قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر

تطلع نادر وراضي لذاك الرجل الغريب الذي وقف يتطلع نحو الفوضى في آسف ولا يعرف أي من الموجودين من يكون!؟ وكذلك من تكون هذه المرأة التي تحتضن حُسن اللحظة في محبة وخوف حقيقي!؟
هتف نادر مستفسرا في سخرية: الباشا مين بس عشان نبقى عارفين حضرتك سايح وتهت فالسكة ولا أيه!؟.
هتف راضي مستفسرا: إيوه أنت مين!؟ والمدام اللي معاك دي تبجى مين سعادتك!؟

هتفت المرأة دون أن تبعد حُسن عن أحضانها والتي لم يكن يعنيها من تكون بقدر ما استشعرت حاجتها لصدر تختبىء فيه من نظرات الجميع: أنا فايزة الدمياطي أخت سالم الله يرحمه..
تطلع خميس وناصر نحو بعضهما في شك إلا أن خميس هتف في تعجب: بس إزاي!؟ ده سالم كان قايل لنا إنك اتوفيتي فالبلد، وكان زعلان عليكِ قوي..

هتفت فايزة مؤكدة: صح، أنا كنت فنظر أخويا ميتة، بعد ما عصيته واتجوزت اللي أخترته، كان راجل عربي كبير فالسن عليا، لكن راجل محترم، حبني بجد وكان شاريني، وافقت، لكن سالم ربط موافقتي بعلاقتنا ببعض، لو وافقت يبقى هيعتبرني ميتة، وانسى إن كان ليا أخ اسمه سالم..

دمعت عينى فايزة وهي تضم حُسن لصدرها أكثر هاتفة: حاولت اتواصل معاه كتير بس كان بيصدني، حاولت اساعده لما عرفت بحالته المادية ومرضه، مكنش بيقبل ولا مليم، كان عنيد ودماغه ناشفة، ولما عرفت بوفاته من يومين، جيت جري عشان عارفة إن حسن مبقلهاش حد غيرنا..
هتف خميس متحسرا: لا حول ولا قوة إلا بالله، ليه بس كده يا سالم!؟، ع العموم حمد لله على سلامتك، ووالله حُسن كانت فعنينا، واللي حصل ده..

هتف نادر مقاطعا في حنق: اللي حصل ده عشان مكنتش بتسمع كلام حد، وكانت واقفة وسط الرجالة راس براس فالورشة فطمعتهم فيها..
هتف الرجل الغريب: يا سيدي مبقتش خلاص محتاجة لا لوقفة وسط رجالة ولا للورشة من أساسها والحمد لله..
هتف نادر حانقا مشيرا للرجل الغريب الذي كان مرافقا لفايزة: برضو معرفناش، الباشا يبقى مين!؟.
هتفت فايزة مجيبة نادر الذي كان يتطلع نحو الرجل بعدائية عجيبة: ده ابني، شعيل الساعدي..

هتف ناصر مرحبا: شرفتونا..
هموا بالرحيل تاركين حُسن مع عمتها وابنها العجيب ذاك إلا أن الشرطة وصلت، وتم التحفظ على كل من محروس وذاك الضخم الذي كان برفقته..
واُستدعي الجميع للقسم للإدلاء بأقواله..

اُغلق باب بيت حُسن مرة أخرى ولكنها اللحظة لم تكن وحيدة، بل كان معها عمتها فايزة التي ما سمعت بها من قبل إلا عند حديث المعلم خميس مؤكدا حقيقتها، فلم يأت أبوها على ذكرها إلا مرة واحدة، عندما سألته هل له إخوة أو أخوات!، فأجاب باقتصاب أن نعم، كانت له أخت تصغره وماتت، حتى أنه لم يذكر اسمها..

تطلعت نحو ابن عمتها شعيل الذي جلس على أقرب أريكة متطلعا حوله يتفرس المكان، فقد كان دخيلا بالفعل على موضع بكل هذه الفوضى وهو الحسن الطلة، المهندم الثياب، تفوح منه رائحة عطر غالي الثمن، ويبدو من هيئة ملابسه الحديثة الثمينة أنه من طبقة الأثرياء، تنبه لنظراتها فابتسم لها في أريحية ابتسامة محببة، واستشعرت للمرة الأولى روعة أن يكون للإنسان عائلة..

اصبحت مقابلته لها كل صباح طقس بالغ الروعة، فما أن تقترب العربة من مشارف نجع السليمانية حتى تجده يهبط التلة بأدهمه الذي يبرق جسده الأبنوسي تحت أشعة الشمس الوليدة صباحا، وما أن تترجل من سيارتها إلا ويترجل عن فرسه بدوره ملقيا التحية كما الآن جاعلا قلبها يخفق في اضطراب يزيدها حنقا، فلم تعتد بعد حقيقة أن قلبها قد أعلن تمرده على قراراتها الصارمة وضرب بكل قوانينها عرض الحائط، وبدأ ينبض بعشق ذاك الرجل العبوس الغامض الذي للعجب لا تعلم عنه شيئا، كانت دوما ما تعتقد أنها ستعرف كل كبيرة وصغيرة عن حياة من تفكر في الاقتران به، وأن المعرفة هي التي ستدفعها للاقتراب أو البعد، لكنها كانت واهمة تماما عندما قاست أمور القلب بقوانين المنطق والعقل، وخابت كل توقعاتها وخسرت كل رهاناتها، وأثبتت فشلها كل حساباتها..

تطلعت نحوه ترد تحيته الصباحية: صباح الخير يا رائف بيه..
هتف يعلمها: الدكتورة سميحة عايزاكِ ضروري..
ابتسمت نوارة متعجبة، فمن الطبيعي أنها ستتجه للوحدة حتى تلقاها ككل يوم فهتفت مؤكدة: ما أنا رايحة للوحدة أهو، وهشوف..
قاطعها رائف مؤكدا: لا، هي عايزاكِ فالبيت، الدكتورة مرحتش الوحدة النهاردة، ومش هتروح..
هتفت نوارة بنبرة قلقة متسائلة: هي الدكتورة سميحة بخير!؟، كويسة يعني!

أكد رائف مطمئنا: أه هي بخير متقلقيش، بس بلغتني أول ما أشوفك ابلغك إنها عايزاكِ..
اومأت نوارة بالموافقة وسارت جواره فقد أصبح طريقهما واحد، فكلاهما في سبيله للبيت..
ساد الصمت بينهما كالمعتاد لكن فجأة وبلا مقدمات صهل فرس لم يكن الأدهم فرسه بل فرس أخر قادم من طريق جانبي ترابي وضيق آثار الغبار وجعل رائف بلا وعي يجذب نوارة إليه رغبة في حمايتها من رعونة الفرس القادم نحوها..

صرخ رائف وهو ما يزل يحمي نوارة بكامل جسده: مفيش فايدة في چنانك يا مهرة..
قهقهت الفارسة التي كانت تعتلي صهوة تلك الفرسة الشهباء مؤكدة في نبرة مغناجة: ولا عمره هيكون فيه فايدة يا رائف..
ابتعد رائف مضطربا عن نوارة التي لم تكن أقل منه اضطرابا، واعتذر هامسا لكنها لم يكن لديها ما يكفي من القدرة لتستجمع أحرف ابجديتها لتنطق كلمة واحدة..

تطلعت نوارة نحو مهرة هذه، كانت فتاة من الواضح أنها تربت خارج نجع السليمانية، لهجتها وطريقة ملابسها توحي أنها ضيفة لا صاحبة مكان..
هتفت مهرة وهي تترجل من على فرستها مشيرة نحو نوارة: مش هتعرفني ولا أية يا رائف!؟

تعجبت نوارة استشعارها رغبة جامحة في جذب هذه الفتاة من شعرها الأشعث ذاك والمصفف على أخر صيحة لتلقمها بعض أوحال الترعة أو ربما بعض التبن حتى لا تنطق اسم رائف مجردا بلا ألقاب وبهذا الشكل المغوي!؟.
هتف رائف بلهجة رسمية: الدكتورة نوارة مهران، دكتورة الوحدة الصحية الچديدة..
همهمت مهرة في استحسان مصطنع هاتفة بخبث: دكتورة!؟، اممم، طب كويس إنك لقيت لك يا رائف حد..

اخرستها تلك النظرة النارية المطلة من عيني رائف الصقرية والتي تحولت اللحظة لصورة طبق الأصل من نظرات جده العجيب ذاك..
ساد الصمت للحظة قبل تهتف مهرة بسماجة وكأن شيئا لم يكن: تمام، أنا وعرفت الدكتورة تبقى مين!؟، مش هتعرفها عليا!.
تجاهل رائف طلبها ما دفعها لتتطلع نحو نوارة مادة كفها لتحية تعارف هاتفة: أنا بقى يا ستي، أبقى مهرة السمدوني، خطيبة رائف..

كانت كف نوارة في اتجاه كفها، توقفت لبرهة ثم دفعت به نحو كف مهرة من جديد في مهارة واحترافية متخذة الوضع الجليدي الذي كانت تتقنه، رغم أنين قلبها المترنح كالمذبوح بين ضلوعها، لذاك الخبر الذي لم يكن فالحسبان..
هتفت نوارة في لهجة رسمية: تشرفنا يا آنسة مهرة، وفرصة سعيدة..

واندفعت تاركة إياهما دون أن تلقي بنظرة نحوه، تهرول في سبيلها نحو البيت لموافاة الدكتورة سميحة لتعلم لما استدعتها على وجه السرعة، وما أدركت تلك النظرة التي تبعها بها رائف حتى اختفت، ولا تلك الابتسامة الغامضة التي ارتسمت على شفتيه..

كان يسير على الطريق المؤدي لنجع الحناوي متلهفا، لا يعلم ما الذي يدفعه بهذه القوة ليلحق بداره تاركا دار أبيه التي لم يستطع أن يمكث بها إلا ليلتين كان السهد رفيقه بهما، لقد احتلت صورتها مخيلته وما استطاع أحد مهما كان أن ينتزعها حتى خبر خطبة سهام على ابن عمته الشيخ مؤمن والذي للعجب عندما علم به لم يثير فيه أية مشاعر..

تنهد يونس في راحة لا يعرف من أين واتته، ومد كفه لمذياع العربة لتنبعث إحدى الأغنيات والتي كانت ويا لها من صدفة، هي نفسها التي كانت تتمايل عليها يوم أن اكتشف حقيقتها، وتبدت له صورتها من جديد على زجاج السيارة قبالته وغاب عن الدنيا، لكنه انتفض على صوت سباب ما يأتيه من الخارج فتنبه أنه كاد أن يصطدم بإحدى العربات المحملة بأحد المحاصيل، أشار بيده معتذرا وهتف موبخا نفسه: إيه!؟، مالك اتشندلت كده يا واد يا يونس!؟، اثبت اوماااال، وبعدين اوصل سليم وشوف هتعمل إيه، صح!؟

أكد لنفسه بصوت عال: صح الصح..
ابتسم في أريحية وقد استقر على التركيز فالقيادة محاولا إبعاد صورتها المغوية تلك عن مخيلته حتى وصل أخيرا..

ركن عربته بعيدا حتى لا يعلم من بالدار بوصوله وتسلل في هدوء محاولا الوصول لداخل الدر فهو يعلم أن سماحة ينتظر حضوره غدا وليس اليوم، كان يريد أن يراها من جديد بحقيقتها، وكأن مرة واحدة من العذاب لم تكفه وها هو يعيد الكرة!؟، لكن ما أن وصل لأعتاب الدار متحسسا موضع قدمه ملثما وجهه حتى وجد شيء ما صلب ملتصق بظهره صرخ صاحبه بصوت قوي متسائلا: مين أنت!؟.

انتفض يونس معلنا عن نفسه مؤكدا: أنا يونس يا فجري، والله فيوم لهجطع الخلف يا هتچيب أچلي..
انزلت سماحة سلاحها هاتفة بنبرة معتذرة: معلش يا بيه، مكنتش أعرف إنك راچع النهاردة، أنت جولت چاي بكرة..
هتف يونس متطلعا إلى سماحة بنظرات متفحصة: أچي وجت ما أچي، هستأذن وأنا داخل بيتي!؟.

واستمر يونس محدقا في سماحة التي تعجبت من نظراته، مدركة أنه ليس على طبيعته مطلقا والذي استطرد بنبرة خبيثة: ولا عاوزني استأذن يا سماحة!؟
هتفت سماحة مؤكدة: لاه العفو يا بيه، حضرتك جلتها، حد يستأذن وهو داخل بيته، وإحنا فالأول والأخر خدامين سعادتك.
شعر يونس بالضيق بعد كلماتها الأخيرة فهتف منهيا الحوار: خلاص محصلش حاچة، روح، ي، اجصد روح ياللاه حضرلي العشا لحسن أني چعان كني بجالي سنين مكلتش..

وما أن همت سماحة بالاستدارة مغادرة إلا وهتف بها يونس: ومتنساش، أعمل حسابك معايا، مش هاكل لحالي..
هزت سماحة رأسها موافقة: أمرك يا بيه..
رحلت سماحة تاركة إياه يتطلع نحو موضع غيابها وما أن تأكد من مغادرتها حتى قلد صوتها الخشن الذي تتصنعه وانفجر ضاحكا، متوعدا..

هتفت به وجيدة: طب روح أنت..
انتفض خفيرها مبتعدا تاركا إياها تغلي غضبا بعد كل ما أفضى به إليها..
دخلت أية إلى صحن الدار لتهتف بها وجيدة تستوقفها، ما دفع أية لتلتفت إليها تتجه نحو موضع جلوسها هاتفة: خير يا ستي! فيه حاچة!؟.
هتفت وجيدة وهي تمد لها كفها مطالبة: هاتي المحروج اللي فيدك ده..
اضطربت أية هاتفة: ليه يا ستي!؟، إيه في!؟.

انتفضت وجيدة من موضعها تنتزع الهاتف من كفها، حاولت أية الاعتراض لكن وجيدة استوقفتها بنظرة صقرية من عيونها نافذة النظرة والتي كانت ترعبها منذ صغرها، هذه النظرة التي ما كانت تستطيع معارضة صاحبتها أبدا، وظل الحال حتى اللحظة، ما جعلها تتوقف عن الاعتراض ووجيدة تعبث بمحتويات جوالها في عجالة حتى توقفت على أحد التطبيقات وبدأت في التفرس بتمعن واهتمام ما جعل أية تدرك أنها عثرت على رسائلها مع مروان، لم يكن بها شىء تخجل من اطلاع أي من كان عليها، لكن مع جدتها وجيدة الفكرة في حد ذاتها تستحق الحرق حية، وخاصة لو أدركت أن مروان هذا من الهوارية الذين تبغضهم بلا سبب واضح لها أو لمنتصر، الذي يصبو للاقتران بواحدة من بناتهم، لكن بالطبع قُبل طلبه بالرفض لتعنت جدتها..

انتهت وجيدة من تصفح رسائل الهاتف، رفعت ناظريها في اتجاه حفيدتها هاتفة في حنق تهز الهاتف بكفها أمام ناظري أية: إيه ده يا بت الأصول! مع مين الرسايل دي يا مرباية!.
تلعثمت الأحرف على لسان أية تحاول أن تفهمها أن الأمر مجرد زمالة لكن صوت وجيدة أرتفع مؤكدة: من هنا ورايح لا في مرواح ولا مچي للچامعة، هتترزي هنا چاري لحد ما واد خالك يرچع في اچازته الچاية ونكتبوا كتابكم، ونخلصوا منيه الموال الماسخ ده..

انتفضت أية معترضة: كتب كتاب مين!؟ أنا لا يمكن اتجوز منتصر..
هتفت بها وجيدة في حنق: أنتِ بتجولي إيه!؟، من ميتا بتكسريلي كلمة!
هتفت أية وقد بدأت مخزون الصبر لديها ينفد: العفو يا ستي، بس أنا مش هتجوز منتصر، أنا عارفة إنه عاوز يتجوز واحدة تانية، و
صرخت بها وجيدة مؤكدة: ولا تانية ولا تالتة، مفيش چواز من الهوارية ولو فيها موتي، ومفيش عروسة هتكون لمنتصر غيرك أنتِ، مين اللي هايرضى ياخدك بعد اللي..

صرخت فيها أية في ثورة: كفاية بجى، كفاية حرام عليكِ، هو أنا إيه، مش بت بتك!، بتعملي فيا كده ليه!؟، مش كفاية إن اللي حصلي وحصل لأبويا وأمي كان من تحت راسك..
رفعت وجيدة كفها لتسقط على جانب وجه أية محدثة دويا قويا هاتفة في ثورة عارمة: اخرسي، ما هو لازما تجولي كده، يا خلفة الشوم والندامة..

كانت أية تضع كفها موضع الصفعة على وجهها مصدومة مما تفعله بها جدتها، والتي استطردت مؤكدة في حزم: مفيش خروچ تاني لحد ما يرچع منتصر، والواد المشلول اللي تعرفيه ده تنسيه..
شهقت أية، لابد أن جدتها تضع ذاك الخفير جاسوسا عليها، فلا علم لأحد بهذا الأمر إلاه..
ابتسمت وجيدة في سخرية مؤكدة: إيه! كنتِ مفكراني نايمة على وداني ومش عارفة إيه اللي بيچرا!؟، والله ما يطولكم عيال الهوارية أبدا..

هتفت أية متوسلة تحاول تقبيل ظاهر كفها: لا يا ستي الله يخليكي إلا الچامعة، دي أخر سنة ليا، وأنا أوعدك، مش هكلمه تاني، ولا هكلم أي حد، بس سبيني أروح الچامعة..
هتفت بها وجيدة: بلا أخر سنة بلا يحزنون، غوري على فوج وملمحش طرف توبك تحت، غوري..
انفجرت أية باكية وهي تندفع للأعلى حيث غرفتها الشاهدة جدرانها وأركانها على معاناتها في هذه الدار..

رحل الجمع من أهل من بيت ماهر الهواري والذين قدموا في الأساس لخطبة سهام، أعطى لهم باسل ميعاد للرد بالقبول أو الرفض خلال ٣ أيام، لكن ما حدث بالجلسة هو ما جعل باسل يصرخ مؤنبا ولده سمير: أنت اتچننت رسمي، يعني إيه الناس چايين يخطبوا أختك تجوم فوسط الجاعدة تجولهم وأنا كمان طالب يد سمية بتكم!، هو ده ينفع يا واد الأصول!؟.

شهقت سندس، بينما كانت سهام تتسمع من خلف باب حجرتها لا قبل لها على مواجهة أبيها خجلا، لكنها طارت فرحا ما أن علمت برغبة مؤمن في التقدم لخطبتها، لكن اللحظة كان نصيبها من الصدمة مضاعفا، لا بسبب ما فعله سمير، لكن بسبب رغبة سمير من الأساس، هل يرغب بحق في الزواج من سمية!؟، ولما سمية بالتحديد!، هل يحبها! ستكون كارثة لو كان الأمر كذلك، فهي على علم أن قلب سمية معلق بعاصم، الذي لا يلق لوجودها بالا، تنبهت من خواطرها المتشابكة تلك على هتاف سمير مدافعا عن فعلته: إيه فيها يعني!؟، ما أنا جلت لهم إن هيكون لنا زيارة عنديهم نطلبوها بحج ربنا!؟.

صرخ باسل من جديد رغم محاولة سندس تهدئته بلا طائل: هو أختك لسه وافجت على ابنهم! أنت كده بتربط دي ب دي..
هتوافجوا عليا لبتكم، هنوافج على ولدكم لبتنا، طب كنت استنى نشوفوا موضوع أختك هيمشي كيف الأول، طب أفرض أختك رفضت، هيبجى إيه الحال بعد كلمتك عن بتهم!؟.
هتفت سندس مؤكدة: كلام أبوك مظبوط يا سمير، وبعدين كان لازم تشورنا الأول قبل ما تعمل كده..

هتف باسل حانقا: وده سبب تاني، لما تجوم جايل اللي جلته وأنا جاعد، كده بينت لهم إني عارف إنك هتعمل كده وإني موافجك..
هتفت سهام الجدة في حنق: طول عمره مچنون، والله جلت كده من بدري محدش صدجني..
لكنها تطلعت لسمير هاتفة بنبرة حانية وكأنها استشفت ما يكنه صدره: أنت بتحبها يا واد يا سمير!؟، أصل ميبجاش حد ملهوف اللهفة دي إلا لو كان عاشج وما صدج لجي طريج..

هتف سمير وقد شعر أن جدته قد مهدت له طريق اعترافه الذي ما كان قادرا على البوح به: ايوه يا ستي، عايزها من زمان، وحتى لو مؤمن مكنش اتجدم لسهام كنت هطلب يدها، بس اللي كان مأخرني إني عرفت من سهام إنها رفضت عرسان ياما عشان عايزة ع الأجل يبجالها سنة فالچامعة وتخلص، وأنا كنت مستني تخلص بس السنة دي واتجدم لها..

هنا ما عادت سهام قادرة على الاستماع أكثر، لقد أخبرته بهذا حقيقة، لكن لم يكن هذا هو السبب الحقيقي لرفض سمية للعرسان، بل الأمل الذي كان يحدوها في استيقاظ قلب عاصم من ثباته وإدراكه لمحبتها..
ماذا عليها أن تفعل!؟، هل تترك الأمور تجري كم قُدر لها!؟ أم عليها التدخل لإنقاذ قلب أخيها قبل أن يتورط مع فتاة قلبها مع غيره!؟.

تنهدت في اضطراب لا تعرف ما عليها فعله في هذه المعضلة!؟ والتي تضع رغبة قلبها في الاقتران بمؤمن في مقابل رغبة أخيها في الاقتران بسمية وقلبها الذي هو ملكا لرجل سواه..

اندفعت داخل حجرتها وأغلقت بابها بأحكام، حمدت ربها أن نوارة بعملها وزهرة ما تزل بالمشفى لتظل وحيدة تلعق جراح قلبها بعد أن سمعت خبر رغبته في خطبة سمية..
سمير الذي ظلت تحلم بمحبته لسنوات، الآن أصبح لغيرها، إنه لم يشعر بقلبها يوما، ولا استشعر محبتها له..
شهقت في وجع وهي تلقي بجسدها على فراشها، تحس بخنجر القهر يصل لسويداء القلب دون أن يكون لها القدرة على التأوه ألما..

نهضت من موضعها على الفراش والذي اشبعته بدموعها بللا لتدفع بضلفتي نافذتها تتطلع للخارج في محاولة لاستعادة السيطرة على انفعالها حتى لا يستشعر أحدهم وجيعتها، رغم أنها لم تكن استوعبت الأمر بعد، ولا تعلم متى ستستطيع تخطي هذا الأمر..
مدت كفها تضغط على زر تشغيل الموسيقى على هاتفها لتعاود البكاء من جديد ما أن وافقت الموسيقى أحزانها..

لكن لسوء الحظ وصلت نوارة ما دفعها لتمد كفها من جديد لتغلق الموسيقى حتى لا تسمع منها ذاك التقريع المعتاد، لكن على العكس هتفت بها نوارة في حسرة: ليه جفلتيها! دي حلوة يا سچود..
هتفت سجود تحاول أن تخفي دموعها: باين إنه كان عندك حج يا نوارة، كل الكلام ده فاضي ولا ليه لازمة، كله كلام فالهوا ممنوش فايدة..

تطلعت نوارة نحو أختها الصغري التي كانت تتنفس العشق وتعيش على أحداث قصصه وحكاويه، لكن اللحظة لم تكن سجود كما عهدتها، الأمر انقلب، باتت هي من تطلب موسيقى الهوى واغاني العشق وأختها الحالمة أصبحت تعافها..
تطلعت نحو سجود واستشعرت أن هناك سر خفي، لكنها لم تشأ أن تتطفل على مشاعرها فقط أحبت مشاركتها حزنها ذاك الذي يطل جليا من عيونها..

نهضت تتجه صوبها تتطلع إليها في نظرة قلقة لتتهرب سجود من عيونها المتفحصة لكن نوارة اقتربت ملتصقة بأختها تضمها لصدرها وتطوقها بذراعيها رغبة في حمايتها كما كانت تفعل دوما عندما كانتا صغيرتان..

خبأت سجود رأسها بأحضان نوارة وشهقت باكية لتزيد نوارة من اعتصارها بين ذراعيها، لم تشأ أن تسأل سجود عما تعانيه، فقد استنتجت أن هذا الوجع الذي يزلزلها قهرا، هو ذاك الوجع الذي هربت منه طويلا، تعجبت أنها استطاعت استنتاج الأمر بهذه السهولة، لكنها اعترفت لنفسها ساخرة، أوليست تلك الآلام التي تعانيها سجود هي ما تقر بوجعه بين ضلوعها، والذي ثار متمردا من قمقمه عندما أبصرت رائف مع خطيبته الحمقاء تلك!؟.

بلا هو، ذاك الوجع الذي من الواضح أن لا مفر لقلب من ملاحقته مهما حاول الهرب..

تساءل حمزة وهو يرتشف فنجال قهوته الصباحية على مائدة الإفطار التي جلست إليها وهي في حالة من الضعف والتخبط بعد ما حدث معها بالأمس: عملتي إيه في اچتماع امبارح!؟ سبع ولا ضبع!
أكدت متصنعة ابتسامة خرجت باهتة رغم عنها: سبع يا بابا متقلقش..
تساءل حمزة من جديد: امال إيه اللي كسر جزاز عربيتك كده!
شعرت باضطراب وأخبرته كاذبة: مش عارفة، هو مكسور!؟ طب كويس إن حضرتك شوفته..

أكد حمزة وهو يتناول بعض اللقيمات: ايوه شوفته من شوية وأنا بتمشى فالچنينة، رحت ناحية الجراچ، لجيتها على حالها..
لم تعقب فريدة، فهي على قدر ما تتذكر من أحداث البارحة أن نزار حملها عندما بدأت تفقد الوعي لسيارته تاركا سيارتها جانبا، من أعادها إلى هنا!؟.
لم يظهر إلا اسم واحد على لوحة العقل والمنطق، نزار..

همت بالنهوض لتتصل به لترى ما الذي حدث!؟ ومن هؤلاء الذين كانوا في اعقابها ورغبوا في خطفها!؟، إلا أن حمزة سعل في شدة غاصا برشفة من القهوة عندما وقعت نظراته على شيء ما معروض بالهاتف..
وهتف متطلعا لها في غضب: أنتِ جولتيلي جزاز العربية إنكسر إزاي!؟.

أيقنت من لهجة أبيها أنه أتاه خبر ما حدث بالأمس، ما جعلها تهتف في اضطراب: الصراحة يا بابا مكنتش عايزة اقولك واقلقك عليا، بس إمبارح فيه ناس هاجموني، كانوا عايزين يخطفوني، لكن نزار هو اللي لحقني ، كسروا إزاز العربية عشان يوصلوا لي لولا وصول نزار فالوقت المناسب..
هتف حمزة في ثورة: مين دول!؟ وإزاي يتچرأوا من الأساس!؟ هم ميعرفوش أنتِ بت مين!؟.

انتفضت هدير تحاول تهدئته رابتة على كتفه في اضطراب: إهدى يا حمزة، المهم إنها بخير، والحمد لله إن نزار كان موجود، محدش عارف إيه اللي كان ممكن يحصل لو مكنش موجود!
صرخ حمزة ثائرا: أه وسي نزار ده لما يكون عايز يلحجها بدل ما يچبها على بيت أبوها ياخدها على بيته!؟
شهقت هدير بينما اندفعت فريدة تؤكد رغم الصدمة التي اعترتها: بيت مين يا بابا!؟، محصلش..

دفع حمزة بهاتفه ملقيا إياه على المائدة قبالة فريدة لتندفع هدير بدورها تتطلع لشاشة الهاتف مع ابنتها التي أمسكت به بكف مرتعش، لتشهق مع هدير وهي تتطلع للصور التي تتابع أمام ناظريها توثق لحظات حمل نزار لها حتى عربته، ولحظات صعوده بها لبناية لم تكن البناية التي يقطن بها، كانت بناية بها طبيب على صلة وثيقة بنزار والذي استيقظت لتجد نفسها ممددة على سرير الكشف بعيادته، وكلاهما بالخارج في انتظار استفاقتها..

همت بذكر كل تلك التفاصيل لحمزة الذي عاود صراخه وهو يجوب الغرفة جيئة وذهابا ضاربا كفا بكف يشعر بأن خنجر من جمر القهر مغروز بخاصرته: أعمل إيه دلوجت!؟، الصور دي زمانها مع كل من هب ودب فاسكندرية، والناس مبيحللهاش إلا سيرة الفضايح، بس لو أعرف مين دول!؟.
وتطلع نحو فريدة التي قد بدأت في الانهيار وسالت دموعها على خديها في صمت متسائلا: أنتِ متعرفيش تدليني على أي حاچة تدلني عليهم!؟.

هزت رأسها نفيا: كانوا أربع رجالة، شبه البوديجاردز، مشفتش حد منهم قبل كده..
هتف حمزة مؤكدا: دول متسلطين، بس من مين!؟، إحنا عمرنا ما كان لينا عدوات مع حد، وماشيين بما يرضى الله..

شهقت فريدة وكذا هدير باكيتين ما دفع حمزة رغما عن ضغطه وثورته ليقترب منهما محتضنا، رابتا على كتف فريدة مؤكدا: أبوكِ فضهرك، وأنا عارف ربايتي، واللي هيجول فحجك كلمة هعرفه مجامه، بس دلوجت، مفيش نزول من البيت تاني لحد لما نعرفوا مين دول اللي جاصدينك..
هزت فريدة رأسها موافقة فلم يكن لها أن تعارض قرار أبيها، وعليها الانتظار حتى ترى ما قد يحدث فالأيام القادمة..

لم يكن باختيارها البقاء للمبيت الليلة في السليمانية، لذا نالت وصلة التقريع المعتادة من تسنيم أمها والتي للحق لم تكن بنفس الشدة كما سابقتها، فيبدو أنها بدأت تستسلم لرغبتها، واعتياد متطلبات المهنة..
كان مبيتها بطلب من الدكتورة سميحة لتكون بديلا عنها، فكما فهمت منها، كان عليها السفر للقاهرة لاستقبال إحدى قريباتها والتي لم ترها منذ سنوات طويلة..

كان حدثا طارئا ولم يكن من المعقول ترك الوحدة دون طبيب للطوارئ في أية لحظة..
كما أن الليلة هي ليلة زفاف ابنة عم مصلحي، ذاك الممرض العجوز الطيب الذي يعمل مع الدكتورة سميحة منذ سنوات طويلة، وهي من المدعوات..
غيرت ملابسها بقلب الاستراحة وتمددت قليلا على فراشها من أجل بعض الراحة قبل التوجه لحفل الزفاف..

لا تعلم كم غفت ولا كم الساعة الآن!؟ لكن تلك الطرقات على باب الاستراحة هي ما أيقظها لتنتفض نافضة النعاس عن جفونها، فتحت الباب لتجده عم مساعد ذاك الخفير الذي لم يكن يفارق الدكتورة سميحة أينما حلت هاتفا بها في لهجته المشددة: أنتِ مش رايحة الفرح ولا إيه يا داكتورة!؟، أني جاعد مستنظرك من عشية..

تنبهت أن العشاء قد أذن لصلاته منذ فترة بسيطة، فهتفت به مؤكدة: رايحة يا عم مساعد، خمس دجايق وهنكون ع الطريج، هو بيت عم مصلحي بعيد!؟
أكد مساعد: لاااه يا داكتورة، خطوتين من هنا..
هزت رأسها هاتفة: طب تمام، ثواني وراچعة لك..
غيرت ملابسها في سرعة، فقد وعت الدرس جيدا وبدأت تحضر معها ملابس للنوم وأخرى بديلة، وتتركهم هنا بخزينة الملابس بالاستراحة لأي طارئ، فيكفيها ما حدث المرة السابقة..

خرجت لعم مساعد هاتفة: ياللاه بينا..
تحركا معا، وسارا وسط مجموعة من الحقول والطرق الترابية، لم يكن دار مصلحي بالقرببة أبدا، كانت بالجانب الأخر من نجع السليمانية..
تنفست الصعداء ما أن بدأ صوت الطبول والمزمار يعلو، مؤكدا أنها على مقربة من الحدث السعيد..

هللت النساء واستقبلنها بالزغاريد، فقد استطاعت إقامة علاقات طيبة معهن، اجلسنها في صدر المجلس بالقرب من العروس التي هتفت أمها بعد وصلة ممتدة من الزغاريد: شرفتينا يا داكتورة، عجبالك، وعجبال ما ياچي عوضها على يدك يا رب..

أمنت النساء في سعادة وبدأت وصلة الرقص، اندمجت نوارة تشاركهن سعادتهن، لم تكن المرة الأولى التي تحضر فيها فرحا بسيطا كهذا، حضرت البعض بنجع الصالح، فما عاد أحد بالصعيد يقيم ليلة عرسه داخل قريته، أصبح الجميع يرغب في حجز القاعات الفاخرة بالمحافظة أو حتى بأقرب مركز من أجل التفاخر والتباهي..
هدأت النساء وبدأن في توزيع صواني الطعام هنا فيما بينهمن، وبالخارج للرجال..

تناولت النذر اليسير مما قدم لها جبرا لخاطر عم مصلحي، الذي جاء من مجلسه بين الرجال ليتأكد أنها تنعم بالراحة والخدمة الجيدة..
انتهت فترة تقديم الطعام ليعاود النساء طرق الطبول، سمعت نوارة بعض الصياح والتهليل بين الرجال، يبدو أن وصلة التحطيب قد بدأت، تسللت نوارة في هدوء للخارج فدوما ما كان التحطيب يجذبها، لا تعلم لما، لكنه يظهر لها عنفوانا وقوة تأسرها كليا..

توقفت عند ركن منزو تستطيع منه المشاهدة دون أن يحجبها الرجال، كان المتباريان ماهران بحق، لكن أحدهما على الرغم من احترافيته الظاهرة وتفوقه على خصمه اخفض عصاه وشرع في احتضان منافسه في محبة، أيقنت أن الخصم الأضعف هو العريس والذي تنازل له الرجل الأخر محبة، تنبهت أخيرا أن ذاك الرجل لم يكن إلا رائف السليماني، لم تكن تستطيع تمييزه وهو يرتدي الجلباب والعمامة..

كانت المرة الأولى التي تراه بهما، اختفى رائف قليلا، كانت تعتقد أنه عاود الجلوس بين الرجال، أو حتى رحل بعد أن أتم مجاملته للعريس وعم مصلحي..
لكن يبدو أن الأمر لم ينتهي عند ذاك الحد، فقد بدأ عزف المزمار ليظهر رائف على فرسه الأدهم متمايلا في ثقة والفرس تتمايل بدورها في خيلاء مبهرة..

هلل الرجال في سعادة، فقد كان ظهور رائف بهذا الشكل داخل العرس تقديرا كبيرا تدركه هي تماما، فعندما يحضر كبير النجع زفاف أحد رجاله تكون هذه مفخرة كبيرة يتحاكى بها حبا وعرفانا..

لا تعلم لما بدأ قلبها يدق بهذا الشكل المتسارع وهي تراه بهذا الشكل الغريب عنها!؟، كأنه أضحى رجل أخر تماما بين هؤلاء البسطاء، أين ذهبت عجرفته!؟، وماذا حل بعبوس وجهه الذي لم يكن يفارق قسماته إلا نادرا!؟، ومن هذا البشوش الوجه واسع البسمة الذي تبصره على فرسه متبخترا في عزة أشبه بالملوك!؟.
تساءلت متعجبة في نفسها، أنت مين فيهم بالضبط يا رائف يا سليماني!؟.

تنبهت من فضولها نحوه، فأرتجف قلبها بين حنايا صدرها، لا، أخذت تعترض مؤكدة لنفسها، ده فضول عادي، شخصية غريبة مقابلتش زيها، مفيش أكتر من كده أكيد..
انتفضت عندما رأت مساعد الخفير يهتف باسمها ربما للمرة الرابعة لتتطلع نحوه في ذعر متسائلة: في إيه يا عم مساعد!؟
أكد لاهثا يلتقط أنفاسه في سرعة وأحرف متقطعة: طالبينك فالوحدة يا داكتورة، بيجولوا حالة مستعچلة..

اضطربت مندفعة في اتجاه الطريق، لكنها استدارت نحو مساعد مستفسرة: مفيش حاچة نخدوها أسرع لحد الوحدة يا عم مساعد!؟.
هز مساعد رأسه نافيا، إذا عليها الهرولة بين الحقول والغيطان حتى تصل سريعا، فهي لا تعلم ما مدى سوء حالة المريضة التي تنتظرها..
همت بالاندفاع مبتعدة من جديد، إلا أن صوتا أجشا تعرف صاحبه دون أن تستدير هتف أمرا: استني يا دكتورة..

استدارت تتطلع نحوه ليهتف مؤكدا: الطريج من هنا للوحدة بعيد عليكِ، ومينفعش تخوضي فالغيطان الساعة دي لوحدك، استني هنا ثواني..
غاب وعاد سريعا جاذبا رسن فرسه التي ربطها لعربة بعجلات، هاتفا وهو يراها تتعجب من رؤيتها لها، فقدت كانت المرة الأولى التي تراها منذ وطأت قدماها السليمانية ليؤكد رائف هاتفا: چبتها معايا وانا چاي الفرح عشان ترچعي فيها بعد الفرح ما يخلص، اتفضلي..

تطلعت نحوه متعجبة، هل كان يعلم أنها ستحضر الفرح!؟، وهل وضع كل تلك الترتيبات من أجل عودتها!؟.
لم لم تكن العربة حاضرة إذن في رحلة المجيء إلى هنا!؟
صعدت الكارتة في عجالة ولم تدرك إلا وهو يزاحمها موضع الجلوس ممسكا بلجام الفرس، كتمت شهقاتها وهي تستشعر قربه بهذه الطريقة التي أثارت حفيظتها..

لكن يبدو أنه لا يبال، تحركت العربة على الطريق الترابي الضيق ليهتف مؤكدا بذاك الصوت الأجش الذي يثير كوامن الاضطراب داخلها: معلش كنت بتأكد من عچل الكارتة وإنها تمام عشان كده مخلتش عم مساعد يچيبك بها..
هذا كان جواب سؤالها الذي طرحه عقلها منذ لحظات..
استطرد مفسرا: وكمان العربية مكنتش هتنفع تمشي ع الطرج الضيجة دي، مكنش هاينفع غير الكارتة فالمشوار ده، بس إحنا كان بجالنا سنين مركبنهاش..

لم تنبس بحرف طوال الطريق، وهو قال كلماته تلك ولاذ بالصمت كذلك، كان لسانها قد تعطل جراء قربه المهلك ذاك، فما عادت قادرة على النطق بكلمة واحدة ردا على تفسيراته أو حتى شكرا على تدبيراته التي انقذت الموقف الآن، وتمنت من صميم قلبها أن تكون الحالة التي تنتظرها بسيطة، فهي بمفردها ودكتورة سميحة ليست هنا لنجدتها..

توقفت الكارتة أخيرا أمام باب الوحدة الصحية الخارجي، كانت صرخات المريضة المتألمة تصلها حيث كانت، قفزت من الكارتة في رعونة ليست من عاداتها، ما استرعى انتباهه ليتبعها بناظريه وهي تهرول لداخل الوحدة..

اعدت نفسها سريعا ودخلت على المريضة لفحصها، كانت حالة ولادة مبكرة، والجنين ليس بوضعه الطبيعي، حاولت أن تبدو هادئة على قدر استطاعتها، فالحالة قد تستدعي التدخل الجراحي إذا ما فشلت محاولاتها في حل الوضع بالطرق الطبيعية..
نقلت المريضة لغرفة الولادة، وبدأت في التحضيرات، وصرخات المريضة خفتت لتصبح همهمات وجع لم يعد يحتمل..

حاولت قدر استطاعتها، لكن الوضع متأزم بالفعل، خرجت للحظة من باب الغرفة الجانبي في محاولة لاستعادة هدوئها، ولتتخذ قرارها، ماذا عليها أن تفعل!؟
دمعت عيناها وهي تقف في اضطراب وهمست متضرعة وهي تجذب قناع الوجه الطبي عن أنفها تلتقط أنفاسها: يا رب..

كررتها عدة مرات في وجل ونظراتها معلقة بسقف الغرفة قبل أن تعيد قناع الوجه مرة أخرى على وجهها مندفعة من جديد لداخل الغرفة، أعادت فحص المريضة من جديد واستشعرت أملا في إنقاذ الحالة، لم تشعر وهي على حالة الانشغال تلك، ذاك الذي اقترب منها مرتديا معطفه الأبيض وقناع وجهه الطبي، مادا كفه الغائب تحت قفازه الشفاف أمرا في هدوء وبنبرة صوت حازمة: عنك يا دكتورة..

تطلعت نحوه في صدمة ولم تبصر إلا بريق عينيه اللامع خلف قناع يخفي وجه تحفظ قسماته العابسة، لتسقط الأداة الطبية من يدها محدثة دويا في سكون الغرفة المعقمة..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة