قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون

تنبه عندما تناهى لمسامعه صوت همهات، فانتفض مندفعا نحو راضي، الذي فتح عيونه أخيرا، متطلعا نحوه في تعجب، ليهتف يونس في فرحة: يابوي، حمد الله بالسلامة يا سي راضي.
همس راضي متأوها: هو إيه اللي حصل!؟
أكد يونس مازحا: لاه مفيش، حاچة بسيطة، شوية بلطچية ضربوك بمطوة وكنت هتروح فيها.
هتف راضي في وهن: الحمد لله.

وتنبه فجأة لأمر ما، فهم بالسؤال عن نعمة، وما حدث لها، ليقاطعه يونس مؤكدا: متخافش، كله تمام، انجبض ع البلطچية، عمك حازم جام بالواچب معاهم، و..
وصمت يونس مشاكسا أخاه، ليهمس راضي في اضطراب: و، إيه! إيه اللي چرى!؟ ما تتكلم دغري، حد حصله حاچة!؟
أكد يونس مقهقها: لاه ياخويا اطمن، محدش حصل له حاچة إلا أنت، وخلت جلبي عليك.
همس راضي متعجبا: هو أنت مجلتش لأبويا وأمي!؟

أكد يونس مصدوما: أجول لمين يا مخبل!؟ هي أمك كان هدي لها بال، ولا أبوك جعد مكانه، ما كنت هتلاجيهم كلهم هنا فوج راسك، وسايبين حالهم ومالهم، والچيش اللي وراهم، وچدك وستك اللي محتاچين رعاية كيف العيال الصغيرة.
أكد راضي، رابتا على يد يونس، الذي كان يجلس على طرف الفراش، مؤكدا: عملت الصالح يا يونس.
وابتسم مستطردا، مازحا بدوره: أول مرة تعمل حاچة عدلة!؟

هتف يونس حانقا: بجي كده، ماشي يا راضي! أني جايم انادم ع الداكتور، عشان يكتب لك خروچ عشان اعرف استفرد بِك على راحتي.
أمسك راضي ضحكاته، التي كانت تشعره بالألم موضع جرحه، ويونس يهم بفتح باب الغرفة، هاتفا في نبرة ماجنة، وهو يغمز بعينه: على فكرة، هي كويسة.
اضطرب راضي، يحيد بناظريه عن يونس الذي كان يركز النظرة على انفعالات وجهه، هامسا في نبرة محايدة حاول أن يكسوها بالثبات الزائف: هي مين!؟

ابتسم يونس مؤكدا: اللي اتغزيت وأنت بدافع عنها يا سبع!؟
لم يجيبه راضي، ليستطرد يونس بنفس النبرة، مؤكدا: واللي كنت جاعد تهلوس باسمها طول ما أنت غايب.
انتفض راضي، متطلعا نحو أخيه في ارتباك، متسائلا في تعجب: أني!
أكد يونس من جديد، وابتسامة على شفتيه: إيوه يا سي راضي باشا، وجال حب ومعرفش إيه، ماشي يا عم روميو، هنياله!

تطلع راضي نحو أخيه في حنق، مؤكدا بنبرة حاول أن تكون حازمة رغم وهنه: بجولك إيه يا يونس! الحاچات دي مفيهاش هزار، دي أغراض ناس.
تطلع نحوه يونس متعجبا: واه، وايه اللي چاب سيرة الأعراض! لاه ده أنت دماغك تخينة ولازما نعدلوها، أني رايح أچيب الداكتور.
واستطرد وهو يمسك بمقبض الباب، مقررا: صحيح، هي چت زارتك هنا وأنت مش دريان بالدنيا.
كانت الصدمة من نصيب راضي، ليهتف في دهشة: چت هنا!

لم يرد يونس تاركا سؤاله المندهش معلق بين الدهشة والعجب، وفتح يونس الباب، ليجد صاحبة الحوار ومبتدأه وخبره، أمام الأعتاب تهم بالطرق على الباب مستئذنة، ليهتف يونس مهللا: يا مرحب، اتفضلي.
وتطلع نحو راضي، الذي كان يحاول جمع شتات نفسه، وهو يتطلع نحو نعمة التي كانت تقف في ارتباك بادِ عليها، لا تعرف ماذا تقول، إلا كلمة واحدة، استجمعت حروفها في صعوبة: حمد الله بالسلامة.

رد راضي في خشونة معتادة، رغم لين نبرته التي ما استطاع السيطرة عليها فخرجت لا إراديا بهذه الصورة، عكس طبيعتها في حضرة صاحبة الجديلة، التي هتفت تهم بالرحيل: الحمد لله، امشي أنا بقى.
هتف يونس يستوقفها: لاه تمشي فين! ده أني ما صدجت إن حد يجعد معاه، لحد ما أروح ادور ع الداكتور بتاعه، عشان ياچي يشوف الليلة بتاعته وصلت لفين، ويكتب لنا على خروچ بجى.
همست نعمة في اضطراب: خروج!

هتف راضي حانقا: سيب الآنسة نعمة تمشي يا يونس، هو أني هياكلني أبو رچل مسلوخة وأني لوحدي يعني!؟
أشاح يونس بكفه، كأنه لم يسمع كلام راضي من الأساس، يرد على سؤال نعمة الملتاع: ايوه نخرچ بجى، ونروح بلدنا، هو إحنا هنجضوها هنا ولا إيه!؟

هزت نعمة رأسها متفهمة، أشار لها يونس، لتتفضل بالدخول، حتى يخرج هو، تاركا لهما المجال لينفردا، وقد نسي أمر الطبيب، وذهب للكافتيريا، يشرب كوب من الشاي، مشفقا عن العشق وناسه، بينما تقدمت نعمة لداخل الغرفة، وجلست على المقعد القريب من الفراش، الذي كان يحتله يونس منذ قليل، تفرك بكفيها في اضطراب، لا تعلم ما يجب عليها أن تقول أو تفعل، وخاصة وهو يحاول أن يعتدل قليلا في جلسته، متحاملا على ألمه، كاتما تأوهه، وهو يجذب عليه الغطاء ليستر صدره العارِ، مجنبا إياها الحرج، ساد الصمت، لا يقو على رفع ناظريه نحو محياها، لا يذكر إلا تلك اللحظة التي كان فيها بين ذراعيها، تصرخ باسمه في لوعة، ليكون صوتها المردد لاسمه، هو كل ما كان يجول بلا وعيه، فما كرر إلا اسمها الغالي بدوره، كأنها محاولة منه ليطمئنها.

كانت هي أول من أمسك بطرف الحديث، هامسة في نبرة رقيقة يسربلها الاضطراب: أنا متشكرة قوي على اللي عملته معايا، وأسفة ع اللي حصل لك بسببي.
أكد راضي في نبرة محرجة: مفيش شكر ولا حاچة، ده الواچب.
هتفت نعمة فجأة: هو أنت هتمشي بجد يا باشمهندس! يعني مش هتشتغل مع نادر وبابا تاني فالورشة!؟
هز راضي رأسه مؤكدا: إيوه، راچع بلدنا.

هزت رأسها بدورها، تحاول أن تبدو متفهمة لقراره، هادئة ظاهريا، لكنها داخليا تموت وجعا، ترغب فالبكاء بلا توقف، وهو يجيب بهذه البساطة، وكأن فراقه لها، بعد أن أدركت كم تهواه، أمر هين على نفسه.

همس راضي قائلا: المعلم خميس والاسطى ناصر ونادر كانوا هنا امبارح، يونس جالي أنهم مكنش سايبني لحظة، رايحين جايين عليا، ولولا إن نادر كان عليه اخر امتحان يوم اللي حصل، وبقى هو اللي قاعد فالورشة وفاتح القهوة بدل من المعلم والاسطى عشان تعبهم، كان زمانه معايا هنا على طول.
همست مؤكدة، وهي تنهض مغادرة: أنا لازم أمشي، حمد الله بسلامتك يا باشمهندس، وربنا يوفقك.

همت نعمة بالتحرك نحو الباب، حينما استوقفها راضي هاتفا: آنسة نعمة!
توقفت تتطلع نحوه، ليهمس في خجل: خلي بالك على نفسك.
هزت رأسها ممتنة، وهمست مستأذنة في هدوء، لتغادر الغرفة، تاركة إياه في حيرة من أمره وأمرها، بينما تنبه يونس الذي كان بالبعد جالسا، حتى إذا ما لاحظ مغادرتها، حتى عاد لحجرة أخيه، متطلعا نحوه وقد أدرك ما يمكن أن يكون حال راضي، بعد أن استشعر حالها، وهي كانت تسرع الخطى مبتعدة.

كان قد فاض الكيل، فما أن انتهى موسم الافراح الذي كان يملأ الأجواء في النجع، حتى أصبح لزاما عليها أن ترى ما الذي يجب عليها فعله.
كانت قد قررت أن تلقي الأمر كله خلف ظهرها ولا تعود لنجع السليمانية، وان تطوي تلك الصفحة من حياتها، وتنظر قبالتها على الطريق الصحيح.

لكنها فجأة عدلت عن قرارها، واتخذت وضع الهجوم خير وسيلة للدفاع، وعليها أن تذهب بنفسها حتى عقر داره، لتواجهه وترى ما الذي حدث بالضبط!؟، وما سر هذا الاختفاء الغامض، حتى تقطع الشك باليقين و لا تعاود التفكير في أي إحتمال قد يجعلها متذبذبة في اتخاذ قرارها النهائي، بشأن هذه العلاقة التي ما سعت إليها، وما كانت تتوقع يوما أن يميل قلبها بهذا الشكل لشخص ما.

تطلعت من نافذة سيارتها، وبدأ قلبها في الترنح بين أضلعها، وعبد الباسط يقترب من السليمانية، ووقعت عيونها على تلك التلة التي لطالما انتظرها عليها رائف بفرسه الأدهم، حتى إذا ما اقتربت هبط التلة حتى يتسنى له السير جوارها حتى يصل بها لموضع الاستراحة، غصت بدمع قهر، وغامت عيونها، وغشتها الدموع عن استطلاع الطريق.

توقف عبدالباسط كما هي عادته، عند مدخل الطريق الطولي الترابي المؤدي لدار السليماني، وتطلعت أمامها من النافذة لتبصر نوافذه البيضاء من موضعها، تشجعت واستجمعت شتاتها، وهبطت مودعة عبدالباسط، تسير في خطى متحفزة باتجاه الدار، التي ما أن وصلتها أخير، حتى استشعرت شيئا غريبا، كان الدار والمكان ككل، ينبئان بخلوه من أهله، تجرأت وتناست الذهاب للاستراحة قبل التوجه نحو الدار، لتهتف على أعتابه، تنادي أصحابه، ليخرج لها الخفير والخادمة، والتي هتفت في سعادة لرؤية نوارة: يا مرحب يا داكتورة، طولتي الغيبة المرة دي!

ابتسمت نوارة مجاملة، وهتفت: غيبة ايه بس يا سعدية، ده كلهم تقريبا عشر أيام، بس فين الدكتورة دلال!
لم ترغب أن تأتي على ذكر رائف من الأساس، وكأنها خاصمت اسمه، وحرمت ذكره على لسانها، حتى تدرك حقيقة الوضع القائم بالضبط.
هتفت سعدية: لهو أنتِ مدرتيش يا داكتورة!
تنبهت نوارة، ولم تعقب تاركة المجال لسعدية لتقص الحكاية: مش البيه الكبير، تعب ونجلوه المستشفى فمصر، ورائف بيه، والداكتورة دلال معاه من يوميها.

سألت نوارة في فضول: الكلام ده من أمتى!؟
أكدت الخادمة: من ياچي أسبوع كده!؟
واقتربت سعدية من نوارة هامسة: أني هجولك، أصلك مش غريبة يعني! أصلك جبل ما عبدالسلام بيه يتعب بيوم، كان فيه عاركة كبيرة جوي هنا، معرفش كانت عن إيه، بس الست والبيه الكبار، وسي رائف كان والعة بيناتهم، بعدها تعب البيه الكبير وچريوا بيه، ومن ساعتها لا حس ولا خبر.

هزت نوارة رأسها في تفهم للخادمة، على الرغم من عدم إدراكها لشيء منطقي يُذكر، لتستطرد الخادمة مؤكدة: كويس إنك چيتي يا داكتورة، ده إحنا كنا محتاسين، أهو حضرتك فيكِ الخير والبركة برضك.
هتفت نوارة: طيب تمام يا سعدية، أنا رايحة الاستراحة، وهشوف أخبار الوحدة إيه، وربنا يسهل.

هزت سعدية رأسها في امتنان، ونوارة تتجه نحو الاستراحة، وعقلها تتصارع داخله الأفكار، ما الذي يحدث بالضبط! وهل مرض جده مبرر كافِ لهذا التجاهل العجيب منه! أما كان من الأولى في مثل هذه الظروف الصعبة، أن تتواصل معاها الدكتورة دلال، لتضمن وجود بديل لها بالوحدة، لإدارتها في غيابها الذي قد يطول!؟
إن الأمر غامض، ويحمل سر ما، عليها اكتشافه عاجلا أم آجلا، لأن عليه، سيترتب الكثير والكثير من الأمور..

دخلت الاستراحة، وما أن وضعت حاجياتها جانبا، حتى هل الخفير على الباب هاتفا: حمد الله بالسلامة يا داكتورة، النسوان فالوحدة ما صدجوا إن حضرتك چيتي، بجت فوج بعضها، أجول لهم إيه!
ابتسمت نوارة، مؤكدة: جولهم الدكتورة نوارة جاية، وهتكون موچودة كل يوم بدل الدكتورة دلال، لحد ما ترجع بالسلامة.
هتف الخفير في امتنان: ربنا يبارك لنا فيكِ يا رب، ده الوحدة كان حالها عدم الكام يوم اللي فاتوا، من ساعة اللي حصل.

لعبد السلام بيه، ربنا يرده سالم.
‏همست نوارة: اللهم آمين.

‏وتحركت مع الخفير في اتجاه الوحدة، فهي تدرك تماما أن دوائها المؤقت حاليا هو عملها، حتى تخرس تلك الخواطر التي تننازعها مؤرقة يومها وليلها، وكذلك، لأن هذا الواجب الذي يقتضيه عملها بعيدا عن أية اعتبارات شخصية، فهي لن تدع قلبها يتحكم في مسار حياتها مرة أخرى، وعليها أن تعيد زمام الأمر، ومقاليد الحكم في إدارة حياتها، للعقل وحساباته من جديد.

دخلت لحجرة جدتها، تتطلع لذاك الجسد المسجى قبالتها، أكثر من أربعة أطباء، فحصوا حالتها، وكلهم اجمعوا أن حالتها صعبة، قد تتحسن بالعلاج، لكن ذاك على المدى البعيد، بعد علاج مكثف ومصنِ.
سال دمعها اشفاقا، وهي ترى تلك المرأة ذات الجبروت، المطاعة مسموعة الكلمة، في هذه الحالة المتردية.

فتحت وجيدة عيونها في بطء واهن، تتطلع نحو أية في نظرة يكسوها العجز، جعلت أية تشهق باكية في عجز مماثل عن مساعدتها، وهي تراها ممددة هكذا، بجسد نصف ميت، ولسان ثقيل عن نطق الأحرف، تهمهم مثل الأطفال، لطلب حاجتها.
انهارت أية على الأرض، تستند على طرف الفراش باكية جدتها في قهر، التي شاركتها البكاء على حالها بالمثل.

لا تعرف كم مر عليها وهي على هذه الحالة، حتى تنبهت، لتجد وجيدة وقد غلبها النعاس، من أثر الأدوية المهدئة التي تتناولها، ما جعلها تنهض في خفة، متسللة في هدوء باتجاه حجرتها، وهي تحمل هاتف جدتها معها، وما أن دلفت للحجرة، حتى اخجرت نمرة منتصر، وأخذت بالدق على هاتفه، فعليه أن يعلم ما جنته يداه، وأن يأتي في أقرب وقت، ليرى ما حل بجدته، جراء أفعاله، التي لا تصدق حتى اللحظة، أن منتصر بن خالها، ورفيق الطفولة والصبا، قد قام بها من الأساس.

كان هاتفه مغلقا، لا يستقبل أية مكالمات، ما الذي يعنيه ذلك! هل ما قالته جدتها واكدت على صحته، من بعض اصدقاء منتصر، صحيح بالفعل!؟
لم يعد لها ملجأ إلا الله، وهو، مروان..
اندفعت باحثة عن هاتفها السري، الذي ما عاد من داعِ لتخبئته، لتفتحه، جاءها اشعارات بعض الرسائل الموجهة منه، أخرها يؤكد عليها رحيله للقاهرة اليوم، للضرورة.

ماذا هناك يا ترى!؟، طلبت من الله العون، فلم يعد لديها القدرة على تحمل مزيد من الصدمات، رنت على هاتفه، لعلها تعلم ما الذي يحدث، لكنه لم يرد، ما دفعها لترسل لها رسالة سريعة: رن عليا ضروري، أنا هفضل فاتحة الموبيل على طول، متقلقش.

كان عليها أن تقص عليه كل ما حدث، والذي لم يدر به إلا بعض المقربين جدا في العائلة، لعل ذلك يجعله يحيد عن رأيه، وينسى هذه العملية التي قد، ولم ترغب في التفكير في العواقب، تاركة الأمر لله.

طرقات على باب شقتهما، جعلتها تندفع لتفتح، فقد كان هو بالتأكيد، فما من مرة خرج فيها، وعاد ليفتح الباب بمفتاح الشقة الذي لا يفارقه، لكنه كان يراعي وجودها، فما كان منه إلا الطرق على الباب، حتى يعطي لها الفرصة حتى تكون بكامل هيئتها، دون حرج له أو لها.

لا تعلم أنه ما كان يتعمد ذلك إلا خوفا، نعم كان خائفا أن يتورط أكثر في محياها الذي يعشق، والذي بدأ يعتاده صباحا ومساء، حتى وهي بكامل حشمتها، فدفاعاته الواهنة في الأساس، لن تصمد أمام طوفان هواها الذي يدك حصون ثباته في قوة، مهددا بانهيارها.

واليوم لم يكن لستثناءا، فقد فتحت هي اللحظة، ليسقط قلبه صريعا بين قدميه، ما أن طالع هذا الوجه الصبوح الذي تكلله تلك الابتسامة البريئة، والتي خلبت لبه في التو، تحرك مسرعا للداخل، عندما افسحت له الطريق، هاربا من ضعفه قبالتها، هم بالاندفاع صوب حجرته، التي اتخذها مستقرا بعيدا عن حجرتها، لتهتف به تستوقفه: سمير.

انتفض قلبه، من مجرد نطقها لاسمه، في نداء عادي جدا لا يحمل أي دلالات، تسمر موضعه، لتستطرد هاتفة: بجولك!
استدار يواجهها هاتفا: خير!
اقترحت في هدوء: إيه رأيك ننزل ناكل معاهم تحت!؟ بدل ما بياكلوا لحالهم! لو ده يريحك يعني!
ابتسم مؤكدا: أني كنت خايف أجولك كده، يكون أنتِ اللي مش حابة، ولسه هايبة، ومخدتيش عليهم.

أكدت في مودة، وهي تتجه نحو الباب: طب تمام، ياللاه ننزلوا دلوجت، زمانهم هيحطوا الغدا، أهو أساعد عمتي سندس.
استوقفها سمير متسائلا في حنق: تعالي بس هنا! انت رائحة فين بالعباية دي!؟
توقفت تتطلع لنفسها في حيرة، فقد كانت تضع غطاء رأسها بالفعل، على عباءة حريرية وردية اللون، محتشة تماما، متسائلة: إيه فيها العباية! ما هي باكمام، ولابسة تحچيبتي، مع أن محدش غريب تحت!

أكد سمير في نبرة تحمل قدر لا يستهان به من الغيرة: ولو، افرض حد طب على فچأة، غيري العباية دي للون غامج، ويا ريت يكون أسود.
هتفت متعجبة: أسود!؟ وأني عروسة مكملتش أسبوع يا سمير!؟
أكد سمير هاتفا في ضيق: هتفرج يعني!؟ شايلة الأسود للأربعبن يعني ولا إيه!؟
قهقهت رغما عنها، ليصمت كل ما به، مرهفا السمع والفؤاد والروح، لهذا الشدو الرباني، الذي اندفع في خفة من هذه الحنجرة الرقراقة.

توقفت ضحكاتها أخيرا، ليخرج من تيهه على كلماتها المهادنة: حاضر، هدخل أغير، وأنزل وراك.
أكد في هدوء: لاه، هننزلوا سوا.
هزت رأسها في إيجاب، ودخلت لتغيب بضع دقائق، ترتدي عباءتها السوداء التي ما زادتها إلا حلاوة، تطلع نحوها من جديد، ليس لديه ما يقوله، مشيرا إليها، لتسبقه، قبل أن يغلق الباب، ليهبطا الدرج متجاورين.
هللت سهام جدته، ما أن طالعتهما، لكنها تنبهت لسمية، لتهتف به متعجبة: مين دي يا واد يا سمير!؟

أكد سمير: دي سمية مراتي يا ستي.
كان وقع الكلمة على مسامعه، له شدو خاص أطربه، وكان وقعه على مسامع سمية مختلفا، جعل قلبها يتضطرب، مدركة تماما أن ذاك الزوج له حقوقا، والتي أعفاها منها طواعية، لأن قلبها كما أدرك ملكا لغيره.
هتفت سهام في حنق: اتچوزت ومجلتش يا واد!؟
هتف سمير باسما: مجلتش إيه يا ستي! ده البلد كلها حضرت الفرح والطبل والزمر فضل للصبح.

هتفت سهام محتجة: كمان فرح وأني محضرش، ماشي يا جليل الترباية، والله لأجول لأبوك عشان تتچوز وإحنا مندراش.
وتطلعت لسمية معاتبة: وأنتِ يا معدولة، مش تجوليله فين ستك، مجتش فرحنا ليه!؟ ولا ما صدجتي تتچوزي وتخطفي الواد! معلوم، طول بعرض، ودمه سكر طالع لسته.

ابتسم سمير، وقد قلبت الدفة على سمية متطلعا نحوها، يحثها على مجاراتها، لكن تلك الابتسامة على شفتيه، وهو يتطلع لصدمتها، كأنه يمسك ضحكاته، جعلتها تقرر الانتقام هاتفة به: ايوه صح، كيف يا سمير تعمل كده!؟ بجي برضك ستي متحضرش فرحنا!؟
هتفت سهام في امتنان، وكأنها وجدت لها نصيرا: ايوه يا بتي، ربنا يبارك لي فيكِ، جوليله الچاحد ده!؟

وأشارت لسمية هاتفة: تعالي يا بتي اجعدي چاري، باينك بت حلال، أني حبيتك، بت مين أنتِ!؟
أكدت سمية وهي تتطلع لسمير، تشعر بالانتصار: أنا بت ماهر الهواري يا ستي! أخت الشيخ مؤمن اللي خد سهام بتكم.
هتفت سهام متعجبة: هي سهام اتچوزت كمان! وأني اجول البت راحت فين، ومش بترد عليا لما بنادم عليها!؟

ظهرت سندس من الداخل، لتتطلع للعروسين في تعجب، هاتفة: واه، إيه اللي نزلكم من فوج، ده أنا كنت لسه بحضر لكم صينية الأكل بتاعتكم.
هتف سمير مؤكدا: الظاهر سمية زهقت مني، جالت لي تعالى ناكل معاهم تحت، جلت لها ماشي.
ابتسمت سندس في مودة: وماله يا حبيبتي، كلوا فالحتة اللي تريحكم، ووجت ما تحبوا تنزلوا تعالوا، ووجت ما تحبوا تجعدوا فوج اجعدوا، المهم راحتكم.

نهض سمير ملثما جبين أمه في محبة، لتربت على صدره في مودة، ليهتف سمير وهو يشم موضع كفها على صدره: الچلبية بجت بالتجلية يا سندس، ينفع كده!
قهقت سندس في سعادة، مؤكدة: ايوه ينفع، إن كان عاجبك!
هتف سمير مازحا: عاچبني طبعا، هو أني أجدر اتكلم، بس شكلك عامل شوية ملوخية عچب، فيها توم من اللي بيخدر الواحد اسبوع لجدام.
جاءته قهقهات سندس من الداخل، لتشاركها سمية، وسهام..

جلس الجميع على المائدة، ما أن حضر باسل من الخارج، والذي أسعده تواجد سمير وسمية على طاولة الطعام للمرة الأولى.

بدأوا في تناول غذائهم جميعا، لتتنبه سندس لما يفعله العروسان، ضاربة باسل بخفة من تحت الطاولة، ليلحظ ما يجري بدوره، وسمية تقرب طبق المخللات، من سمير، مدركة ما يحب، ما أسعد سندس التي تطلعت لباسل في فرحة، ارتسمت على ملامحه، وهو يرى سمير ينهض لبرهة، قبل أن يعود حاملا زجاجة من عصير ما، صب كوب منها، وضعه أمامها، لتبتسم في وداعة للفتتة الكريمة، مشيرا للزجاجة متسائلا: حد عايز عصير!

أكد باسل في هدوء: لا يا حبيبي، بالهنا والشفا على اللي هيشرب.
بدأ سمير في تناول الطعام في شهية، وقد تنبه أن سمية تشعر بالحرج نوعا ما، ما دفعه ليمد كفه منتزعا نسيلة منها، موجها بها كفه نحو فم سمية، التي ارتيكت، وكفه ممدود أمام الجميع بهذا الشكل.
حمدت لهم محاولتهم اشعارها أن الأمر طبيعيا، ما دفعها لتفتح فمها تتناول ما يقدمه لها، هاتفة به في خجل: كل أنت، أنا باكل والله.

لم يعر كلامها انتباها، وهو يمد كل دقيقة كفه مملوء بنوعية طعام مختلفة عن الأخرى، حتى جعلها تتذوق كل ما كان على المائدة.
هم الجميع بالنهوض، وكذا سمية تحمل الأطباق، لتمنعها سندس معترضة: والله ما يحصل، ده أنت لسه عروسة جدبدة، ياللاه خدي جوزك واطلعوا ارتاحوا لكم شوية.

هتف سمير من كرسي جانبي، وهو يمد قدميه أمامه، مهدلا ذراعيه عن يدي المقعد، متحدثا في وهن: چوزها اتخدر خلاص، ما جعلنا بلاش الطبيخ الغامج فشهر العسل يا سندي، صحوني ع ال الخمستاشر بجى.
قهقه الجميع، وخاصة سمية، التي جعلته قهقهاتها يفتح عيونه المغلقة في تباطء، كناعس يخشى ضوء النهار.
نهض في تثاقل، متجها للأعلى، لتشير سندس لسمية بالصعود خلف زوجها، وترك ما عاداه.

دخلا شقتهما، لتهتف به سمية: أنا هعمل شاي، الواحد يهضم الأكل اللي كله ده كله، أعملك معايا!؟
هز رأسه موافقا، لتغيب دقائق، قبل أن تعود لتسلمه كوبا من الشاي، ارتشف منه رشفة ليجده كما يفضله تماما، سألها: ده مظبوط ع الشعرة، كيف ما بحب اشربه بالتمام!
همست مبتسمة في تأكيد: شاي تجيل، سكر كتير، رغم انك مليكش فالحلو، بس بتحب الشاي بالذات زايد سكر.

تطلع نحوها، كانت تتحدث وكأنها تعرفه منذ سنوات، شعر برهبة هذه الحميمية تتسلل لقلبه، ما دفعه ليترك الكوب من كفه وهو ما يزل على حاله، متجها صوب حجرته، هامسا: أني هنام.
نهضت بدورها حاملة كوبه صوب المطبخ، تاركة كوبها جانبا، والذي حملته ودخلت حجرتها، لا تدرك أنها يراقب سكناتها من خلف باب حجرته الموارب قليلا، حتى غاب محياها خلف بابها المغلق اللحظة، ليغلق بابه بدوره.

كان عليها أن تتحرك، وتحاول التحامل على نفسها، والنزول لمواجهة الناس، يكفيها اختباء وانزواء، سيكلفها مستقبلها الذي بدأ يتسرب من بين أصابعها بعد كم الأحداث الذي مر بها الفترة الماضية.

دخلت الجامعة تسير على استحياء، تحاول أن تبدو لا مرئية، وعلى الرغم من إنها قدمت إلى هنا في صحبة أبيها، الذي كان لديه محاضرات مبكرة اليوم، والذي رفضت صحبته لها حتى مدرجها، كأنها فتاة صغيرة في يومها الأول بالمدرسة، مصممة على السير بمفردها، إلا إنها رغما عن ذلك، شعرت بالوحدة، وبغربة كبيرة عن كل ما كان مألوفا لها،.

اقتربت من الوصول للمدرج، وما أن وصلت لعتبات مدخله، حتى سمعت خلفها شابين من زملائها، كانا يتهامسان عليها، لا يدركان أنها تسمع همسهما المتخابث: مش دي زهرة بت الدكتور ماجد الهواري.
أكد الآخر: ايوه هي يا سبدي، عاش من شافها، بعد ما راح دكتور محمد الله يرحمه بعد كتب كتابه عليها بمفيش، شوف جاية ازاي ولا هاممها!؟
هتف الأول من جديد: ايوه والله صدجت، چاية بلبس ملون، وكن اللي راح ده ملوش عازة، نجول إيه بجى..

كانت قد وصلت لداخل المدرج وهم خلفها، كانت كلماتهم تقتلها في الصميم، وخاصة ملاحظاتهم الأخيرة التي وصلت مسامعها اللحظة قبل أن تجلس على أقرب مقعد قابلها، شاعرة بالترنح، كانت تنوي العودة من جديد حيث أتت، والرجوع لمكتب أبيها لتنتظر انتهاء محاضراته حتى يقلها للعودة.

وصل إشعار ما على هاتفها، ما جعلها تتطلع نحوه، تحاول أن تلهي نفسها عن كل تلك الخواطر التي تداهمها، ليطالعها على شاشة الهاتف، اشعار من صفحته، مدت كف مرتعش، وفتحته، لتجد اقتباس الأمس الذي تعمدت اختياره، ينير صغحته: يوم ما، ستدرك أيها الحبيب، أنك أنفاس الصدر، وضي العين، والوجع الحلو الذي أدمنته، وأنك ذاك الدرب وحيد الاتجاه، الذي ما عاد يصلح منه رجوع.

لا تعلم لما دمعت عيناها، وهي تقرأ منشوره، الذي لم يكن إلا اختيارها في الأساس.
مدت كفها، كتبت تعليقا، كانت المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك، لكنها وجدت نفسها بلا إرادة تكتب في التعليق: يوم ما، ربما لا يأتي ذاك اليوم أبدا، وربما يكون القدر رحيم بنا، ليغير أقدارنا لما فيه هناء قلوبنا الملتاعة، ربما..

انتفض عاصم ما أن رأى تعليقها، كان يعرف صفحتها، التي تديرها باسم مستعار، لكنها لا تدرك أنه يعرف ذلك، لذا كتبت تعليقها ذاك بأريحية كبيرة، قرأ الكلمات من جديد، واستشعر أنها تعاني صراعا ما، لذا لم يعِ إلا وهو يضغط ذر الاتصال بها، الذي ظل يرن حتى الرنين الثالث، لترد في نبرة تحاول أن تجاهد لتبدو طبيعية: السلام عليكم.
هتف عاصم: وعليكم السلام، زهرة أنت كويسة!

لم ترد، لذا ما كان منه إلا هتف في عجالة: بجولك، خليكِ مطرحك وأني چاي أخدك.
همست بصوت متحشرج: المحاضرة هتبدأ يا عاصم، وأنا...
هتف بها، وقد اندفع في اتجاه السيارة بالفعل: اخرچي حلاً من المدرچ، سمعاني.
هزت رأسها موافقة، وتنبهت أنه لا يراها، فهمست من جديد: حاضر.
هم بإغلاق الخط، لتهمس مستطردة: عاصم.
هزت جنبات روحه بندائها، ولم يرد منتظرا حين استطردت هامسة: متتأخرش عليا.

أكد في ثبات، وقد انطلق بالسيارة بالفعل: مسافة السكة.
وكان على قدر كلمته، فأصبح أمام الجامعة في غضون دقائق، ليرن على رقمها، وما أن أجابت، حتى هتف بها: زهرة، أني بره الچامعة، أدخل لك!؟
أكدت في هدوء: لا أنا خارجة يا عاصم.
ظلت عيونه معلقة بباب الخروج، حتى رأها قادمة، فاندفع نحوها، يسير جوارها متسائلا: أنتِ كويسة!
أكدت وهي تفتح باب العربة، لتستقلها وهي تهز رأسها غير قادرة على الحديث.

كان يحفظها عن ظهر قلب، ما أن يخيم الحزن على أجواء قلبها، حتى يسكنها الصمت، ويغشى السكون دنياها، وتركن إلى كهف ما داخلها، لا تخرج منه بسهولة أبدا.

سارت العربة مسافة بسيطة، حتى توقف فجأة، فخرجت من شرودها، وتطلعت نحو مكان الوقوف، ليترجل من السيارة في اتجاه محل ما، غاب لحظة، وعاد سريعا حتى لا يتركها وحيدة، استقل العربة، ومد كفه لها، بذاك القمع المغلق، من الحلوى المثلجة، مدت كف مرتعش في اتجاه كفه، وأخذت القمع، متطلعة نحوه وغامت عيناها بفعل الدمع المترقرق بها، ما زال يذكر أنها الحلوى المفضلة لها، وأنها الوحيدة القادرة على تطييب خاطرها، ابتسمت هامسة: متشكرة يا عاصم، بس أنت لسه فاكر! إني بحب الآيس كريم، حتى فالشتا!؟

هز رأسه مؤكدا، وهمس في نبرة حانية: ولا عمري نسيت، شفتك مضايجة جلت مفيش غيره هيخرجك من ضيجك.
هزت رأسها، وهو يدير العربة في اتجاه النجع، عيونه تتبادل النظر ما بين محياها الحزين والطريق، بينما هي تتطلع نحو المثلجات، تبتسم في شجن، هامسة لنفسها، ما عاد كل ما يسعدنا قديما، يسعدنا الآن يا عاصم.

فتحت الحلوى، وبدأت تناولها على الرغم من عدم رغبتها في ذلك، لكنها فعلت جبرا لخاطره، ما جعله يبتسم في مودة، وهو يتطلع لها، لا يعلم أن أمر قلبها اعظم وجعا من أن يداويه قمع من حلوى.
دفعت بها عمتها لتفعل ذلك، ولولا معزتها ما جاءت حتى أعتاب حجرته، تطرق عليه بكف مرتجف، لعله يخرج من عزلته، التي فرضها على نفسه، منذ أيام.

رده من الداخل، جعلها تنتفض خجلا، تتطلع لعمتها المستترة بأحد الأركان، والتي ربتت على صدرها تستعطفها لتستمر في الطرق، حتى ينهض فاتحا بابه، خارجا من عزلته.
طرقت حُسن من جديد، لينتفض شعيل فاتحا الباب في عنف اجفلها، ابتسم محرجا، ما أن طالعه محياها هاتفا: هو أنت يا حُسن!؟ كنت مفكره الخادم، خير!

ارتبكت حُسن قليلا، وأخيرا استجمعت شجاعتها، هاتفة به: هو مفيش اي تقدير ولا تشجيع خالص للغلبانة اللي قاعدة تذاكر دي لحد ما دماغها ورمت!؟
اتسعت ابتسامة شعيل على تعبيراتها، مؤكدا: والله نشچع ونچيب مشچعين المنتخب الوطني يشچعون كمان، إحنا تحت أمرك.
ابتسمت مؤكدة: لا مش للدرجة دي، أنا بس اتخنقت من المذاكرة وعايزة أخرج شوية، ينفع تخرجنا!
همهم باسما: تخرجنا!؟ نون الچماعة مين المجصود بها!

اتسعت ابتسامتها هاتفة: أنا والغلبانة ربى، دي خلاص يا عيني، شوية هتنزل تشحت حد يخرجها.
قهقه هاتفا: لا، مش لهالدرجة، أنا موچود، اچهزوا، وأنا تحت أمركم.
رفعت حُسن هاتفها، تتصل بربى، لتجهز نفسها، حتى يمروا بها ليأخذوها في طريقهم للمول التجاري، والتي صرخت فرحا، وأعدت نفسها في ثلاث دقائق.

عافت الطعام، فمنذ قدمت إلى هنا، لم تضع بجوفها إلا قليل من الماء، وكأنها ترفض بقاءها على قيد الحياة بعد ما حدث.
دموع عينيها لا تجف، ووجع قلبها يزداد ضراوة، وهي ترى من أحبت، ووهبته القلب والروح، قد تحول بهذه الطريقة الفجة، وفعل بها ما لا يغتفر.

إنها ممزعة ما بين مشاعر كانت له خالصة من دون البشر، وما بين مشاعر أصبحت ناقمة عليه، ملأ الأرض والسماء، وهي ما بينهما تموت قهرا وعجزا، ولا حيلة لها إلا البكاء والاضراب عن الطعام، لعلها ترحل بعارها، وحبها الآثم الذي ما زال يرتع بين جنباتها.
انتفضت، عندما سمعت صوت إدارة المفتاح بباب الحجرة، بالأدق حجرته التي يشاركها فيها، مغلقا عليها بابها ما أن يغادرها.

دفع منتصر الباب، ليدخل وخلفه هذه الفتاة الجريئة الطلة، التي تحمل صينية من طعام مغطى، لكن رائحته الشهية، أثارت شهيتها، واسالت لعابها، لكنها لن تضعف أبدا، هكذا قررت، وهي تحيد بناظربها عن زوارها، تمسح عن وجهها دموع الحسرة في كبرياء أثار إعجاب منتصر، الذي ظل يتطلع إليها في عشق، اشعل غيرة نغم، التي مصمصت شفتيها في حنق، هاتفة بلهجة حادة: هو أنا هفضل شايلة الصينية دي لحد أمتى يا باشا!؟ ولا أغور بيها أحسن، عشان مبقاش عازول!

أشار منتصر لطاولة ما بالقرب من الفراش، لتضع نغم عليها الصينية، هاتفة في نفاذ صبر: أي خدمة تاني يا باشا!؟ ولا أتكل!
أشار لها منتصر ملوحا كفه في لا مبالاة، لتتحرك نغم في حنق، تقف على باب الحجرة، على الرغم من أغلقه بابها.
ليقترب من بدور، جالسا قبالتها متنهدا، هامسا في هدوء: هتفضلي كده لحد أمتى! لازم تاكلي.
هتفت بدور في حنق: أبعد عني، مش عايزة منك حاجة، كل اللي عايزاه دلوقتي، إني أموت وارتاح منك ومن..

هتف مقاطعا إياها، هاتفا في نبرة محبة: بعد الشر عنكِ، تموتي إيه! ده أنا ما صدقت ربنا جمعني بكِ، تقولي أموت والكلام الفاضي ده.
تطلعت نحوه، هو منتصر الذي تعرفه، وليس هو في نفس ذات اللحظة، أيهما تطالع، من منهما الحقيقي، ومن منهما المزيف، أم كلاهما شخص واحد وعليها أن تتعايش مع هذا، وتتقبل ذاك الوضع، حتى يتضح لها حقيقة الأمر، الذي يكاد يذهب بعقلها.

مد كفه يقرب الصينية، رافعا الغطاء عنها، كاشفا عن محتويانها، مشيرا لعدة صحون، مؤكدا في محبة: بصي، الأكلات اللي بتحبيها كلها.
تطلعت نحو الأطباق، كان محقا، ما ترك صنفا تحبه إلا وكان حاضرا ها هنا.
تطلعت نحوه في اضطراب، إنها حتى ما كانت تعلم أنه يعرف كل ما تحب بالفعل، هل كان يحبها لهذه الدرجة!؟ وهل ما زال يحبها بنفس الدرجة، أم أن تحول حاله، حول قلبه كذلك!

تنهدت بصوت مسموع، أثار لواعج قلبه بالمثل، وهمست لنفسها، ما الفارق! كان يحبها! أو يذكر ما تحب! هي التي يجب عليها أن تكف عن عشقه، وتخرس دقات هذا القلب الذي لم ولن ينبض لعشق أخر.
مدت كفها نحو الصينية، ليبتسم منتصر معتقدا أنها لانت لكلماته، وستتناول طعامها بالفعل، لكنها ادعت ذلك، وعيونها على أمر أخر، شىء لامع على أطراف الصينية، جذب انتباهها، وقد يكون فيه الخلاص.

ابتلعت اللقيمة الأولى في صعوبة، وتظاهرت بالتقاط الثانية من على أطراف الصينية، في ظل سعادة منتصر، بكسرها لاضطرابها عن الطعام، لتنتفض بغتة، مختطفة السكين من موضعها، مندفعة نحو منتصر، تود قتله.

كانت قد اعتلته، حاملة سكينتها، تضم على مقبضها، موجهة نصلها صوب قلبه الذي عذبها كثيرا، أمسك منتصر ساعدها محاولا أن يبعد النصل عن صدره، وهي تضغط عليه بقوة، هامسا وهو يتطلع بعمق عينيها، بنبرة أذابت كل دفاعاتها: لو ده اللي يريحك يا بدور، هسيب إيدك، عشان ترتاحي.

بدأت كفها ترتجف، وقد أدركت تماما، أنها غير قادرة على فعل ذلك، حتى لو أتاح لها الفرصة، كانت لحظة شجاعة زائفة من قبلها، تدفع ثمنها اللحظة من كبريائها المهدر على أعتاب عينيه التي تطالعها اللحظة، بتلك النظرة التي اعادتها لذكرياتها الرائعة معه، ما دفعها في لحظة تهور، أن تبتعد، لتوجه النصل نحو قلبها هي، ذاك الخائن الذي يسلم نفسه طواعية لخائن أخر، دون رغبة منها، عليها الخلاص من كلاهما، قلبها ومالكه.

لكن منتصر، كان من الحنكة، ليدرك خطتها، وهي في مثل هذه الحالة من الاضطراب، والتيه، لينتفض باعدا كفها المتشبث بمقبض السكين في استماتة، عن موضع صدرها، وقد انقلب الوضع عكسيا، ليصبح الآن هو المسيطر من عليائه، مشرفا عليها، ظل يضغط على مجمل ساعدها، حتى شعرت بالألم، ليفقد كفها القدرة على التشبث بمقبض السكين، ليسقط محدثا دويا، قطع ذاك الصمت المغلف لوضعهما، وكلاهما غائب تماما، يسربله التيه، سارحا في عمق عيني الأخر، حتى اقترب منتصر في بطء ليطبع قبلة حانية على جبينها، جعلت جسدها يرتجف وهي يبتعد ليعاود وصل عينيها من جديد، والذي قطعه منتفضا، فما عاد له القدرة على تحمل كل هذا الشوق القاهر في حضرتها، متوجها نحو الباب، بعد أن تناول السكين من أرض الحجرة، ليجذب الباب لينفتح في شدة، ليطالع نغم، التي ما زالت مرابطة على أعتابه، هاتفا في ثورة، لا تعادل ذرة مما يعتمل بداخله، صارخا وهو يقذف السكين أرضا، موجها حديثه لنغم: لما تبقى تجيبي لها أكل تاني، متحطيش سكاكين لفاكهة وزفت، ركزي شوية!

لم تنبس نغم بحرف، بينما اندفع هو لخارج الغرفة، هاتفا في ثورة لم تهدأ: ادخلى حاولي تأكليها، ولو مكلتش، مش هحاسب حد غيرك، فاهمة!؟

هزت نغم رأسها متفهمة، لا تعلم ما الذي حدث ليتحول الباشا، لهذه الثورة العارمة، تطلعت بطرف عينيها نحو الداخل، لتجد بدور، ممددة على الفراش، شاردة تماما، تتطلع لسقف الغرفة في صدمة، وهي تتحسس موضع قبلته على جبينها، والتي استشعرت أنها ما كانت إلا على شغاف قلبها المضطرب، الذي يحاول أن يبعث له برسالة ما، لم يستطع أن يفك شفراتها بعد.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة