قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والثلاثون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والثلاثون

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني والثلاثون

وجدها تجلس في حجرة القراءة أخيرا، فعلى الرغم أنهما بدار واحدة، لكنها كانت تتحنبه خجلا الفترة الماضية، فمنذ اُعلنت خطبتهما، وهي تتخفى منه، وكان هو دائم الانشغال بتجهيز عشهما الزوجي، مع العمال طيلة النهار، اندفع مهرولا في اتجاه الغرفة، قبل أن تنتقي إحدى كتبها وتعود لحجرتها متوارية من جديد، يدفعه شوق قاتل لمرأها، وصل لعتبات حجرة القراءة، ليجدها تهم بالرحيل، فاستوقفها في لهفة: زهرة.

استدارت لمواجهته، وعلى شفتيها ابتسامة خجلى، فعلت به ما لا يمكن لأحرف أن تصفه، تطلع إليها وعلى قسمات وجهه رضا وبشر غابا عن محياه منذ زمن، وما عادا إلا عندما أيقين، أنها أصبحت نصيبه من نساء العالمين.
أشار لأحد المقاعد، لتجلس في طاعة، ليتخذ من المقعد المقابل لها موضعا، قبل أن يهمس متسائلا: إزيك!
اومأت في هدوء هامسة: كويسة الحمد لله.
ابتسم هامسا: يا رب على طول.
هتف أمرا في لين: مدي يدك الشمال.

رفعت رأسها متطلعة إليه، لا تدرك ما يقصد بالضبط، ليعيد أمره بنفس النبرة اللينة، لكن مع ابتسامة واسعة تزين محياه، ما دفعها لتطيع مأخوذة، لتمد كفها اليسرى، في اضطراب، ليمد كفه بجيب جلبابه مخرجا علبة من المخمل القرمزي، فتحها ليخرج منها خاتم رقيق، دفعه برقة ليطوق أصبعها الأوسط، أصابها الذهول لفعلته، وظلت تتطلع نحو خاتم الخطبة في تيه ليهمس في محبة: كان لازما اچيبه جبل تلبيس الشبكة يوم الكتاب.

همست زهرة أخيرا في محبة مماثلة: تصدق أنا مفتكرتش خالص موضوع الدبلة ده يا عاصم، عارف ليه!
تطلع نحوها منتظرا الجواب في لهفة، لتهمس في رقة باسمة: عشان الحاجات البديهية مش محتاجة حاجة تأكدها يا واد عمي.
دق قلبه أضعاف المتعارف عليه، ليهتف في نبرة متحشرجة، تفضح ادعائه بعدم الفهم: يعني إيه! مش فاهم.

نكست رأسها خجلا لبرهة، قبل أن تتجرأ لترفع رأسها متطلعة نحوه بنظرة ثابتة، تحمل عشق لا يمكن مداراته: يعني أنا مكتوبة لك عند رب العالمين، والدبلة دي حاجة شكلية، لكن الدبلة الحقيقية موجودة حوالين القلب يا عاصم، وأنا قلبي اتولد لابس دبلتك.
تنحنح لا قبل له على النطق بحرف، متطلعا للخاتم الذي ازداد جمالا بموضعه حول أصابعها الرقيق، هامسا بصوت حاول البحث عن ثباته: طب شوفي المكتوب عليه من چوه.

خلعته في هوادة، وتطلعت نحو جدار الخاتم الداخلي، لتبصر رقما محفور، تعجبت عندما أدركت أنه يوم عيد مولدها، تطلعت إليه من جديد، ودمعت عيناها، هامسة: ده يوم عيد ميلادي!

هز رأسه مؤكدا: ما أنتِ جولتيها، دبلتك حوالين جلبي من يوم ما وعيت لك، كنت ابن أربع سنين يوم ما هليتي ع الدنيا، جعدوا جدام عيني يتلجوفكي من يد ليد، وأنا أصرخ واتمرمغ فالأرض، ليه وليه، مش راضيين يخلوني اشيل البتاعة الصغيرة دي اللي فرحانين بها..

ارتفعت ضحكاتها، ليسود صمت مقدس في حضرة هذه الترانيم الملائكة، التي نقلته لزمن لا بعد له، وأخيرا استطرد في وجد: ولما حنوا عليا وحطوكي بين درعاتي، عرفت ليه كانوا فرحانين بكِ، أني نفسي كنت فرحان بكِ جوي، وكل ما يخدوكِ مني اتفرط لهم ع الأرض من تاني، لحد ما يرجعوكِ على حچري، باين كده، إني من يومها وعيت إنكِ فرحة جلبي يا زهرة، وإن الدنيا فجربك نعيم، وفبعدك هي فعلا دنيا، شجا وكرب.

تطلعت نحوه، وضمت كفها التي بها خاتمه الثمين قيمة ومعنى، ورفعه بالقرب من قلبها، وعيونها تهدد بدموع تكاد تندفع من مآقيها، ما حثها على الاستئذان، لتغادر موضعها لحجرتها مهرولة، تقرب الخاتم لفمها ملثمة إياه، وقد سال الدمع على خديها متضرعة: يا رب ما تحرمه من فرحة قلبه، ولا تحرمني من فرحتي به.

تطلع هو لموضعها الشاغر للحظات، قبل أن يتنهد في راحة، مغادرا موقعه في اتجاه غرفتهما التي تجهزت بشكل شبه كامل لزفافهما، وضع مفتاحها بالباب، دافعا إياه في رفق، متطلعا لكل ركن فيها، ممنيا النفس بقرب الوصل المأمول، عبق رئتيه من هوائها الذي يحمل عبق عشق كان بين جنباتها لزمن طويل، متمنيا أن ينال بعض من نفحاته، خرج من الغرفة في هوادة، مغلقا بابها محتفظا بمفتاحها، حتى اليوم الموعود.
*****.

كانت تقف تتطلع إلى وصلة العشق التي تحدث أمام ناظريها بغرفة القراءة بين أخيها وخطيبته، بأعين دامعة فرحا، تتعجب من انقلاب حالها بهذا الشكل، فمنذ متى تحولت لهذه الشخصية العاطفية التي تهزها المشاعر، وتجلب الدموع لماقيها بهذا الشكل!
انتفضت موضعها، تحاول أن تكفكف دمعها، وسجود تندفع للحجرة هاتفة في عجالة: نوارة، إلحجي! دكتور رائف تحت مع أبوكِ وچدك.

حاولت أن تخفي اضطرابها وانفعالاتها الداخلية كعادتها، هاتفة في لامبالاة مصطنعة: وإيه فيها يعني!
وتركتها وانسحبت من الحجرة هاتفة بسجود: لما اروح اشوف لي حاچة مفيدة أعملها.
تطلعت إليها سجود حانقة، وهتف في غيظ: أنتِ عايزة تجوليلي إنك مش همك!
يا نوارة يا كدابة.
تطلعت إليها نوارة في ضيق: سچود، لمي روحك.
هتفت سجود تشاكسها: وإن ملمتش هتعملي إيه!
هتفت نوارة مؤكدة: هسيب لك الأوضة يا هايفة.

وبالفعل تركت نوارة الغرفة، متسللة في اتجاه لقاعة التي كانت تضم رجال العائلة، والتي هتف كبيرها عاصم الجد في حفيده، ما أن دخل القاعة عليهم محييا: واد حلال، كنا لسه هنادم عليك، الدكتور رائف السليماني، من نچع السليمانية، اللي بتشتغل فيه الداكتورة نوارة أختك.
هتف عاصم الحفيد مرحبا: يا مرحب بك يا دكتور، شرفتنا.
هتف رائف مؤكدا: الشرف لينا يا باشمهندس.

هتف مهران مستفسرا عن جبيرة يده، يحاول أن يتبادل أطراف الحديث لرفع الحرج عن رائف، الذي استشعر اضطرابه، ما جعله متيقن أنه ما جاء إلا في مصاهرة: ألف سلامة عليك يا دكتور، إيه اللي حصل!
هتف رائف مؤكدا: لا دي حاچة بسيطة الحمد لله، اسبوع كده وابجى تمام.
ولا يعلم لما استشعر أن نوارة تطلع على حوارهم بشكل ما، ما دفعه ليستطرد مؤكدا: حادثة غيرت حاچات كتير، بس كان لابد منها.
هتف عاصم الجد: أچر وعافية.

تنحنح رائف مستطردا: الصراحة أنا چاي النهاردة فموضوع نسب، چاي وطالب يد الداكتورة نوارة.
ابتسم عاصم الجد مؤكدا: طلبك على راسنا يا دكتور، وانتوا ناس متتعيبوش، إن كان چدك ربنا يديه الصحة، ولا أبوك الله يرحمه، كان ونعم الرچال، بس نشاوروها ونرد لك خبر، ولا إيه يا أبو العروسة!
أكد مهران مبتسما: هو فيه بعد كلمتك يا حاچ عاصم.
وتطلع نحو رائف مؤكدا: معلوم طبعا، نسبكم يشرفنا يا دكتور، بس الأول موافجتها.

هتف رائف في لهفة: ميتا ردها!
ابتسم عاصم الجد مؤكدا: يعني كام يوم كده، لحد ما نچوزوا الباشمندس، ويبجى الفرح فرحين، بإذن الله.
هتف رائف بابتسامة واسعة: الف مليون مبروك، ربنا يتمم لك على خير.
هتف عاصم الحفيد ممتنا: تسلم يا دكتور، عجبالك.
أكد رائف متضرعا: نجول يا رب.
اتسعت ابتسامة عاصم الجد ومهران، الذي أكد وهو يربت على كتف رائف في مودة: يا رب خير.

استمعت لكل ما دار داخل القاعة، لتتسلل عائدة نحو غرفتها، التي ما أن دلفتها حتى هلت عليها تسنيم أمها مهللة: الدكتور رائف السليماني لسه ماشي من عند الرچالة تحت وچه يطلبك، ومستني ردك يا دكتورة، الرچالة بيشكروا فيه وفأخلاجه وعيلته، إيه! نجول مبروك يا دكتورة!
هتفت نوارة مستفسرة: هو چه من غير حد من أهله معاه!
أكدت تسنيم: أيوه، ما أكيد مستني ردك، عشان يجيبهم.
هتفت نوارة هامسة: طيب هاخد وجتي وابجى أرد.

هتفت تسنيم متعجبة: الراچل ميتعيبش يا بنتي، هو أنتِ فيه حاچة مش مريحاكِ من ناحيتهم!
أكدت نوارة في هدوء: لا يا ماما مفيش، بس يعني حتى لو انتوا شايفينه مناسب مليش إني اخد وجتي فالتفكير والاستخارة!
أكدت تسنيم: لاه حجك، خدي الوجت اللي يعچبك، وربنا يجدم لك اللي فيه الخير يا بتي.

ربتت تسنيم على كتف ابنتها في مودة، وهمت بالمغادرة، لتهتف قبل أن تغلق الباب، مؤكدة بابتسامة واسعة: على فكرة، شكله مستعچل جوي، هو دايما مستعجل كده! ولا الهوى رماه!
أغلقت تسنيم الباب، تاركة نوارة وقد ارتسم على شفتيها ابتسامة تحاول مداراتها، رغم علمها بالرد المناسب على رائف، والذي لم تغيره عن ما قررته له على الهاتف.
****.

كان العمال قد انهوا أخيرا عملهم بالشقة العلوية، والتي أنجز إعدادها ما أن قدمت أمه لخطبة سماحة، وكأنه كان في انتظار هذه الخطوة، ليسرع بتجهيز عش الزوجية على عجل.
هم بهبوط الدرج مغلقا الشقة بالمفتاح حاملا حقيبة صغيرة تحوى بعض من ملابسه، وهتف مناديا من أعلى الدرج: يا خالة سعيدة.
ظهرت سعيدة على أعتاب باب الشقة بالطابق السفلي هاتفة: خير يا ولدي!

هبط الدرج مسرعا، حتى أصبح قبالتها، وسأل في تأدب: ممكن تنادمي سماحة، عايزها فكلمتين جبل ما أسافر.
هزت في رضا، هاتفة: تروح وترچع بالفرح يا ولدي.

ابتسم يونس مؤمنا، بينما دخلت سعيدة تنادي على ابنتها التي طلت عليه في خجل فطري لم يعتده بعد من تلك التي كانت منذ فترة وجيزة أقرب صديق له، تطلع نحوها في اضطراب هاتفا وهو يمد يده بمفتاح الشقة العلوية: مفتاح شجتك يا عروسة، العمال خلصوا كل اللي لازمها، اعملي فيها ما بدا لك، ولحد ما نطلعوا على مصر نحطبوا لراضي، هرچع معاهم على نچع الصالح احضر فرح عاصم الهواري، ومنه على هنا، بس بزفة لچل الفرح.

همست سماحة في أحرف مرتجفة: تروح وترچع بالسلامة يا سي يونس.
هتف يونس مازحا: يونس بس، أنتِ هاتبجى مرتي كمان أسبوع، بلاها الطربوش اللي بتحطيه على اسمي ده.
همست سماحة باسمة: أنتِ تؤمر يا يونس.
هتف يونس متطلعا إليها في بله، بعد أن سمع اسمه لأول مرة من بين شفتيها: أكبر غلطة إني اخليك تشيلي التكليف دلوجت، يا مرك يا يونس، اجولك، رچعي الطربوش، ولا الأحسن متجوليش حاچة لحد ما ارچع لك.

هزت رأسها في طاعة ولم تعقب، ليهم بالرحيل وهي لم تنبس بحرف، ما دفعه ليهتف: إيه طب! مش هتجلولي أي كلام من اللي بيجلوه ده للي مسافرين!؟
ابتسمت هامسة: ترچع لي بألف سلامة يا..
قاطعها يونس أمرا: بلاش اسمي، والله لو سمعته تاني لجاعد لك هنا ومش هتعتع ولو چابوا مين..
أمسكت ضحكاتها الخجلى، فلم تعتد بعد على رفع صوت ضحكاتها في حضرته، ما دفعه ليهتف مازحا: سلام عليكم بجى، لحسن كده يونس لا هيروح ولا هاياچي.

واستطرد مؤكدا: الشجة فوج رتبيها على ذوجك..
هتفت مؤكدة: هخليهالك چنة.
أكد في هوى ينازعه: هاتبجى چنة بوچودك فيها.
نكست رأسها حياء ما دفعه ليهرول مبتعدا، هاتفا في مزاح: سلام يا بت يا عروستي، اشوفك يوم الفرح.
اتسعت ابتسامتها وهي تلحق به، تتبعه بناظريها وهو يركب سيارته في اتجاه نجع الصالح، على أمل عودته ليكمل اجتماعهما المبارك، ذاك اليوم الذي تنتظره كهلال العيد.
*****.

كان قد عرض عليه العميد حازم الهواري بالعودة معهم إلى النجع، بعد أن أعلن الأطباء تحسن صحته بشكل ملحوظ، وإمكانية استكمال الاستشفاء في المنزل، ما دفع حازم في إحدى زياراته اخباره بتزولهم النجع لحضور زفاف عاصم وزهرة الهواري، ما دفعه للموافقة بعد بعض التردد،.

كان سفره معهم في نفس العربة، يجلس بجوار حازم وهي تجلس بالمقعد الخلفي مع أمها وأخويها الأصغر سنا، اختبار كبير لصبره وقدرة تحمله، وهو يستمع الى صوتها الذي يشجيه ومناكفاتها مع إخوتها الصغار لتبدو اصغر عمرا منهما، محاولا تجاهل أثر حضورها على نفسه، كل هذا مر في سلاسة للجميع، لكن الأمر أصبح كارثيا وغير قابل للاحتمال عند أحد الاستراحات، حينما طلب حازم من بدور تولي عجلة القيادة لشعوره بالارهاق، ما جعلها جانبه مباشرة.

كيف يمكنه تجاهل مثل هذا الحسن الذي ملأ ذاك الحيز الصغير الذي يجاوره! وكيف له أن يتصنع عدم إدراك حضورها، وهي هكذا قريبة لقلبه وروحه كما هي قريبة جسديا لا يفصل بينهما إلا بضع من السنتيمترات، تجعله أشبه بمن هو على أعتاب الفردوس، ينتظر الأذن بالدخول.
تنفس الصعداء أخيرا، وهم على مشارف النجع، حتى توقفوا أمام دار أبو منصور.

صرخ حازم بالخفير، الذي كان يجلس على البوابة يغط في نومه، فانتفض متجها نحوه، مهللا ما أن رأي منتصر، الذي ساعده على الترجل من العربة، ليتوقف منتصر للحظة، متطلعا نحو حازم الذي كان خلف مقود العربة، بعد تبادل الدور مع بدور في القيادة من جديد، هاتفا في امتنان: متشكر قوي يا فندم تعبت حضرتك، وحتى مقدرتش ابقى ليا فايدة واريحك فالسواقة شوية.

هتف حازم مبتسما في هدوء: مفيش تعب ولا حاجة، حمد الله بسلامتك يا وحش، وده واجب علينا بعد اللي عملته، خلي بالك على نفسك، ولو احتجت أي حاجة بلغني متترددش، ياللاه متقفش كتير على رجلك التعبانة زي ما قال الدكتور، السلام عليكم.
هتف منتصر في نبرة ممتنة: متشكر يا فندم، وأنا معملتش إلا الواجب، سلام عليكم.

أدار حازم السيارة راحلا، ولم يغب على منتصر أن يلقي نظرة أخيرة نحوها، قبل أن تولي ولا علم له متى يحين اللقاء من جديد.

مر بمساعدة الخفير، عتبات الدار في صعوبة نتيجة إصابة قدمه وذاك العكاز الذي يتعكز عليه حتى تبرء بشكل تام، مع إصابة يده التي ما زالت بجبيرتها حتى اللحظة، تطلع نحو موضعها وتوقف لبرهة يحاول أن يستعيد ثباته وصلابته وهو يرى جدته القوية القادرة، على ذاك الكرسي المدولب، والأدهى من ذلك، عند علمه أنه السبب في هذا العجز الذي أصابها.

ما أن هم بالتوجه نحوها، حتى هلت أية من مدخل الدار تحمل شال جدتهما لتضعه على كتفها حماية من النسيم البارد الذي يهب في مثل هذه الساعة، رغم سطوع شمس دافئة نسبيا، لتصرخ في فرحة، مندفعة نحوه: منتصر..
تنبهت جدتها عند سماعها الاسم الأغلى على قلبها، متطلعة نحوه قدر استطاعتها دامعة العينين، بينما هتفت أية في محبة أخوية، وهي تقف قبالته: حمد الله بالسلامة يا منتصر..
هتف منتصر بدوره باسما: الله يسلمك يا أية..

مدت أية كفها تحاول مساعدته، إلا أنه طمأنها على قدرته على التصرف بشكل جيد لا يدعوها للقلق، متجها نحو موضع جدته، التي وصل مجلسها، جالسا قبالتها في هوادة، وما أن استقر على مقعده حتى ألقى العكاز جانبا، مادا كف يده السليمة حاملا كف جدته بأحضانها ملثمها في محبة، هامسا بنبرة تحمل شعور بالذنب لا يمكن تجاهله: سامحيني يا ستي، أنا السبب..

مدت وجيدة كفا مرتعشة، تربت بها على هامة منتصر المدفونة بحجرها، هامسة بأحرف متقطعة: منتصر، اسمعني، أني موافجة..
رفع منتصر رأسه متطلعا نحوها، لا يفسر ما تقول، لتهتف أية التي كانت تكفكف دمعها اللحظة، مفسرة: بتقولك إنها موافقة..
هتف منتصر مستفسرا من جدته: على إيه!

هتفت وجيدة تحاول الضغط على نفسها لنطق بعض الأحرف من جديد، لتترجمها أية وهي تهتف في سعادة، دامعة العينين: موافقة على جوازك من بنت حازم الهواري..
ابتسم منتصر في فرحة، مؤكدا: تعرفي إن سيادة العميد حازم الهواري، هو اللي جبني لحد هنا.
هزت رأسها مؤكدة بأحرف ثقيلة: ابن أصول.
أكد منتصر دامع العينين، متعاطفا لحالتها: بس مفيش جواز إلا لما تخفي وتبقي تمام.

هزت وجيدة رأسها رافضة بشدة، تؤكد على ضرورة الذهاب: لازما تروح.
هز منتصر رأسه في سعادة، هاتفا في فرحة: حاضر يا ستي، حاضر، بس شدي حيلك عشان محدش هيخطبها إلا أنتِ يا قمر.
وعاد ملثما كفيها من جديد، وهي تربت على رأسه بكف مرتعش، وعين دامعة، سال دمعها أخيرا، في فرحة.
****.

كان الصخب بالحارة على أشده، فقد كان شادر الخطبة يمتد واسعا بطول الحارة وعرضها، فالحارة بأسرها تدين بالكثير من الافضال للمعلم خميس المرسي وولده ناصر، وكل فرد بها يريد أن يرد فضل من افضالهما مجاملة في خطبة ابنتهما الوحيدة، نعمة..
كان رجال العائلة جميعا بالأسفل، بصحبة أقارب العريس، أبيه وإخوته، وأولهم يونس، الذي نهض في سعادة يستعرض الرقص بالعصى على أنغام المزمار والطبل، لينفجر الشادر كله تهليلا.

لم يكن النساء أقل صخبا من الرجال بالأسفل، فقد كانت كل فتاة منهن تستعرض مهاراتها في الرقص وسط دائرة من نساء الحارة، اللاتي اخذن في التصفيق والتهليل، مع ارتفاع الزغاريد الصادحة من هنا وهناك، بين لحظة وأخرى.

كان عليه الصعود لشقتهم بالاعلى لجلب المزيد من صناديق المياه الغازية لوضعها في الثلاجات حتى تصبح جاهزة لمزيد من المدعوين، وفي أثناء صعوده الدرج سمع امرأتين، تهمس إحداهما بالأخرى في تعجب: شفتي البت حُسن بت سالم الاستورجي بعد ما رجعت من عند عمتها! البت احلوت وادورت قوي.

هتفت الأخرى: حُسن طول عمرها قمر الله أكبر، هو كان إيه اللي بيخلي الشباب فالرايحة والجاية يعكسوها إلا جمالها! بس الشهادة لله، البت كانت بتوقفهم عند حدهم، وبقوا يعملوا لها حساب بعد العلقة اللي ادتها لكذا واحد قبل كده، ولا اجدعها راجل.
قهقت الأخرى: ايوه صح، بس متقوليش راجل، هو فيه راجل يرقص كده، شوفتي البت بترقص إزاي! كأنها بترقص ع الدخان.

أكدت المرأة الأخرى: ايوه عندك حق، أنا هقول لواد بن اختي عليها، هي دي تتساب، بس هم يرضوا يناسبونا بعد العز اللي بقت فيه.
أكد المرأة الأخرى: على قولك.

اشتعلت النيران في شرايينه، ليقف على أعتاب شقة جده التي كان فيها تجمع النساء، يحاول أن يتعقل، حتى لا يدخل يجذبها من بينهمن كالمجنون، لذا استوقف إحدى الفتيات التي كانت في سبيلها للداخل، طالبا منها: بقولك يا لو سمحتي، ممكن تقولي لحُسن، إن ابن عمتها تحت عايزها ضروري.

هزت الفتاة رأسها في إيجاب، لتغيب لحظات قبل أن تخرج حُسن تهم بالاندفاع للأسفل، ليجذبها هو، لداخل تلك الحجرة الفارغة، التي يوضع بها بعض الكراكيب.
شهقت حُسن في صدمة، لكنها هدأت قليلا عندما أدركت أن نادر هو الذي يقف قبالتها، يكاد يقتلها حنقا بهذه النظرات الغاضبة التي يرمقها بها، هامسا من بين أسنانه: كنتِ بترقصي ليه جوه، عشان الحريم تهلل وكل واحدة تجيب لك عريس من طرفها!

شهقت في صدمة لهجومه الغير مبرر، لكنها استجمعت ثباتها في سرعة، هاتفة في لامبالاة: عن إذنك انزل اشوف شعيل عايز إيه.
اعترض نادر طريقها في غضب، لتصبح اللحظة اقرب ما يكون له، ليهمس بحنق من جديد، وقربها يزلزله: محدش طالبك تحت.
واستطرد ساخرا: طويل العمر، ابن عمتك قاعد تحت مشرفنا، أنا اللي قلت للبنت تناديكِ.
عادت موضعها مبتعدة عنه، تستجمع شتات نفسها، هامسة في تعجب: خير! بتناديني ليه! عايز حاجة من..

قاطعها هاتفا في نبرة فاض بصاحبها الكيل: عايزك..
انتفضت كل خلية من خلاياها، متطلعة نحوه في تعجب، لكنها وفي لحظة ما، استشعرت رغبتها جعل الاعتراف كاملا كما تمنت، لتهتف متصنعة عدم الفم: ايوه معاك، عايزني إيه!
زفر نادر في قوة، وعيونه معلقة بسقف الحجرة، ترجو المدد، حتى هتف مستطردا: عايزك مترقصيش قدام حد.

جزت على اسنانها، وقد قررت الدفع به لأقصى درجات الغضب جراء ما يفعله بها، هاتفة في لامبالاة وهي تهم بالرحيل: ملكش تقولي أعمل إيه أو معملش ايه، أنتِ زي..

قاطعها نادر، يحاول السيطرة على غصبه، معترضا طريقها من جديد، متطلعا نحو عيونها، معترفا في عشق اذاب دواخله شوقا: زي إيه يا حُسن! عمري ما كنت أخوكِ، كنت فاكر إني كده، بس لما وقعتي بين دراعاتي يوم موت أبوكِ، حسيت إن كنتِ هنا، وأشار لصدره، أقرب ليا من نفسي وأنا مش دريان..

تقهقرت خطوة للخلف، وقد بدأ الدمع يتجمع بمآقيها، وهو يستطرد معترفا، كأنما دُكت حصون الكتمان، وحان آوان البوح، ليهدر كما السيل، جارفا معه كل أثر لتردد أو حيرة: كنت بنكر ده، وأبعد على أد ما أقدر، لكن لما بعدتي أنتِ، عرفت إن الموضوع مش فالقرب أو البعد، لأنه مش فارق يا حُسن، وأنتِ ساكنة الروح.

هطلت دموعها أنهارا، ولا زالت عيونها معلقة به في صدمة، لا تصدق ما يحدث قبالتها اللحظة، والذي ما تخيلته في أكثر أحلامها روعة، ليزدرد نادر ريقه مستطردا في نبرة مرهقة: أنا عايزك يا حُسن، أنا ليا كل الحق عليكِ، من زمان وأنا ليا الحق ده، بس كنت غبي، معرفتش استخدمه، إلا في إني ابعدك عني من غير ما أقصد، مكنتش عارف إني فبعدك هبقى عامل كده، أنا، أنا بحبك يا حُسن..

ساد الصمت إلا من شهقات بكائها التي كانت تحاول كتمانها، ليهتف بها وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره في اضطراب: إيه! هفضل أنا أقول كده، ومفيش أي كلمة خالص تبل الريق يا بنت عم سالم!
لم تنبس حُسن بحرف، ليهتف راجيا: طب حتى هزي رأسك، وقولي موافقة..
همست من بين دموعها: موافقة على إيه!

تقافزت شياطينه، وهو يهتف بها في غيظ: على إني احدفك من فوق يا حُسن، عشان أنا ضغطي علي عليا، على أني اخطبك من طويل العمر ابو نواف اللي تحت ده، ولا هو له شوق في حاجة، والله ما يخرج من الحارة، إلا ع المطار ويبقى يقطع الجوابات.
قهقهت رغم عنها، من بين دموع فرحتها، مؤكدة: اسمه شعيل.
هتف بحنق في غيرة: زفت الطين، اللي تحت، ومتنطقيش اسمه على لسانك قدامي.

قهقهت مستطردة كأنها لم تسمعه: وعلى فكرة كانت خطوبته على ربى بنت خالته قبل ما أنا اجي على مصر، وهيتجوزا قريب.
تطلع نادر نحوها، لتنقلب سحنته فجأة، من الغضب للراحة، هاتفا بنبرة تحولت كليا في لحظات: لو كده، يبقى أستاذ شعيل على راسنا من فوق، بس ياخد واجبه ومع ألف سلامة على بلادهم، بس مش قبل ما يكتب كتابنا.

شهقت في حياء، واندفعت مبتعدة، تنضم للحريم من جديد، وقد جلست بينهن في عالم أخر، يحاولن دفعها لحلبة الرقص، لكنها ابت، رغبة في الازعان لأمره، فعما قريب سيكون هو، من كان وصله حلم من أحلام الليالي العجاف، والذي ظنته بعيد المنال، واقعا مزهرا..
*******.

بدأت الذبائح تنحر منذ بداية النهار، فقد رفضت زهرة بشكل قطعي إقامة فرح في قاعة خارج نجع الصالح، فما زالت الهواجس تتملكها رعبا على عاصم، تتمنى لو ينتهي هذا اليوم في غمضة عين، حتى تستريح أخيرا من عناء تلك الظنون التي تنازع بداخلها، فرحتها التي انتظرتها طويلا،.

بدأت في إعداد نفسها، وحولها فتيات العائلة، كانت نوارة تقف جوارها، تدعمها في سعادة، فأخيرا سيهنأ قلب أخيها، الذي طالما عانى الأمرين، حتى الوصول لجمع شملهما.

انتهى إعداد العروس، عندما هلت المغارب، وبدأ الجميع في التوافد، لعقد القران، نزلت العروس مصحوبة بالزغاريد والتهليل حيث القاعة التي تم إعدادها لاجتماعهن، ليبدأ التهليل بالخارج وعلى ضرب النيران من كل حدب وصوب، معلنا وصول المأذون، الذي جلس في صدر المجلس، في انتظار البدء في مراسم عقد القران..

انتفض حازم من موضعه ما أن رأى منتصر على مدخل سراي الهوارية، اندفع نحوه في محبة، هاتفا: أهلا يا منتصر، اتفضل يا حبيبي.
هتف منتصر في سعادة: ألف مبروك يا فندم..
وسار متعكزا حتى وصل لموضع عاصم الجد ومهران، هاتفا في محبة خالصة: ألف مبروك، وربنا يتمم بخير..
هتف عاصم الجد: الله يبارك فيك يا ولدي، وعجبالك.
ابتسم منتصر في أريحية: عن قريب يا حاچ عاصم إن شاء الله، بس إحنا ننول الرضا والجبول.

أكد عاصم الجد، في ابتسامة وقد وعى لرد النصيحة التي نصحها لجدته: أنت من زمان مجبول ومرضي عنك يا حضرة الظابط، بس كله باوانه.
هز منتصر رأسه متفهما، ليهل عاصم من الداخل، لينهض منتصرا محييا إياه في فرحة مباركا، معاودة الجلوس بالقرب من حازم، الذي ربت على ظاهر فخذه في فخر..

هتفت فريدة تجذب بدور نحو أحد النوافذ، هامسة في سعادة: بصي يا بدور، منتصر وسط الرجالة، جه الفرح، وقاعد جنب خالي حازم، لا كده فاضل ع الحلو دقة..

ابتسمت بدور ولم تعقب، لتنبها لذاك الصوت القادم من خارج السراي، وقد بدأت وتيرة ضرب النار في الارتفاع من جديد، بعد أن هدأت قليلا، للبدء في مراسم العقد، لكن استوقفهم دخول أحدهم بفرسه، وخلفه الطبل والمزمار، والذي كان بصحبته رجل وامرأة، اندفعت نحو قاعة النساء، وانضما لمجلس الرجال، ليهتف أولهما، والذي لم يكن إلا رائف وفرسه الأدهم، وقد أصبح بقلب مجلس الرجال: ألف مليون مبروك، ويا رب أكون متأخرتش على كتب الكتاب.

هتف عاصم الجد مبتسما: لاه، چاي فالميعاد بالمظبوط، شرفتنا يا دكتور رائف..
أشار رائف لسامر مؤكدا: وده الباشمندس سامر خطيب الآنسة فريدة الهواري..
هلل عاصم الجد في سعادة، وقد بدأ الترحيب: الله أكبر، ده الحبايب كلهم اتجمعوا الليلة..
هتف مهران في سعادة: ربنا يزيد الفرح يا رب، ومتچمعين فيه دايما..
هتف رائف في حرج: بجولك إيه يا حاچ عاصم، تجبلوني بينكم شاهد ع العجد، ولا انتوا مبتدخلوش بينكم الغريب!

هتف عاصم الجد معاتبا: واه، ما غريب إلا الشيطان يا دكتور، وبعدين غريب كيف، ده أنت صاحب دار، وتشرف الباشا..
هتف رائف في فرحة: طب ياللاه، خير البر عاچله، وعجبال ما نعچل ببرنا عن جريب..
قهقه عاصم متفهما رسالته، ليؤكد مهران مبتسما: كله خير إن شاء الله..
بدأت المراسم، وساد الصمت المقدس، وقد بدء الربط بين روحين جمعهما الله ليكونا تحت قيد ميثاقه الغليظ..

لكن نوارة كانت في دنيا أخرى، فقد استأذنت سميحة أم رائف في الانفراد بها بأحد القاعات المتطرفة قليلا عن صخب الحفل، لتهتف بها في نبرة معتذرة: نوارة، أنتِ عارفة كويس أنا بعزك أد إيه، لأنك بتفكرني بنفسي أيام ما كنت فسنك، يوم ما جيت نجع السليمانية، ووقعت في حب عابد السليماني، واتحديت العالم عشان نتجوز، وحصل، فأنا اكتر واحدة عارفة يعني إيه وجع القلب، ومرارة البعاد، وخصوصا لما راح مني وهو فعز شبابه، فضلت سنين اتعالج من الاكتئاب بعد ما سبني وراح، الحاجة الوحيدة اللي وقفتني على رجلي تاني كانت رقية، بنتي منه..

تطلعت نوارة لها في تعجب، لمَ لم تذكر رائف ولدها!

لتستطرد سميحة في تأكيد: ايوه، رائف مش ابني يا نوارة، رائف بن عابد من بنت عمه اللي اتوفت وهي بتولده، عشان كده أصر عابد على وجود دكتورة امراض نسا في النجع، وجيت أنا، وبدأت قصتنا، واتعلقت برائف اللي كان عمره يومها مش اكتر من أربع سنين، ومعاملته كأني أمه اللي مشفهاش، وهو ميعرفلوش أم غيري، كان ونعم الأخ لرقية الله يرحمها، وعمره ما قصر معاها، حتى فالمصيبة اللي حصلت معاها، حاول إنه ينقذها بأقصى قدراته، لكن قدر المولى كان نافذ، رقية منتحرتش، رقية حاولت الانتحار، لكن رائف لحقها، لكن اللي مقدرش يلحقه، يوم ما اجهضت نفسها، من يومها اتعقد، وحاول إنه يخرجني من الحالة اللي كنت فيها بعد موتها رغم وجعه، وقد الحمد لله، ومحدش رجعه يشتغل تاني، إلا خوفه عليك أنتِ..

أنا بقولك الكلام ده ليه، عشان قريت ردك اللي بعتيه لرائف، انك رافضة ارتباطكم، على الرغم إنك كنت مرحبة قبل كده، ده ملوش إلا معنى واحد بس، كرامة وكبرياء نوارة هم اللي بعتوا الرفض، لكن قلبها مش موافق على القرار ده...

تطلعت لها نوارة متعجبة، لتستطرد سميحة مبتسمة في هدوء: مش بقولك إنك شبهي قوي، بس حاسبي يا نوارة، الكبرياء ممكن يضر صاحبه زي ما يفيده، الصح تعرفي امتى تعلي من كبرياءك للسما، وامتى يطاطي حبة عشان بعض التغافل، دي حسبة صعبة، علمتهاني الأيام، وكنت لسه بتعلمها لحد دلوقتي.

ربتت سميحة على كتف نوارة في محبة: أنا جاية أطلبك بنفسي من أهلك، عشان أنتِ تستحقي ده، وعشان نفسي بجد قلب رائف يفرح، تعب كتير قوي يا نوارة، وخلاص مبقاليش غيره عشان اعمل كل اللي اقدر عليه عشان افرحه، من حقه بجد يسعد، وسعادة قلبه بقربك يا حبيبتي، قلتي إيه!

نكست نوارة رأسها في حياء، لتبتسم سميحة في محبة، وهي تضم نوارة بين ذراعيها، وقد سال دمعها، هامسة: أصعب إحساس إنك تظلم حد قريب قوي من قلبك، وأنت مش دريان، وأنا كنت هظلم رائف ابني، وهظلمك معاه، سامحوني..
ضمتها نوارة في محبة مماثلة، لتستطرد سميحة في صوت متحشرج تأثرا: مبروك يا حبيبتي..

انطلقت الأعيرة النارية في صخب بالخارج مؤكدة على إتمام مراسم عقد القران، ودخول العريس مستأذنا على قاعة الحريم، ليبدأ في تلبيس شبكة العروس، مع انطلاق الزغاريد..
لتهتف سميحة في فرحة: شايفة الفال، عقبال كتابكم يا نوارة، يااللاه بينا بقى لحسن اتأخرنا عليهم..

بدأ الطبل والمزمار، مع خروج العريس لمجلس الرجال من جديد، لتندفع فتيات العائلة لأعلى الدرج، حتى السطوح لمشاهدة تحطيب الرجال، ليبدأ رائف بوصلة الرقص بفرسه، لتشير سجود تغيظ نوارة: شايفين يا بنات، ده عريس نوارة..

تطلعت لها نوارة، والعجيب أنها لم تعترض على عكس ما توقعت سجود، بل علا وجهها ابتسامة سعادة، وهي تتطلع لرائف وتهليل الرجال استحسانا وطربا لرقص فرسه على المزمار والطبل، بينما هتفت فريدة مشيرة للفتيات، نحو سامر في سعادة: وده خطيبي، اللي قاعد جنب بابا..

كان سامر يجلس جوار حمزة في فرحة مهللا، كأنه فرحه هو شخصيا، وحمزة منشرح تتعالى ضحكاته على أفعال عريس ابنته، بينما أشارت سمية هاتفة في مودة، تحاول أن لا تزاحمهن خوفا على حملها: اومال فين عريس بدور يا بنات!
أشارت فريدة مشاكسة نحو منتصر: اهو هناك، حضرة الظابط قاعد جنب سيادة العميد..

هتفت دعاء في أريحية: هو فيه إيه! ما حد يفهمنا! العرسان كلهم مخرشمين كده ليه! اللي رابط ايده، واللي بيعرج! هو انتوا عملتوا فيهم ايه يا بنات الهوارية!؟
تنبه الفتيات لقولها، ليتطلعن جميعا نحو بعضهن في إدراك لهذه الحقيقة المرة، لينفجرن ضاحكات..

ارتفع ضرب النار في سماء نجع الصالح، وقد حان اجتماع العروسين، لينهض عاصم محييا الرجال، في اتجاه قاعة النساء، ليزف إلى عروسه نحو حجرتهما أخيرا، مع ارتفاع وتيرة الزغاريد والدعوات من هنا وهناك، بحياة زوجية مديدة، وذرية صالحة.

دفع عاصم باب الحجرة، والتي لا يعلم كيف وصلها من أساسه، مأخوذا كليا بهذه الحورية التي مرت كطيف نوراني للداخل، ليدلف للغرفة بعدها، مغلقا عليهما بابها دون العالم أجمع، فما عاد يسمع صوت الفرح المدوي بالأسفل، وما عاد يعنيه من الكون إلا هذه المتفردة التي سرقت روحه منذ أمد بعيد..

تطلع نحوها وهي تقف بوسط الغرفة في اضطراب، وكانت هي بدورها تتطلع نحوه من خلف غلالة غطاء وجهها التلي، لا تصدق بدورها أنها ها هنا أخيرا، مجموعة بحلم العمر العصي وقد تحقق بفضل من الله، ورحمة منه بقلبيهما المعذبين منذ أمد..

اقترب عاصم في وجل، حتى توقف قبالتها، وهي ما زالت على تطلعها نحوه، لكن نظراتها اللحظة حملت دمعا من فرح الوصل، يتأرجح راقصا بالمقل، لا تحيد بناظريها عن محياها، أو بالأدق، ما عادت قادرة على أن تحيد ناظري قلبها عن قبلته التي تطلع نحوها ليل نهار، منذ وعت على دنيا العاشقين، وقد هزم بحضوره الطاغي اللحظة كل هواجسها وظنونها التي كانت..

همس عاصم بصوت له نبرة من بعد أخر، لا زمان له إلا زمن العشق: ربك بعد عنك خلجه كلهم، عشان كان حايشك ليا وأنتِ مش دريانة يا بت عمي، إن دي كانت استچابة دعوة فچوف الليل، دعيتها بجلب مجهور، ولسان معجود عن النطج بكلمة من وچيعتي، لكن ربك رحمته واسعة جوي..

شهقت زهرة في سعادة وقد سال دمعها، لتجد نفسها في لحظة، وقد جذبها إليه، مزروعة بصدره، مطوقة بين ذراعيه، في قوة، ليصرخ في عزم، وهو يشدد من ضمها إليه، وكأنها يحاول دفعها لتسكن بين اضلع صدره، حيث مهجته التي شقيت بعشقها، صارخا في وجد عاشق، وهو يضم بعض روحه التي عادت إليه، لتكتمل ترانيم العشق، مغرقا رأسه، بعمق نحرها: وااااه.

لتتشبث به مطوقة إياه بلا وعي، مشددة القبض على ظهر جلبابه بكلتاها يديها، لن تفلته إلا بخروج روحها، وقد أدركت أن في التشبث سر الحياة التي انتظرت أن يحياها قلبها طويلا، بين أحضان هذا الرجل.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة