قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس والعشرون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس والعشرون

تسلل ليرى من الذي يقبع اللحظة داخل الاستراحة، تاركا ذاك الضوء فيها مسرجا، وما أن تطلع بناظريه داخل الحجرة، حيث يأتي الضوء، حتى طالع محياها الذي اشتاقه حد اللانهاية، كان عليه أن يستدير مغادرا موضعه، فليس من اللائق أبدا استراق النظر بهذا الشكل المخزي نحو الداخل في غفلة منها، لكنه انتفض ما أن هم بالرحيل مبتعدا، عندما علت صرخاتها، لم يدري بنفسه إلا وهو يندفع في اتجاه الاستراحة دافعا بابها في قوة، مهرولا نحو الحجرة التي تمكث بها، وما أن خطى عتباتها حتى أبصر تلك الحية تتسلل من فراش نوارة، وكأنما افزعتها صرخاتها، فولت هاربة.

بشكل لا إرادي، اندفع نحوها مذعورا، وخاصة وهي تضم كاحلها بهذا الشكل، إذن فالأمر لم يمض بسلام.
ولم يشعر إلا وهو يحملها مسرعا نحو الخارج، ومنه حتى داخل الدار، التي صعد درجاتها في عجالة، وهي بين ذراعيه شبه فاقدة للوعي، هاتفا بها في اضطراب، يحثها على البقاء واعية: نوارة، نوارة، خليكي معايا، فوقي متناميش.

دفع باب حجرته، يمددها على فراشه، مندفعا يحضر الإسعافات الممكنة، هبط الدرج مندفعا نحو المطبخ، جاذبا بعض قطع الثلج من المبرد، وعاد كالمجنون نحو غرفته، جلس أسفل أقدامها، وما زال يهتف باسمها في لهفة، لا يعلم ما إذا كان ذاك الثعبان الذي لدغها ساما أم لا، لكنه لن يدع ذلك للصدفة، ربط ما فوق مكان اللدغة بقليل، ومسد على موضع اللدغة بقطع الثلج لقلل من سريان السم بالدم، ونهض مندفعا من جديد، في اتجاه السيارة التي لحسن الحظ كانت موجودة بالقرب حين وصل، ليندفع بها نحو الوحدة الطبيبة لإحضار المصل لدغات الأفاعي والعقارب، الذي أصر على إحضاره للوحدة عند تجهيزها، لأى طارئ، والحمد لله أنه فعل.

ما أن اندفع لداخل الوحدة، حتى استوقفته إحدى الممرضات لكنه لم يتوقف، ما دفعها لتهرول خلفه، تخبره أن الحالة التي تتابعها الدكتورة نوارة على وشك الوضع، وهم يبحثون عنها ولا يجدوها بالاستراحة، ما دفعه ليهتف متسائلا: المريضة حالتها إيه!؟ أكدت الممرضة: تمام يا رائف بيه، ودكتورة نوارة جالت إن وضعها طبيعي، والولادة طبيعية بإذن الله.
هتف في حزم: اتولي الحالة، لحد ما أرچع لك، سمعاني.

هزت الممرضة رأسها في طاعة، وهو يبحث كالممسوس، داخل خزينة الدواء، وما أن وجد مبتغاه، حتى اندفع تاركا إياها، لخارج الوحدة نحو الدار من جديد، صعد الدرج، وحضر المصل، ومنه لموضع نوارة، أعطاها المصل، وجذب على جسدها الغطاء، متطلعا نحوها في شوق قاهر، لم يكن يدرك أنها ملكت عليه الروح والفؤاد، إلا عندما ابتعد عنها كل هذه الفترة، كان يخشى رؤيتها، فهو يعلم أنها ستطالب بالكثير من التفسيرات، ويرغب في رؤياها حد المعاناة، تناقض رهيب يمزق ثباته، يحرمه راحة البال.

نزع نفسه من أمام محياها المستكين ذاك، مندفعا من جديد للوحدة، لينهي ما بدأته من أمر الحالة التي تنتظره هناك، والتي ما أن يسر لها الله وضعها، حتى عاد من جديد لنوارة، دخل الغرفة، واضعا كفه على جبينها، يتأكد أن حرارتها مستقرة، ليجذب أحد المقاعد التي كانت بالقرب، جالسا بالقرب من فراشها، يتمنى أن تمر الساعات القادمة على خير، وليكن ما يكون بعدها.

رنت حُسن على ربى، تطمئن عليها بعد ما حدث من شعيل، الذي وصل البيت مندفعا للداخل في هرولة، جعلت أمه تسأل حُسن متعجبة، عن حاله، لتخبرها حُسن بما حدث، قبل أن تدق عليها اللحظة بعد دخولها حجرتها، لتطيب خاطرها.
ردت ربى بعد طول انتظار، هامسة بصوت يحمل اثر البكاء جليا: نعم حسن، إيش في!؟
هتفت حُسن متنهدة في تعاطف: أنتِ لسه بتعيطي يا ربى! عشان خاطري كفاية بقى، أنا حاسة بالذنب على اللي حصل.

هتفت ربى في هدوء: ما تحملي نفسك أي ذنب، هاد ذنبي أنا وذنب محبتي ل إله، لك ايش أنا سويت، من شان يعمل في هيك.
هتفت حُسن لتهدئها، بعد أن صارت كلماتها الأخيرة ثائرة بشكل كبير: قلت لك يا ربى أنتِ معملتيش حاجة، أنا اللي عملت، أنا اللي الظاهر أخترت التوقيت الغلط، ودست على جرحه القديم، كنت فاكرة إني بعالج، اتاريني زودت الطين بلة.

تنبهت ربى وهي تمسح دمعها: مو فاهمة عليكِ! شو قصدك بچرحه القديم وانك كنت بتعالچيه!
هتفت حُسن متنهدة في ضيق: واجهته يا ربى، قلت له فوشه إنه خايف، عشان كده بيستخبى ورا مشاعر الفقد لرهف، وعايش فيها لحد دلوقت.
همست ربى متعجبة: خايف!؟ من شو ممكن يخاف!؟
هتفت حسن: أهو قالي نفس إجابتك دي، وقالها وهو متنرفز ومش عاجبه كلامي، سبحان الله لايقين على بعض فعلا.

قالت حُسن كلمتها الأخيرة، في نبرة ساخرة، ما دفع ربى لتهمس في قلة حيلة، وبنبرة طفولية: عم تسخري مني حُسن، الله يسامحك!
هتفت حُسن تفسر لها: لا والله، بس فعلا هو قالي كده، ولما جاوبته، قامت الدنيا.
هتفت ربى متسائلة: ليش إيه قولتي من شان تقوم الدنيا وتطلع شيطانينه!؟

هتفت حُسن: قلت له إنه بيداري ورا مشاعر زعله على رهف الله يرحمها، عشان خايف إنه يحب من تاني، ويعيش الفقد من تاني، فقال خليني فالحال اللي أعرفها احسن من تجربة اللي معرفهوش.
هتفت ربى مصدومة: يا ويلي، قولتيله هيك، هالحين أنا مو مستعجبة من رد فعله، لك هو معذور بهيك ردة فعل لكان.
هتفت حُسن في حنق: لا مش معذور، يطلع ليه زعله عليكِ!؟ أنتِ إيه ذنبك! أنا كنت السبب في زعله، مخرجش قرفه ليه عليا!؟
اشمعني أنتِ!

همست ربى هائمة: بلكي عارف إني راح أقدر حاله، وما راح ازعل ولا أكبر القصة، شوية بكا ودراما، وخلاص، وبيرجع شعيل حبيب الروح.
أخرجت ربى تنهيدة شوق، جعلت حُسن تصرخ فيها حانقة: لا كده مش هيرجع شعيل حبيب الروح، هتفضل ربى ملطشة الاستاذ شعيل، اللي بيفرغ فوق راسها قرفه، لازم يبقى لك وقفة، إذا كنتِ عايزاه يحس بكِ، ويقدر قربك منه، وتبقي غالية عليه.

همت ربى بالرد، فإذا بها يأتيها رنين أخر، يبلغها أن هناك من يتصل، تطلعت لشاشة الهاتف، لتصرخ في حُسن في اضطراب: حُسن، ألحقي، شعيل عم يتصل!؟ شو سوي! شو سوي!؟، هااا، راح رد عليه!
هتفت بها حُسن محذرة: اوعي تردي، اوعي، خليه كده، عارفة لو رديتي، هيصالحك بكلمتين ملهمش لازمة، وأنت طبعا هتصالحيه، وخلصت، لا، خلي عندك مبدأ، وخليه يعرف إن زعلك صعب، عشان ميكررهاش.
تنهدت ربى، هامسة: خلاص، وقف رن.

هتفت حُسن: شوفتي، مش مكلف خاطره يستني لحد أخر رنة، كرامته وجعته إنه رن من الأساس، هو عنده كرامة، وأنتِ عندك إيه، زبادي خلاط!؟
سألت ربى: شو، زبادي خلاط!؟
هتفت حُسن تفسر لها ضاحكة: معلش اتقغلت شوية، ده يا ستي مشروب عندنا فمصر، هبقى اعملهولك، بس بقولك، اوعي اعرف انك رديتي عليه، لحد ما أقولك كده تمام، وشعيل استوى، اطفي عليه ليشيط.

قهقت ربى هاتفة: والله هاد ما وصفة حب أبدا، هادي وصفة للانتصار في شى معركة حربية.
هتفت حُسن مازحة: مدقيش يا ستي، أهي كلها وصفات.
قهقت ربى من جديد، ليصل لحُسن على جوالها، اشعار بكالمة على أحد التطبيقات، لنتأكد أنها نعمة، فهتفت سريعا بربى: بقولك يا ربى، مضطرة اقفل دلوقتي، في مكالمة جيالي من مصر.
هتفت ربى متسائلة في تخابث: ماشي لكان بدك اسكر، من لقى أحبابه، نسي أصحابه، سلميلي علبهن، باي.

أغلقت ربى، لتلحق حُسن، تتصل بنعمة، التي ردت في سرعة: حُسن، شفتي يا حُسن، جايلي عريس وبابا وجدي موافقين عليه.
همت حُسن بالرد عليها، لكن تلك الطرقات على باب نعمة، والتي أذنت لصاحبها بالدخول، لينفرج بايها عن محياه، وقد كان متلهفا منذ زمن لمثل هذا الإتصال، كان بالأحرى يترقبه دوما، وها قد جاء، ولن يجعل هذه الفرصة تضيع عليه، كما فعل فالمرة الماضية، وندم على فعلته، التي ظل يتعذب بعدها شوقا لسماع صوتها.

دخل نادر، متطلعا لنعمة في براءة مصطنعة، متسائلا في تعجب: أنتِ بتكلمي حد!؟ دي حُسن!
أكدت نعمة: أيوه حُسن، تسلم عليها!؟
أكد نادر: أه، اديهالي.
سلمته الهاتف، وجاءها هتاف أمها، فترك الغرفة ملبية.

كان الحوار الدائر يصل لمسامع حُسن، ولا تعلم كيف استطاعت قراءة رسائل اللهفة في صوت نادر بهذا الوضوح، ما جعل قلبها يرفرف بين جنبات صدرها في سعادة، جعلت الأحرف تهرب من لسانها، عندما هتف مرحبا: السلام عليكم، إزيك يا حُسن!
استعادت صوتها أخيرا هاتفة: الحمد لله يا باشمهندس، أخبارك!؟
أكد نادر في شوق: تمام، إحنا مش هنشوفك ولا إيه!؟

هتفت حسن، ونبضات قلبها تتصاعد تكاد تصيبها بالاغماء: أه أكيد جاية، عشان الامتحانات بإذن الله.
هتف نادر باسما: أو عشان خطوبة نعمة، أيهما أقرب!
هتفت حُسن: المهم هي توافق.
هتف نادر متعجبا: ومتوافقش ليه!؟ شخص كويس ومناسب، ولا أنتِ إيه رأيك!
هتفت حُسن مؤكدة: رأيي إنها تبقى متقبلاه، وراضية بيه، عشان هي اللي هتعيش معاه.
هتف نادر متسائلا في تخابث: قصدك تبقى بتحبه!

اضطربت حُسن هامسة بأحرف ينقصها الثبات بعض الشيء: أه، ليه لأ!؟
هتف نادر مبتسما: على فكرة يا حُسن، أنت نسيتي معايا حاجة مهمة قوي.
صمتت حُسن متعجبة، وقد اتخذ الحوار منحى عجيب يخصهما، بعد أن كان الحوار ينصب على نعمة وعريسها المنتظر، وأخيرا همست في ارتباك: حاجة إيه المهمة اللي ممكن أكون نستها معاك يا باشمهندس!؟
هتف نادر في ثبات: قلبك، أقصد سلسلتك اللي على شكل مصحف، فكراها!؟

كاد أن يسقط الهاتف من يدها، وهو يخرج لها عقدها القديم، الذي فقدته بعد وفاة والداها، وقلبت عليه البيت رأسا على عقب ولم تجده، ليكون هناك بحوزته، وهي لا تدري، تراه فتح ضلفتيه، ورأي صورته متربعة هناك، بجوار صورتها!
كادت أن تبكي، وهي تراه يؤرجح العقد أمامها على الشاشة، هامسا بنبرة لم تسمعها منه من قبل أبدا: ارجعي بقى يا حُسن، عشان..

لم يكمل كلامه، فقد اقترب صوت نعمة، التي كانت تحادث أمها، فأدرك أنها على وشك الوصول للحجرة، ما جعله يخفي عقدها بجيب سترته، مسلما الهاتف لنعمة، بعد أن ألقى عليها التحية في عجالة، مندفعا لخارج الغرفة، نتبعه نظرات نعمة المتعجبة، والتي سألت حُسن في فضول: هو نادر ماله يا حُسن!؟ طالع يجري كده ليه!؟

لم تكن حُسن هنا من الأساس لتجيبها، كانت بعالم أخر من التيه، يشملها العجب من رأسها حتى أخمص قدميها، هل ما حدث منذ قليل كان واقعا!؟ أم كان دربا من خيال!؟ مجرد رغبة اختلقها عقلها وحولها لقصة يرضي بها ذاك الوهم الجميل بقربه ذات يوم، والذي ينمو داخلها كما نما حبه من قبل وما زال يستشري بكل كيانها كمرض عضال لا شفاء منه!؟

طرقات على باب الحجرة جعلته ينتفض متحسسا سلاحه الذي لا يفارقه، وتنبهت هي أيضا لكنها لم تعقب، وهو يجيب على الطارق في حنق: مين!؟
هتف أحد الرجال من خلف الباب: المعلم سعفان عايزك يا باشا.
تنهد متتصر، ماسحا وجهه بباطن كفه، يحاول أن يستفيق بعد ليلة مقلقة، كمثيلاتها السابقات، اللاتي لم يذق فيهن طعم النوم الهانئ، منذ وطأت هذه المذعورة المدعية النعاس، عتبات تلك الحجرة، هاتفا: قوله جاي حالا.

نهض على عجالة، نحو الحمام، محاولا قدر استطاعته، تجاهل محياها الرقيق المسجى بإحضان فراشه دونه، لحظات وخرج من الغرفة، لتسمع صوت استدارة المفتاح بالباب، فعلمت أنه اغلق عليها باب الحجرة كعادته.
تنحنح منتصر وهو يدخل على البهو الذي احتله سعفان، هاتفا في قلق: صباح الخير، إيه يا معلم!؟ باين الموضوع مستعجل بالقوي!

أكد سعفان: صباح الفل، العملية اللي قلت لك عليها وجبت، تعالى أقعد جنبي هنا عشان افطمك على كل حاجة، لأن الليلة كلها هاتبقى فحجرك.
هتف منتصر: في حجري إزاي!؟
هم سعفان بالشرح، لكن نغم دخلت مقاطعة: أنا رايحة بقى يا معلم.
هتف سعفان متعجبا: على فين العزم!؟
تعجبت نغم متطلعة نحوه: أنت نسيت ولا إيه يا معلم!؟ ما أنا قايلة لك إمبارح، إني رايحة اشتري الحاجات اللي نقصاني، وبقالي فترة عيزاهم، وانت قلتلي روحي.

هتف سعفان متنبها: ايوه، صح، طب روحي بس متتأخريش.
أكدت نغم: عيوني ما معلم، مسافة السكة، هروح مع الواد سيد وأرجع على طول.
هز سعفان رأسه متفهما، مشيحا بيده، حتى ينهي الحديث معها حتى يعود لحديثه مع منتصر، الذي تطلعت نغم نحوه، هاتفة في دلال: وأنت مش محتاج حاجة يا باشا، آومر، حتى ولو للبرنسبسة اللي جوه، اللي شكلها مطولة معانا.

هتف بها منتصر، متجاهلا حديثها الأخير، الذي هتفت به في حق بدور، مؤكدا: أيوه يا نغم، يا ريت شوية هدوم بيت بقى على ذوقك، عشان كفاياها بقى خدت من حاجتك كتير.
امتعضت نغم هاتفة: ماشي يا باشا، وماله، كله عشان خاطرك.
مد منتصر لها يده، بحفنة من النقود، تكفي وتفيض، ما جعلها تبتسم أخيرا، ليهتف بها سعفان في حنق: ما تخلصي بقى يا بت، عايزين نشتغل.
هتفت نغم: من عنايا، أديني ماشية أهو.

ما أن تأكد سعفان أن نغم رحلت مبتعدة، حتى عاد لحديثه مع منتصر، هاتفا: الراجل اللي جي النهاردة، من أهم الناس اللي هنتعامل معاهم، ويمكن يفتح لنا سكك كتيرة، مكناش نقدر نطولها، الراجل ده، محدش يعرفه، بس كونه إنه يجي لحد هنا، ده..
قاطعه منتصر هاتفا: أنت مش قليل يا معلم، ده أنت المعلم سعفان النادي على سن ورمح، يجي طبعا ميجيش ليه! وبعدين هو عارف إن محدش هيقضي مصلحته إلا أنت وإلا مكنش جه لحد عندك.

هتف به سعفان: أنت صح، بس الموضوع كبير، وأنا مش عايزه يضيع من إيدي، وبقالي فترة بعس على حاجة جديدة، وما صدقت، عايزك بقى تبقى معايا، عشان يعرف إن الداخلية فجيبي، ويطمن إن الدنيا معايا حلاوة.
أكد منتصر، هاتفا: طبعا يا معلم، معاك وفضهرك، هو جاي أمتى!؟
أكد سعفان: جاي النهاردة، جهز نفسك بقى.
نهض منتصر، هاتفا في تأكيد: ولا تشيل هم يا معلم، اعتبر الموضوع بقى فجيلك، وانت حاطط رجل على رجل، سبها ع الباشا.

هتف سعفان: أيوه بقى، هو ده اللي أنا مستنيه.

هتف منتصر ملوحا، وهو ينهض منصرفا، ليجهز نفسه، دخل منتصر لحجرته، تنبهت أنه يفتح الباب، فتدارت تحت الغطاء، استشعرت حركة يالحجرة، ما جعلها ترفع ناظريها ببطء تستطلع ما يحدث، لتجده واقفا جوار خزينة ملابسه، يبدل ملابسه، شهقت في صدمة وهو يبدلها في أريحية معتقدا أنها نائمة، فتنبهت أنها متيقظة، ابتسم بلا أى رد فعل، حتى أنهى إعداد نفسه، متجها نحو الباب، وهي ما زالت تستتر تحت الغطاء، توقف للحظة متطلعا نحوها، ما دفعها لا إراديا، لترفع ناظريها من خلف الغطاء في هوادة، لتتقابل نظراتهما، تنهد سائرا إليها، ما جعلها تشعر بالذعر، فتغطي وجهها من جديد، مال على الفراش، ساحبا الغطاء عن محياها، متطلعا نحو عمق عينيها، هامسا في نبرة حانية: اوعي تخافي يا بدور، طول ما منتصر معاك اوعي تخافي منه أبدا.

وهم بالابتعاد، فتشبثت لا إراديا بذراعه، لا تعلم كيف طاوعتها يدها، وتعلق به كفها بهذا الشكل، كأن قلبها هو من يستجديه البقاء، هامسة: أنت رايح فين!
ازدرد ريقه في صعوبة، وتصلب جسده للمستها، مديرا رأسه متطلعا نحوها، متجاهلا سؤالها، هاتفا: نغم جيالك دلوقتي، هتنزل تشتري حاجات، شوفي تحبي إيه، وقوليلها تجبهولك.

ارتخت كفها، مطلقة سراحه، ما دفعه ليتجه مهرولا نحو الباب، الذي ما أن وضع كفه على مقبضه، حتى تطلع لها من جديد، هامسا: لا إله إلا الله.
همست وقد وانسابت دموعها على خديها بلا وعي: سيدنا محمد رسول الله.
فتح الباب، مندفعا للخارج، لتتطلع له نغم التي ما أن أيقنت من ابتعاده، حتى دخلت الغرفة لبدور، لتقوم باللازم.

هتف يونس في حنق، عندما وجد سماحة بالأعلى، تتجه صوب راضي، الذي ناداها من أجل مساعدته في التحرك من فراشه، حتى الخارج، متسائلا: سماحة، ايه اللي چابك هنا فوج!
أكدت سماحة مشيرة لحجرة راضي: راضي بيه نادم علي، بعد ما حطيت لكم صينية الفطور، لچل ما اسنده عشان يخرج يُفطر.
أكد يونس زاجرا: طب ياللاه على تحت، ومتطلعش هنا تاني.

هتف راضي، الذي تحامل على نفسه، وقد أصبح قادرا على السير بشكل ثابت نوعا ما، متعجبا من أفعال يونس: إيه في يا يونس! وما تخليه يسندني.
هتف يونس: لاه، سماحة لشغل الحراسة بس، هم انزل على تحت يا سماحة، ومشفش وشك فوج تاني، واعي لحديتي.

هزت سماحة رأسها في تفهم، على الرغم من تعجبها مما يفعله يونس، ولم تجد له مبررا، ما دفع راضي يهتف في حنق: أني بجى اللي مش واعي للچنان اللي بتعمله ده!؟ هو ايه في يا واد أبوي! ماله الواد ده، جاعد تحاچي عليه كده ليه!؟ وكل ما انادم عليه، تفز من مطرحك كيف اللي لدعته عجربة، ده شوية ونجعدوه ونشتغلوا مطرحه، وكمان سايب له هو وأهله الدور التحتاني كله، فيه إيه يا يونس!؟

هتف راضي بتسأله الأخير في تخابث، مستطردا بنفس النبرة: والله لو واحدة من إخواته البنات كبيرة شوية لجلت إنك منظر عليها، لكن ده الكبيرة فيهم متاچيش ١٣ سنة، ولما طلعت هنا فمرة تچيب لنا معملتش اللي عملته لما لسماحة بيطلع! إيه يا واد أبوي، عجلك مين واخده!؟
هتف يونس في تيه: سماحة.
انتفض راضي متعجبا: واه، الچنان الرسمي بدأ، هو..
هتف يونس: هو مش راچل، ارتاح..

تطلع راضي نحوه يكاد يفقد عقله: مش راچل كيف يعني!؟ يا مثبت العجل والدين يا رب.
هتف يونس مؤكدا: سماحة بت، لابسة توب الرچال، عشان تاخد بالتار من ولاد نچم اللي هنا فالنچع، وتحمي روحها من غلاسة الخلج، هي وأخواتها الصغيرين وأمها.

تطلع نحو راضي، كأنه يحكي قصة اختلقها ليسخر منه كعادة يونس المرحة، لكن نبرة الصدق التي تقطر من كلماته اللحظة، أكدت على حقيقة ما يفوه به، ما دفع راضي ليهتف متطلعا نحوه: أنت بتتكلم چد يا يونس!؟
هز يونس رأسه في تأكيد، ولم ينبس بحرف، وأخيرا هتف: أنا كنت ناوي اجولها إني عارف تبجى مين وايه!؟ وكنت هطلب منها الچواز!؟ لولا موضوع تعبك.

هتف راضي: چواز يا يونس!؟ مش تعرف تبجى مين وبت مين، وايه اللي بينها وبين ولاد نچم دول!؟ مش يمكن وراها مصيبة تچرك وراها!؟
هتف يونس مؤكدا: أني عارفها وده يكفيني، كل ده ياچي بعدين، المهم عندي إنها تبجى من نصيبي، وأجدر احميها هي وأخواتها.
هتف راضي متعجبا: كد كده بتحبها يا يونس! من ميتا!؟ وراح فين حب سهام اللي فت الدنيا كلها وراك بسبب رفضها ليك!؟

ابتسم يونس مؤكدا: كنت غلطان، مكنش حب يا راضي، كان وهم اتعلجت بحباله الدايبة، لكن مع سماحة، الحكاية غير يا أخوي، حاچة واعرة جوي، وحلوة جوي، جصة ملهاشي وصف، إلا أني مش بحس بالراحة إلا وأني معاها، هي على شكلها وهيئتها اللي كيف الرچالة، بس خلتني عاشجها، كأنها أچمل واحدة نضرتها عيني.
هتف راضي متعجبا: أني كنت فاكر إنك عمرك ما هتعشج بعد سهام، جلت يونس جلبه اتعذب، وخلاص حرم، ومش ناويها تاني.

هتف يونس باسما: ومن ميتا العشج بالكيف والمزاج يا واد أبوي!؟ ده حاچة كده كيف الجضا المستعچل!؟ چاتك كيف ومنين!؟ والله ما تعرف، إلا يوم ما تلاجي نفسك غرجان ولا أنت داري، ولا كان فيه نية من أساسه.
واستطرد يونس مازحا: كيف ما لجيت حالك مع حبايبك بتوع مصر!؟
اضطرب راضي مؤكدا: أني ملجتش حالي مع حد!
هتف يونس مازحا من جديد متغنيا: ما دام تحب بتنكر ليه! ده اللي يحب يبان فعينيه.

زفر راضي في حنق، ليستكمل يونس في نبرة صادقة: عيش يا راضي، وخلي جلبك ياخد براحه، واوعى تضيع النعمة دي من يدك، البت ريداك صدجني، ومتعلجش خوفك على تچاربي، كل واحد فينا ليه حياته ودنيته وظروفه، وحالي ميشبهش حالك، . لا جلبي يشبه جلبك، عشان وچعي حتي لازما يبجى شبه وچعك، ربنا بعتني على هنا هربان من الوهم اللي كنت عايش فيه لچل ما أجابل العشج اللي بحج، وأنت ربنا بعتك على مصر عشان تلاجي جلبك معاها، كله متجدر يا واد أبوي بكفاياك مكابرة، العشج مبيتعاندش، ولو عاندته محدش هيخسر إلا أنت.

أنهى يونس كلامه، مادا كفه نحو الطعام، ليتتبه أن راضي شاردا بشكل كبير، ليهتف به يونس مازحا: ما خلاص يا عم روميو، مد يدك كل عشان تخف ونروحوا نخطبوهالك، جال مش بيحبها جال!؟
تطلع إليه راضي حانقا، ما دفع يونس لينهض واضعا لقمة بفم راضي هاتفا في مرح: كل ياللاه، عشان تغور من هنا، عايز اتچوز أني مش فاضي لك.
هتف راضي، وقد انفجر ضاحكا على أفعال يونس: طب إيه رأيك!؟ هاچي اعمل مشروعي هنا، واجعد على جلبك.

هتف به يونس في حنق: تصدج بايه!؟ أنت عيل غتت! وأني غلطان إني تاعب حالي عليك، والله لمن بكرة لهاخدك لأبوك وأمك يصطفلوا فيك، وعيش حياتك بجى يا عم الشهم، مع اخواتك هناك.
هتف راضي مقهقها: خلاص يا عم، بهزر معاك من نفسي، وعلى فكرة بجى، أني بجيت كويس، وخلاص همشي أروح نچع الصالح، أتوحشت أبويا وأمي وعايز اشوفهم، جبل ما اشوف هعمل إيه.
هتف يونس مستفسرا في تخابث: في إيه!

لم يعقب راضي، ولكن اتسعت ابتسامته في سعادة.

دخل سامر لبيت زكريا الهواري، استقبله حمزة في حفاوة، وكذا هدير التي أشادت بوالدته التي كانت تربطها بها علاقة زمالة، في فترة ما من فترات الدراسة، ليؤكد حمزة على انتظار زكريا له في حجرته بالأعلى، فكما يعرف الجميع، لا يستطيع زكريا مغادرة حجرته، بعد أن زادت مضاعفات العملية الجراحية التي أجراها بقدمه منذ زمن، ومع تقدم العمر، أثر ذلك على قدرته على السير بسهولة، أو صعود وهبوط أي درج، حاول حمزة إقناعه بنقل حجرته للطابق السفلي، حتى يتسنى له التحرك بالاسفل بشكل أكثر يسرا، ومشاركتهم بوجباتهم والخروج للحديقة، لكن زكريا رفض ذلك تماما، كان كل ما يرغبه هو البقاء بالشرفة، متطلعا للبحر، والاستماع إلى روائع أم كلثوم، وكفى.

عدة طرقات على باب الحجرة، ومن بعدها دفع حمزة الباب، مشيرا لسامر أن يتبعه حتى الشرفة، التي كانت بها فريدة، تجلس بالقرب من جدها في أريحية، تعجب لها سامر، فهي هنا، أكثر بساطة من هذه المرأة العملية، التي قابلها في نجع السليمانية وكذا في الشركة، ما جعل قلبه يخفق في اضطراب، ما أن هتف حمزة مؤكدا على وصل سامر: سامر العشري هنا يا عمي، اسبكم مع بعض وأستأذن أنا، لأن عندي مشوار مهم چدا، هحاول أنچزه بسرعة، متمشيش يا سامر إلا لما أرچع.

هز سامر رأسه في طاعة، ليلق حمزة التحية مغادرا.
تنبه زكربا، متطلعا نحو ذاك الشاب الباش الوجه، الذي يقف قبالته اللحظة، ما دفعه لا إراديا أن يبتسم بدوره، مشيرا له، لينضم لمجلسه وفريدة، هاتفا في ترحاب: اتفضل يا باشمهندس، حد هايتعزم فبيته!
اتسعت ابتسامة سامر، وهو يجلس قبالة زكريا وفريدة التي تجاوره في حميمية، هاتفا في نبرة هادئة: تسلم يا زكريا بيه!

هتف زكريا، هاتفا في اعتراض: لاه، بلاها بيه وباشا، يا تجول يا حاچ زكريا، يا إلا تجول يا چدي، ما أني فمجام چدك العشري الله يرحمه.
همس سامر في هدوء، يشاركه فريدة: الله يرحمه.
أمسكت فريدة طرف الحديث، هاتفة في تعجب: هو حضرتك كنت تعرف جد الباشمهندس سامر!؟
أكد زكريا، هاتفا في امتنان: يووه، اعرفه بس! ده أني اشتغلت معاه كمان، وليه عليا چمايل ياما.
هتف سامر: العفو يا زكريا، ..

قاطعه زكريا محذرا بناظريه، ما جعله يستطرد مبتسما: يا جدي.
هتف زكريا مؤكدا من جديد لفريدة: أنت تعرفي اللواء مختار السداوي الله يرحمه!
هتفت فريدة: أه يا جدي، سمعت عنه من حضرتك وبابا كتير، ده انتوا على طول تشكروا فيه وتترحموا عليه.
أكد زكريا مستحسنا: ايوه هو چدعة، سامر بجى يا ستي، اللواء مختار الله يرحمه يبجى چوز خالته.
هتفت فريدة متعجبة: بجد!

واسنطردت، في دهشة: الدنيا فعلا صغيرة يا جدي، تخيل مين بيشتغل مع خالة الباشمهندس سامر، في نجع السليمانية، نوارة بنت عمي مهران، بتشتغل مع الدكتورة سميحة العشري، بدربها هناك.
هتف زكريا مؤكدا: الدنيا صغيرة يا بتي.
وتطلع نحو سامر هامسا: هي دي خالتك الصغيرة، اللي سابت إسكندرية كلها، لما راحت تتدرب فالصعيد، وندهتها النداهة هناك، ومرچعتش من بعدها.

أكد سامر بإيماءة من رأسه، ما دفع فريدة لتهتف متسائلة: نداهة إيه اللي ندهتها!؟ ما الست كانت زي الفل لما شفتها هناك!؟
ابتسم سامر ولم يعقب، بيننا همس زكريا في محبة: نداهة العشج يا بتي.
اضطربت فريدة هامسة: إزاي مش فاهمة!؟
تنهد زكريا هاتفا: راحت هناك نچع السليمانية تدرب، داكتورة صغيرة والحماس واخدها، عشجت كبير السليمانية، ومن ساعتها مرچعتش إسكندرية تاني، أهلها مكنوش موافجين ع الچوازة دي.

هتفت فريدة متعجبة: ياه، معقول، مع إن دكتورة سميحة ميبنش عليها كده خالص، شكلها عملي قوي، وبتحب شغلها بشكل كبير جدا.
هتف سامر متعجبا: وده إيه دخله في إن قلبها يختار اللي يحبه، معتقدش في تعارض بين كونها إنسانة بتحب شغلها وعملية في التفكير، وبين قلبها واختياراته، أنا بحس الست اللي من نوع خالتي دي، لما بتحب، بيبقى حب العمر.
أكد زكريا: ايوه صدجت، ما يوجع إلا الشاطر.
هتف سامر مبتسما: بالظبط كده.

هتف زكريا في فريدة: وه يا فريدة، فين واچب الباشمهندس، يجول علينا إيه، بُخلة ولا إيه!؟
انتفضت فريدة تحضر كل ما لذ وطاب، تاركة سامر بصحبة جدها ليسامره،.

كان الجميع يجلس حول المائدة، كانت قبالته كما كان مكانها دوما، يرنو الطرف إليها، كل ما سنحت له الفرصة، يطمئن أنها تتناول طعامها، لا تتظاهر بهذا، كان الصمت يسود على غير العادة، كل واحد منهم، يشرد في عالمه، تأخذه خواطره وأفكاره لدنيا أخرى، بعيدا عن ذاك الجمع الذي يضمهم، قرر أن يحرك الماء الراكد، فهتف عاصم في لهجة تقريرية: فاكرين السفرية اللي كانت چياني من فترة!

اطلق تساؤله، الذي لم يكن برئ أبدا، يرغب في الاستمتاع بملاحظة رد فعلها، وقد أصبح تقاربهما الفترة الماضية، دافعا له ليدرك حقيقة ما وصلت إليه مشاعرها، وقد كان على حق، فما أن أطلق ذاك التساؤل المراوغ، حتى ارتجفت كف زهرة التي كانت تحمل ملعقتها، تحاول أن تظهر ذاك الثبات الوهمي، الذي لا تمتلك، ليستطرد وقد تأكد أنه جذب انتباه الجميع: معروض عليا سفرية تاني، وبمرتب أحسن، ومكان أحسن، إيه جولكم!؟

سعل عاصم الچد، هاتفا في حنق: مش كنا بجيناه الحديت ده يا عاصم، بلا سفر بلا غربة ملهاش عازة!
أكدت زهرة جدته: أيوه يا عاصم، بلاش يا حبيبي خليك معانا هنا.
هتفت أمه تسنيم معترضة: ايوه كلام چدك وستك صح، إيه عازته يعني! ولا إيه يا مهران، ما تجوله!
هتف مهران مؤكدا: دي حياته وهو حر فيها، يبني مستجبله زي ما يحب، ولو دي فعلا رغبته، أني مليش اجوله لاه.

هتف ماجد عمه معقبا: طبعا كلام أبوك صح يا عاصم، دي حياتك وأنت اللي تقرر، بس إيه لزمته يا حبيبي، وكل حاجة عندك هنا، ملوش لازمة الغربة.

كان الكل يدلو بدلوه، ويعطيه من نصائحه، لكن هو لم يتنبه لأي من كان إلاها، تلك التي تأسر القلب والروح، ولا يحيد عن محياها البصر، والتي تركت أدوات المائدة جانبا، تضم كفيها لبعضهما أسفل المائدة، تفركهما في اضطراب، وهي تستمع إلى هذه التفاصيل التي تعتصر صبرها من أجل احتمالها.

واستطرد ماجد في تخابث، وقد كان على علم أن عاصم يرغب في الزواج من زهرة، وطلبها بالفعل، لكن بعد ظهور محمد رحمه الله، فقرر أن يلعب نفس لعبة عاصم، وهو يقرر في نبرة ماكرة: طب حتى أجل قرارك، لحد ما تتخطب زهرة!
تنبه الجميع واشرأبت الأعناق نحو مجلسه، ليستكمل هاتفا: زهرة جالها عربس إمبارح! ولد إيه زي الفل، ظابط من ولاد زمايلي القدام، بس..

كان عاصم يستمع والنيران تغلي في عروقه غيرة وقهرا، لا، لن يدعها من جديد، لتكون ملكا لغيره، فلا عاش بعدها، تلك اللحظة التي يسمح فيها لمثل هذا أن يتكرر، لذا صرخ منتفضا، ليتطلع له الجمع في تعجب، وقد خرج عن طوره، وهدوءه المعتاد، زاعقا في تمرد: زهرة مش هتكون لغيري.
هلل عاصم الجد في سعادة: الله أكبر.

بينما اتسعت ابتسامة زهرة جدته، وانشرح ماجد الذي أيقن أن خطته قد نجحت في تحريك راكد عزمه، بينما نظر كل من مهران وتسنيم لبعضهما في تعجب، فقد كانت المرة الأولى التي يعلن فيها عاصم عن رغبته في الاقتران بابنة عمه، أما سجود فقد كانت تتابع المشهد في استمتاع تام، فقد كانت على علم خفي، بمشاعر عاصم تجاه زهرة، فقد سمعته ونوارة، الغائبة عن هذه اللحظة التاريخية تبيت في مقر عملها، يتحدثان عن هذا الأمر، واشتركت معها في تحريك مشاعر زهرة وإثارة غيرتها، في أثناء وجود فريدة بينهم.

الكل كانت عيونه مسلطة على عاصم، ومفاجأته، وما من أحد، تنبه لتلك التي تمور كبركان على وشك الانفجار، تظهر الهدوء القاتل على مقعدها، وبداخلها تثور المشاعر، وتتنازع الرغبات، حتى سألها أبوها في أريحية، مبتسما: أنتِ إيه رأيك يا زهرة!
وكان أوان انفجار البركان، وتناثر الحمم بكل موضع، وهي تصرخ بكل قهر العالم الذي يكتنفها اللحظة، لتظهر عكس ما تبطن، وهي تزعق عاليا: لااااا، عاصم لااااا، إلا عااااصم.

ظلت تكرر رفضها، تضع كفيها على وجهها، تهز رأسها في اعتراض تام، في رغبة لحجب عيونها عن ناظريه، التي اتسعت حدقتيهما عن أخرها، في صدمة لهذا الرفض العلني الجارح، الذي ما توقعه منها في اسوء كوابيسه، ما دفعه، بعد أن تسمر موضعه لبرهة، يحاول أن يستوعب ما يحدث، ان يهرول للخارج، ليسقط كرسيه محدثا دويا قويا مصاحبا لصرخاتها، التي اجتمع على أثرها والديها وزهرة الجدة لتهديئتها، بينما ساد الوجوم على وجهي مهران وتسنيم، والديه، وسجود أخته، التي نكست رأسها حزنا على حال أخيها، بينما تطلع عاصم الجد، نحو موضع اختفاء حفيده المجروح اللحظة، وقد أيقن، أن ذهابه الآن، قد يكون ذهاب بلا عودة.

اطمأنت أية أن جدتها تناولت دوائها، وخلدت للنوم في هدوء، لم تكن حالتها تدعو للتفاؤل، فلم تتحسن ولو حتى قليلا، رغم الاعتناء بعلاجها، وجلسات العلاج الطبيعي المواظبة عليها.
توجهت نحو حجرتها، وبدلت ملابسها، وخرجت في هدوء وبخطوات ثابتة نحو داره، كان عليها إنهاء هذا الأمر على أكمل وجه، حتى يعرف كل منهما موضعه من حياة الأخر.

توقفت بالقرب من السياج الذي لطالما شهد وقوفها مستترة خلف هذه الشجرة الضخمة تتطلع إليه في ترقب، وقلبها يخطو خطواته الأولى على درب عشقه، الذي يبدو أنها وصلت منتهاه اللحظة، وهي تعبر نحو باب الدار، لتطرقه في وجل، تعلم علم اليقين أن ما من أحد بالداخل إلا أمه، التي تركته وأبوه لإنهاء التحاليل والتقارير الطبية، قادمة إلى هنا لإعداد المكان لأجل عودتهما.

اتفرج الباب عن محيا ثريا، التي ارتفع حاجباها في تعجب، عندما طالعت أية على أعتاب دارها، بعد كل ما كان.
هتف أية متسائلة في حرج: ممكن ادخل!
أكدت ثريا بعد أن تنبهت لوقفهما بهذا الشكل: اه طبعا يا حبيبتي تعالي اتفضلي، بس مروان مش..
هتفت أية تقاطعها: أنا مش جاية لمروان يا طنط، أنا عارفة إنه مش هنا، أنا جاية لحضرتك.
تطلعت ثريا في تعجب لأية، متسائلة: خير يا أية!؟ هي چدتك كويسة!؟

هتفت أية: لا، لسه على حالها، بس الموضوع يخص مروان وعمليته.
هتفت ثريا وهي تشير لها لتجلس على أحد المقاعد هاتفة: مالها عملية مروان! وأنتِ أصلا تعرفي إزاي عن العملية دي!؟ ده محدش يعرف من..

أكدت أية بلا مواربة: أنا ومروان كنا على تواصل كل الفترة اللي فاتت دي يا طنط، وأنا عارفة إن مروان عايز يعمل العملية دي بسبب الكلام اللي سمعه من ستي، زي ما أنا عارفة إن العملية دي فيها خطورة على حياته، قوليله بلاش يا طنط، قوليله اللي زعلك كلامها ربنا انتقم لك منها، وبتدوق من نفس الكاس، وحالها يصعب ع الكافر، واللي أنت بتعمل ده كله عشان خاطرها، وعشان تبقى كامل جنبها، هي اللي مش كاملة.

عند هذه النقطة غصت أية بالقهر والدموع المجتمعة بمآقيها، لتمد ثريا لها يدا، تحمل كوبا من الماء، تناولته أية بكف مرتجف، رشفت منه بعضا، واضعة إياه على الطاولة قبالتها، ونظرات ثريا المشفقة تتبع كفها المرتجف، الذي وضعته بأحضان كفها الأخر، تضمهما لحجرها، وهي تستطرد مفسرة في نبرة حاولت أن تكسوها بالثبات، وقدر كبير من الشجاعة حتى تستطيع أن تخبرها بما تعتزم أعلامها به اللحظة، هاتفة: حاولي تقنعي مروان يا طنط إنه يرجع عن رأيه، أنا مش أية اللي هو متخيلها، أنا شكل حلو بس لكن روح خربانة، وجسم، جسم مشوه.

تطلعت نحوها ثريا في صدمة، ولم تعقب، ما دفع أية لتنهض في هدوء، تفتح سحاب ردائها، لتكشف عن جانب جسدها الأيسر كله، والذي علته الندوب والقروح، بطول الذراع، ممتد للكتف، نزولا للصدر، وحتى أخر جزء مكشوف لثريا.
لتؤكد أية هامسة: اللي حضرتك شيفاه ده، واخد جنب جسمي الشمال كله، لحد رجلي تحت، واللي برضو حاولت ستي تعالجه مع كذا جراح تجميل، وده أخر حاجة وصلولها.

وابتسمت في مرارة: يعني اللي أنا فيه ده بعد التجميل، هاترضي تجوزي إبنك لواحدة متنفعش ست، مفيش راجل هيستحمل يبص لجسم مراته وهو بالشكل ده، هاترضي! طب هو هيطيق!؟

نهضت ثريا في ثبات، وعلى وجهها ابتسامة هادئة، واقتربت من أية تسترها هامسة: لو على أمه، فهي راضية ومبسوطة كمان، كفاية إنه يبجى مرتاح معاكِ، أما موضوع هو يطيج دي فدي بتاعته هو مع إني عارفة إنها مش هاتفرج معاه، وافتكر إن أوانها فات جوي يا أية، لأن مروان بيحبك، ولا هيهمه حاچة من اللي جلتيها دي، ولا هتغير في قرار العملية، ولو كنتي فاكرة إن ده ممكن يغير يعني، يبجى لسه متعرفيش مروان.

ربتت ثريا على كتف أية في محبة، دافعة بها إلى الحمام أمرة في نبرة حانية: أدخلي بقى اغسلي وشك، عشان مروان على وصول.
انتفضت أية في اضطراب، هاتفة في أحرف متلعثمة: على وصول! يبقى لازم أمشي، أنا..
هتف مروان من خلفهما في نبرة مرحة: أنتِ إيه!
انتفضت أية في توتر، بينما قهقهت ثريا، منحنية تقبل مروان هاتفة به: حمد الله بالسلامة يا حبيبي، فين بابا!؟
هتف مروان مازحا: أيوه يا ثريا، كل يبحث عن ليلاه! بره روحيله.

هتفت ثريا مازحة: يعني اطرج من سكات، ماشي.
تطلعت ثريا نحو أية، التي كانت تقف في ارتباك، لا تقو على رفع ناظريها نحو مروان، رابتة على كتفها في حنو، قبل أن تتركهما تسير صوب الخارج، لتطمئن من سيد على اخر اخبار العملية، ليهتف مروان بأية التي كانت ما تزال على حالها المتبعثر في حضرته، هامسا: إزيك يا أية!

كانت عيونها ما تزل تنظر أرضا لا جراءة لديها لتتطلع صوبه، ما دفعه ليقترب بمقعده رافعا رأسه نحو وجهها المنكس متطلعا لعينيها الدامعة، هامسا في شوق: وحشتيني.
تطلعت نحوه، هامسة في أحرف ترتجف خجلا: وأنت كمان.
ثم تنبهت فجأة مؤكدة وهي تهم بالرحيل: أنا لازم أمشي، ميعاد الدوا بتاع ستي جه.
هتف مروان يستوقفها، متسائلا: كنتِ هنا ليه يا أية!؟

توقفت متسمرة موضعها، واستدارت تواجهه هاتفة: أسأل طنط ثريا، هتقولك كل حاجة يا مروان، يمكن اللي تقوله، يخليك تغير رأيك فحاجات كتير عايز تعملها.
واندفعت لخارج الدار، ألقت التحية على ثريا وسيد في عجالة، قبل أن تهرول لدارها، وقد أزاحت عن صدرها حمل كالجبال، قد يغير مجرى أمور كثيرة.

منذ عادوا من زيارة أهلها، وهو يستشعر اضطرابها، وانزوائها الدائم بحجرتها على غير العادة، تعجب من كونها تحاول تجنبه، فقد أعتقد أن تلك الزيارة، من شأنها التقريب بينهما أكثر، وخاصة وقد تنبه بنظراتها نحوه عبر المائدة عدة مرات، واهتمامها كذلك، بكل شاردة وواردة أثناء تلك الوليمة التي أقامها أبويها على شرفهما، لكن يبدو أنه كان مخطئا، وما كان كل ذلك إلا رغبة في إظهار مدى توافقهما، لجعل الجميع يدرك أنهما زوجين سعيدان، شعر بالضيق لذاك الخاطر، على الرغم من أنه صارح نفسه في شفافية، مؤكدا أنه يقوم بنفس الأمر تماما، أمام أهله بالأسفل، كلاهما يدعي عكس ما يشعر به، كلاهما يعيش في كذبة كبيرة تتغذى على ادعائهما سعادة مزيفة، غير موجودة من الأساس.

تنبه مرهف السمع، أنها خرجت من غرفتها في اتجاه المطبخ في مثل هذه الساعة، ربما هي جوعى، أو تشعر بحاجتها لمشروب ما يساعدها على النوم!، إذا ما كانت تشكو الأرق مثله!؟، هل هذا ممكن! ولما السبب يا ترى!
لم يتاح له الوقت للاستمرار في التساؤل، فقد انتزعه منها، صوت تأوها، وتلك الصرخة المكتومة التي جعلته ينتفض من فوره صوب المطبخ.

اندفع نحوها، حينما أدرك مجريات الأمر في لحظة، فقد أسقطت في لحظة غفلة، بعض من الماء الساخن على قدمها.

انحنى في عجالة، يفحص موضع الإصابة، دافعا طرف قميصها الحريري المثير، عن قدمها، كان الوضع ليس بخطير، ما دفعه لحملها في سرعة في اتجاه غرفة نومها، ليمددها على الفراش، مهرولا في اتجاه أحد الادراج، التي يحتفظ فيها ببعض الأدوية، مخرجا أحد المراهم المخصصة لعلاج الحروق، ليعود إليها في عجالة، جالسا أسفل قدميها، وقد بدأ في نشر المرهم، وهو في عالم أخر تماما، مأخوذا كليا بجسدها المرمري، الذي يتفحصه اللحظة، غير قادر على كبح جماح عينيه، لتحيد مبتعدة عن محياها.

أنهى عمله، وهو في تيه، لا يعلم أين يكون، همست سمية به في رجاء: سمير، في شوية ماية سخنة اتنطرت على دراعي.

وأشارت لموضع هناك، بالقرب من كتفها البض، أعاد فتح المرهم، ومد كفه مرتعشة ببعضه، ووضعه مكان ما أشارت، وعيونه معلقة بعيونها في حوار عاشق مسربل بعشقه حد اللامعقول، كانت نظراته رغبة، وكانت نظراتها دعوة، وما كان هو بقادر على رفض دعوة مثل هذه، ليقع المرهم من كفه، ماد إياه نحو خصرها، يقربها إليه في شوق طاغ، وهي تبسط كفيها على صدره، لا ترفض الدعوة دافعة، ولا تجذبه مقبلة، معتصرا إياها في هيام طاغ، وقد أسقط كل دفاعته، معلنا الاستسلام التام.

ترجلت في سرعة من تلك العربة، التي توقفت للحظة واحدة، قبل أن تندفع راحلة دونها، هرولت في اتجاه مدخل البناية، تحاول أن تتستر من بوابها، الذي كان يتطلع إليها وإلى مظهرها الغير مألوف، بتلك الملابس الغير معتادة على قاطني البناية، والتي جعلته يهتف بها في غضب يستوقفها، وهي تركض مندفعة نحو المصعد، لتستقله على عجل، قبل أن يلحق بها ويدرك هويتها.

وصلت في لحظة إلى الطابق المنشود، واندفعت مثل المجنونة، على الرغم من حذائها ذي الكعب العالي، نحو باب شقة تحفظه تفاصيله عن ظهر قلب، تدق عليه كالممسوسة التي تعتقد أن الشياطين في أثرها، حتى أن قاطنيه، أصابهم الذعر، لتأتي تسبيح من الداخل، تحاول أن تهرول قدر استطاعة قدمها، لتفتح الباب لذاك الطارق الأحمق، الذي يكاد يحطمه، وقبل أن يوقظ حازم، الذي لم يذق النوم للحظة منذ اختفاء ابنتهما، يسهر الليل بطوله في مقر عمله، على اتصال دائم بكل زملائه المكلفين بمتابعة حادث اختفاء بدور ابنته، والذي انتفض بالفعل، مانعا تسبيح من فتح الباب، أمرا إياها بالتستر، حتى إذا ما فتح الباب بغتة وهو يحمل سلاحه، سقطت أمامه هذه المرأة، التي نهضت في سرعة عجيبة، مندفعة نحو بهو الشقة، تتطلع نحوها في عدم تصديق، أنها هنا بين أركان هذا المنزل من جديد.

هتفت بها تسبيح، التي ظهرت اللحظة من موضعها، وهي تتطلع لملابسها الماجنة: أنتِ مين!؟
أزالت المرأة ذاك الشال الذي كان يغطي ملامحها، لتشهق تسبيح في صدمة، وكذا حازم، الذي اندفع يتلقفها ما بين ذراعيه وهي تهوى فاقدة الوعي، وعلى شفتيها رجاء واحد: بابا، إلحق منتصر.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة