قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع والثلاثون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع والثلاثون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع والثلاثون

فتح عيونه متطلعا نحو جدائلها التي تحاوط وسادته، رفعها صوب ناظريه وبدأ في العبث بها، مشاكسا إياها يملس على بشرتها بأطراف الجديلة، مستمعا في شقاوة لهمهماتها المعترضة، التي ما لبثت أن توقفت وهي ترفرف برموشها في تيه، حتى انجلت الرؤية، لتراه مسجى جوارها، مسندا جانب وجهه على باطن كفه، ليندفع الحياء لخدودها مكسبا اياهما لونا وردا اضاف لحسنها حسنا، وهو يهمس في نبرة مشاغبة: صباح الخير بالليل يا عروسة.

تطلعت حولها لا تدرك كم الساعة، فستائر الغرفة كانت من النوع الذي يمنع دخول ضوء النهار ويعتم المكان بشكل كلي، ما دفعها لتسأل: هي الساعة كام!
رفع شاشة الجوال أمام ناظريها وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، لتشهق أية في صدمة: الساعة ٥..
استطرد مكملا وقد اتسعت ابتسامته: المغرب، لتفتكريها الفجر..
وعلا صوت ضحكاته، لتستطرد متعجبة: هو إحنا نمنا كل ده، طب وهو مفيش حد رن علينا ولا حتى خدمة الغرف!

رد مؤكدا: انا كنت قافل الموبيلات، وبعدين نسيتي اليافطة اللي تخزي العين اللي حطتها ع الباب بره، ممنووووع الازعاج..
اتسعت ابتسامتها ليستطرد مؤكدا في حزم: طب كنتي خلي حد يزعجنا! ده أنا كنت..
قاطعته باسمة تمازحه: قلبك ابيض يا أخ..
تطلع نحوها مدعيا الدهشة: أخ! لا بعد الكلمة دي أنتِ محتاجة عملية إعادة تظبيط للمفاهيم يا يويا..

همت بالخروج من الفراش، ليجذبها نحوه لتجلس باحضانه، هامسا وهو يزيح عنها خصلات شعرها لما خلف أذنها، مؤكدا: أنا مين يا أية!
تطلعت نحوه وأجابت تمازحه: مش فاكرة! الأخ مروان على ما أعتقد..
دفع بها بعيدا عن حجره صارخا مدعيا الحنق وقد سقطت متمددة على ظهرها متطلعة نحوه بنظرة شقية: برضو الأخ!
ثبت كفيها على جانبي وجهها متطلعا نحوها في عشق، مقتربا من مسامعها، أمرا في نبرة مأخوذة بجمالها: قولي حبيبي.

رفع رأسه ونشابكت نظراته الولهى بنظراتها المضطربة شوقا، وهمست بكل صدق العالم: أنت أبويا وأخويا وحبيبي وجوزي، أنت كل حاجة، وأغلى حاجة فدنيتي يا مروان.

ساد الصمت بينهما لبرهة، لترتخي كفاه عن أسر كفيها دافعا برأسه نحو أحضانها، لترفع يديها في هوادة، تضمه نحو روحها في عشق جارف، ليهمس بدوره: لو مكنتيش فحياتي، كان زمان مروان ميت، حتى ولو عايش، كان ميت بالحيا، أنت الروح اللي دبت فقلب مروان وخلته يتمنى يرجع للدنيا من تاني، بحبك.
دفع ذراعيه من تحت ظهرها، ليضمها إليه بدوره، ضمة كانت أشبه بضم الأرض المشتاقة، لبذور زرعتها، وماء ريتها، لتبدأ أزاهير الربيع.

علت الزغاريد متناقلة من نافذة لأخرى، بطول الحارة وعرضها، وذاك الصيوان الممتد من مدخلها حتى نهايتها يؤكد على مقدار الفرحة الذي كان يشمل كل بيت فيها، وخاصة أن الفرح لم يكن يخص عرس واحد بل عرسين في آن واحد، اللحظة أتم المأذون عقد قران راضي على نعمة، وبدأت الزغاريد تنتشر هنا وهناك كحمائم بعرض سماء الحارة معلنة النبأ السعيد، بينما جلس نادر مرحبا بشعيل الذي قدم خصيصا من أجل أن يسلم ابنة خالته لعريسها، قبل أن يعود مسرعا من أجل أمه التي كانت مريضة ولم تستطع القيام برحلة الطائرة مرة أخرى، بعد أن جاءت من أجل عقد القران منذ مدة بسيطة، وكذا من أجل ربى التي بكت لحُسن خلال محادثة الفيديو حزنا لأنها لم تستطع المجئ بصحبة شعيل لأنها تنتظر حدثا سعيدا وخاف شعيل عليها ركوب الطائرة وكذلك كي لا تترك حماتها وحيدة ومريضة دون من يرعاها.

عادوت الزغاريد الانطلاق من جديد، مع
رحل المأذون، وبدأت فقرات الحفل، لكن راضي نهض بصحبة يونس بعد فترة بسيطة، مطالبا بالرحيل مع العروس لنجع الصالح، هز ناصر رأسه موافقا، وأشار لراضي أن ينتظره كي يحضر له عروسه ويرحل، صعد ناصر الدرج، وتنحنح مستأذنا النساء في رغبة العريس في الحصول على عروسه حتى يستطيعا السفر قبل أن يحل الظلام بشدة على الطريق، لتهتف شيماء في ذعر: بسرعة كده! ده إحنا لسه مفرحناش بها..

هتف ناصر مؤكدا: عشان يلحقوا طريقهم، والجماعة هناك مستنينهم بزفة وفرح، من حقهم يفرحوا برضو..

انقلب المجلس لوصلة من البكاء ما أن أيقنت شيماء أن عليها توديع ابنتها وتركها لترحل مع زوجها، ضمتها لصدرها في قوة وبدء النحيب يعلو من كلتاهما، حتى حُسن التي كانت تجلس بكامل زينتها شهقت في البكاء وهي تضم نعمة مودعة، لم ينقذ الموقف إلا تدخل نعمة الجدة بكل سطوتها رغم دموعها المكبوتة حزنا على فراق حفيدتها الأثيرة لقلبها، لكنها هتفت في حزم، جاذبة شيماء بعيدا عن نعمة، التي تعلقت بها من جديد: جرى إيه! بقى ده يوم فرح ولا يوم بكا وحزن، بتك رايحة مع جوزها بلد بينا وبينهم كام ساعة مش رايحة أخر الدنيا، سبيها تروح مع جوزها وشها بيضحك وكله فرح مش باكية ومهمومة.

واستطردت موجهة حديثها للنساء، أمرة في حزم، وهي تجذب حفيدتها للخارج نحو باب الشقة حيث ينتظرها أبوها: ما تزغردوا يا نسوان، العروسة خارجة من بيت أبوها، يجعلها من اليوم ده ضيفة فيه، والسعد والهنا تعمر بيتها بيه.

تعالت الزغاريد، ونعمة تخرج من الباب، ليتلقفها ناصر، متطلعا إليها في سعادة غامرة، يحاول مدارة تلك الدموع التي قفزت لمآقيه بلا وعي حين أبصر صغيرته عروسا راحلة من داره حيث دار زوجها، اقترب منها في وجل، وطبع قبلة طويلة أودعها خالص محبته، وتناول كفها هابطا بها الدرج حتى إذا ما وصل نهايته، كان راضي هناك بانتظاره، ليضع ناصر ذاك الكف الرقيق بكف راضي الرجولية الضخمة، هاتفا به في رجاء حازم: خلي بالك منها يا راضي، عارف إنك راجل وهتصونها، وإلا والله ما كنت بعدت بنتي عني ولو كان مين.

أكد راضي ممتنا: أمانتك فرجبتي يا عمي، وعمري ما أفرط فيها أبدا.

ربت ناصر على كتف راضي في إكبار، وأشار إليه ليرحل مع زوجته، علق راضي كفها المرتجف بعضده، وخرجا جنبا لجنب من بيت أبيها، لتلتقي جدها المعلم خميس بانتظارها، انحنت تقبل كفه في إجلال، ليربت على رأسها في محبة وحنو، وضم راضي لصدره في سعادة، رابتا على ظهره في قوة، هامسا يوصيه بحفيدته، لتعلو الزغاريد، وتبدأ الزفة وأهل الحارة كلها خلفهما، حتى وصلا لسيارة يونس الذي جاء بها خصيصا لاصطحاب العروس وأخيه لنجع الصالح حيث كان بانتظارهما عرس أخر، قبل الذهاب لعشهما الزوجي.

دخلت نعمة العربة، ودار راضي ليكون جوارها، بينما يونس أمام مقود السيارة تجلس جواره سماح، التي جاءت بناء على طلبه، حتى تكون العنصر النسائي الموجود من العائلة والمرافق للعروس طوال الرحلة، خلاف تلك العربة التي ترافقهم، وبها حامد أبوه، وبعض من رجال العائلة، لتنحني أمها تضمها هامسة بها: يومين وهكون عندك، وهكون معاكِ على طول بالتليفون، مش هسيبك يا حبة عيني.

جذبها نادر برفق مبعدا إياها مازحا: كفاية نصايح يا شوشو وخلينا نسلم ع العروسة قبل ما تمشي.
انحنى نادر مقبلا جبين نعمة في محبة هامسا في نبرة متحشرجة تأثرا: بالسلامة، ابقوا طمنونا اول ما توصلوا، خلي بالك منها يا راضي، مش هوصيك.
هز راضي رأسه في طاعة، ليستطرد نادر وهو يسحب نفسه لخارج العربة مغلقا بابها، ملوحا: مع ألف سلامة، طريق السلامة.

تحركت العربة، ويونس يضغط نفيرها منغما إياه في سعادة، تلحقه العربات التي كانت ترافقهم، لخارج الحارة وكلها تعلو ابواقها طربا وفرحا بالعروس التي حصلوا عليها لولدهم راحلين نحو عشهما السعيد.

كان صوت البيانو يصلها من الأسفل وهي تتقلب بفراشها، لتتأكد أنه ليس جوارها، تطلعت للسقف شاردة وتاهت بذكرياتهما معا منذ لحظات لقائهما الأول وحتى اللحظة على انغام مقطوعة قصة حب التي تصلها من موضعها، فقد كانت تعلم أن حجرته الخاصة تقع بالضبط أسفل حجرة نومه، والتي أصبحت حجرتهما بعد زواجهما، تطلعت حولها لا تتخيل أن تلك الحجرة هي نفسها التي استيقظت بين جنباتها مذعورة بعد أن استفاقت من اغماءتها بسبب لدغة الثعبان بالاستراحة، فقد بدل فيها كثيرا بعد الحريق الذي طال هذا الجزء من البيت وغير معالمه بالكامل، والعجيب أنه اختار الألوان التي تروق لها رغم أنه لم يكن يعلم أنها تفضل تلك الألوان أو حتى هي جاءت على ذكر ذلك في حديثهما يوما!

ابتسمت وهي تمدد ذراعيها بعرض الفراش في أريحية لتنهض بعد برهة واضعة مئزرها وغطاء لشعرها الطويل الذي كانت تضمه اللحظة على هيئة كعكة خلف رأسها حتى لا ينفلت من أسفل حجابها القصير نسبياً، فتحت الشرفة وخرجت تتطلع إلى تلك الأرض التي قدمت إليها ولم تكن تدري أو حتى توقعت أن تكون محطتها الأخيرة التي رست بها سفينة قلبها، جالت عيونها فالاخضر المترامي الأطراف، وذاك الجبل البعيد الذي يلقي بهيبة على المكان ويصبغ الطباع بقساوة ظاهرية رغما عن صاحبها، ابتسمت حينما تذكرت كيف استقبلها رائف للمرة الأولى ما أن خطت قدماها عتبات هذا البيت، لكن ابتسامتها انقلبت شهقة مذعورة حينما همس رائف بالقرب من مسامعها: اللي واخد عجلك يا نوارتي!

هدأت وهي تستدير نصف استدارة تتطلع نحوه باسمة، ثم عادت تتطلع للمنظر أمامها هامسة: اللي واخد عجلي هو نفسه اللي واخد جلبي، لا ده ولا ده عرفوا يسلموا منه، ويهربوا بعيد.
جذبها محتضنا ظهرها، محيطا خصرها بذراعيه يقربها نحوه مسندا ذقنه على هامتها في رقة، هامسا في تساؤل ودود: وأنتِ كنت عايزة تهربي يا دكتورة!

أكدت متنهدة: حاولت ومجدرتش، في حاچات كل ما تحاول تهرب منها، تلاقيك بتجرب منها أكتر، زي الدوامة كده يا دكتور، سحبتك ولا يمكن تطلع منها أبدا.
همس مشاكسا: عارفها الدوامة دي، مش اغنية للصبوحة برضك!
رفعت رأسها متطلعة نحوه في ابتسامة متوعدة، ما دفعه ليقهقه لنظراتها التي كانت ترمقه بها، وهي تهمس من بين أسنانها: أنتِ كمان بتدلعها! مدلعش حد غيري لو سمحت!
انفجر ضاحكا من جديد مؤكدا: دي الشحرورة يا دكتورة!

همست بحنق من جديد: اجوله مدلعهاش، يچيب لها اسم دلع تاني، لا ده أنت جاصدها يا دكتور!
همس يمسك كفها، يجذبها للداخل: تعالي طب بس چوه وأنا أصالحك!
جذبت كفها من كفه رافضة، هاتفة مدعية الحنق: لا، مش داخلة، خلي الشحرورة تنفعك يا دكتور.

أعطته ظهرها من جديد، بينما قهقه رائف وقد قرر مشاكستها لتدخل الحجرة عنوة، ما جعله ليمد كفه تحت غطاء رأسها لينفلت عقال شعرها مسدلا فوق ظهرها، لتشهق مندفعة للداخل، ليتلقفها رائف بين ذراعيه، هامسا في نبرة ماجنة، وهو يزيح غطاء رأسها، مخللا أصابعه بين خصلاته الشقية: الدكتور محدش ينفعه إلا نوارته وبس، ده أنا ما صدجت والدنيا ضحكت لي واديتني وشها الحلو.

ضمها نحو صدره، مستطردا بهمس مشاغب بالقرب من مسامعها: هو أنتِ كنتِ بتتكلمي عن دوامة باين، صح!
رفعت رأسها، ليحني رأسه متطلعا بعمق عينيها، هامسا بجدية: والله ما حد غيري اللي عاش فدوامة، وكان زماني عايش فيها لولا ظهورك عشان تنوري حياتي اللي كانت معتمة جبل ما تدخليها.
وهمس بمجون وهو يحملها بين ذراعيه: لكن دلوجت أنا عايز دوامة من نوع تاني.

تعلقت برقبته، تقربه نحوها وهو يضعها على الفراش برقة، لتهمس بسخرية: دوامة الشحرورة!
همس وهو يضمها: لاه، دوامة نوارة وعشج نوارة، وبس.
غمرته بين ذراعيها لتنير مصابيح البهجة وقناديل المحبة بساحة صدره معلنة عن مولد العشق الأبدي، الذي لا يموت.

تمنى الجميع له ليلة سعيدة، وصدحت الزغاريد من جديد وهو يدفع باب شقته، لتدخل نعمة وهو بأعقابها مغلقا إياه في هوادة.
تطلعت نعمة حولها، ليقترب منها بصوت حاول أن يجلي نبرته المتحشرجة: إيه رأيك يا عروسة! عچبتك الشجة! تعالي شوفي الباجي.

تحركت معه، وهو يضغط على زر إضاءة كل حجرة، لتتطلع بداخلها لبرهة، قبل أن تبتسم استحسانا، ليتوقفا أخيرا بالردهة الواسعة بعد أن انهيا مشاهدة كل الغرف، إلا غرفة نومهما، التي أشار إليها في تردد، دافعا بابها مشيرا للداخل هامسا: ودي اوضة النوم، أوضتنا..
قال الكلمة الأخيرة في اضطراب، لتقترب هي في وجل لتدخل متطلعة نحو حوائطها واثاثها، ليهمس متسائلا: عچبتك!

همست وهي تهز رأسها تأكيدا في استحسان، أشار نحو صينية الطعام، يحاول أن يفتح معاها أي حوار يمكن أن يذيب ذاك الجليد بينهما، والذي يستشعره اللحظة كجدار صلد يقف حائلا: مش هتاكلي لك لجمة!
أجابت بلهجة واهنة لا تحمل شغف حروفها أو حماسها المعتاد: مليش نفس.

كان محقا فيما استشعره، وصدق حدسه بالفعل، فقد كانت نعمة تشعر بغصة بحلقها، فهي لم تكن تتوقع أن يكون الأمر صعبا بهذه الدرجة، وأن يكون انفصالها عن عائلتها وكل من احبتهم طوال حياتها، وكذا المنطقة التي ألفتها وعاشرت ناسها وحفظت عاداتها، قد يكون بهذه القسوة على نفسها، والأكثر من كل ذلك ذعرا، أن يكون من اختارته وتركت كل هؤلاء خلف ظهرها لأجل خاطره، ليس هو الشخص الغالي، الذي تضحي من أجله مثل هذه التضحية النفيسة.

لم تشعر إلا وهي تنفجر باكية رغم عنها، وقد سقط ذاك القناع الذي كانت تحاول ارتداؤه منذ غادرت الحارة.
تطلع راضي نحوها، وتقدم منها هامسا في نبرة متفهمة: أني عارف أنتِ حاسة بإيه دلوجت، صدجيني واعي إنها مش هينة عليكِ.
حاولت أن تكبح جماح دموعها، لكن نحيبها ازداد ضراوة ولا قبل لها على إيقاف طوفان الدموع الذي انهمر بلا سابق إنذار.

هم بالحديث، ليدق هاتفه، ما دفعه ليخرجه من جيبه في سبيله لغلقه، لكن يونس من كان يتصل، اندفع خارج الغرفة هامسا وهو يرد من بين أسنانه في حنق: إيه في!
هتف يونس مشاكسا: مش فاضي، هااا! وايه اللي خلاك ترد طيب!
وارتفعت قهقاته، ليزفر راضي في غيظ، هاتفا: كنت فاكر إن عندك دم، وهتتصل عشان حاچة عليها الجيمة.

قهقه يونس مؤكدا: لاه أني بارد وجلت اغلس عليك، واجولك تجفل موبايلك وموبايل العروسة عشان أمة لا إله إلا الله هتتصل بيكم تبارك، فريح روحك واجفله.
همس راضي: طب تمام هعمل كده.
أكد يونس في حنو: متنساش تاكل، الصينية عندكم فيها خيرات الله، كل وأكل عروستك وبالهنا والشفا على بدنكم، ياللاه أجول لك سلام يا عريسنا، ولو عزتوا حاچة إحنا فالخدمة، وربنا يهنيكم.

همس راضي في هدوء وكل باله مع تلك الباكية بالداخل والتي لم يهدأ نشيج بكائها ولو للحظة: تسلم يا يونس، سلام عليكم.

اندفع راضي من جديد لداخل الغرفة، ليراها منخرطة في بكاء جارف، ترك هاتفه جانبا، على الكومود جوار الفراش، واندفع نحو خزانة الملابس، باحثا عن غطاء للفراش أكثر تدفئة، فقد استشعر أن الجو بارد بعض الشئ، وجده أخيرا، حاملا إياه بين كفيه، هامسا في نبرة حاول أن تكون أكثر ثباتا: بصي، أنا عمري ما هرغمك على حاچة أنتِ مش مستعدة ليها، عشان كده بجولك خدي راحتك، جومي غيري هدومك، وارتاحي يا نعمة، النهاردة كان طويل جوي، ومتعب عليكِ وعلى نفسك، أنا بالأوضة اللي چارك لو احتچتي حاچة نادمي عليا، تصبحي على خير.

اندفع مهرولا، حاملا الغطاء لخارج الغرفة، تاركا إياها تبرأ قليلا من ذاك الوجع الذي يسربل روحها لفراق أحبابها وانتزاعها من بينهم هكذا بغتة.

دخلت إلى حجرتهما اخيرا، لتتنهد سماح بعد ذاك اليوم الطويل الشاق في راحة، فقد انتهى على خير، وعلى افضل ما يكون، وقد تركا لتوهما العروسين بشقتهما بالأعلى، داعين من الله أن يتم عليهما فرحتهما.
دخل يونس الحجرة بعد أن رص السيارة بموضع مناسب واتصل مشاكسا راضي، مغلقا الباب خلفه، مقتربا منها في فرحة، يغمرها بين ذراعيه هامسا في مجون مازح، مقلدا إحدى المسرحيات الكوميدية: فاكر ليلة دخلتنا يا حسبو!؟

قهقهت سماح مجيبة إياه بمقطع من فيلم شهير: ودي ليلة تتنسي برضك، دي كانت ليلة يا عمدة.
ضمها إليه أكثر متطلعا نحو عينيها يرقص حواجبه في مشاكسة: طب إيه! مغرتيش من العرسان!؟ ما تيچي نعيد الذي مضى يا چميل!
وما أن أقترب منها ملثما، حتى دفعت به عنها وقد شعرت بالغثيان، راغبة في إفراغ معدتها.

تعجب من فعلتها مقتربا من جديد، لتفرغ بالفعل بعض من محتويات معدتها على جلبابه، هتف في نبرة قلقة: إيه في! باين مخمضة العربية تعبتك!
دنا منها، لتعيد معدتها الكرة، لكن هذه المرة على ردائها الحريري الذي لم تكن قد خلعته بعد، فهي بالكاد من أثر الارهاق، خلعت عنها غطاء رأسها، ليهتف من جديد: يا خبر، شكلك خدتي برد فمعدتك، تعالى معايا ع الحمام.

همست في وهن: لاه، متتعبش روحك، أني تمام، بس سندني ع الحمام عشان اغير هدومي.
أوصلها للحمام، مجلسا إياها على المرحاض المغلق، متخذه مقعدا، غاب لبرهة وعاد مهرولا، وقد نزع عنه جلبابه القذر، دافعا به على المغسلة القريبة، ووضع على الشجب خلف الباب، ملابسها النضيفة.
مد كفه دافعا سحاب ردائها، لتهمس به في نبرة ضعيفة: روح يا يونس ارتاح، وأني هشوف حالي.

همس مؤكدا يحاول المزاح مخففا عنها رغم قلقه: أروح فين! ده أني مستني اللحظة التاريخية دي من زمن.
اتسعت ابتسامتها الواهنة، وهو يخلع عنها ردائها، دافعا بها في هوادة نحو المغطس الذي كان قد امتلأ قليلا ببعض الماء الدافئ والصابون المنعش الرائحة.

تمددت بالمغطس في بطء، وتنهدت في راحة وهي تسند رأسها على حافته الباردة خلفها، اتكأ يونس جالسا على طرف المغطس الرخامي، وبدأ في رفع بعض الماء بكفه، يملس به على وجهها الشاحب، هامسا بصوت يحمل نبرة حاول أن يكسوها مرحا، مقلدا عثمان، أشهر من قدم دور الخادم فالسينما المصرية: أي خدمة تاني يا ست هانم!؟

ابتسمت ابتسامتها الشاحبة، ولم تستطع أن تجاريه في مزاحه، ما دفعه ليقف هاتفا: لاه كده أنتِ فيك حاچة مش تمام، أني هنزل أصحي أمك تاچي تجعد معاكي لحد ما أچيب دكتور.
هم بالمغادرة، لتمد كفها متعلقة بكفه، تهز رأسها الذي يكتنفه الدوار بصعوبة رفضا، وهي تهمس في وهن: ملوش عازة، أني عارفة اللي بيا يا يونس.
عاد ليجلس موضعه على حافة المغطس في هوادة، متطلعا نحوها في اضطراب، متسائلا في لهفة: إيه في!؟

همست مبتسمة في شحوب: أني حامل.
تطلع نحوها كالمشدوه، وقد عقد الخبر لسانه عن التفوه بحرف، وأخيرا ما أن وجد حروف الأبجدية الضائعة، حتى همس بصوت متحشرج تأثرا: من ميتا!؟

همست: عرفت من كام يوم، وكشفت واتأكدت، بس حلفت أمي متجلكش عشان كنت عارفة إنك هتخاف تاخدني معاك على مصر عشان فرح راضي، والدنيا هتتكركب هنا وهناك عند أهلك، لأنهم كانوا عاملين إني شايلة أني وأمي الدار هنا وأمك ودعاء الدار هناك، ودي أيام فرح والكل ملهي.
واستطردت متطلعة نحوه، وقد مدت كفها تربت على خده في حنو: متجلجكش أني شَديدة، وياما دجت ع الراس طبول.

ظل يتطلع نحوها، بنظرة لم تستطع تفسيرها، وأخيرا نهض من موضعه جاذبا ذاك البشكير الضخم من على المشجب، خلف الباب، ناشرا إياه بعرض ذراعيه، لتنهض من موضعها ليلفه حول جسدها في رقة قبل أن يحملها لخارج الحمام حتى وضعها بفراشهما، دثرها واندس جوارها ضاما إياها بين ذراعيه، وظل يقبل جبينها بين لحظة وأخرى، يهمس شاكرا لله، لا يصدق أنه سيصبح أبا، متطلعا نحوها في حنو لبرهة، هامسا بالقرب من مسامعها، وهو يدفن وجهه بعنقها: مبروك.

التصقت به ردا على كلمته الهامسة، وما هي إلا لحظات حتى غرقت بين ذراعيه في سبات عميق، ليتنهد يونس في راحة، وهو يضمها إليه وقطعة منه تحملها باحشائها ينتظرها بشوق لم يكن يتوقع أن يكون بهذه اللهفة الفياضة..

كان صوت الصخب واصداء الزغاريد المترامية بأطراف الحارة من هنا وهناك تصل لمسامعهم ما أن دلفا سويا لشقتهما، التي كانت يوما ما شقة أبويه، وعاشا بها الكثير من ايام الفرح والهناء.
اندفعت مبتعدة ما أغلق الباب خلفهما، ليتطلع نادر إليها في تعجب، هاتفا في دهشة: مالك يا حُسن! هو عرق الحنان طفح عليكي ولا إيه!

كانت تقف متحفزة فوق إحدى الأرائك الفاخرة المتناثرة بالردهة الواسعة، هاتفة بنبرة حازمة: كويس إنك قلت إني مجنونة، يعني افعالي لا يحاسب عليها القانون، اديني نبهتك.
هتف نادر مشاغبا: انتِ متعرفيش ولا إيه! ده أنا بموت فالمجانين، ياللاه بقى جنان بجنان.
قال كلمته الأخيرة، وهو يدفع بسترة بدلته السوداء الفاخرة جانبا، بطول ذراعه، قافزا جانبها على الأريكة، ليصبحا وجها لوجه.

انحنت حُسن تحمل ذيل فستانها تلفه حول ساعدها، هاتفة تحذره: عارف يا نادر يا بن نعمة لو قربت مني هعمل إيه!؟
هز حاجبيه مشاغبا: احب اعرف هتعملي إيه يا جميل! عشان نبقى على نور من أولها.
هتفت وهي تقفز على أحد المقاعد المجاورة: هصرخ وألم عليك الحارة كلها.
قهقه نادر، واندفع يقفز ليصبح معها مشاركا للمقعد، مطبقا عليها بذراعيه: صوتي، هتقوليلهم إيه! جوزي بيتحرش بيا.

هتفت تدفع كفيه عن خصرها الذي تشبث به بقوة: بقولك إيه يا بن عم ناصر، شيل ايدك لحسن والنعمة هتاخد علقة بعمرك.
قهقه وهو يجذبها إليه أكثر، هاتفا في سخرية: ليه! أنتِ فكراني واحد من العيال الخيخة اللي كنتي بتضربيهم فقلب الحارة! تعاااالي..
نزل عن المقعد دافعا جسدها عنوة، حاملا إياها فوق كتفه، لتحاول الخلاص منه هاتفة في حنق وهي تضرب ظهره بكلتا يديها: نزلني وإلا هتشوف اللي عمرك ما شفته.

كان قد وصل لحجرتهما فدفع بابها، مسقطا إياها على الفراش، هاتفا في مجون: يا عيني، طب ما أنا عايز اشوف اللي عمره ما شفته.
قفز مازحا ليستقر جوارها، اسرا خصرها بذراعه، هاتفا في مشاغبة: هااا وريني.
هتفت به في تيه كالبلهاء: أوريك إيه! أنت كنت عاقل! انت اتجننت رسمي وعهد الله.

اقترب وهو يتطلع لعيونها الواسعة الكحيلة، والتي غرق في خضم اضطرابها اللذيذ الذي يطل من نظراتهما اللحظة، وهو يهمس لها بهذه النبرة التي ذوبتها حرفيا: وهو حد يعرفك ويفضل عاقل يا ست الحُسن والدلال!

لم تنبس بحرف وهو يجذب عنها حجابها وترحتها بعيداً، متطلعا لجدال شعرها الأسود الابنوسي، التي انتشرت حولها كأشعة شمس ليلية، هامسا بصوت أبح: من أد إيه مشفتش شعرك، كام، عشر سنين! أخر مرة شوفته فيها مكنش بالطول ده!؟ كان يا دوب لامس كتافك.
همست في دهشة: أنت لسه فاكر!

همس وهو يضم الخصلات بباطن كفه، مؤكدا بنبرة عاشقة: فاكر إيه!؟ هو أنا كنت نسيت عشان افتكر! حد ينسى أيام عمره يا حُسن! أنتِ كنت العمر اللي فات، مفيش ذكرى مكنتيش فيها، بحلوها ومرها، وهتبقى العمر اللي جاي، بكل اللي فيه، يا ست الحُسن.
همست مشدوهة، باسمه في أحرف مرتجفة: نادر!
كان ارتجاف أحرف اسمه، بهذه الطريقة الساحرة، كفيلا أن ينسيه العالم، ليهمس ملبيا دعوتها: عيون نادر وروحه، يا ست الحُسن.

لتجد ست الحُسن، كل الدلال، بين ذراعي أميرها النادر، بعد أيام طوال من الأوجاع التي طيبها قربه أخيرا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة