نزار، والذي لم يختلف كثيرا عن حال بدور اللحظة، كان شعورا مقيتا، لا ترغب في تجربته من جديد، كانت أشبه بشخص غرقت سفينته بمنتصف بحر هائج، يشير له أحدهم بشط قريب، عليه السباحة نحوه لينجو، لكنه يفضل البقاء بعرض البحر يرتدي فقط سترة النجاة، والتي هي بالأساس مخرومة، وبالنهاية الغرق هو المحصلة.

هتفت فريدة تحاول إنهاء هذه المحادثة التي اتخذت منحى مرهق للنفس: بقولك إيه، سوقي على مهلك، وخلي بالك على نفسك، واوعي تتأخري ياللاه، وهاتيلي معاكِ سناكس كتير، اوعي تنسي.
ابتسمت بدور، مدركة تماما محاولة فريدة تغيير مجرى الحديث الشجي، هاتفة في تأكيد: أكيد، احلي سناكس لأجدع فرفورة، سلام، وإلى اللقاء يا أصدقاء.

قهقت فريدة، وأغلقت الهاتف، لتترك بدور هاتفها جانبا، ورفعت صوت المذياع، تحاول أن تتلهى عن ضجيج أفكارها، لكن كلمات الأغنية جذبتها أكثر لتغرق في خضم مشاعرها المتقلب، ولا تعي لتلك السيارة التي كانت تتبعها منذ وقت طويل، وما أن انحرفت بدور لأحد الشوارع الجانبية، حتى بدأت هذه السيارة في اعتراض طريق سيارة بدور، التي تنبهت لما يحدث، لكنها لم تستطع أن تمنع ما هو كائن.

كانت الزغاريد ما زالت على أشدها، والعروسان يترجلان من عربتهما، بعد انتهاء حفل الزفاف بتلك القاعة الفخمة التي كانت تضم عرسان، على غير العادة.

ظلت الزغاريد، تتبعهما مع أحفان الملح لدفع العين الشريرة عن العروسين، حتى وصلا لحجرتهما، كان من المفترض على العريس حمل عروسه، والدخول بها لشقتهما العلوية حين دفعت سندس باب الشقة ليتفرج، لكن سمير لم يفعل، بل أشار لسمية لتدخل، وتبعها في هدوء، حتى إذا ما أصبحا بالداخل، جذبت سندس الباب لتغلقه دونهما، ليصبحا وحيدان أخيرا.

لم يستطع أن يتطلع نحوها حتى، تحرك نحو غرفتهما المعدة لهذه الليلة الميمونة، لتتبعه هي صامتة، حتى وقفت على أعتاب الحجرة في وجل، لا تقوى على الدخول، ما دفعه مضطرا ليهتف أمرا: ادخلي يا سمية.
كان نطقه باسمها مرهقا على نفسه فالأساس، لكنه استطرد شارحا: وأني هروح اتوضا تكوني غيرتي عشان نصلوا لنا ركعتين لله.

هزت رأسها موافقة، ودخلت تقف في منتصف الغرفة، مر بها عندما فكر أن يخرج للوضوء، فشعر أن لهيب من لظى جهنم قد لفح قلبه، ما دفعه ليسرع، مهرولا للخارج، مندفعا نحو الحمام، ليلقي بنفسه أسفل الماء المندفع من الصنبور الفضي، من يره اللحظة يعتقد أنه كان تحت مطر غزير، اغرقه كليا، لا تحت صنبور حمام بيته، مغرقا نفسه بهذا الشكل المبالغ فيه، يحاول أن يطفيء نار مستعرة، لو غطس ببحر الشمال البارد ما انطفأت جزوتها لحظة.

تنهد في حنق، وتناول المنشفة، يجفف نفسه قدر الإمكان، وخرج ليقف في منتصف الردهة، يفرد المصلى هاتفا بها: أني خلصت.

خرجت من الغرفة تضع اسدالها، وازالت عن وجهها بعض مساحيق التجميل الخفيفة التي كانت تضعها كعروس، والتي ما قلل من إزالتها بعض من جمالها الفطري، الذي أسر قلبه لسنوات طويلة، بل إنها ويا لمصببة قلبه! أضحت أكثر جمالا ورقة، تكبله براءة ملامحها عن النطق بحرف واحد، ما دفعه ليوليها ظهره مكبرا، لتقف خلفه، وقد بدأت صلاتهما، كانت هي تتمنى من الله أن يعطيها القوة والقدرة حتى تكون عند حسن ظنه كزوجة، وهو يعارك مشاعره ليبحث عن افضل طريقة ليخبرها بها ما المفترض أن يكون وضعهما في الأيام القادمة، فأي صلاة تلك، التي كانت مجرد وسيلة هروب من مواجهة ما لابد منه ومن المحتم مواجهته.

انهي صلاته، وهي من بعده بلحظة، ليستدير مواجها لها، نكست رأسها حياء، ليهتف بها دون أن يفكر أن يضع يدا عليها: بصيلي يا سمية، لازما اجول لك كلمتين، كانوا فبالي من زمن، وچه وجتهم.
رفعت ناظريها نحوه في طاعة، ليترنح قلبه بين جنبات صدره، لكنه استطاع السيطرة عليه في إرادة من حديد، هاتفا بنبرة ثابتة: أني سمعت اللي كان بينك وبين سهام فالچامع، يوم ما اتجدمت لك.

شهقت في صدمة، فاغرة فاها، لكنه استطرد وهو ما زال على هدوئه: أني مش بلومك على حاچة، ومحدش يجدر يلوم حد على ميل جلبه، ده بيد ربنا، بيجلب الجلوب وإحنا ملناش فيدنا حاچة، لكن أني ليا اللي يخصني، أني كنت ممكن اجول متفجناش ونفسخ الخطوبة، لكن اللي منعني حاچتين، أولهم إني واعي لرغبة مؤمن في سهام والعكس، ومكنتش عايز أوچع جلوبهم، والسبب التاني، إني لجيتك راضية، وده كمان هدفك، وبتفكري كيف تبجي زوجة كويسة ليا، لكن اللي يخصني أني، أن أنا مش هجبل اعيش مع واحدة وأني عارف إن جلبها مش ملكي، مش هجدر، عشان كده، أني بجولهالك، أني مش هجرب لك إلا لما أتأكد إن جلبك لسمير، سمير وبس، جبل كده، أنتِ على عيني وراسي، مرتي جدام الناس، لكن بينا، خلينا كل واحد فحاله، لحد ما ربنا يئذن.

همت بالحديث بعد ما استوعبت قراره، لكنه لم يمهلها لتنطق حرفا، وأشار إلى الغرفة الرئيسية هاتفا: دي هتبجى اوضتك من هنا ورايح، وانا هنام فالأوضة التانية، تصبحي على خير.
ونهض من موضعه، هاربا من أمام سلطان محياها الذي يعشق، ودخل الغرفة مغلقا بابها على نفسه، يتمدد على الفراش وهو يعلم تماما أن لا نوم سيزوره الليلة، وكيف ذلك، وهي معه تحت سقف بيت واحد، كما تمنى عمره كله!

سألت سندس باسل، تطمئن على وصول حازم وتسبيح وبدور، بعد وصول فريدة، التي أكدت أنها اتفقت عليهم جميعا ليركبوا سويا القطار من القاهرة، للمجيء لحضور حفل الزفاف، لكن لم يصل من المحطة إلاها، والباقون هواتفهم مغلقة، وما من مجيب.
اكد باسل في محاولة لطمأنتها: لعله خير، انت عارفة ظروف شغل حازم، محدش عارف إيه اللي حصل خلاهم مش عارفين ياچوا، متجلجيش.
تنهدت سندس في قلق ولم تعقب.

دخل كلاهما غرفتهما في دار ماهر الهواري، يتبعهما الزغاريد، حتى أغلق عليهما بابها.
اندفعت سهام في وجل مبتعدة، ليبتسم مؤمن هاتفا: مبروك يا عروسة.
همست في وجل: الله يبارك فيك.
ادخلي غيري هدومك، وأني هستناك..
هتفت سهام في غباء: ليه!
قهقه مؤمن هاتفا: عشان نلعبوا عشرة ضغط، هيكون ليه! عشان نصلوا لنا ركعتين نطلب البركة.

هزت رأسها مستشعرة مدى غبائها، واندفعت منفذة حتى إذا ما خرجت ترتدي إسدال صلاتها، وجدته يجلس موضعه يحرك حبات مسبحته في هدوء وخشوع، ما دفع لصدرها قدر لا يستهان به من الطمأنينة.
رفع رأسه وابتسم دون أن ينطق حرفا، واستقبل القبلة مكبرا، لتتبعه في هدوء.
انهيا صلاتهما، ورفع مؤمن كفيه في تضرع، وبدأ في الدعاء بصوت رخيم، جذب الامان لأحضان قلبها، وهي تؤمن خلفه، عند انتهائه.

استدار نحوها متطلعا نحوها، وما أن مد كفه ليمسك بكفها، حتى نزعته منه في اضطراب، تطلعت نحوه، تخاف أن يكون قد اغضبه رد فعلها، لكنها وجدته باش الوجه، مقدرا لحالتها.
مد كفه داخل جيبه، وأخرج منه شىء لم تستوضحه، وتحرك في هدوء نحوها، جاذبا غطاء رأسها، مبعدا إياه عن شعرها، الذي كانت المرة الأولى التي يراه فيها.
همس في سعادة: بسم الله ما شاء الله.

لم تعقب هي، رغم السعادة التي شملتها لأستحسانه، ليمد كفه واضعا عقدا ما حول جيدها، تنبهت، لتضع كفها عليه، وهمست في فرحة: الله، حلو قوي، أنا بحب اللؤلؤ.
همس بالقرب من مسامعها في عشق: عارف، ما هو ده العجد بتاعك.

شهقت في رقة، وتذكرت يوم أن سقطت أمامها وانفرط عقدها، ليستطرد وقد استدار متطلعا لعمق عينيها، مستطردا: يومها، لميت كل الحبات اللي چريت يمين وشمال، چمعتهم من تاني، وجلت لو لينا نصيب، وبجيتي حلالي، ههاديهولك يوم فرحنا.
تطلعت في عشق فاضح لعمق عينيه بالمثل، حتى إذا ما مد كفيه ليحتضن خصرها لم تمانع، وما أن ضمها لصدره حتى غابت هنا، حيث النعيم بين ذراعيه.

علت قهقهات سعفان النادي، من بعد الكثير من النكات التي كانت تلقها نغم، وما أن دخل منتصر إلى موضع اجتماعهما، حتى هتف به سعفان في تساؤل: ها، اكيد سبع يا سيد البشوات!
هتف منتصر وابتسامة ظفر مرسومة على شفتيه: وهو فيه مرة مكنتش قد كلمتي يا معلم، وطلعت سيد السباع كمان!
هتف سعفان مؤكدا: الشهادة لله، كفاءة يا باشا، قولي بقى إيه اللي حصل!

أكد منتصر: حصل كل اللي اتفقنا عليه، سلم واستلم، خدنا البضاعة متشفية، واديناهم المعلوم، وحبايبتا فالحكومة واقفين يتفرجوا، ويصقفوا كمان.
قهقه سعفان هاتفا: فاتني المشهد الجامد ده، بس عندي مشهد أنا عندي مشهد أجدع، حاجة كده من بتاعت زمان، ايام الفن الجميل.
تطلع له منتصر متعجبا، وهتف متسائلا: مشهد إيه يا معلم!
وتطلع لنغم مستطردا في سخرية: هو أنت شغلت البت نغم فالسيما ولا إيه!؟

أكد سعفان مازحا: لا، متنفعش، أنا بحب مشاهد العشق والغرام، حاجة كده فخيمة زي أفلام عبحليم والست شادية.
هتف منتصر متعجبا: والله حيرتني يا معلم، أنا مش فاهم أنت..

أكد سعفان ممتنا: بص يا باشا، أنت خدماتك وجمايلك عليا معملهاش راجل من رجالي، اللي بقالهم سنين معايا، وعشان كده قررت اكافأك بمكافأة كده صغيرة، وخصوصي إن أنا قلبي رهيف، وبياثر فيا قوي الراجل لما قلبه يتكسر، قلت ما عاش ولا كان، ده اللي يفكر يكسر قلب راجلنا، نكسر عينه، وقد كان.

تطلع إليه منتصر في توجس، وتطلع إلى نغم لعلها تدرك شيئا عما يقصده، لكنها أشارت بطرف خفي أن لا علم لها بما يجري، وما نية سعفان بالضبط، لكن حيرتهما لم تطل حينما هتف سعفان في فخر: هديتك يا منتصر باشا، رغم إنها مش قد المقام، بس هنقول ايه بقى!؟ القلب وما يريد.

وهتف سعفان بأحد رجاله، ليحضر هدية الباشا، والتي كان على منتصر التحلي بكل درجات ضبط النفس القصوى، عندما تطلع لبدور تقف أمامه، دافعا بها أحد رجال سعفان، كانت منكسة الرأس، لا تعي من أمرها شيئا، يداها مكبلتان خلف ظهرها، وعصابة ما موضوعة على عينيها، وأخرى تكمم فاها.

لم يكن يعلم بحال منتصر في تلك اللحظة إلا الله، فعلى الرغم من كل شيء قد حدث، إلا أنه ما كان يتوقع توريطها في هذا الأمر، أو حتى فكر فالانتقام منها لأي سبب.
ظل منتصر متسمرا موضعه، وسعفان يأمر أحد رجاله، بإزاحة الغطاء عن عين بدور، وتحرير فمها كذلك، صوت نحيبها قد بدأ يعلو ما زاد من شدة توتره الذي كان يغالب حاله، حتى يظهر شديد البرودة تجاه ما يحدث.

هتف سعفان في فخر: جنبالك بت العميد حازم الهواري لحد عندك، مش دي حبيبة القلب اللي طلبتها ورفضوك، ولا يهمك، أهي عندك اشبع بيها بالعند فيهم، أنا واحد من رجالتي يبقى نفسه في حاجة وميطلهاش برضو، ومش أي راجل كمان، ده سيدهم والباشا بتاعنا، والله ما عاش ولا كان اللي يكسر قلبه، أدينا حرقنا قلبهم عليها، واتهنى واتمنى أنت بس.

رفعت بدور رأسها ما أن أزاح الرجل العصابة عن عينيها، وقد تناهى لمسامعها رغم نحيبها، بعض من كلمات سعفان، ما دفعها لتتطلع نحوها، تجيل النظر بالمكان، وما أن همت بالصياح، تسأل سعفان لما هي هنا من الأساس، إلا وسقط ناظريها على منتصر، الذي كان يتنازعه مشاعر، لو اجتمعت على رجل لقتلته لتوه، مشاعر تحمل من التناقض ما لا يمكن استيعابه، لذا لم ينبس بحرف واحد، وهو يتطلع لبدور في شوق قاهر، وعشق لا يمكن مداراته،.

وذعر ممزوج بحنق مغلف بشفقة، تركيبة عجيبة، ومميتة.

لم تصدق عينيها، إنه منتصر الذي يقف هناك، ولم يحرك ساكنا من أجلها، لكن على الرغم من ذلك، اندفعت نحوه في شوق تحاول الاحتماء به، صارخة باسمه: منتصر! لكنها تذكرت في منتصف الطريق أن هذا ليس منتصر الذي تحبه، ما عاد ذاك الضابط الشريف الذي كانت على استعداد لمعاداة العالم من أجله، بل أضحى شخص أخر، شخص دفع بها إلى هنا لتكون بالأخير مجرد هدية لحسن اداءه، وتعاونه مع هؤلاء الخونة.

هتف سعفان متعجبا: إيه يا باشا! المفاجأة معجبتكش ولا إيه!
هتف منتصر وقد استعاد الكثير من ثباته، مؤكدا: إزاي يا معلم، دي مفاجأة بمليون جنيه.
تقدم نحو بدور، هاتفا في نبرة تقطر غلا: ولاه إيه يا بت سيادة العميد!
تطلعت بدور نحوه في عدم تصديق، محاولة فك وثاق كفيها، فقد كان عندها من الرغبة ما يدفعها لصفعة في قوة، لتشفي غليلها.
جذبها منتصر لترتطم بصدره، هاتفا في مجون: مبروك يا عروسة.

تطلعت بدور في صدمة، وصرخت في تحدي ما أن استعادت ثباتها: ده ابعد من أحلامك.
هتف سعفان في سعادة: ايوه كده، هو ده الكلام، أجيب المأذون يا باشا، ونقول مبروك.
تطلع منتصر نحو سعفان، وهتف مؤكدا: مأذون ليه! ملوش لازمة يا معلم، دي بقت اخرتها معايا، كام ليلة وتترمي لأبوها تاني، يتحسر عليها.

صفق سعفان في فخر: الله اكبر عليك يا باشا البشوات، لعب عالي قوي، طبعا اومال ايه مش باشا يا جدعان، حلال عليك، اتهنى يا باشا.
أكد منتصر لسعفان، وقد اتسعت ابتسامته على وجهه، غازما بعينه في مجون: طب بعد اذنك يا معلم، عريس بقى وأنت عارف.

وجذب بدور التي بدأت تصرخ في ممانعة وهو يحملها سائرا بها نحو غرفته، ليهتف سعفان في نغم التي كانت تتابع المشهد امامها، والغيرة تاكل قلبها، أمرا إياها: قومي يا بت يا نغم فرحي للباشا وزفيه، اعمل لك منظر بدل ما انت قاعدة كده!
نهضت نغم، وبدأت في إطلاق الزغاريد والتصفيق، والغناء، تغطي على صوت صرخات بدور المعترضة، ومنتصر متوجها بها صوب حجرته، التي ما أن دلفها حتى أغلق الباب خلفهما دافعا إياه بقدمه في عنف.

دفع منتصر بدور من فوق ذراعيه، لتهتف به في حنق: لو قربت مني..
قاطعها منتصر مقهقها: هتعملي إيه! ولا تقدري تعملي حاجة، وهقرب واخد كل اللي أنا عاوزه.
هتفت به في نبرة مهادنة، تذكره بالذي كان وهي تتقهقر نحو أحد أركان الغرفة: منتصر، أنا بدور، نسيت بدور!
صرخ بها في ثورة: ما عشان انت بدور، وأبوك يبقى سيادة العميد، لازم يحصل فيك كده، وابقي سلميلي على الباشا الكبير بالقوي.

واقترب منتصر وعينيه يملؤهما الرغبة، ما جعلها تصرخ في صدمة، وهو يجذبها نحو صدره، قابضا عليها بين ذراعيه: لا يا منتصر، عشان خاطري يا منتصر.
صرخاتها المتوسلة تصل إلى موضع اجتماع سعفان برجاله، الذي هتف في فخر: الله ينور يا باشا، فخر العصابة والعصابات المجاورة.
قهقه رجاله، على تعليق سعفان الأخير، وصرخات بدور المعترضة، تشجيه وتزيد إفراز هرمون السعادة لديه، والصرخات تزداد توسلا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة