قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس والعشرون

تنبه سمير وهو يهبط الدرج، عندما رأى سندس تخرج من غرفة المكتب، تمسك بأحد ملفات قضاياها، هاتفا يعلمها: بقولك يا أمي! متعمليش حسابنا فالغدا، أصلك عمي ماهر عازمنا النهاردة ع الغدا معاهم، وهاخد سمية وأروح.
أكدت سندس: أيوه يا حبيبي عارفة، ما هداية مسكت فيا أنا وأبوك عشان نيچي بس مينفعش، أنت عارف منجدرش نسيب ستك أو حتى نغير مكانها، بتضايج.

أكد سمير وهو يطبع قبلة على جبين أمه: فيك الخير والبركة يا حضرة الافوكاتو، ركزي بس أنتِ فالجضية، عايزين إعدام اجصد براءة.
قهقهت سندس وهي تضربه على كتفه في سعادة، متطلعة نحوه في فخر، هامسة وهي تربت على صدره بحنو: مبسوط يا سمير!؟
أكد في عجالة: هكون مبسوط اكتر من كده إيه يا أم سمير!؟ الحمد لله.
همست به: ربنا يسعدك كمان وكمان يا حبيبي، ويديك على كد طيبة جلبك، وأشوف ولادك بين ايديا كده عن جريب.

ابتسم سمير، ابتسامة مضطربة، وربت على كتفها، مندفعا نحو أسفل الدرج، متهربا من نظرات أمه، وهو ينادي زوجته: ياللاه يا سمية اتأخرنا! أنا چعااااان.

ظهرت سمية أعلى الدرج، كان من الطبيعي أن يغض الطرف، حتى يحفظ قلبه المترنح ذاك من التمدد صريعا بساحة صدره لمرأها بهذا الحسن الفطري، الذي لا تتكلف جهدا لإظهاره، لكن عيون أمه المتطلعة نحوهما اللحظة، والكاشفة لكل شاردة وواردة، جعلته يتطلع ملأ عينه نحوها، مبتسما في سعادة ما أن وصلت حتى موضعه، ليهتف مازحا: ليه التأخير ده كله!؟ ما جلنا چعان، ده أني صايم من يومين، عشان العزومة دي.

قهقت سندس، مازحة: والله نسايبك ليجولوا مجوعين ولدهم وچاي ياكل عندينا.
ابتسمت سمية مؤكدة: والله ماما عملاله الحلو كله، دي جعدت تجولي، سمير بيحب إيه واعمله إيه!؟ ياكل وينبسط على راحته.
هتفت سندس: والله فيها الخير هداية، ربنا يديها الصحة، وتسلم يدها، سلميلي عليها، وعلى سهام، العزومة الچاية ليها ولمؤمن بإذن الله، بس اخلص الجضية المعجربة دي.
هتفت سمية: على خير إن شاء الله.

هتف سمير مازحا، وهو يندفع لخارج الدار، وخلفه سمية: ركزي يا سندس، الإعدام اجصد البراءة.
قهقهت سندس، وكلاهما يغيب عنها.
سارا جنبا لجنب، على طول الطريق الترابي، الواصل بين دار التهامية ودار ماهر الهواري، حتى إذا ما وصلا، ووقفا على الأعتاب، وما أن هما أن يعلنا عن وجودهما، حتى سمعا صوت عبدالله، صارخا من الداخل في اعتراض: أني مليش صالح، أني چعان.

وفجأة ارتفعت لعنات هداية، التي تعقبت عبدالله، وهو يهرول خارج المطبخ، حاملا زوج من الحمام المحشو، والمعد لعزومة أخته وزوجها، ملتهما إياه في شهية، ما دفع كل من سمير وسمية للتطلع لبعضهما برهة، قبل أن ينفجرا ضاحكين على أفعال عبدالله، الذي تنبه لوجودهما، ولم يبال، بل هتف في سعادة بفم ممتلىء: يا مرحب بالعرسان، اتفضلوا.

وهتف مستدعيا أمه: يا أم مؤمن، سمير و بتك چم أها، ياللاه أكلينا بجى، بدل المچاعة اللي إحنا فيها دي.
قهقه سمير لأفعال عبدالله من جديد، خاصة حين اندفعت هداية من داخل المطبخ، تعدل من هندامها، فاتحة ذراعيها تستقبل ابنتها في شوق ومحبة: يا جلب أمك، والله اتوحشتك يا حبيبتي، تعالي معاي ع المطبخ نخلصوا، لحسن فيه البيه ياكلنا حيين.

ارتفعت ضحكات سمير، وهداية تتطلع لعبدالله، الذي أجهز على الحمام، في لحظات، لتتنبه هداية هاتفة: ازيك يا سمير يا حبيبي، اتفضل، معلش، والله الملكوم ده خلى راسي تندار.
هتف سمير باشا: ولا يهمك، حجه برضك، كلنا چعانين.
تطلعت هداية في اتجاه سمية في عتب: وه، مچوعة چوزك ليه!
تطلعت سمية نحو سمير عاتبة: هتچيب لنا الكلام أهاا، والله هو اللي جالي لو فطر متأخر مش هيعرف يتغدى، صح!
هتف سمير مازحا: لاه.

تطلعت سمية نحوه باسمة، ليتراجع عن كذبه مؤكدا: الصراحة صح.
هتفت هداية باسمة: حلا يا حبيبي احط الأكل، وبالهنا والشفا على جلبك.
هتف عبدالله معترضا: ايوه بالهنا والشفا لچوز بتك، لكن ولدك لاه، ماشي يا حاچة مااااشي.
تطلعت إليه هداية بنظرة حانقة، هاتفة به أمرة: جوم نادم على أخوك ومرته، خليهم ينزلوا عشان ياكلوا.

اعترض عبدالله، لتهتف سمية رابتة على كتف أمها مهدئة: أنا طالعة أسلم عليها، وننزلوا كلنا للغدا، ونحصلك ع المطبخ يا حاچة هداية.
هزت هداية رأسها في تفهم، وهي تندفع للمطبخ لتنجز ما خلفته ورائها، دافعة سمير ليجلس بأحد المقاعد مع عبدالله، حين صعدت سمية لحجرة مؤمن وسهام.
هتف مؤمن وهو ممدد على فراشه، يتطلع لسهام التي تعدل من هندامها أمام المرآة في عشق: اللهم بارك، كيف البدر.

ابتسمت في حياء لتعليقه، لينهض متجها نحوها، وما أن أصبح قبالتها، حتى انحنى مقبلا جبينها في محبة، تطلع لعمق عينيها في هيام، وما أن اقترب اكثر ضاما إياها، حتى دق الباب، هاتفة سمية من خلفه: إيه يا اللي هنا!؟ مش كفاية عسل بجى!؟
قهقهت سهام لمزاح سمية، هاتفة من خلف الباب: لا واضح أن سمية اتعدت من سمير بسرعة، جايين والله.

قهقه مؤمن مؤكدا على تعليق سهام، فما كانت سمية بهذه الجرأة، والمرح من قبل، كانت دوما خجولة صامتة، لكن يبدو أن لسمير تأثير كبير عليها بالفعل، وهي نفسها لم تكن تدرك ذلك، إلا حين جاءتها ملاحظة سهام تلك، والتي فتحت الباب تستقبلها في حفاوة، ومؤمن من خلفها، ما أن طالع محياها، حتى احتضنها مقبلا إياها في محبة أخوية خالصة، لتهتف سمية مازحة لمؤمن: ياللاه بينا على تحت، أحسن عبدالله مچنن أمك، وسمير مستنيكم.

اتسعت ابتسامة مؤمن مؤكدا: وهو من ميتا عبدالله مريح أمك!؟ ده صوت صراخها بسببه چايب أخر النچع.
قهقه الجميع، وهم يهبطوا الدرج نحو موضع سمير، متطلعين لعبدالله الذي احتل موضعه على المائدة قبل الجميع، ما زاد من ارتفاع ضحكاتهم على أفعاله.

توجهت سمية نحو المطبخ، تقف بجوار أمها، لتساعدها في تحضير المائدة، لتهمس لها هداية في نبرة أم تطمئن على ابنتها العروس الجديدة، في حياتها الزوجية المستحدثة: اخبارك ايه يا سمية!؟ سمير كويس معاكِ كده!؟
أكدت سمية في صدق: سمير مفيش منه والله يا ماما، طيب وابن حلال بجد ويتمنى لي الرضا أرضى.
هتفت هداية رافعة كفيها للسماء هامسة: الحمد والشكر لك يا رب.

وتطلعت نحو سمية مستطردة: والشهادة لله، سهام أخته ممتخيرش عنِه، ربنا يبارك لكم يا بتي، بس جوليلي، وأنتِ عاملة إيه معاه! أوعاكِ يا سمية تجصري فحجه، ده له عليكِ الطاعة يا بتي وحسن التبعل، واعية لكلامي يا بتي!
هزت سمية رأسها في تفهم، تحاول أن تتشاغل بحمل بعض الأطباق، لتستكمل هداية نصائحها الذهبية كأم: الست الشاطرة يا بتي، چوزها يكرمها جراط، تكرمه جراطين، يشيلها على كفوف الراحة، تشيله فحبابي العين.

هزت سمية رأسها في إدراك من جديد، لتدخل سهام المطبخ قاطعة حديثهما، هاتفة: أنا جاية اساعد أهو، ومتجوليش عروسة ومعرفش إيه، ما هي سمية بتساعد أهي!
ابتسمت هداية مؤكدة: لاه مش هجول، تعالوا ساعدوا، عشان نأكل الغيلان اللي بره دول جبل ما يكلونا.

جلس الجميع على المائدة، كل جوار عروسه، وماهر وعبدالله على طرفي الطاولة، ساد جو من المرح والحديث المتبادل من هنا وهناك، وخاصة المزاح على أفعال عبدالله، الذي كان ينهض متناولا الطعام من هنا وهناك، ليأكل في استمتاع رهيب، تطلع عبدالله لكل عريس، وعروسه تهتم به، وتضع له بصحنه الطعام، واحيانا تضع له من صحنها، امعانا في الاهتمام والمحبة، حتى أمه، تهتم بأبيه دونه، ما دفعه ليهتف صارخا: مليش صالح، چوزوناااااي.

قهقه الجميع، لتهتف هداية: إيه يا واد يا مخبل أنت!؟ إيه في!؟
هتف عبدالله مفسرا: يعني كل واحدة جاعدة تأكل في چوزها وأني مفيش اللي تأكلني، لو كان الچواز كده يبجى چوزنوني بجى.
قهقهت هداية وماهر كذلك، والذي هتف: عايز تتچوز عشان تلجى اللي تأكلك، طب هو أنت عاتج من أساسه! ما أنت جايم بالواچب وزيادة.
قهقه سمير، واضعا بعض من طعامه على صحنه، هاتفا به: ولا تزعل يا سيدي، ودي هدية مني لك، بالهنا والشفا.

ليهتف مؤمن باسما، وهو يضع فردة من الحمام بصحنه: ودي مني أني، ياللاه هيص يا عبدالله باشا.
بدأ عبدالله في التهام العطايا باستمتاع، لتهتف هداية في مزاح: الله يكون فعونها اللي هتچوزك، دي هدوج المر.
أكد عبدالله: دي هدوج الشهد، ما أني هأكلها معاي.
قهقه الجميع ليهتف ماهر مازحا: وأنت هتسيب لها حاچة!
أكد عبدالله بفم ممتلئ: لاه، برضك مرتي، لازما أوعالها.
هتفت هداية: أول مرة تجول حاچة عدلة.

ليتطلع الجميع نحو عبدالله، الذي كان في عالم أخر، وقد اصابته التخمة، جالسا على كرسيه متنهدا، وكأنه كان في سباق عدو طويل المسافة، لترتفع الضحكات من جديد.

ارتفع رنين هاتفها، الذي لم تتنبه له، فهي ما اعتادت أن تسمع رنينه مرتفعا من قبل، اندفعت نحو غرفتها، تفتح الخط قبل أن يغلق، فهي تدرك تماما أنه مروان، صاحب النمرة الوحيدة بهاتفها، والذي انار اسمه على الشاشة اللحظة، كما أنار بقلبها شوقا قاهر له، هتفت ما أن فتحت الخط: ألوو، ألوو، مروان!
هتف بها مروان في شوق: عيون مروان.

تنهدت ودمعت عيناها، وقد ألجم الشوق لسانها عن النطق بحرف، إلا أن دموع عينيها قالت كل ما كانت ترغب في قوله، احترم صمتها المقدس، حتى تنهدت هي محاولة أن تدير دفة الحوار، هامسة: كنت فين بقى اليومين اللي فاتوا!؟
أكد مروان: كنت فالقاهرة، أنتِ عارفة بقى التحاليل والاشاعات والكلام ده بياخد وقت قبل تحديد ميعاد السفر.

هتفت في دهشة: أنت لسه مصمم على موضوع العملية دي يا مروان!؟ خلاص بقى، عشان خاطري أصرف نظر، أنت أكيد عرفت باللي حصل لستي وجيدة، وبرضو عن سبب واللي حصل من منتصر!
هتف مروان في ثبات: ربنا يشفيها يا رب، بس إيه دخل عمليتي فاللي حصل ده كله!

هتفت أية مؤكدة: ليه مليون دخل!؟ إذا كنت عايز تعمل العملية عشان كلمة اتقالت لك من ستي، فخلاص، ربنا خد لك حقك يا مروان، وإذا كان عشان كانت ستي بتقارنك بمنتصر، فأهو محدش عارف أراضيه ولا حقيقة اللي عمله من أساسه، يعني يا مروان أنت على حالك دي كافي وانا راضية والله، عشان خاطري بلاش العملية دي، أنا خايفة يا مروان.

انفجرت أية في البكاء شاهقة، لم يعقب مروان بحرف حتى هدأت تماما، فهمس مؤكدا: بصي يا أية، أنا مش بعمل كده عشان جدتك أو منتصر أو أي مخلوق، منكرش إن ده كان الحافز اللي خلاني أفكر جديا فالموضوع، لكن لما اتخذت القرار النهائي كان عشاني أنا وأنتِ يا أية، مبقاش يهمني حد غيرنا، لا يهمني مين اللي يقول ومين اللي يعيد، كل اللي يهمني ارجع مروان، وابقى جدير بأية وبس.
همست أية باكية: بس يا مروان، عشان خاطري..

همس مروان مقاطعا إياها، متنهدا: عشان خاطري أنا، بلاش تجيبي سيرة الموضوع ده تاني، الموضوع منتهي يا أية، أنا راجع بكرة بإذن الله، وعايز اشوفك، ينفع!
همست مضطربة: مش عارفة! هشوف.
همس باسما وبنبرة شقية: طب شوفي بسرعة عشان أنتِ وحشتيني جدا، بقالي فترة طويلة مشفتكيش، أية، بحبك.
همست في خجل، وبأحرف مضطربة: أنا لازم اقفل دلوقت.
ابتسم مجيبا: اقفلي، بس لازم أشوفك قبل ما يتحدد ميعاد السفر لألمانيا.

همست من جديد: إن شاء الله.
أغلقت الهاتف، وقد حزمت أمرها، فما عاد لها مخرجا أخر للخروج من هذه المعضلة، إلا ما انتوت فعله، والذي كانت تؤجله ليكون هو الحل الأخير، من وجهة نظرها.

كان الطريق قد أوشك على الانتهاء، وراضي يكسوه الصمت منذ منتصف الرحلة تقريبا، هائم في عالم أخر، يتطلع من النافذة كأن الدرب بجديد عليه، يتطلع إليه في تركيز عالي ليس من عادته، ليتطلع إليه يونس في تعجب، لكنه لم يعقب بحرف، بل مد كفه ليفتح الإذاعة، لعلها تخفف بعض من شرود ذاك التائه، على صوت المذياع، لتصدح ليلي مراد متغنية:
يا مسافر، وناسي هواك..
ريداك والنبي ريداك..

كررها يونس بصوت شجي مع الأغنية، متطلعا نحو راضي، الذي انتبه مع الكلمات كأنها رسالة ما، بعثت له على لسان تلك التي تركها خلفه بالقاهرة.
هتف به يونس مازحا: إيه! مش هترد على ليلي ولا إيه!؟ ريداك والنبي ريداك..
هتف راضي متعجبا: ليلي مين!؟
هتف يونس في غيظ: ليلي مراد اللي فتها وراك يا خفيف.
هتف به راضي مشيحا بناظريه نحو النافذة من جديد: والله أنت فايج وواخدني سلاوتك، انا تعبان، جدامنا كَتير!؟

تنهد يونس مؤكدا: لاه، خلاص أها، خطوتين ونكون فنچع الحناوي.
وصمت يونس ولم ينبس بحرف بعدها، حتى انحرفت العربة، لتدخل لذاك الطريق الترابي الطويل، ومنه لدار الحناوي مباشرة.
اطلق يونس بوق العربة، مرتين، حتى ظهرت سماحة على البوابة الخشبية، فتحتها على مصرعيها، لتدخل العربة، حتى يصفها يونس بالكاد لتقصير المسافة على راضي قدر الاستطاعة.

تطلع يونس نحو سماحة في محبة ظاهرة لا يمكن أن تخطئها عين لبيب، لكنه تدارك الأمر هاتفا في لهجة حاول أن يجعلها عادية: إيه الأخبار يا سماحة!؟ كله تمام!
هتفت سماحة بصوتها المزيف: كله تمام يا يونس بيه!؟ زي ما طلبت بالظبط.
تطلع راضي لسماحة من البعد، لبرهة قبل أن يبعد ناظريه عنها، ويونس يفتح باب السيارة، مسندا إياه، توجع راضي، وهو يحاول الخروج من العربة حتى استقام،.

سنده يونس لعدة خطوات، حتى وصولا للدرج المفضي للدور العلوي، فهتف به راضي: أنت موديني على فين!؟ ما أجعد تحت!
هتف به يونس: لاه، تحت مبجاش ينفع، هبجى افهمك بعدين، مكانا فوج، تعالى.
حاول راضي الصعود، لكنه لم يقدر، ما دفع يونس لينحني حاملا إياه بين ذراعيه، ما دفع راضي ليتطلع إليه متعجبا: أنت بتعمل ايه يا مخبل! أني تجيل عليك.
هتف يونس به: لا تجيل ولا حاچة، دول كلهم كام سلمة ماهماش چبل يعني هطلعه.

وتطلع يونس نحو راضي مازحا، وهو يصعد به الدرج في هوادة: واتمختري يا حلوة يا زينة، يا وردة من وسط چنينة.
أمسك راضي ضحكاته، هاتفا بيونس: هتبطل ولا انزل ويتفتح الچرح، وتبجى أنت السبب.
لم يعر يونس كلام راضي التفاتا، وهو يصل لقمة الدرج المفضية للداخل، مستطردا، وهو يقلد أحد الأفلام الكوميدية: ده أنتِ هتموتي الليلة دي.
ضربه راضي على كتفه، هاتفا به في حنق: نزلني والله أنت عيل ماسخ.

قهقه يونس، بعد أن وضعه على أحد المقاعد الوثيرة، هاتفا به: ليه بس كده يا بو الروض، هو كده أخرة خدمة أستاذ راضي لوية بوز، يا ساتر، أني عارف بتحب فيه إيه ده، والنعمة نعمة نفسها حلوة.
هتف راضي منزعجا: يونس، بكفاياك.
هتف يونس مؤكدا: خلاص يا عم، هو أنا جلت إيه يعني!؟

هم راضي بالحديث، لكن سماحة وصلت حاملة صينية الطعام، التي أعدتها الخالة سعيدة على شرف وصول راضي، تنبه يونس لوجودها، فاندفع نحوها حاملا عنها الصينية التي همت بالدخول، لوضعها جانبا، لكن يونس منعها، هاتفا بها: هات يا سماحة، كتر خيرك على كده، أنزل چهز لنا الشاي.
هزت سماحة رأسها في طاعة، لا تعرف لما يحاول أن يصرفها عن التواجد بالأعلى في ظل وجود أخيه.
هتف راضي ما أن رحلت سماحة: مين ده يا يونس!

هتف يونس مهمها: دي حكاية العمر كله يا واد أبوي.
هتف به راضي متعجبا: أنت بتكلم روحك، يا بني بجولك مين سماحة ده!؟ أني مسمعتش بيه جبل كده!؟
هتف يونس مفسرا: بص، سماحة ده حكاية كبيرة جوي، هحكيهالك بعدين، ما إحنا مبجالناش إلا الحكاوي، بس دلوجت، لازما تاكل وتتغذى كويس.

رفع الغطاء عن صينية الطعام الشهية مؤكدا: بجولك إيه!؟ أكل خالة سعيدة، أم سماحة، إيه بجى حاچة كده مفتخرة، هتجومك ترمح رمح، وتبرطع كيف الحمار الحصاوي.
هتف به راضي ممتعضا: حمار حصاوي! متشكرين يا مؤدب.

قهقه يونس، وهو يمد كفه في شهية نحو الطعام، مقربا الصينية من راضي، حتى يستطيع مد كفه، متناولا الطعام في شهية فعلية، كانت غائبة عنه منذ أيام، ليبتسم يونس، وهو يدرك ذلك، متمنيا له الشفاء العاجل، حتى يستطيع أن يواجه سماحة بكل ما يرغب دون مداربة، وانهاء تيه قلبه الذي عانى كثيرا بدروب العشق، حتى اهتدى أخيرا لشط هواها، و أرسى مركب فؤاده.

قفزت ربى في سعادة ما أن استطاعت أن تفوز بهذه الدمية الرقيقة، لتتسع ابتسامة شعيل لسعادتها، متطلعا نحو حُسن، متسائلا: مش عايزة تلعبي!؟
أكدت حُسن باسمة في حياء: لا، مليش فالألعاب والكلام ده، كفاية ربى تلعب لينا إحنا الأتنين.
همس شعيل، الذي كان يتطلع لربى مؤكدا: ربى فتاة بالعشرين، لكن قلبها قلب طفلة ما تخطت العاشرة.

همست حُسن باسمة في حسرة: يا بختها، ده رزق كبير إن قلب الواحد منا يفضل قلب طفل، لا يكره ولا يحقد ولا..
هتف شعيل متحسرا بدوره: ولا ينجهر بالحب والفقد.
نكست رأسها صامتة، فوجيعة قلبه كانت جلية اللحظة أمام ناظري كفيف، وما كان عليها أن تقف مكتوفة الأيدى، أمام وجع بهذا القدر، فهتفت مستفسرة: تقصد رهف!

تطلع شعيل نحوها في هدوء، كان يدرك أنها بالتأكيد قد سمعت عن حكايته ورهف وما كان، سواء من أمه، أو حتى من ربى التي لا تحمل للدنيا هما هناك.

هز رأسه مؤكدا في صدق: نعم، رهف لم تكن فقط حبيبة، كانت عمر كامل، بحلوه ومره، عرفتها من كانت بنت الخامسة عشرة، ومن اللحظة اللي وقعت عيني عليها، قلبي تعلق فيها، كأني لقيت توأم الروح اللي عم يحكي عنه الشعرا والكتاب بحكاياتهم، قصتي برهف، قصة عمرها يزيد عن الخمسة عشر عاما كاملة، كلها ذكريات في مجملها رائعة، كيف أنسى كل هدا واعطيه ظهري! هاد منطقي!؟

أكدت حُسن في هدوء: لا طبعا، محدش قال تنسى ولا تحذف اجمل ذكريات عمرك، بس محدش يرضى إنك تموت وراها.
تنبه لكلمات حُسن، فتطلع لها في حنق، لتهتف به مؤكدة: إيه!؟ مستغرب إني صريحة معاك! أيوه اللي بتعمله ده ملوش إلا مسمى واحد بس، إنك خايف.
هتف ممتعضا: خايف! شو هاد، من شو راح اخاف أنا!

أكدت حُسن هاتفة في ثبات: خايف قلبك يتفتح من تاني، خايف تحب تاني، خايف من الفقد تاني، عشان كده قافل على نفسك، وقاعد تبكي على أطلال حبك وذكرياته اللي كانت.
تطلع نحوها في صدمة، وكأنها عرت حقيقة مشاعره، التي كان يخفيها حتى عن نفسه، هكذا بكل سهولة، ما دفعه ليهتف مناديا ربى في حنق: ربى، ياللاه خلصنا، بدنا نروح.
هتفت ربى التي اقتربت منهما، هاتفة في اعتراض: ليش لنروح هلا، لسه بكير، ما..

قاطعها شعيل حانقا: خلاص خلصنا، بكفي تصرفات متل الأطفال، امتى راح تكبري!
تطلعت ربى نحوه في صدمة، ماذا فعلت لتستحق كل هذا التقريع!
لمعت دموع الحرج بعيونها، وهمست في هدوء قاتل: حاضر، راح صير كبيرة من شان أرضيك يا حضرة السلطان.

واندفعت نحو موضع السيارة، تطلعت حُسن نحو شعيل في أسى، فقد صب جام غضبه على رأس المسكينة، التي ما اقترفت إثما من الأساس، وتركته يقف وحيدا، تتبع ربى للسيارة، وهو لا يعرف ما عليه فعله، سوى ذاك الشعور بالذنب الذي يكتنفه اللحظة، وصل السيارة بدوره، ووقعت نظراته على ربى، التي كانت تجلس بالمقعد الخلفي، وهي التي كانت تتشاجر من أجل الجلوس بالمقعد جواره، عيونها دامعة، تنظر طوال الطريق من النافذة، صامتة تماما على غير عادتها الثرثارة التي كان يملها أحيانا، ويستحسنها أوقاتا أخرى.

مد كفه، وشغل بعض الموسيقى، أخذ يقلب من هنا وهناك، حتى أتى بإحدى الأغاني خاصة، وبدأ في تشغيلها، كان يعلم أن ربى تحب هذه الأغنية، كانت تقريبا المفضلة لها، والتي كانت تطلبها دوما ما أن تكون معه بالسيارة لأي غرض، لا يدرك أنها ما كانت لتفعل إلا رغبة في توصيل رسالة قلبها العاشق، لقلبه الأصم عن نداءات حبها الصاخبة، لكن لا حياة لمن تنادي، وها هو اللحظة، يزيد الطين بلة، وينكأ جراح قلبها الحية، والتي لن تندمل أبدا، إلا بوصل قلبه.

تطلع نحو صورتها بالمرآة، لعلها قد هدأت قليلا، وخفت نوبة بكائها، لكنها على العكس، قد زاد سيل دمعها على خديها، وكلمات أغنيتها الأثيرة، تتكرر مؤكدة:
أتنفسك مثل الهوا..
وأحتاجك لجرحي دوا..
مادمت أنا وأنت سوا..
من دنيتي ماريد شي..
أخذني من دنيا الأنام..
خليني في حضنك أنام..
دقات قلبي لك كلام..
يحكي لك الشوق اللي بي..

هتفت فريدة مستفسرة: معقول يا طنط كل ده لا حس ولا خبر! هو فيه إيه!؟
هتفت تسبيح باكية: هموت من خوفي عليها يا فريدة، طب بس أعرف أي حاچة، أو حد يطمني يجول فين!؟ أو يمكن حازم عارف ومش راضي يجول!؟ والله ما عارفة يا بتي، إيه في!؟
هتفت فريدة مطمئنة: بإذن الله خير يا طنط، طالما لسه مفيش أخبار، يبقى أكيد خير، والله بدور هترجع زي الفل.

تحشرج صوتها بكلماتها الأخيرة، فرفيقة عمرها غائبة لا يعلم أحدهم لها موضعا، بكت كثيرا في وحدتها على بعادها، لكنها تدعي الثبات أمام الأخرين، أغلقت الهاتف مع زوجة خالها، عندما تناهى لها محياه.

قابلته في الرواق المفضي إلى مكتبها، كأنه كان بانتظارها، ابتسمت في هدوء، متطلعة نحوه، وما أن وصلت موضعه، حتى أومأت له في ترحاب، وهي تفتح باب مكتبها، لتدخل داعية إياه ليلحق بها، هاتفة: اتفضل يا باشمهندس! أنت كنت مستنيني ليه!؟ فيه حاجة!
أكد سامر متعجبا: هو لازم يبقى فيه حاجة عشان اجي أشوفك! كنت فاكر إننا بقينا أصحاب!
هتفت فريدة متعجبة: أصحاب!؟ قصدك زمايل، معارف، مش صحاب!

هتف سامر باسما: يمكن خاني التعبير، بس أي صلة بكِ تسعدني مهما كان مسماها، أو وصفها.
ارتبكت لهذا اللطف، كانت هجومية في حديثها، هي تعرف، وتعمدت ذلك، لكن طريقته في امتصاص توترها، واحتواء شدتها التي ما هي إلا غلاف حماية من الأساس، يجعله رغما عنها، مفضل بشكل كبير، ما دفعها لتشير للمقعد المقابل لمكتبها، ليجلس في امتنان.
هتف يفتح باب حديث كعادته: شفتي اللي حصل فالمناقصة امبارح!

هزت رأسها نافية، ليستطرد هاتفا في حماس: شركة نزار الغمري خسرت المناقصة اللي بتكسبها كل سنة، لدرجة إن باقي الشركات بقوا عارفين إنها بتاعتهم، ومكنش حد بيقدم لها.
تنبهت فريدة، فقد استطاع جذب انتباهها، لكنها أظهرت الكثير من الثبات كعادتها، وهي تنهض لصنع بعض القهوة، من أجلهما، هاتفة في نبرة عادية: وايه المشكلة لما شركة تخسر مناقصة، بتحصل عادي.

هتف سامر في حماس: لا طبعا، المناقصة دي قايم عليها شغل شركة الغمري لسنة قدام، يعني الموضوع فيه خسارة، وخسارة كبيرة.
مد كفه يتناول منها كوب القهوة مستطردا في تعجب: المدهش بقى، مش فالمكسب أو الخسارة، اللي يلفت النظر، إن في كذا شركة صغيرة دخلوا المناقصة بعرض مشترك، بس عشان بخدوها من شركة الغمري، ليه، وعشان إيه! محدش عارف، بس شكله مزعل الناس كلها.

هتف سامر بكلماته الأخيرة، بنبرة ذات مغزى، ما دفعها لتهتف في هدوء، متجاهلة إدراكها لما يرمي إليه: ربنا يسهل للجميع، جدي ربنا بديله الصحة دايما يقولي..
وتنحنحت تحاول تقليد صوت جدها ولهجته الصعيدية: السوج عامل كيف البحر، غدار، سواعي موچه عالي، وسواعي تانية، موچه مطاوع ومهاود المراكبي.
تطلع لها سامر في دهشة، وهتف حين انتهت في مزاح: إيه ده! بتتكلمي صعيدي حلو قوي، قولي تاني كده!؟ أعد من فضلكِ.

قهقهت فريدة رغما عنها، هاتفة به: أعد إيه!؟ هي وصلة أم كلثوم هغنيها، وبعدين عاجبك الكلام الصعيدي بتاع جدي، تعالى اسمعه بنفسك.
تطلع لها سامر متعجبا: إزاي!؟
هتفت فريدة مؤكدة: جدي عازمك النهاردة تشرب معاه الشاي، لما عرف إنك من عيلة العشري، أصر على بابا إنه يعزمك فالبيت، ولو كنت طلعت على حمزة بيه على طول قبل ما تجيلي، كان زمانك عارف، ومش مستغرب كده.

هز سامر رأسه موافقا على حديثها، وقد اتسعت ابتسامته في سعادة، لا يعرف لها سببا إلا إنه يزاد اقترابا من محيطها الحميم.

رآها أخيرا، تجلس لغرفة القراءة، بعد أن حبست حالها ليلتين داخل حجرتها، لم تخرج منها إلا لماما، ما دفعه ليتبعها إلى هناك، همس بالتحية في هدوء، وجلس قبالتها، تلك المبعثرة المشاعر في حضرتك، المرتبكة حد توقف النبض بشرايينها، وهو جالس هناك يتطلع إليها بهذا الشكل الذي ما عاهدته، انتفض كل ما فيها، وعاصم يسألها دون مواربة: إيه اللي حصل فالچامعة يا زهرة!؟

هزت رأسها نافية أن يكون هناك ما حدث من الأساس، مؤكدة ذلك في نبرة مرتجفة، أكدت عكس ما تدعيه: هيكون إيه!؟ محصلش حاجة!
هتف من جديد مؤكدا: الچامعة طول عمرها مكانك المفضل، بعد أوضة الجراية دي، ليه كنت زعلانة جوي كده، لما كلمتك، إيه في!؟ حد ضايجك جولي!
اضطربت ولم تجب، ليزيد من حصارها هامسا في نبرة أشد قهرا على نفسه من ذبحه بسكين ثالم: افتكرتي محمد الله يرحمه!؟

زاد اصطرابها اضعافا، ولم تنطق حرفا، ليتها تنطق، ليتها تقول نعم، أو حتى تنفي ذلك ولو كذبا و تهدي بعضا من حنقه، وتسكن بعض من نيران غيرته المستعرة اللحظة بحشاه، لكن صمتها القاتل ذاك، يذبحه من الشريان إلى الشريان، ولا عزاء له إلا أنه عاشق لها مهما لاقى منها، ومن صمتها وسكونها وضعفها، هو عاشقها وما بيده حيلة إلا أن يكون عاشق وكفى.

تنهد وما وعى إلا وهو ينهض من موضعه، ينحني مسندا جسده كله على مشط قدمه، وهمس بها بلهجة حازمة: بصي لي وجولي إيه في!؟ والله لأهد الدنيا على راس اللي زعلك، بس أعرف هو مين.

ما كان لها بعد كلماته تلك، إلا أن ترفع رأسها، متطلعة إليه بعيونها الدامعة عشقا وقهرا، مؤكدة وهي تتشبث بنظرات عينيه الحانية، لا ترغب في أن تطلقها، كغريق يتمسك بقشة النجاة، هامسة: شوية كلام غلس يا عاصم، لمجرد أن الناس شافتني لابسة ملون حتى ولو ألوان غامقة مش أسود، على محمد الله يرحمه، وحاسة إن حلم التعيين فالجامعة راح ومش قادرة اجمع كل اللي فاتني والامتحانات خلاص، وفوق ده كله، زعل بابا وماما عليا، وانا مش عارفة اعمل لهم حاجة إلا إني أبين إني كويسة، لكن الحقيقة إن الدنيا كلها مكركبة، أنا تعبانة قوي يا عاصم، أنا..

لم ترد بكلمة، بل بشهقات متتالية، جعلته يتطلع إليها، يود لو يجذبها بين ذراعيه، يخبئها عن العالم، يدثرها في أمان بعيد عن سطوة أوجاعها على قلبها المرهف.

همس بصوت متحشرج، كانت المرة الأولى تماما الذي يتناهى لمسامعها، من حنجرة عاصم الرخيمة، مؤكدا على تأثره: بصي يا بت عمي، أنتِ مين!؟ أنتِ زهرة ماچد عاصم الهواري، أنتِ فحد ذاتك حاچة كَبيرة جوي، لا هينجص منها كلمة سمعتها من واحد معدوم الأدب، ولا هيزيدها منصب دكتورة فالچامعة شيء، أنتِ زهرة وكفاية جوي، وعيالي يا زهرة!

هزت رأسها متفهمة، وقد برقت عيناها لكلماته الداعمة، هم بأن يمد كفه، ليمسح عن خديها دمعها، كما كان يفعل بها صغارا، لكنه تنبه أنهما ما عادا أطفالا، وأن زمن الطفولة قد ولى بغير رجعة، وأن قيود البالغين قد فرضت على كليهما، ما دفعه ليعيد كفه قسرا لجانبه من جديد، يطيب بخاطرها المكسور، وقد كادت أن تفوز بلمسة من الحبيب، قد تطيب الروح المجروحة بعدها.

ما أن دخل منتصر إلى ذاك البهو الذي يتخذه سعفان مستقرا له، حتى هتف به يستدعيه في أريحية: الباشا حجنا، ما تنورنا يا عريس، ولا النص الحلو واخدك مننا!؟
ارتفعت ضحكات منتصر مؤكدا: ولا ألف ولا مليون يا عمنا، مفيش أجدع من صحبة الرجال، بس أهي شوية تفاريح كده.
قهقه سعفان، رابتا على كتف منتصر الذي كان قد جلس جواره مؤكدا: حقك يا باشا، بس نشوف شغلنا بقى!

أكد منتصر متلهفا: عنينا للشغل، وصحابه، خير! شكل الموضوع فيه عملية جديدة عن قريب، صح!؟ ولا أنا شمشت غلط!؟
ارتفعت ضحكات سعفان من جديد: لا، مظبوط، المناخير الميري مخيبتش يا باشا.
هتف منتصر معترضا، عند ذكر عمله السابق: طب ليه السيرة دي ع المسا يا معلم، ربنا يجعل كلامنا على صحابنا البعدا خفيف عليهم.
ارتفعت ضحكات سعفان مؤكدا: على رأيك، هي دي سيرة برضو تتجاب وإحنا بنتكلم على عملية مكن زي اللي جاية دي.

هتف منتصر في لهفة: شوقتني يا معلم، إيه!؟ ما ترسيني معاك ع الليلة!
أكد سعفان في ثبات: كله جاي لك على نار هادية، بس أصبر بس لما اضبط المواضيع، وأنت فيها، ده أنت أساسها كمان.
هتف منتصر مكبرا: أيوه بقى ع الكلام اللي يوزن النافوخ، والنعمة أنت مفيش منك يا معلم سعفان، انجزنا بس فالحوار، لحسن الواحد بقاله شوية حلوين قاعد كده ووخم، مالوش إلا الأكل والنسوان.

نهض منتصر مغادرا، ليستبقيه سعفان معترضا، مع دخول نغم للبهو متجملة، وعلى الرغم من ذلك، لم تلفت نظر منتظر لوهلة، هاتفا: الله، ما كنا حلوين وقاعدين مع بعض!؟ على فين العزم يا باشا!
هتف منتصر مازحا: مش لسه بقولك شوفلنا شغلانة، بدل الحريم!؟
قهقه سعفان عندما علم بوجهة منتصر، التي لم تكن إلا صوب غرفته المشتركة مع بدور، مؤكدا: حقك يا باشا، عيش ايامك عيش لياليك، وليك مني زفة لحد اوضتك من البت نغم.

امتعضت نغم، التي دفعها سعفان هاتفا في أمر: قومي يا بت زفي الباشا لحد أوضته، زفة إيه بقى، متتوصيش.
هتفت نغم في حنق: ما خلاص بقى يا معلم! هي صورة!؟ داخل أوضته هنزفه، خارج منها هنزفه، أنا مش عارفة والنعمة على إيه!
قهقه سعفان هاتفا: والنعمة صدق نزار أباني، لغيرة النسوان فعل الخنجر(ي)..
قهقه منتصر متسائلا: ألا إيه الخنجر(ي) ده يا معلم!؟

أكد سعفان وهو يسحب أحد أنفاس نارجيلته في عمق: ده أخو الواد الفنجري اللي بيقف زي الثور بره ع البوابة.
انفجر منتصر مقهقها، هاتفا: باين أن الصنف عالي قوي يا معلم!؟
رفع سعفان ابهامه، مؤكدا على كلام منتصر، الذي هتف به متسائلا في مزاح: اسمه ايه يا معلم!؟
أكد سعفان في مرح: ألبسلي الشفتشي، بس يا واد اختشي.
قهقه منتصر، ملوحا قبل مغادرته: أحلى مسا، ع الناس الكويسة.
لوح سعفان هاتفا في مزاح: بنسوار، اورڤوار.

قهقه منتصر من جديد، وهو يتجه لغرفته، التي فتح بابها بمفتاحه الذي يحتفظ به بجيب سترته، يتطلع نحو موضع الفراش، متوقعا أنها تحتله كالعادة، لكنه كان شاغرا منها، دخل مغلقا الباب خلفه، ليستمع صوت داخل الحمام، فتذكر أنه قد حلق ذقنه في الصباح، تاركا ماكينة الحلاقة، على الرف الموجود فوق الحوض، ما دفعه ليهرول في اتجاه الحمام، يطرق بابه في عجالة عدة مرات متتالية، ليرتفع صوت بدور من الداخل معترضا: إيه! مش خارجة.

تنهد في راحة، وهتف من الخارج مازحا: براحتكِ ع الأخر، بس لو مخرجتيش في خلال ٣ ثواني، هدخل اقتحم الحمام، وقد أعذر من أنذر، هااا، هبدأ العد، واحد، اثنين، ثلا..
لم يكمل العد، حتى انفرج باب الحمام عن محياها الشاحب، الذي زلزل كيانه، هاتفا وهو بموضعه: أنتِ كويسة!؟
لم تجبه، أو حتى تطلعت نحو ذاك الذي يربكها، سائرة نحو الفراش، لتتدثر بغطائه، ليسألها من جديد: أنتِ تمام!

لترتاح من إلحاحه، هزت رأسها مؤكدة أنها بخير، ليتنهد في راحة، قبل أن ينهض متوجها نحو الحمام، غاب فيه لدقائق قبل أن يخرج، وقد بدل ملابسه لملابس النوم، متجها نحو تلك الأريكة الجانبية، متمددا يوليها ظهره، تاركا اغلاق النور من عدمه، من اختيارها، اتخذت قرارها ومدت كفها تغلق ضوء الأباحورة الموضوعة جانبا، ليسود الظلام، تاركا كلاهما، يموت شوقا لصاحبه، ويموت قهرا من أجل مشاعره المتطرفة تلك.

دخلت في هدوء للمكتب، حتى تنتقي إحدى الروايات التي قد تساعدها ولو قليلا على السهر حتى يتسنى لها متابعة الحالة التي جاءت منذ ساعة، ويبدو أن الأمر قد يطول معها، ولن تضع طفلها قبل الفجر بأي حال من الأحوال.

تطلعت نحو الأرفف في تيه، فقد كان هو من ينتقي لها دوما الروايات، تذكرت كيف اختارت يوم أن قدمت إلى هنا في بداية عملها كتاب عن البستنة وأصول الزراعة، معتقدة أنه رواية شيقة، جذبته من الرف في غمرة اضطرابها في حضرته، وكادت أن تولى هاربة من أمامه، فكم كانت أيامها تنأى عن الوجود معه في مكان واحد، فلم اللحظة تفتقد محياه حد الوجع لهذه الدرجة!

دمعت عيناها حتى غشتها الدموع عن رؤية الكتب أو قراءة اسمائها، ما جعلها تنهض نفسها في صلابة، كانت طبع اصيل فيها، وبدأت في التطلع نحو اسماء الروايات، فوقع ناظرها على رواية قصة حب غصت من جديد، بدمع كبرياء كانت تحاول وأده، اختارت أخيرا رواية كانت قد رأت زهرة تقرأها منذ مدة قصيرة، وتعشمت أن تثير إعجابها، ضمت الرواية لصدرها، وكادت أن تغادر، لكنها سارت بلا وعي نحو غرفته الخاصة الملحقة بالمكتب، مدت كفها لتفتح الضوء، ليطالعها البيانو الخاص به، القابع هناك وحيدا، يفتقد صاحبه مثلها تماما، تقدمت نحوه، ورفعت غطاء الاصابع البيضاء، لامستها في حرص، كأنها تلامس أصابعه هو، ذاك الغائب معدوم العذر، الحاضر حد الوجيعة، المتنازع فيه، قلبها وعقلها، ما يدفعها للجنون، هي الممزقة بينهما، المنزوعة الإرادة حد الخضوع لهوى ما كان لها أن تسكين له، هذا الحد.

تأوهت في كبرياء كاد أن يقتلها، ودمعاتها تتساقط في رقة، تعانق آثار لمساته على أصابع آلته الناطقة بمكنون قلبه، تخبرها بما فعله الغياب، تعزف لحنا مختلفا تماما، عن ألحانه، لحن يحمل عنوان، التيه عشقا.

أغلقت غطاء المفاتيح، تحاول أن تنهي وصلة الوجيعة تلك، وهي تخرج من الغرفة، تطفئ ضوئها خلفها، متجهة لخارج المكتب في اتجاه الاستراحة، التي دخلتها، تتمدد على فراشها في أريحية، وقد بدأت تقرأ أولى صفحات روايتها، التي جذبتها بالفعل نحو أحداثها، لا تعي لذاك المتربص، الذي بدأ يتسلل لها من تحت أعقاب بابها، يقترب منها في حذر بالغ، حتى لا تتنبه وهي غارقة في القراءة، والخطر المحدق المطل من تلك العيون المشقوقة، يقترب منها.

تسللت تلك الحية، زاحفة على أحد أعمدة الفراش، باحثة عن الدفء تحت غطائها.
ارتفعت صرختها، لتشق عنان السماء، وقد أدركت حين رأت الحية تحت غطائها، أنها هالكة لا محالة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة