قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن

لم تعد تستطيع أن تتحاشاه أكثر من هذا. هي نفسها تتعجب من حالها. كيف لهذا الشعور المتنامي داخلها أن يدفع بها بهذا الشكل الجبري لتعترض طريقه بعد كل هذا البعاد!؟
إنها لا تعلم إلا أن عقلها وقلبها أمراها فأطاعت دون جدال.
توقفت أمام موضعه فتطلع منتصر نحوها هاتفا بنبرة رسمية: أي خدمة يا آنسة!؟
اومأت مؤكدة: أيوه. هو فيه إيه!؟

تطلع نحوها وقسمات وجهه لم يفارقها الجدية. كانت تحمل طابع الصلابة على عكس ما وجدت منه داخل السيارة يوم أن أنقذها من قلب المظاهرة. هتف بنفس النبرة الثلجية: في أي مشكلة عند حضرتك!؟
همست متعجبة: حضرتك! منتصر أنا.
قاطعها مشيرا لشيء مجهول لا تعرف لما أشار إليه هاتفا: أعتقد اللي انتِ بتسألي عليه هناك. يا آنسة.
تطلعت موضوع إشارته. كان مبنى لكلية لا تمت لتخصصها بصلة من الأساس.

توقفت تتطلع نحوه من جديد وما أن همت بسؤاله حتى استأذنها راحلا.
تعقبته حتى إذا ما وصلا لمكان منعزل نسبيا اعترضت طريقه من جديد هاتفة في حنق: بجد. كده كتير. طب حتى سبني اعتذر لك بشكل كويس عن اللي حصل لك بسببي. بدل ما أنت بتتجاهل وجودي بالشكل ده. وبدل ما أنا بجري وراك كده!
توقف منتصر فجأة متطلعا إليها هاتفا في حنق مكبوت حتى لا يجذب الأنظار: انتِ فاكرة أن انا ببعدك عني عشان خايف على نفسي بعد اللي حصل!

زفر في حنق عندما لاحظ بريق دمع بعينيها الشقية والتي كانت نظراتها اللحظة على غير ما أعتاد هاتفا في هدوء مفسرا لما ينأى عنها مبتعدا: أنا بعمل كده عشان مكنش ينفع حد يعرف إن أنتِ البنت اللي أنقذتها فالمظاهرة. أولا عشان سمعتك. ثانيا عشان سيادة العميد لو اتعرف حاجة زي دي هايبقى احراج كبير له ولمنصبه. ابعدي عني يا آنسة بدور. وأنا لا عايز اعتذار. ولا بفكر فيه من أساسه. أنا كل اللي عايزه إنك تبعدي عني مش عشان أي حاجة إلا مصلحتك أنتِ.

دمعت عيناها هاتفة في ضعف لم يكن يوما من طبعها ونبرة متحشرجة مهزوزة: يعني أنت مش زعلان من اللي سببتهولك. عشان كده بتتهرب مني!؟
هز رأسه نافيا وقد أُخذ كليا بضعفها اللامعتاد والذي أثار مكامن الحنان داخله هامسا يحاول مشاكستها: لا مش زعلان. وحتى لو كنت زعلان يا ستي. ما تسبيني اتفلق. يعني أنتِ من أمتى بيهمك حد من أصله!

هتفت بابتسامة تحاول أن تئد دمعها قبل أن ينساب على خديها مشاكسة بدورها: مش للدرجة دي مبيهمنيش حد. يعني في شوية اهتمام كده مدكناهم للحبايب.
قهقه هاتفا: طب الحمد لله إني مش فمعسكر الأعداء. وبابا مش هيوديني ورا الشمس. فاكرة!؟
قهقهت عندما تذكرت يوم أن أمسك بها هي وفريدة منذ أربع سنوات وهددته هي أنها ستجعل أبيها يرسل به وراء الشمس إن لم يتركهما.

وتطلع نحوها هامسا بلا وعي وضحكاتها قد اذهبت برزانته: وبقينا من الحبايب كمان أهو.

توقفت ضحكاتها وتطلعت إليه بدورها مصدومة من رده. همت بتوضيح ما تعنيه بالحبايب لكنه تركها مهرولا مختلطا بالطلبة من جديد مندفعا بخطوة سريعة في اتجاه بوابة الجامعة. لتتنبه من صدمتها محاولة اللحاق به لكن بلا جدوي. تريد أن تصحح له مفهوم الحبايب الذي تقصده. لكنها توقفت عندما تذكرت تأكيده لها على الابتعاد. وظلت موضعها تتطلع نحوه وهو يغيب لترتسم على شفتيها ابتسامة واسعة.

مر على بقائها هنا ثلاث ليال وها قد انتهى العزاء. عليها الرحيل فما عادت قادرة على البقاء بين جدران هذه الحجرة أكثر من هذا. حجرته هذه تذكرها بكل تفاصيله البعيدة المنال منها. لم يعد قلبها بقادر على تحمل وجع فوق أوجاع فراق أبيها الراحل.

نهضت من فوق فراشه الذي انتفضت لحظة أن وعت أنها تتمدد عليه. كان دخول حجرته والتطلع إلى كل ما يخصه حلم من أحلامها. وها هو الحلم وقد أضحى حقيقة في أحلك لحظات حياتها. يبدو أن المكتوب عليها دوما أن يخالط فرحها الحزن كتوأمه.
تطلعت لأركان الفراش من جديد. ثم لأركان الغرفة في هوادة. لتسقط عيناها على المشجب الذي يحمل ملابسه. إحدى مناماته وبنطال من الچينز. وقميص سماوي. لطالما أحب ذاك اللون.

نهضت في خطوات متمهلة. ومدت كفها نحو قميصه تحتضنه في وجل. تدثر روحها بعبق عطره. ليعينها على اوقات البعاد التي تستشعرها قريبة جدا. لا تعلم لم!
مدت كفها المرتعش تضع القميص موضعه واتجهت إلى النافذة تتطلع لموضع نافذة حجرتها بالنسبة لغرفته.

ابتسمت في حسرة. لقد كانت نافذتها في مقابل نافذته تماما عندما كان والدها به بعض من صحة ليختارا السكنى بالطابق العلوي لدارهما. لكن في السنوات الأخيرة عندما بدأت صحته تعتل فضلت الانتقال للطابق السفلي حتى لا يرهقه صعود الدرج. فكرت في تأجير الشقة العلوية لتعينهما على المعيشة. لكنه رفض حتى لا يدخل غريب على دارهما. خوفا عليها.

تنهدت من جديد وهي تتطلع للحجرة وقد اتخذت قرارها. سيكون اليوم بل الساعة هي أخر عهدها بحجرته. يكفيه ثلاث ليال بعيدا عن حاجياته. عليها العودة لبيت أبيها.
طرقات على الباب جعلتها تنتبه لتدخل نعمة حاملة صينية من طعام ابتسمت ما أن شعرت بتحسن حال حُسن هاتفة: الحمد لله بقيتي أحسن أهو. ياللاه تعالي كلي.
هتفت حُسن في نبرة يغلبها الشجن: مليش نفس يا نعمة. أنا الحمد لله كويسة. عايزة استأذن بس وأرجع لبيت أبويا.

ودمعت عيناها فلم تعارضها نعمة بل نهضت لتعود بشيماء التي هتفت في حزن: ليه يا كده يا حُسن! هو حد زعلك فحاجة يا حبيبتي!؟ خليكِ وسطينا. إيه اللي يرجعك البيت دلوقتي!؟

هتفت حُسن وغصة عالقة بحلقها: تسلمي يا خالتي. بس كتر خيركم لحد كده. وبعدين أكيد الباشمهندس محتاج أوضته. وحاجاته. كتر خيره. أنا هرتاح لما أفتح بيت أبويا. طاوعيني يا خالتي وحياة الغاليين عندك. ومتخليش المعلم خميس ولا الأسطى ناصر يزعلوا. أنا هرتاح كده.
تنهدت شيماء مؤكدة: طيب يا حبيبتي. وماله. والله احنا اللي يهمنا راحتك. نعمة هتنزل معاكي عشان البيت لو محتاج تنضيف. أو ناقصه حاجة.

لم ترغب حُسن في المعارضة. فكل ما كان يعنيها اللحظة هو الرجوع لبيتها.
خرجت تستند على ذراع نعمة وفتحت البيت ودخلت ونعمة في أثرها.
ما أن وصل عبق الدار التي تحمل أنفاس أبيها الراحل لداخل رئتيها حتى انفجرت باكية. تتطلع لجوانب البيت وهي لا تدري كيف سيكون عليها التأقلم والعيش هنا وحيدة دونه.
جلست على الأريكة التي كانت تحتل الردهة الكبيرة ونعمة تتطلع إليها في تعاطف تشاركها حزنها دمعا.

هتفت حُسن بصوت متحشرج: عارفة يا نعمة. يمكن ناس كتير تقولك. هو كان عامل لها إيه يعني. دي هي اللي كانت شيلاه. مش هو اللي كان شايلها. يمكن يكون كلامهم صح. ويمكن عمري ما حسيت أن أبويا فضهري وساندني. وده اللي خلاني أبقى حماية نفسي. وأخد حقي بأيدي. بس اللي ميعرفهوش. أن النفس اللي كان بيتنفسه جوه البيت ده. كان بيديني الأمان إني مش لوحدي. حتى ولو كنت متحامية بحد مش هيحميني. بس كفاية إني كنت واهمة نفسي ب ده. دلوقتي خلاص. حتى الأمان اللي كنت بوهم نفسي بيه راح. بقى مني للطل. ضهري مكشوف للدنيا. عريانة حتى لو كاسيني ميت توب. ربنا يرحمك يا عم سالم.

ارتفع نحيبها مصاحبا لنحيب نعمة التي تقدمت تحتضن رأس حُسن لصدرها تشارطرها حزنها.
حمل سماحة ذاك الوعاء الفخاري المغطى باحكام في اتجاه يونس الذي كان جالسا في هدوء يتأمل الشمس الغاربة شاعرا بوحشة عجيبة تكتنف صدره.

ها قد جاء لنجع الحناوي بهدف نسيانها لكنه لا يفعل شيء إلا المزيد من التفكير في أسباب رفض سهام له. أسئلة كثيرة راودت عقله واجابات بلا حصر زاحمتها. وذاك الخاطر الذي تمنى أن يهدأ قليلا لم يفعل. بل زادت الفوضى داخل جنبات روحه. كأنه في خضم حرب ضروس لا يعلم لمن الغلبة فيها. لكن الأخطر أن الخصمين المتناحرين هما شطري نفسه. فأيهما المهزوم! وأيهما المنتصر! لم يكن هذا ليحدث فارقا. فبكل الأحوال. هو يرى نفسه خاسر.

تنهد بضيق لكنه تنبه لوجود سماحة هاتفا: خير يا سماحة!؟ فيه حاچة!؟
وضع سماحة حمله أمام موضع جلوس يونس مؤكدا: ده هدية من أم سماحة لچنابك. والنبي جبل الهدية.
ابتسم يونس في شجن: عليه الصلاة والسلام. هدية مجبولة من يد ما نعدمها. بس يا ترى إيه ده!؟

لم يرد سماحة لكن يونس مد كفه رافعا الغطاء عن الوعاء الفخاري. متطلعا إلى محتوياته في تعجب وقد بدأ لعابه يسيل من الرائحة الشهية التي ملأت المكان: وااه. إيه ده يا سماحة!؟ ده رحته حلوة جوي.
ابتسم سماحة دون أن يعقب بينما مد يونس كفه للملعقة وبدأ يتذوق الفريك المغطى بصلصة الطماطم والمدفون بداخله قطع من السمك. همهم في استمتاع هاتفا أخيرا: إيه العظمة دي!؟ تسلم يدك يا خالة سعيدة.

اتسعت ابتسامة سماحة منتشيا بينما أخذ يونس يتناول الطعام في مزاج عال. وهتف أمرا سماحة مشيرا لموضع قبالته: تعال مد يدك. هتخسر نص عمرك لو مدجتوش.
أكد سماحة في أدب: بالهنا والشفا يا بيه. بس أمي حرچت علي وجالت لي البيه ياكله لحاله. محدش يشاركه فيه.
هتف يونس معترضا: هاكل الطاچن كله لحالي!
أكد سماحة هازا رأسه: ايوه يا بيه. ده علاچ چنابك.
تطلع إليه يونس متعجبا: علاچ!؟ ومين جال إني عيان لا سمح الله!؟

أكد سماحة في ثقة: أمي هي اللي جالت. هتف يونس ساخرا: وچناب الداكتورة خالتي سعيدة. جالت لك عندي إيه إن شاء الله!؟
هتف سماحة في ثبات: جالت إن جلبك عليل. عشج ولا طلشي. واللي جدامك ده أچدع علاچ للجلب العليل بالعشج يا بيه.
وضع يونس الملعقة من يده متطلعا إلى سماحة بحنق والذي وقف في ثقة ويونس يهتف به مهددا: أنت بتروح تحكي لأمك على اللي بفضفض لك بيه يا سماحة!؟

هتف سماحة في عجالة: لاه يا بيه. وحياتك ما حصل. هي اللي وعيت لحالك لحالها. لما سمعتك عشية بتغني ع السطح جالت لي البيه عاشج ودواه عندي. واهاااا الدوا. أني ذنبي إيه بجى!؟
تطلع يونس في سماحة لبرهة. استشعر صدق حديثه فمد كفه وبدأ في التهام الطعام بشهية كبيرة. هاتفا بفم ممتلىء لسماحة: عارف! حتى لو كنت جلت لها. أني مسامحك. واعي ليه!؟

هز سماحة رأسه نافيا ليستطرد يونس وهو يتلذذ بالطعام: عشان ندوج العظمة دي أولا. أما ثانيا بجى. عشان أنا كنت محتاچ الدوا ده جوي يا سماحة. محتاچة لدرچة إني ممكن أكل الطاچن نفسيه بس جلبي يطيب وبالي يرتاح.
تطلع إليه سماحة مشفقا ما دفع يونس هاتفا به: روح ياللاه حضر لنا ركوة الشاي عشان بعد الأكلة التمام دي لازم لنا ياچي فنطاسين شاي تجيل نهضموا بيهم.

أكد سماحة في عجالة: حلا يا بيه. مسافة ما تخلص أكل هتكون أول كبابة شاي بجت فيدك. بالهنا والشفا.
ابتسم يونس يستوقفه مؤكدا: عارف يا واد يا سماحة لو الوصفة دي نفعت. هعمل إيه!؟
هز سماحة رأسه نافيا ليستطرد يونس مازحا: هعمل براءة اختراع باسم الخالة سعيدة. واسمي الطاچن ده انساك يا سلام. انساك هو ده الكلام.

امسك سماحة ضحكاته منكسا رأسه أرضا. بيننا قهقه يونس في أريحية كعادته وعاود تناوله للطعام ليغادر سماحة من أجل تجهيز الركوة لصنع الشاي لهضم وصفة النسيان. فربما يكون فيها الشفاء للقلب العليل بحق.

تقدمت في وجل. تقدم قدم وتأخر الأخرى. لا تعرف ما عليها فعله. إنها المرة الأولى تماما التي تجد نفسها مدفوعة لفعل أمر ما دون أن يكون محسوبا بشكل دقيق من عقلها الواعي. لكن مجيئها إلى هنا كان قرار قلبها من الدرجة الأولى. هي تحاول أن تنكر ذلك. لكن كل الشواهد تكذبها.
أصبحت على مشارف داره وقد سبقها عنتر بالفعل. وقفت أمام السياج المنخفض الذي كان يزين المكان أكثر من كونه حماية أو حاجز يمنع مرور أي من كان.

فكرت أن تقف حيث كانت تستتر في الأيام الماضية خلف هذه الشجرة العتيقة لكنها أيقنت أنه ما كان خافي عليه وجودها. وإلا كيف له أن يبعث لها بخطابه وهو علي يقين أنها ستجده وتفتحه. بالتأكيد كان يعلم بوجودها. لتصبح الآن في هذا المأذق الذي لا تحسد عليه.

مرت في اتجاه عنتر الذي كان يدور حول نفسه متعجلا هديته. طبق الخضروات والفاكهة الثمين. كان هذا التأخر في الظهور من قبل مروان مقصودا. كان يقف خلف الباب الخشبي يتطلع للفرس المتعجل وكذا لترددها في الدخول في استمتاع عجيب. ثم قرر الظهور فجأة بعد أن رأها تمر في اتجاه عنتر.
انتفض قلبها بين أضلعها ما أن وعت دفعه الباب الخشبي معلنا عن خروجه.

لما تستشعر اللحظة أنها تريد الركض مبتعدة! لكنها على العكس من ذلك تسمرت موضعها عندما رأته يضع طبق الخضروات لعنتر الذي ألتهى فيه بسرعة. وكادت أن تفقد وعيها خجلا عندما نظر إليها مبتسما في أريحية هاتفا: أخيرا جيتي.
قررت أن تكون حاسمة ولا مزيد من التلاعب من قبله. هذا يكفي. أكدت لنفسها في حسم ما دفعها لتهتف: فين الأمانة اللي ليا عندك!؟

اتسعت ابتسامته هاتفا في نبرة مشاكسة: بقى دي إزيك. عامل ايه! أنت كويس. مفيش حاجة فيك مكسورة كده ولا كده بعد الوقعة ال.
لم يكمل كلماته وقد لاحظ اضطرابها وارتفاع الدماء لوجهها خجلا ليصبح بهذا اللون الوردي القاني ما جعله يصمت متطلعا لذاك الحسن الرباني سابحا في ملكوته. همت بالاندفاع مبتعدة إلا أنه هتف يستوقفها: آنسة A. مش دي بتاعتك برضو!؟

استدارت تطالعه ليقع ناظرها على سلسالها الفضي الذي يتأرجح منه اول حرف من اسمها أمام عيونه الشقية التي تبتسم اللحظة في عبث.

شهقت وهي تضع كفها تتحسس رقبتها. وتساءلت في تعجب. كيف لم تفطن لغياب سلسالها القريب لقلبها بعيدا عنها!؟ كان ذاك السلسال الفضي الذي يحمل تذكار لا يُنسى. هو الأعز على روحها فقد كان هدية والديها في عيد مولدها السابع. ألبسه لها أبوها بيده. وهي لم تكن تخلعه عن جيدها إلا فيما ندر. فقد كان يشعرها بالأمان والطمأنينة دوما.
هل انشغلت إلى هذا الحد بحكايته ورسائله حتى أنها ما وعت لفقدانه!؟

اقتربت في وجل ومدت كفها قرب السلسال المتأرجح ليسقطه على كفها المفرودة في إشارة مبطنة لسقوطها هي لا سلسالها.
بدأت في ارتدائه وهو يتطلع إليها في شغف لمتابعة كل حركاتها التي تصدر عنها في رقة متناهية.
همت بالذهاب ليهتف بها في فضول: مقلتيش. حرف A ده دلالة على اسمك. اسمك إيه بقى!؟
تطلعت إليه في حياء هامسة باسمها: أية.

ابتسم فقد كان اسم على مسمى. كانت أية من السحر والرقة وهي تنطق اسمها بهذا الحياء الذي يربكه وهذه الرقة التي وقع أسيرها منذ اللحظة الأولى.
مد كفه وقد اتسعت ابتسامته هاتفا: وأنا مروان. نتعرف بقى على حق ربنا.
نظرت لكفه الممدود إليها رغبة في التعارف مترددة في مد كفها لمجرد سلام عابر. فهي تدرك أن كفها بين احضان كفه الرجولية تلك ستكون خطوة أخري نحو الخوض في قصة لا تعرف مداها.

لا تعرف هل هي تضخم الأمر! أم أنه كبير بالفعل وعليها القلق!
لكن على الرغم من كل هذه الخواطر المتنازعة داخلها إلا أنها مدت كفها الرقيق الدقيق في اضطراب كان ظاهرا لأعينه الصقرية التي تتابع كل خلجات نفسها في فضول غير طبيعي.

كان نصف سلام. فقد مدت كفها للاقتران بكفه لكن قبل أن يتم التلاحم كانت قد جذبت كفها الدقيق في سرعة. لكن رغم ذلك. شعر بالتشبع. نصف سلام كان يكفيه وزيادة. كأنما كانت تعي تماما أنه لن يحتمل سلام كامل الالتحام بهذا الكف الذي يحمل رقة ونعومة صاحبته التي تتطلع اللحظة في اضطراب حولها. كأنما أدركت فجأة أن عليها الرحيل.

همست في عذوبة وهو ما يزال مأخوذا بها: عن إذنك. أنا لازم أمشي. وشكرا على السلسلة. دي غالية عليا قوي. مكنتش أعرف هعمل إيه لو ضاعت!
هتف متعجبا: للدرجة دي!؟ واضح أنها من حد عزيز عليكِ قوي.
لم ترد. واستشعر هو خليط عجيب من مشاعر حنق ممزوجة برغبة في فضول لمعرفة من العزيز المزعوم ذاك!
لكنه حاول تجاهل هذه المشاعر هاتفا: أنتِ في كلية إيه يا آنسة أية!؟ واضح إنك لسه بتدرسي!؟

هزت رأسها وهتفت وهي على نصف استدارة تهم بالرحيل: أنا فنون جميلة. رايحة رابعة فنون جميلة.
لمعت عيونه. كان عليه استنتاج ذلك. تلك الكف الرقيقة التي اسكره منها نصف سلام. لابد وأن تدرس الفنون الجميلة. والجميلة بشكل لا يقبل الوصف.
ابتعدت خطوات هاتفة في عجالة أخرجته من شروده: عن إذنك. وشكرا مرة تانية.
هتف في رعونة غير محسوبة: مش هشوفك تاني!؟

أدرات رأسها في دهشة نحوه. ولم تجب بحرف بل اندفعت راحلة في عجالة. ليظل ناظره معلقا بموضع رحيلها لبرهة حتى أنه ترك عنتر وحيدا يتناول ما بقى بالطبق حتى يحين موعد مجيء الخفير لأخذه كالعادة. فاقدا الشغف في البقاء بالخارج بعد مغادرتها. دلف للغرفة ليجد نفسه وقد أمسك بفرشاته يضرب بها وجه إحدى اللوحات. ليتركها فجأة جانبا. متطلعا لكفه التي تركت على باطنها أثر تحيتها. نصف سلام.

دخلت إلى بهو الفندق الفخم في تؤدة تتطلع نحو الموضع المتفق عليه للمقابلة الهامة. توجهت من فورها للموضع المعد مسبقا من قبل العلاقات العامة بالشركة.
تأكدت أن كل شيء في موضعه بلا نقصان. كما أمرت بالضبط. جلست في انتظار ضيوفها والذين ظهروا لتوهم. لتنهض مرحبة في حفاوة.

جلس الجميع وما هي إلا لحظات حتى بدأ حديث العمل. وشرعت هي مع ضيوفها في تبادل الآراء التي تقاذفت في حماسة هنا وهناك. كانت الأمور على ما يرام. وحققت تقدم هائل صوب الهدف الذي تطمح له. كان رهانها مع أبيها أن تستطيع إقناع إدارة هذه الشركة بأمر ما خاص بالشراكة بينهما. ويبدو أنها في سبيلها لتحصل على رهانها.

إلا أن ذاك الخيال الذي مر على طاولتهم وذاك العطر الذي أيقظ الحنين من سباته الطويل داخل قمقم الذكريات المهملة جعلها ترفع ناظريها لمن مروا اللحظة جوار الطاولة. ليتبدل حالها تماما من النقيض للنقيض.
غاب اللون من وجهها. وحل الشرود والتيه محل يقظتها وتركيزها الفائق.
راحت فريدة المرأة الصلبة. لتحضر فريدة تلك المراهقة التي سمحت للعشق أن يحتل قلبها الغض ويفعل بروحها الأفاعيل.

نظراتها لنزار الغمري وتلك الحسناء تتأبط ذراعه أعاد لها ذكرى بعيدة تنكأ وجعا بحجم الكون داخل فؤادها الموصوم بعشقه المحرم. دنت الطرف من جديد على تلك الحسناء خارقة الجمال والتي لم تكن إلا زوجته. وابنة عمه. وحبيبته. شاهندة.

تنبهت لنداء أحد الحاضرين لها. والذي على ما يبدو لم يكن الأول. ابتسمت في دبلوماسية معتذرة. واستأذنت لبضع دقائق. اتجهت لحمام السيدات رغبة في استعادة رباطة جأشها والعودة لصورتها الصلبة من جديد.
دفعت باب الحمام وتنهدت في قوة وهي تستند على حافة الحوض الرخامية.

تطلعت لوجهها بالمرآة وعقدت حاجبيها هاتفة لنفسها في عزم: إيه!؟ شوفتيهم مع بعض. إيه الجديد!؟ إيه اللي يخليكِ بالهشاشة والضعف ده!؟ لا. أنتِ مش كده. أنتِ تخطيتي المرحلة دي من زمان. مش هنعيده تاني يا فريدة. سامعة؟
هزت رأسها بالإيجاب لصوت عقلها وداعمها النفسي الوحيد في معركتها مع قلبها الواهن القوى أمام جحافل الحنين والشوق.

فتحت الصنبور الذهبي وغسلت كفيها في محاولة لتخفيف ارتعاشاتهما. وما أن انتهت وجذبت منديل لمسح يدها الرطبة حتى انفرج الباب عن محياها. تلك التي كان لها السبق للفوز بقلبه دونها.
توقفت بدورها أمام أحد الأحواض وتطلعت لمحياها الساحر بالمرآة ودون أن تلتفت لفريدة همست بصوت ناعم أشبه بفحيح الحيات: أنتِ بقى فريدة الهواري!؟

استجمعت فريدة كل طاقة الصمود داخلها وردت بنبرة رسمية وعلى شفتيها ابتسامة باردة: ايوه. أنا فريدة الهواري. حضرتك تعرفيني. ودي حاجة جميلة. بس أنا متشرفتش!؟
استدارت لها شاهندة نصف استدارة وتطلعت نحوها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها هاتفة بنفس النبرة الرخامية: مش مهم تعرفي أنا مين!؟ برغم إني متأكدة إنك تعرفيني. ما هو مش معقول العشرة دي كلها مع نزار. ومتعرفيش مراته، وبنت عمه، وحبيبته!؟

وضغطت على أحرف كلمة حبيبته التي أخرجتها في بطء مريب من بين شفتيها وكأنما كانت تضغط على جرح سخين دب الورم والقيح بجذوره وأصبح المساس به دون مخدر أشبه باقتلاع جذور الروح من منبتها. لكنها رغم ذلك قاومت لتهتف بصوت ثابت النبرة شعرت بالراحة حينما استشعرته بهذه القوة: تشرفنا يا مدام. سلامي لنزار بيه. لولا ضيوفي. لكنت جيت سلمت عليه بنفسي. فرصة سعيدة.

وخرجت فريدة من الحمام في ثبات متجهة صوب طاولة ضيوفها. العجيب أنها رأت نزار يغادر طاولتها في اتجاه طاولته. ماذا كان يفعل بين ضيوفها يا ترى؟
لم تلق بالا للموضوع. فكان كل ما يؤرقها اللحظة هو استعادة تركيزها على إتمام ما جاءت من أجله. وليذهب نزار وزوجته الحقيرة تلك إلى الجحيم.

جلست على الطاولة مبتسمة لضيوفها وما أن همت بمعاودة النقاش الذي قُطع منذ دقائق حتى هتف أحدهم في بشاشة: إحنا اتفقنا خلاص. اتناقشنا لما غبتي شوية وخدنا فرصة نفكر في عرضك. وشوفنا إنه عرض جدير بالقبول فعلا. بلغي الباشمهندس حمزة موافقتنا. وتحديد موعد لإمضاء العقود.
ابتسمت للمرة الأولى في سعادة من صميم قلبها. فقد حصلت على مبتغاها.

شكرتهم في حماسة لثقتهم الغالية التي ستكون في موضعها. وبدأوا في تناول الطعام والذي أخذت في تناوله بشهية تعجبت لها وتلك الابتسامة المنتصرة لم تفارق وجهها الصبوح. حتى أنها وبكل جرأة بادلت نزار التحية بإيماءة من رأسها عندما لوح لها مبتسما بكأس شرابه. ما اورث شاهندة حنقا لم يكن خافيا على محياها وهي تلقي بنظرة جانبية نارية لفريدة. تكاد تقتلها غيظا. لكن فريدة لم تكترث من الأساس وأولت جل اهتمامها لضيوفها حتى انتهت السهرة بنجاح.

أيام قلائل ويهل اليوم الموعود. سيُعقد قرانها على رجل غيره. ستكون زوجة لأخر. سيموت ذاك الأمل الذي يحييه للأبد. ستُزهق روحه مع كل حرف يكتب بدفتر المأذون مقربا إياها من رجل سواه ونافيا إياها قسرا من أيامه وأحلامه وأمانيه وحتى من ذاكرته التي لا يملك فيها خاطرا إلا وكانت هي سيدة الخاطر والوجدان. وأميرة كل الذكريات التي كان يجبر عقله على خلق ملف خاص بها وحدها. يخزن به كل ما يتعلق بهذه الزهرة التي أينعت أمام ناظريه مادة جذورها بأرض قلبه ومتشعبة إلى حيث روحه.

خرج من غرفته في آلية محاولا أن يهدئ من روعه مذكرا إياها بأن رحيله قد حان بدوره. بضع ساعات بعد عقد القران وسيكون خارج نجع الصالح يشق طريقا أخر بعيدا عن طريقها الذي أصبح معبدا لغيره بحكم شرع الله وسنة رسوله.
مر سريعا بتلك الردهة الطويلة. لكن تسمرت قدماه غصبا عندما تناهى لمسامعه ضحكاتها المنتشية بالفرحة مصاحبة لضحكات أخواته من داخل حجرتهن.

كانت ضحكات صبوح تشي بسعادة فاضحة لا يمكن إغفالها. سعادة قلب عاشق أصبح قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أمل حياته في وصل الحبيب.

تعالت الضحكات من جديد. ليندفع مهرولا يهبط الدرج في عجالة يتخبط في تيهه يرى عمال الفِراشة ومنظمي حفل عقد القران وكأنهم غربان بين ناعقة. وأحبال الإضاءة التي تمتد بطول السراي وعرضها. وكأنها مشانق مدلاه يرى عليها أحلامه وأمانيه تترنح في عذاب. لم يستطع المكوث للحظة أخرى. فخرج مسرعا يحاول إنقاذ البقية الباقية من ثباته.

دخلت نوارة إلى داخل بيت السليمانية متجهة لحجرة مكتب الدكتورة سميحة. طرقت على بابها في تأدب لكن ما من أحد بالداخل على ما يبدو. فلا إذن بالدخول جاءها. لكن رغم ذلك قررت الولوج للحجرة في انتظار الدكتورة سميحة. دفعت الباب وتوجهت لمقعد أمام المكتب وجلست في هدوء وهي تضع تلك اللفافة الأنيقة أمامها. تود لو عادت بها لتغسل ذاك الثوب من جديد مخلصة إياه من ذاك العطر الذي نثرته على طياته في لحظة طيش غير متعمدة. لا تعرف ما دهاها لتفعل ذلك!؟ تصرف احمق من شابة عقلانية تزن الأمور دوما بميزان التعقل والرزانة.

كانت تحمل اللفافة منذ وعت لخطأها الفادح كأنما تحمل كفنها على كفيها لتقدمه لأصحاب الثأر من أجل العفو والسماح.
همت بالنهوض لتغادر ومعها اللفافة والتي ستضعها بالاستراحة حتى يحين موعد عودتها لتعاود غسيل الثوب من جديد.
لكنها انتفضت ما أن تناهى لمسامعها نغمات قادمة من مكان قريب لم تعرف أين يكون. تطلعت حولها وقد بدأت تلك الأنغام تعلو في انسيابية ورقة. من أين يأتيها ذاك العزف الملائكي!؟

تجرأت ونهضت من موضعها تتلمس خطواتها تحاول أن تركز على مصدر الصوت حتى تصل لمصدر العزف. لم تكن يوما بهذا الفصول تجاه أمر ما. لكن اليوم هو الاستثناء الأول تماما.
وقع ناظرها على ذاك الباب الجانبي الصغير والذي ما أن تخطته حتى سقطت عيناها عليه. لتنتفض كليا من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.

كان رائف يجلس أمام بيانو أسود ضخم في تلك الغرفة الصغيرة الملحقة بحجرة المكتب. البسيطة الطراز. والمخالفة تماما لهذه الغرفة الكلاسيكة الراقية التي يقبع البيانو في الركن المتطرف منها ويشغل باقي أركانها مكتبة متوسطة الضخامة وركن به أريكة ومقعدين وثيرين.
كان الوضع لا يمكن تصوره وهي تراه اللحظة أشبه بأحد النبلاء وهو يعزف هذه المقطوعة الشجية والتي كانت تعشق.

كان لا يستهويها الأغاني كسجود. لكن هذه الموسيقى التي تهدئ من اعصابها كانت المفضلة على الإطلاق. ساعتها علمت لم يلجأ كثير من الجراحين العظماء لسماع الموسيقى وهم يجرون عملياتهم الجراحية الدقيقة.

همت بالعودة من حيث أتت. واستدارت بالفعل لتعود أدراجها قبل أن يكتشف وجودها. لكن ما أن همت بخطو أولى خطواتها متقهقرة حتى توقف العزف فجأة وهتف ذاك الصوت الرخيم والذي بات يوترها بشكل كبير: أظن محدش سمح لك بالدخول يا دكتورة. عشان تدخلي المكتب كده بدون إذن.

تسمرت موضعها لبرهة قبل أن تستدير لتصبح بمواجهة ظهره هاتفة بنبرة حاولت أن تودعها الكثير من الثبات: خبطت على الباب ومحدش رد. دخلت استنى الدكتورة سميحة. عشان أشكرها وأرجع لها الهدوم بتاعتها.

تنبه عند هذه النقطة واستدار لمواجهتها بدوره بعد أن كان يهمل الاستدارة نحوها أو ربما كان يتجنبها. فمنذ تلك الليلة التي سقطت فيها بالترعة. وهناك شعورا غامضا تجاه هذه المرأة يجعله ينأى بنفسه بعيدا عنها كليا. لا يدرك كنه ذاك الشعور. هو ليس نفورا أو حنقا. ربما بعض الفصول. والذي يتعجبه. فمنذ متى أثارت فضوله النساء اي من كن!؟

أشارت للفافة الموضوعة بغرفة المكتب على الطاولة المنخفضة ما استرعى انتباهه ليخرج من خواطره المربكة نحوها محاولا صب جل تركيزه على ما كانت تهتف به اللحظة هاتفا: معلش. أنتِ كنتِ بتشاوري على إيه!؟
أكدت من جديد وقد بدأت نبرة صوتها في الاهتزاز قليلا مع اقترابه ليستوضح ما تعنيه. كان قريبا منها من جديد. ليعاود عقلها بث تلك اللحظات التي كانت بينهما في الاستراحة ما دفع الدماء لوجنتيها في اضطراب.

هتف ببضع كلمات لم تدركهم. شعرت أن شىء ما قد صم اذانها لتهتف في ارتباك محاولة إنقاذ الموقف مظهرة أنها في قمة تركيزها هاتفة بكلمات عشوائية: أه. أنا مشفتهاش وقلت أسلم عليها.

تطلع نحوها ونظرات عينيه العميقة تلك تذهب بقدرتها الهائلة على التركيز أدراج الرياح هاتفا ونصف ابتسامة ارتسم على شفتيه أضاعت ما تبقى من عقلانيتها المعتادة: أنا كنت بقولك أنا هبلغها شكرك بالنيابة عنك. ردك ملوش أي صلة باللي جلته يا دكتورة.
كان محق تماما. وكان عليها أن تحترم ذاتها وتلملم ما تبقى من ثباتها المبعثر وترحل في كرامة. بأنف شامخ كعادتها.
هتفت في ارتباك: طب تمام. كويس. أرچع أنا الوحدة. عن إذنك.

ما أن همت بالاندفاع هاربة حتى تعلق كعب حذائها بأحد أطراف البساط الصوفي الممتد أرضا. ترنحت. لحق بها في سرعة. متشبثا بكفيها متنبها ألا يلمسها قدر المستطاع. يكفيه ذكريات تلك الليلة وهي ترتجف بين ذراعيه والتي ما زالت تؤرق مضجعه. لكن ما أن تمالكت نفسها أخيرا. حتى أصبح كلاهما وكأنه يتشبث بكفي صاحبه على ظهر سفينة تترنح في صخب بين الأمواج العاتية.
اكفهما متلاحمة بقوة وكأنما أقسمت أن هذا هو ملاذها الأخير.

تطلع كل منهما للأخر في صدمة. كان رائف أول من قطع صمتها هاتفا في نبرة ساخرة: حوادثك كترت. أنتِ لازم لك غفير خصوصي يحرسك زي ضلك يا دكتورة.

انتزعت كفيها من أحضان كفيه واندفعت تغادر الغرفة في اضطراب تاركة إياه ينظر صوب الباب لبرهة قبل أن يحيد ناظريه صوب تلك اللفافة الرقيقة التي وضعتها على الطاولة هناك. تقدم منها وفتحها بيسر ليطالعه ذاك الثوب العزيز الذي اعارها إياه ليعود إليه محملا بالمزيد من الذكرى. ذكرى قديمة لم يندمل جرحها. وأخرى جديدة تحمل توقيع ذاك العطر الأثر الذي انتشر عبقه ما أن فتح اللفافة ليخترق جدار عزلته الذي فرضه القلب على حنايا الروح ويستقر هناك في رحابة ليجد الموضع والسكن.

لم تطأ قدماه شقة أبيه منذ دخولها إليها. كان يبيت ليلته ويقضي أيامه في شقة جده بالأسفل. لم يرها منذ أن حملها بين ذراعيه ليضعها على فراشه بدافع خفي لا يعلم منبعه من الأساس. منذ هذه اللحظة لم يدخل حجرته وقد علم الآن أنها أصرت على العودة لبيت أبيها بعد انتهاء أيام العزاء.

دخل غرفته وتطلع في كل أرجائها كأن أحد قد أبدلها بأخرى. تعجب من ذاك الشعور الذي اعتراه لمجرد بقائها في الغرفة لثلاث ليال شعر أن الغرفة تبدلت كليا. على الرغم من أنها حجرته بكل تفاصيلها وكما تركها يومها بالضبط. لم يتغير موضع حذاء أو تحرك كتاب على مكتبه.
لكن. لكن ماذا. تقدم للفراش. فراشه الذي احتضن جسدها. مد كفه يتحسسه في وله عجيب. حتى أنه انتفض لمجرى أفكاره وخواطره.

هم بمعاودة لمس الفراش لتدخل أمه هاتفة به: يا نادر. أطلع أغير لك ملاية السرير وغطاه. وأنضف لك الأوضة قبل ما تنام فيها.
هتف نادر وهو يولى أمه ظهره متشاغلا عنها. محاولا السيطرة على نبرة صوته. وكذا استيعاب تلك التغيرات المريبة التي يستشعر حدوثها مسببة فوضى غير مستساغة داخله: طب استني يا ماما. أنا أصلا هلبس ونازل. وخدي راحتك.
هتفت شيماء مؤكدة: طب تمام. ناديني وأنت نازل بقى.

أومأ برأسه إيجابا وما أن رحلت أمه حتى أغلق الباب خلفها وتوجه نحو خزانة الملابس مبدلا ملابسه في عجالة. فقد كان على يقين أن أمر ما يحدث له بهذه الغرفة وعليه الرحيل منها وعدم العودة إلا بعد أن تزيح أمه كل أثر لها. وخاصة ذاك الأثر الذي تركته على فراشه. وقعت عيناه على الفراش من جديد ليكتشف شيء ما خافت اللمعان بين طيات الغطاء.

تقدم مادا كفه نحوه رافعا إياه أمام ناظريه وقد زم ما بين حاجبيه يتذكر. أين رأي هذا العقد الرخيص من قبل!؟
كان عقد ذهبي أو كان كذلك قبل أن يتحول لذاك اللون الرمادي بعد أن فقد بريقه. يتدلى منه مجسم على شكل مصحف. يبدو أنه يحمل شىء ما بين ضلفتيه المنغلقتين بشدة.
تطلع للعقد في ريبة وهو على يقين أنه ملكها. فقرر أن يضعه بجيب سرواله حتى يعيده إليها إذا ما رأها في ذهابه أو إيابه.

اندفع من الحجرة كمن يطارده شبح ما. غير مدرك أنه يحمل التعويذة نفسها بجيبه. وما عاد هناك مفر من الهروب.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة